مذكرة مجنون

١

لقد تركنا مرميس في ختام الرواية السابقة «روكامبول في السجن» يصيح برفاقه قائلًا: «لقد نجونا؛ فهذا شوكنج قادم إلينا من الدهليز.»

وتركنا روكامبول وميلون في ذلك الدهليز؛ فقد تساقطت الصخور، وسَدَّت منفذه، وحجبت روكامبول وميلون عن رفقائهما؛ فلا يعلمون أهما من الأحياء فيرجيا أم هما من الأموات فيبكيا.

ولم يكن مرميس قد خدعته عيناه؛ فإنه رأى شوكنج حقيقةً يسير جنبًا إلى جنب مع رجل آخر، عرفه — أيضًا؛ إنه أحد زعماء الإرلنديين الأربعة الذين رآهم مجتمعين عند الأب صموئيل.

وعند ذلك التفت إلى رفاقه، وقال لهم: «لنتقدم الآن إليهما؛ فإنهما من الأصدقاء.»

وكان شوكنج قد رآهم أيضًا، وعرف منهم مرميس، فأسرع إليهم مع رفيقه، وصل إلى مرميس فعانقه بفرح عظيم، وقال له: «إننا نبحث عنكم منذ عهد بعيد، وكنا نخشى أن تكون القباب قد سقطت عليكم.»

ثم أجال نظره بين العصابة باحثًا عن روكامبول، فلم يره فقال: «أين الرجل العبوس؟»

فأطرق مرميس برأسه دون أن يجيب.

فذعر شوكنج، وقال: «ويلاه! ألعله مات؟»

– إننا لا نزال نرجو أن يكون حيًّا.

– كيف ذلك؟! وما تعني؟

– تركناه يتقدمنا مع ميلون في الدهليز المؤدي إلى النهر، وقد فتح سدَّه بالبارود، وفيما هو يتقدمنا وبيننا وبينه نحو مائة متر، تهدمت القبة، فسدت الطريق، وحالت بيننا وبينه، فلا ندري أسحقه الردم أم سلم منه فنجا.

فابتسم شوكنج، وقال: أما أنا فإني مطمئن عليه؛ فإني أعرف الرئيس حقَّ العرفان، فإذا كنتم لم تروه صريعًا فهو قد نجا دون شك.

فاطمأن الجميع ما خلا فاندا، وسأله مرميس: «كيف وصلت إلى هنا؟»

– إني جئت من باريس — كما أمرتني — إلى المخزن الذي أشرت إليه، فوجدته مقفلًا، فذهبت إلى الأب صموئيل، فجمعني بالإرلنديين العازمين على إنقاذ الرئيس.

والتفت الزعيم الإرلندي عند ذلك إلى مرميس، وقال له: «إننا نبحث عنكم، وإذا كنتم قد أصابتكم كوارث فإن الذنب ذنبكم.»

فأجابه مرميس بلهجة تدل على الأنفة: «أتظن أننا أذنبنا؟!»

– دون شك؛ فإنكم لو وثقتم من صدق نيتنا على إنقاذ الرجل العبوس لما حاولتم إنقاذه.

فاعترض شوكنج حديثهما، وقال: «ليس هذا الوقت وقت العتاب والخصام؛ إذ يجب أن نخرج الآن من هذا الدهليز، فإن الصخور لا تزال تتساقط والخطر فيه شديد.»

فقال مرميس: «ولكن، من أين دخلتم إلى هذا الدهليز؟»

فأجابه شوكنج: «من المنفذ الثالث.»

فذُهل مرميس، وأيقن أن شوكنج يعرف المنفذين الآخرين، فقال له شوكنج: «إن الإرلنديين يعرفون هذا الدهليز كما تعرفونه، وكان في نيتهم أن ينسفوا جانبًا من سجن نوايت لو لم تتسرعوا.»

– ولكننا لم نعرف خطتهم.

فقال له الزعيم: «أنا أبسطها لك: فإننا وضعنا ثلاثة براميل من البارود في الدهليز، وثلاثة عند جدران السجن، فوضعنا النار في البدء في براميل الدهليز، وأبقينا الآخرين لإسقاط جدران بيت الحاكم.»

– ولكن ما كانت غايتكم من ذلك؟

– إنه حين ينهد بيت حاكم السجن يضطرب رجاله، ويختل النظام، فنهجم على السجن، وننقذ الرجل العبوس.

– وماذا فعلتم ببراميل السجن؟

– إننا حين علمنا أنكم مع الرجل العبوس في الدهليز نزعنا الفتيل من برميلين فلم ينفجر غير برميل واحد.

– ولكن، بيت الحاكم قد تهدم؟

– كلا، بل سقط بيت يجاوره، ولم يعلموا إلى الآن كيف كان سقوطه.

– والسجن؟

– لم يصب بشيء، وقد أنقذوا الحاكم، فأخبر كيف أنكم قيدتموه وهربتم من البئر إلى الدهليز، فنزلوا من الدهليز بغية مطاردتكم، ولكنهم اضطروا للرجوع.

