الفصل السادس

السياسة وانتحال الشعر

عقد البحاثة مؤلف الشعر الجاهلي فصلًا في السياسة والشعر قوامه عشرون صفحة، قال منه في ص٤٧: «العرب لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام … وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع، فهم مضطرون إلى أن يرعوا هذه العصبية، ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم»، وقال في ص٥١: «كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار كما كثرت الحرب واشتدت»، «وفي الحق اختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون ولمن تكون» ص٥٢.

وهذا القول غلط وخطأ وجهل بالتاريخ وتضليل لأفهام الطلاب ودليل على سوء النية، فإنَّ العرب كانوا في الجاهلية حقًّا يتفاضلون بالعصبية ويتفاخرون بالأنساب، فلما جاء الإسلام بدَّل كثيرًا من شئونهم المادية والمعنوية، فكان من جملة ما بدَّله من أحوالهم أن جمع كلمتهم، وجعلهم يدًّا واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم، وبعد أن كان اليَمني يفاخر الحجازي، والمضري يفاخر الحميري من مفاخرات القبائل والبطون والأفخاذ، ضمت النهضة الجديدة شمل هؤلاء المشتتين المتناحرين، فقال أفصح العرب: «المسلمون إخوة»، وقال من خطبته التي ألقاها يوم فتح مكة: «يا معشر قريش، إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب.» سيرة ابن هشام ص٢١٩ ج٢.

وقال من خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى والعافية.» ص١٦٤ ج١، البيان والتبيين للجاحظ.

ولا جدال في أنَّ هذا دليل على تشبع صاحب الرسالة بالروح الديموقراطي في أجمل مظاهره.

وبعد أن كان هَمُّ العرب المقيم المقعد في الجاهلية إذا اجتمعوا في نادٍ أو سوق مناشدة الأشعار والتفاخر أو التفاضل، أصبح همُّهم القرآن وحفظه وتلاوته صباح مساء، وإذا بعث الخليفة بعامل إلى بلد أو ولَّاه ولاية أمره أن يحكمَ بالعدل، وأن يُعلِّمَ المسلمين القرآن والسُّنة. وليس هذا التحول بالمستغرب، فإن ظهور الإسلام كان انقلابًا دينيًّا سياسيًّا اجتماعيًّا، ولا بد لكل انقلاب من آثار يحدثها في نفوس ذويه وعقولهم، فأحدث الإسلام تغييرًا في آدابهم وعلومهم، فأبطل بعض الآداب والعادات، ونوَّع البعض الآخر، وخلق آدابًا جديدة لم تكن من قبل، فمما أبطله مبدأ العصبية والنخوة والحمية الجاهلية. وأما الذي نوَّعه من فنون الأدب العربي فمعظمه في الشعر والخطابة، فزادهما الإسلام بلاغة ورونقًا بسبب الكتاب المنزل على أفصح العرب، ولكن الخطابة سبقت الشعر، وتقدمت عليه لحاجة المدنية الجديدة إليها في الفتوح والمغازي، وكان العرب لا يزالون لقرب عهدهم بالجاهلية على بداوتهم، تتأثر نفوسهم بالصورة الشعرية سواء أَصُبَّت في قالب النظم أم في قالب النثر.

وكانت الخطابة أقرب منالًا، دع عنك أنه لم يرد في الكتاب المنزل على أفصح العرب ما ينفر الناس من الخطابة، كما ورد في الشعر والشعراء، وكما كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر في تقييد مآثرهم، وتفخيم شأنهم، والتهويل على عدوهم، والتهيب من فرسانهم، أصبح الخطيب في الإسلام مقدمًا على الشاعر لفرط حاجتهم إلى الخطابة في استنهاض الهمم وجمع الأحزاب وإرهاب الأعداء (ص٩٨ ج١ البيان للجاحظ)، فكان العرب في الإسلام يمدحون شدة العارضة وقوة المسنة وظهور الحجة وثبات الجنان، وزادت الخطابة بعد الإسلام قوة ووقعًا في النفوس بنهضة العرب للحروب وانتصارهم في معظم الوقائع فازدادوا ثقة بأنفسهم، وسمت بهم نفوسهم، ورقت أذواقهم، وصقلت ألسنتهم، وتجددت بلاغتهم، وارتقى الأسلوب الخطابي وازدان باقتباس الآيات والأحاديث، وتفتقت أذهان العرب بما شاهدوه في الممالك والأمم، فبلغت فصاحة الخطباء عندهم مبلغًا يكادون ينفردون به دون غيرهم من الأمم التي تقدمتهم بلاغة وإيقاعًا وتأثيرًا.