– لماذا؟

– لأن تساقط الصخور كان لا يزال متصلًا، ثم لأنهم وجدوا الدهليز مسدودًا.

– ولكنكم أتيتم من طريق آخر؟

– دون شك.

– إذًا، نستطيع الخروج من هذا الدهليز؟

– عندما تريدون فاتبعوني إن شئتم.

ثم سار أمامهم والعصابة في أثره، وبعد ربع ساعة وصلوا إلى سلم، فقال مرميس: «إلى أين يؤدي هذا السلم؟»

– إلى قبو في خمارة.

– وهذه الخمارة …

– هي خمارة يتولاها أحد زعماء الإرلنديين.

– أين هي كائنة؟

– في شارع فارنجدون.

– إذًا، نحن في شرق سجن نوايت؟

– هو ذاك.

فبدءوا النزول من السلم، وكان شوكنج في الطليعة وفاندا في المؤخرة، وهي كأنها قد أودعت روحها في ذلك الدهليز؛ فإنها كانت تتلفت من حين إلى حين، وتقول في نفسها: «رباه، ما عسى أن يكون قد أصابه؟! إنه قد يكون الآن تحت صخر ضخم يردد النفس الأخير!»

وكان هذا السلم مؤلفًا من ثلاثين درجة، وهناك باب فتحه شوكنج، فدخل يتبعه الجميع إلى قبو دخلوا منه إلى خمارة لم يكن فيها غير صاحبها، فجعل هذا الرجل ينظر إليهم باحثًا عن الرجل العبوس.

وقال مرميس لشوكنج: «أنحن الآن في شارع فارنجدون؟»

– هو ذاك.

– أنحن فوق فليت ستريت أم تحته؟

– تحته.

– إذًا، نحن قريبون جدًّا من النهر.

– إننا على بعد خطوات منه.

– إذًا، هلم بنا نبحث عن الرئيس.

– إن ذلك سهل ميسور فإن لديَّ قاربًا في النهر.

فقالت فاندا: «إني أذهب معكما.»

وقال جواني قولها، واقتدى به رجال العصابة، فقال لهم مرميس: «كلا، لا يذهب أحد غير فاندا، أما أنتم فانتظروا عودتنا في هذه الخمارة.»

فلم يجدوا بدًّا من الإذعان؛ لأنه كان يتولى رئاستهم في غياب روكامبول.

وعند ذلك خرج شوكنج ومرميس وفاندا من تلك الخمارة إلى ضفة النهر، فوجدوا قارب شوكنج، فنزلوا إليه وتولى شوكنج إدارة المجاديف، فسأل مرميس إلى أين يريد الذهاب؟

– إلى المدخل الأيمن للدهليز.

– إني أعرف موضعه، فهو لا يبعد أكثر من عشر دقائق.

وما زال القارب يسير بهم حتى عثر بأدغال، فقال شوكنج: «هو ذا مدخل الدهليز.»

فنظر مرميس إلى تلك الأدغال، وقال له: «لم يخرجا من الدهليز.»

فشهقت فاندا بالبكاء، وقالت: «إنهما قُتلا.»

أما مرميس فإنه لم يُجِبْها، ولكنه أزاح الأدغال، وفتح ممرًّا فيها، ثم وثب من القارب إلى الأرض، وقال لشوكنج: «ألا يزال المصباح معك؟»

– نعم، ولكننا لا نُنِير إلا في داخل الدهليز.

ثم نزل شوكنج وفاندا، فدخلوا الدهليز، وأنار شوكنج المصباح، فلم يكد نوره يضيء حتى رجعت فاندا إلى الوراء، وصاحت صيحة ذعر.

٢

ولقد يتبادر إلى الأذهان أن فاندا ومرميس وشوكنج قد رأوا جثتي روكامبول وميلون فذُعروا هذا الذعر.

على أنهم لم يروا شيئًا من ذلك، بل الذي دعاهم إلى هذا الرعب أنهم رأوا صخرًا هائلًا قد سد مدخل الدهليز فحسبوا أن التهدم الذي رأوه وراء روكامبول وميلون قد اتصل أيضًا أمامهما فسحقهما.

وقد كان البرهان جليًّا؛ فإن مرميس قد وثق بعد أن فحص الأدغال أنهما لم يخرجا من الدهليز، ولكن خَطَر له أن يمتحن امتحانًا آخر، وهو أن مياه التيمس تدخل حين المد إلى هذا الدهليز، فتبل أرضه بحيث تنطبع عليها آثار الأقدام.

فأخذ مرميس المصباح من يد شوكنج، وجعل يفحص التراب، فلم يجد أثرًا للأقدام، وقد رأى فوق ذلك أن الصخر غير مبتل فاستدل من هذا أن سقوطه كان بعد زمن المد، أي بعد انحسار المياه، فجعل كلٌّ من الثلاثة ينظر إلى الآخر نظرات تَشفُّ عما داخل قلوبهم من اليأس؛ إذ لم يبقَ مجال للشك لديهم بأن الصخور قد سحقت روكامبول ورفيقه حين فرارهم، ولكن بقي لهم رجاء واحد، وهو أن صخور القبة قد تكون سقطت من خلفهما ومن ورائهما، فباتا سجينين بين صخرين.

وجعلت فاندا تنظر إلى مرميس، ثم تعض كفها من اليأس، وتقول: «رباه! ماذا نفعل؟»

أما مرميس، فكان تائهًا في تفكيره، ثم خَطَر له خاطر، فأعاد المصباح إلى شوكنج، ودنا من تلك الصخور المتراكمة التي سدَّت مدخل الدهليز، فاضطجع قريبًا، وأصغى.

فكانت فاندا تنظر إليه دون أن تعلم ما يريد، أما مرميس فإنه جعل يصغي وعلائم اليأس مرتسمة فوق وجهه، ولكنه لم يُطِل الإصغاء حتى أشرق وجهه بنور الأمل، وقال: «إني أسمع صوتًا.»

فأسرعت فاندا، وقالت له بصوت خنقته العبرات: «ماذا تسمع؟»

– إني أسمع صوتًا بعيدًا منقطعًا يشبه صوت البشر، ويصل إلى أذني كصوت نقط المياه المتساقطة.

فأصغت فاندا مثله، وقالت: «وأنا أسمع — أيضًا — ما تسمع، ولكن الذي أسمعه صوت إنساني … أَصْغِ … أَصْغِ، إنه صوت اثنين لا واحد، وهما يقتربان.»

وبعد هُنَيْهَة صاحت فاندا صيحة فرح، فقال لها: «ماذا سمعتِ؟»

– صوتهما، يا مرميس، صوت روكامبول وميلون.

ثم جعلت تصيح منادية روكامبول، فقال لها مرميس: «اسكتي، وأصغي؛ فإن النداء لا يفيد.»

وقد أوشكت فاندا أن تُجَنَّ من فرحها، فانقطعت عن الصياح كي يتسنَّى له أن يسمع ما سمعته.

وبعد هُنَيْهَة قال لها: «لقد أصبتِ؛ فهذا صوت الرئيس.»

– لماذا لا تريد أن أناديه؟

– لأنه لا يسمعك.

– كيف نحن نسمعه وهو لا يسمعنا؟!

– ذلك لأنه في دهليز بين صخرين، فيخرج لصوته رنين فيصل إلينا، أما نحن فإننا في الهواء الطلق، فيضيع صوتنا في الهواء قبل أن يصل إليه.

فاقتنعت فاندا بهذا البرهان الجلي، وتابع قائلًا: «يظهر من لهجة حديثهما أنهما لم يُصابا بجراح.»

– هو ذاك فإني لا أسمع توجُّعًا، ولكنهما أسيران بين السدَّين فإذا لم يتيسر لهما الخروج ماتا من الجوع.

– ولكننا ننقذهما.

– كيف؟

– إننا لا نستعمل البارود دون شك، ولا حيلة لنا باستعمال الآلات وفتح منفذ في هذا السد، ولكن هَلُمِّي بنا نعود إلى القارب، فمتى صرنا في عرض النهر أخبرك.

أما شوكنج فإنه لم يفهم كل الحديث؛ لأنهما كانا يتكلمان باللغة الفرنسية، ولكنه علم أن الصوت كان صوت روكامبول وميلون.

ثم ذهب الثلاثة إلى الباب، ودفع شوكنج القارب، بأمر مرميس، إلى عُرض المياه.

وجعل مرميس يراقب البيوت الكائنة فوق الصخور التي سمعوا من ورائها صوت روكامبول.

حتى إذا عرف ما أراد أن يعرفه عاد إلى البر، فنزلوا جميعهم من القارب، وذهبوا إلى الخمارة حيث كان ينتظرهم الرفاق.

فأمر مرميس أن ينتظروهم — أيضًا — فيها، وخرج من تلك الخمارة مع فاندا وشوكنج إلى تلك المنازل التي كان يفحصها من عرض النهر، وجعل يبحث فيها عن منزل حتى عثر عليه، فقال لفاندا: «إني إذا لم أكن مخطئًا في حسابي فلا بد أن يكون هذا البيت فوق الصخر الذي سمعنا من ورائه صوت روكامبول.»

ثم دنا من البيت، ففحص بابه، وعاد، فقال: «لقد بِتُّ الآن واثقًا؛ فإن هذا البيت لزعيم إرلندي يُدعى فرلان، وسيكون خير معين لنا على إنقاذ الرئيس.»

٣

ولْنَعُدْ الآن إلى روكامبول، فقد كان آخر عهد القُرَّاء به أنه وضع النار في الفتيل (راجع روكامبول في السجن)، وابتعد عنه أصحابه إلى القاعة ذات الثلاثة دهاليز، فبقي مع ميلون ينتظر بلوغ النار إلى برميل البارود.

فلما اتصلت به النار، وحدث ذلك الانفجار الهائل، اهتزَّت الأرض اهتزازًا عنيفًا ألقى روكامبول وميلون على الأرض!

ولكنهما نهضا على الأثر، ولم يكد روكامبول ينظر إلى نتيجة الانفجار حتى صاح صيحة المنتصر الفائز، ونادى أصحابه يقول: «اتبعوني؛ فقد فُتح السد.»