لقد كان في اليونان والرومان خطباء أمثال ديموستين وشيشرون ونبوغهم لا ينكر وفضلهم على أوطانهم متوافر، ولكن العرب لم يأتوا بأقل مما أتى به أولئك الخطباء جلالًا وجمالًا، وربما كان عدد الخطباء في الإسلام أكثر وخطبهم أغزر وأوفر، وناهيك ببعض الخطب التي تُليت في مواقف حرجة، فملك صاحبها ناصية الأمر، ومنها خطبة أبي بكر في اليوم المشهور: «أيها الناس، إنْ يكن محمد قد مات، فإن الله حي لم يمت … وقد علمتم أني أكثركم قتبًا في بر وجارية في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن إن لم يتم الأمر أن أردها عليكم.» وقد بلغت هذه الكلمات القليلة غايتها، وكانت كافية لإخماد الفتنة التي كادت تهب لدى نعي الرسول إلى أهل المدينة، فلم يكن إذن للشعر في أول عهد الإسلام تلك المكانة التي كانت له في الجاهلية؛ لأن الشعر في الجاهلية كان ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون، قال عمر بن الخطاب: «كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولُهِيَت عن الشعر وروايته.» ويظهر لنا أنَّ التفاخر بكثرة الشعر والاتساع في روايته صار في الإسلام من دواعي اللوم لأربابه حتى إنَّ عليًّا — كرم الله وجهه — لما رجع بأهل الكوفة من قتال الخوارج على أن يستعدوا لقتال أهل الشام ثم تخاذلوا عنه، لم ير أبلغ في تعنيفهم من وصفهم بالتشاغل بالشعر عن الجهاد، فقال في إحدى خُطبِهِ: «إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حِلقًا عِزِين تضربون الأمثال وتناشدون الأشعار تربت أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل.» قال الإمام علي لأهل الكوفة وهو الأديب الشاعر ويعلم أنَّ أهل الكوفة امتازوا بكثرة الشعر والاتساع في روايته؛ لأن الشعر كان علمهم الذي به يفخرون، فلم تكن شاعرية علي بن أبي طالب لتمنعه عن ذم الانشغال بالشعر عن الحرب، كذلك عمر بن الخطاب عندما علل تشاغل العرب في الإسلام عن الشعر بالجهاد وغزو فارس والروم مع أنه كان أرواهم للشعر، وقد روى لنا المبرد في كتابه الكامل في سياق المناظرة التي جرت بين ابن عباس ونافع بن الأزرق شهادة ابن عباس في رواية عمر، قال ابن عباس: «ما رأيت أروى من عمر.»

على أنَّ انشغال العرب لأول عهدهم بالإسلام عن الشعر لم يكن إعراضًا ولا بغضًا؛ لأن العرب جروا في الإسلام على مثل عاداتهم في الجاهلية، ولم يهجروا مما قبله إلا ما كان شركًا أو داعية إليه، مثل العصبية والنخوة والحمية الجاهلية، فاستمروا في رواية الشعر والأخبار والأنساب، وكان أبو بكر الصديق أحفظ الصحابة للأنساب، ولم يضيعوا في الإسلام ما كان صالحًا من تلك الثروة التي ورثوها عن أسلافهم في الجاهلية بوصف كونهم شعبًا، ولكنهم توسعوا في بعض فنون الأدب الموروث لمعالجة الحجة في الرد على أعدائهم، أو الحث على الجهاد وتأليف تلك الجامعة الإسلامية الأولى طورًا بالخطابة وتارة بالشعر. لقد خضنا بعض الخوض في تاريخ العرب في الإسلام، ووددنا لو كان بحثنا قاصرًا عن فنون الأدب دون التاريخ، ولكن ما حيلة هذا العاجز؟ وذاك المؤلف كثير الروغان، وافر الشطط، شغوف بالاستطراد ولو في غير حاجة، فكأنه يتعمد أن يكون تاريخ الإسلام هدفًا لأبحاثه وغرضًا لسهامه، وهو يتمحل في تبرير ذلك أنواع المعاذير كقوله في ص٤٨: «فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسًا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ، وسترى عندما نتعمق بك قليلًا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين» ا.ﻫ. كلامه. وعندنا أنَّ هذا الكلام يستقيم أيضًا لو ختمه بقوله: «وسترى عندما نتعمق بك قليلًا في هذا الموضوع أنا غلاة ومخطئون»؛ لهذا يرانا القارئ مضطرين لمجاراة هذا الكاتب في طريقة بحثه والاغتراف من عين البحر الذي يغترف منه، فيخرج بمحاره وأصدافه، وقد أثبتنا بطلان ما ادعاه من عصبية العرب بعد الإسلام، وما حكاه عن مطامعهم ومنافعهم التي اضطرتهم في زعمه إلى مراعاة العصبية وحمايتها بالشعر، فقد جعل الإسلام تلك العصبية أثرًا بعد عين (الفصل التاسع عشر من كتابنا هذا الشهاب الراصد).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