ذلك أن البارود دفع الصخر إلى النهر، وظهر ضوء النهار من السرداب، فجعل يعدو مع ميلون.

ولكنهما لم يعدوا عشرين خطوة، حتى تهدمت قبة الدهليز من ورائهما وتراكمت الصخور، فحالت بينهما وبين رجال العصابة الذين كانوا يركضون في أثرهما.

فذُعر روكامبول، وهمَّ بالرجوع إلى أصحابه، فوجد السد محكمًا بينه وبينهم، فتمعن هُنَيْهَة، ثم قال لميلون: «هَلُمَّ بنا نخرج الآن من هذا الدهليز، ولا نعدم وسيلة بعد ذلك لإنقاذ رفاقنا.»

ثم ركض روكامبول إلى جهة النهر، وركض ميلون في أثره، وهما يريان النور ينبعث من فم الدهليز.

وعند ذلك رأى روكامبول فجأة أن هذا النور قد احتجب، ثم سمع دويًّا هائلًا أشدَّ من الأول.

ثم اهتزت الأرض اهتزازًا شديدًا، فسقط روكامبول وميلون أيضًا، وجعلت الصخور تتساقط حولهما، وكاد أحد هذه الصخور يصيب رأس روكامبول فيسحقه.

وكانت الظلمات تكتنفهما من كل جانب؛ فلم يرَ روكامبول ما حوله ولكنه سمع ميلون بصوت مُتَهَدِّجٍ: «أين أنت أيها الرئيس؟»

– هنا بقربك.

– ألعلك جريح؟

– كلا، وأنت؟

– وأنا — أيضًا — لم أُصَبْ بشيء.

فقال له روكامبول: «إذًا لا تبرح مكانك، ولنصبر إلى أن ينتهي تساقط الصخور.»

وبعد حين سكت الدَوِيُّ، وانقطع تساقط الصخور، وبطل الاهتزاز؛ فنهض روكامبول، وكان مِشْعَلُه لا يزال معه، ولكنه انطفأ، فأناره.

وعند ذلك قال له ميلون: «أَأَنْهَضُ أنا؟»

– نعم، ولكن لا تبرح مكانك.

فقال له ميلون، وقد سُرَّ أنه هو والرئيس لم يُصَابا بأذًى: «لقد بلغنا خير مبلغ من التوفيق.»

– هو ذاك، فإن هذه الصخور لم تسحقنا، ولكن توفيقنا ليس على قدر ما ظننت.

ثم جعل يفحص على نور مِشْعَلِه ذلك الدهليز، وما صار إليه بعد تساقط القبة، فرأى مَنْفَذ الدهليز قد سُدَّ أيضًا بصخر عظيم.

فقال لميلون: «أرأيت هذا السد الجديد؟ فقد بات موقفنا كما كان منذ ساعة.»

– إذًا، لنعد إلى الرفاق.

– كيف تعود إليهم وقد حِيل بيننا وبينهم بمثل هذا السد؟!

فارتعد ميلون، وقال: «أنحن أسرى الآن؟»

– بل، قُضِيَ علينا أن نُدفن في قيد الحياة.

فأوشك ميلون أن يُجَنَّ من يأسه، وكان روكامبول أصفر الوجه، ولكنه لم يفقد شيئًا من سكينته العادية، فقال لميلون ببرود: «لا يجب، أيها الصديق، أن يضيع اليأس من رشدنا، بل يجب أن نفتكر ونتمعن؛ فإن مركزنا شديد الحرج، ولكنه لا يحمل على اليأس التام.»

فنظر إليه ميلون نظرةً مِلؤها الأمل، وقال له: «أي رجاء لك بخروجنا؟»

– هو أني أرجح سلامة مرميس ورفاقه من الصخور.

– ولكنهم إذا سلموا فهم أسرى مثلنا.

– ولكنَّ رجاءهم بالخلاص وطيد.

– من ينقذهم؟

– البوليس الذي يطاردهم؟!

– إنهم يذهبون بهم إلى السجن.

– ولكن، إقامتهم فيه لا تطول؛ فإني أعرف الشرائع الإنكليزية.

– وبعد ذلك؟

– إنك تعرف مرميس، فهو شديد الذكاء، وتعرف فاندا، فإنها تسفك دمها من أجلي، ولا بدَّ لمرميس وفاندا، بعد إطلاق سراحهما، أن يَجِدَا طريقة لإنقاذنا.

– لقد يصح جميع ما اقترحته، ولكن، لا بدَّ أن يمر عهد طويل لبلوغهم إلينا.

– لا أنكر ذلك فقد يطول يومين أو ثلاثة.

– ألا تجد هذا الوقت كافيًا لأن نموت جوعًا؟!

– إن الرجل يستطيع الصبر على الجوع أربعة أيام.

ثم جلس وهو بِأتمِّ السكينة على صخر.

أما ميلون فإنه كان هائجًا مضطربًا، فجعل يجول في سجنه الضيق كما يجول الأسد في قفصه.

فقال له روكامبول: «قلت لك لا تقنط من رحمة الله، يا ميلون؛ فإنك لم تَجُعْ كما أظن.»

– كلا، ولكني شديد العطش.

– إنك ستروي ظمأك بعد أربع أو خمس ساعات.

– كيف ذلك؟

– حين يجيء زمن المد فتنساب مياه النهر في هذا الدهليز حتى تبلغ قدميك، فتعالَ، واجلس بجانبي.

فجلس ميلون بجانبه، وقد خَفَّ بعض ما عنده من اليأس؛ لالتصاقه بالرئيس، فقال له روكامبول: «إن الكلام لا لون له، فلا حاجة لنا بنور هذا المِشْعل؛ فقد نحتاج إليه.»

ثم أطفأ مِشْعله، وقال له: «أتعلم، يا ميلون، لماذا لم يتمكن مني القنوط؟»

– لأنك خُلقت غير هَيَّاب من الموت؛ فلم أرَكَ اضطربت مرة في حياتي!

– ليس هذا هو السبب الذي يدعوني إلى الرجاء.

– ما هو؟

– هو اعتقادي أن الله يقيني الموت إلى أن أقضي ما عليَّ من المهام.

– إن مهامك لا تنقضي؛ فإنك لا تقضي مهمة حتى تُعرض لك أخرى، ألا تريد أن ترتاح؟!

– كلا، إن الراحة لا تُكَفِّر عن الذنوب.

– ولكنك قد جاهدت فوق الكفاية، وكل عمل من أعمالك يُكَفِّر عن أعظم ذنوبك التي ارتكبتها، وعندي أنه قد آن لك أن تعود إلى باريس وترتاح.

– كلا، لم يَحِن الوقت بعد؛ فلا يزال لديَّ مهمة في لندرا.

– أية مهمة تعني؟ ألعلَّها مهمة الإرلنديين؟

– كلا.

– ولكن الإقامة في لندرا لم تعد محمودة.

– ألم أقل لك إن لديَّ مهمة فيها يجب قضاؤها؟

– بشرط أن لا تكون خاصة بأولئك الإرلنديين.

– لا علاقة لها بهم في شيء.

فلم يُجِبْ ميلون، وجعل ينتظر أن يوضح له هذه المهمة.

أما روكامبول فإنه صمت هُنَيْهَة، ثم قال: «أتعتقد، يا ميلون، أن حبل المشنوق يجلب التوفيق؟»

– هذا ما يقوله الناس، أما أنا فإني لا أشاركهم بهذا الاعتقاد.

– سوف ترى إذا كانوا مصيبين أو مخطئين.

– كيف ذلك؟ ألديك حبل مشنوق؟

– نعم.

– أهو في جيبك؟

– بل معقود على وسطي.

– إذًا، سوف نرى.

– إن الوقت فسيح لدينا، وسأقصُّ عليك حكاية تشغلك عما أنت فيه من اليأس، وتقصر علينا هذا الوقت الطويل.

– أهي حكاية الحبل؟

– نعم، حبل مشنوق جعلني منفذ وصيته.

– تكلم، يا سيدي، فإني مُصْغٍ إليك كل الإصغاء.

٤

وبدأ روكامبول حديثه، فقال: «إنك تذكر، يا ميلون، كيف كانت بداية صداقتنا.»

– إنها بدأت، يا سيدي، في سجن طولون، حين كُنَّا مقيدين بقيد واحد.

– هو ذاك، وقد حدثتني يومًا بحديث تينك الأختين اليتيمتين اللتين سجنت في سبيل إخلاصك لهما.

– نعم يا سيدي، فإنك بعد أن أنقذتهما أصبحت لك من أوفى المخلصين وبت لك أوفى من الكلب الأمين.

– ولقد حدث لي حادثة تشبه تلك الحادثة، ولم تكن في سجن طولون بل في سجن نوايت، ولم يبقَ الرجل الذي رواها في قيد الحياة؛ بل هو من الأموات.

– ألعلَّه مات شنقًا؟

فتأوَّه روكامبول، وقال: نعم، واأسفاه! فأَصْغِ إلى الحكاية، فسأقصها عليك؛ فكما توقعت أني لم أقاوم رجال الشرطة حين قبضوا عليَّ في منزل مس ألن، فإني كنت أستطيع النجاة قبل أن يدخلوا بي سجن نوايت؛ لأنهم لم يذهبوا بي إلى هذا السجن توًّا، بل أوقفوني في البدء في سجن البوليس، فتولى قاضي التحقيق استنطاقي، وسجنني مؤقتًا في سجن القسم، فأقمت في ذلك السجن ست ساعات.

وقد لقيت في ذلك السجن امرأة رثة الثياب تجاوزت عهد الشباب، ولكن آثار الجمال لم تزل تدل عليها، فلما رأتني دخلت نظرت إليَّ في البدء بحذر، ثم جعلت تطيل النظر إليَّ حتى التقى نظرها بنظري، فأحدقت بي.

وكأنما نظري قد أثر فيها، فقالت لي: «أظن أنك الرجل الذي أبحث عنه.»

فنظرت إليها منذهلًا، وقالت: «ألعلَّك جنيت جناية كبرى؟»

– كلا، ولكني من الإرلنديين، وهي عندهم جناية لا تغتفر.

فاختلجت قليلًا، وبرقت عيناها بأشعة الفرح، ثم قالت: «إذًا، سيذهبون بك إلى سجن نوايت؟»

– دون شك.

– لقد أصبت حين قلت لك إنك الرجل الذي أبحث عنه منذ عهد طويل، فاعلم يا سيدي أني أُدعى بيتزي، وأني إيكوسية، وحكايتي أني في كل ليلة أتظاهر بالسُّكْر والعربدة كي يقبضوا عليَّ وما أنا بِسَكْرَى كما ترى.

فدُهشت لأمرها، وقلت: «وبعد ذلك؟»

– إني أتكلف السُّكْر تكلفًا، فيقبضون عليَّ، ويودعونني السجن إلى صباح اليوم التالي، وفي الصباح يحكمون عليَّ بغرامة شلنين ويطلقون سراحي.

– وأي غرض لك من المظاهرة بالسُّكْر؟

– كي يقبضوا عليَّ — كما قلت — وأنا ناهجة هذا المنهج منذ شهر، وفي كل ليلة يقبضون عليَّ في الشارع.

– ولكن لماذا؟!

– لأني أبحث عن رجل محكوم عليه بالسجن في نوايت ويكون لي ثقة به.

– وماذا تتوقعين من هذا الرجل؟

فنظرت إليَّ أيضًا نظر الفاحص، وقالت: «إني متوسمة فيك مخائل النبل والشرف، فقل لي ماذا تُدعى!»

– الرجل العبوس.

فدُهشت لقولي، وقالت: أنت هو الرجل العبوس، وقد أذنت أن يُقبض عليك؟!

– نعم.

– ولكنك تخرج من السجن متى شئت؟

– ربما.

– بل، ذلك أكيد؛ فقد سمعت الناس يتحدثون بك، ويقولون عنك إنك تصنع ما تشاء، وما دمت الرجل العبوس، فأنا أخبرك بكل شيء.

– تكلمي يا سيدتي.

– إن زوجي في السجن.

– في سجن نوايت؟

– نعم، وقد صدر الحكم عليه بالإعدام؛ فهو سيشنق في اليوم السابع عشر من الشهر القادم.

– أي ذنب جناه؟

– قتل لوردًا.

– لماذا؟

– إن الحكاية طويلة لا أستطيع أن أقصها عليك الآن لضيق المقام، ولكنك ذاهب إلى نوايت وسيقصها عليك زوجي.

– ليكن ما تشائين، فهل تريدين أن تبلغيه أمرًا؟

– نعم.

– هاتي (وأنا أحسب أنها تريد أن ترسل إليه رسالة)، فقالت: «إني لا أريد أن أرسل إليه كتابًا بل أكلفك أن تحمل إليه كلامي.»

– ماذا تريدين أن أقول له؟

– قل له إني رأيت امرأتك بيتزي والأوراق عندها، فمت مطمئن البال.

– هذا كل ما تريدين؟!

فمسحت دمعها، وقالت: «نعم، هذا كل ما أريد.»

وقد بذلتُ جهدي أن أقف منها على سر هذه الأوراق، فأبت أن تجيبني بشيء.

وفي صباح اليوم التالي أدخلوني إلى سجن نوايت، فبت ثلاث ليال في غرفة ضيقة مغلقة بحيث تعذر عليَّ مقابلة زوج المرأة المحكوم عليه بالإعدام.

ثم قرروا في السجن أن يحسنوا معاملتي لطمعهم بحملي على الاعتراف بأسرار الإرلنديين؛ لأني بالغت في الحيلة حتى أوهمتهم أن حسن معاملتي تدعوني إلى الإقرار.

فأخذوا يجاملونني منذ ذلك الحين فأفرجوا عني بعض الإفراج، وأذنوا لي بالخروج إلى ساحة السجن مع بقية المسجونين مرتين في اليوم.

ولم أحدث الرجل بشيء في اليوم الأول، لكني كنت أراقبه فأجده منقبض الصدر مستسلمًا إلى القضاء وهو قصير القامة، عريض المنكبين، قوي البنية يناهز الستين من العمر وقد وخط الشيب من رأسه.

فمررت به، وهو جالس في إحدى الزوايا، ونظرت إليه ونظر إليَّ، فاستدللت من نظراته الإخلاص وحسن الوفاء.

فقلت في نفسي إن هذا الرجل قد قتل، ولكنه لم يرتكب هذه الجريمة إلا لغرض نبيل.

•••

وفي اليوم الثاني خرجت إلى تلك الساحة في الساعة نفسها، ووجدت الرجل في موضعه، فذهبت إليه توًّا، وقلت له: أأنت هو الذي قتل اللورد؟

– نعم …

وقد لفظ هذه اللفظة بسَكِينة وارتياح دلالة على أنه غير نادم على ما فعل، وأنه لم يرتكب هذه الجريمة إلا قيامًا بواجب شريف.

فقلت له: «ألست زوج المرأة التي تُدعى بيتزي؟»

فاختلج، وقال: «ألعلَّك رأيتها.»

– يظهر أنك لم تعرفني …

– كلا، فمن أنت؟

– الرجل العبوس.

فرجع خطوة إلى الوراء، وحملق بعينه، وقال: أنت هو الرجل العبوس!

– نعم، أنا هو وقد لقيت زوجتك، فعهدتْ إليَّ أن أخبرك بأنها عثرت بالأوراق وهي عندها.

فصاح الرجل صيحة فرح كأنما قد أخبرته بصدور العفو عنه، ثم قال: «واطرباه! إني أموت الآن مطمئن النفس ناعم البال.»

وعاد فنظر إليَّ، وقال: «إنك دخلت السجن بملء إرادتك.»

– ربما …

– ستخرج منه دون شك عندما تريد.

– إني أرجح ذلك …

فتردد هُنَيْهَة، ثم قال: «يجب أن أقول لك كل شيء يا سيدي، وأنا واثق من فوزك في المهمة التي أعهد بها إليك؛ فإن من كان مثلك لا يعجزه أمر، وسأمنحك مقابل ذلك الحبل الذي سأشنق به فإنه يجلب لك السعادة.»

ولما وصل روكامبول بحكايته إلى هنا توقف، فقال له ميلون: بالله أتم حكايتك؛ فقد أنسيتني أننا سجينان بين صخرين، وأنه مقضيٌّ علينا بالموت جوعًا.

٥

وعاد روكامبول إلى تتمة حديثه، فقال: إن زوج بيتزي لم يُزِد في ذلك اليوم شيئًا على ما قاله؛ إذ قال: «إن الحديث طويل وقد حان موعد الرجوع إلى السجن، ولكني سأخبرك غدًا بكل أمري.»

وفي اليوم التالي اجتمعت به، فقلت له: «لقد وجدت طريقة للاجتماع بك عدة ساعات.»

فنظر إليَّ منذهلًا، وقال: «إن ذلك مستحيل في هذا السجن إلا عليك ما دمتَ الرجل العبوس!»

أما الطريقة التي وجدتها فهي أني حين عدت إلى غرفتي قلت للحارس: «إني أحب أن أكلم حاكم السجن.»

فذهب الحارس، وبعد ربع ساعة جاء الحاكم وهو يبتسم لاعتقاده أني دعوته لأبوح له بأسرار الإرلنديين.

فلما دخل عليَّ قلت له: «إني أحب أن أحدثك في بعض الشئون، يا سيدي الميلورد.»

فبدت عليه علائم السرور، وقال: «لقد كنت أتوقع منك هذا الرشاد وهذه النهاية.»

– لم أكن إلا من الراشدين.

فجلس بجانبي، وقال لي: «يا بُني ماذا تريد؟»

– إن حكم عليَّ بالإعدام أيكون إعدامي شنقًا؟

– نعم؛ فإننا لا نعدم إلا بالشنق.

– أتظن أنهم يحكمون عليَّ بالإعدام؟

– هذا ما أراه إلا إذا اعترفت بما تعلمه؛ فإنهم يرحمونك دون شك.

– هذا الذي أفتكر به الآن.

– وهذا ما كنت أتوقعه منك.

– ولكني أقول لك، قبل كل شيء، إني لا أخشى الموت، ولا سيما الشنق.

– ولكنك مخطئ في توهمك؛ فلو رأيت المشنوق حين يعدمونه لرأيت ما تقشعر له الأبدان فاعمل بنصائحي، يا بني، واعترف بكل شيء، فذلك خير لك وأبقى.

– إني أعمل ذلك، ولكني كما قلت لا أخاف الموت شنقًا.

– وأنا أعيد عليك ما قلته؛ فإن ميتة الشنق أفظع ميتة.

– كلا؛ فإن الإعدام في فرنسا يجري بالمقصلة ورؤية هذه الآلة الهائلة تحمل على الرعب، فلو كنتم تعدمونني لما توقفت عن الإقرار.

– إننا لا نستطيع تغيير طريقة الإعدام من أجلك، ولكني أعيد عليك ما قلته، ودليلي على ذلك أنه يوجد لدينا محكوم عليه بالإعدام، وإني أخاف أن يقضي الرعب عليه قبل قضاء الإعدام.

– ولكني لقيته أمس بين المسجونين؛ فما وجدت عليه غير علائم السكينة والارتياح.

– ذلك لأنه يتكلف الجلد تكلفًا بين رفاقه، ولكنك لو أقمت معه يومين لأدركت حقيقة رعبه.

– أتظن أن رعبه يؤثر بي؟

– دون شك، وقد خَطَر لي أن تبيت هذه الليلة معه في غرفة واحدة، وإني أفعل ذلك لخيرك؛ فإنك إذا أقمت معه خشيت الموت، ومتى خشيته نجوت منه لاضطرارك إلى الإقرار؛ فإني واثق من رحمة القضاة.

– أشكرك، يا سيدي، فدعني أبيت الليلة معه وادْعُني في الغد إليك.

– لماذا؟

– لأعترف بكل ما أعلمه إذا وجد الخوف سبيلًا إلى قلبي.

– سأصدر أوامري بهذا الشأن.

ثم تركني، وانصرف فرحًا مسرورًا.

وبعد حين جاءني أحد الحراس، وذهب بي إلى غرفة زوج بيتزي، فأقامني معه، وأقفل الباب وانصرف.

ولما خلوت معه قلت: «أرأيت أني وفيت بوعدي وتمكنت من زيارتك؟»

فقال لي بلهجة الإعجاب: «إنك، يا سيدي، تفعل ما تريد!»

– حدثني الآن بقصتك.

فامتثل الرجل، ولم ينم تلك الليلة طرفة عين.

وفي صباح اليوم التالي أقبل الحارس وذهب بي إلى الحاكم.

فاعترض ميلون عند ذلك روكامبول، وقال له: «ألا تحكي لي هذه القصة؟!»

فأجابه روكامبول: سأقصها عليك، فاسمع الآن ما جرى مع الحاكم، فقد ذهبوا بي إليه وكنت مصفر الوجه دون شك؛ لأني لم أنم.

فحمل الحاكم اصفراري على محمل الخوف، وقال: «كيف رأيت؟ ألا تزال تحتقر الموت شنقًا؟!»

– الحق، يا سيدي الميلورد، أني لم أخَفْ بعد.

– إذًا، لا تريد أن تُقِرَّ.

– لا أُقِرُّ إلا حين أخاف.

فعضَّ الحاكم شفته، ولكنه كظم غيظه، وقال: «لا بدَّ لي أن أقنعك وسوف ترى.»

– ألعلَّك تريد إقامتي مع هذا الرجل؟

– بل سأفعل خيرًا من ذلك.

– ماذا عزمت أن تفعل؟

– عزمت على أن أدعك تحضر الشنق؛ فقد كان ذلك متعذرًا منذ شهر، أما الآن فقد أذنت الحكومة بأن يحضر المسجونون وقت الإعدام؛ لأن الإعدام بات في داخل السجون.

وبينما كان روكامبول يحادث ميلون، قال ميلون بلهجة الرعب: «انظر، يا سيدي، انظر.»

فقال له روكامبول: «ماذا؟»

– انظر إلى يسارك.

فنظر روكامبول فرأى نقطتين تتقدان في تلك الظلمات المحيطة بهما.

٦

كان ميلون شجاعًا كما عرفه القُرَّاء في كثير من مواقف هذه الرواية، غير أنه لم يكن بشجاع إلا في الأخطار التي يعلمها؛ فإذا عَرَضَ له خطر مجهول ضَعُف وجَبُن شأن ضعفاء العقول.

أما روكامبول فإنه نهض عن الصخر الذي كان جالسًا عليه، ومشى خطوتين إلى جهة ذلك النور، فرأى أن النقطتين قد تغير موضعهما.

فصفق روكامبول بيديه فتوارى النور.

والتفت عند ذلك إلى ميلون، وقال له: أما عرفت، أيها الأبله، ما هذا النور؟

– كلا.

– هو نور منبعث من عيني هرة، وما دامت الهرة قد وصلت إلينا فلا بد من وجود منفذ خرجت منه.

– أتظن؟

– دون شك، ولكني أخشى أن يكون منفذًا ضيقًا لا نستطيع نحن الخروج منه.

– وقد تكون هذه الهرة سجينة معنا.

– ذلك محال؟

– لماذا؟

– إنها لو كانت سجينة مثلنا كما توهمت لكنا رأيناها من قبل، ولما كانت توارت حين صفقت، وبعد فكيف يتفق لهذه الهرة أن تكون سجينة في هذا الدهليز؟!

– كما اتفق لنا.

– أما نحن فإننا دخلنا في هذا الدهليز من بئر السجن، بعد أن هدمنا الجدار الذي كان يسده، والحقيقة أن هذه الهرة كانت في قبو لا بد أن يكون فوقنا ولا بد أن يكون الانفجار قد فتح منافذ في ذلك القبو للهرة.

– ذلك ممكن.

– إذًا، فلنبحث علَّنا نستطيع الخروج من المنفذ الذي خرجت منه.

ثم أنار المشعل، وقال: «هَلُمَّ نبحث الآن.»

وجعل يتفقد مع ميلون سجنه الضيق باحثًا عن ذلك المنفذ.

وقد عرف القُرَّاء أن الصخور قد تهدمت في الدهليز أمام روكامبول وميلون بحيث سَدَّت الطريقين.

فرجع روكامبول إلى الصخور التي سقطت خلفه في الجهة التي برقت فيها عينا الهرة.

وكانت هذه الصخور طبقات بعضها فوق بعضه فتسلقها روكامبول ونظر إلى القبة فرأى فيها منفذًا وأمر ميلون أن يصعد على تلك الصخور.

فلما وصل ميلون إليه أعطاه المِشْعَل، ووثب على ظهره، ووقف بين كتفي ميلون، فأدخل نصف جسمه في ذلك الثقب الذي رآه في القبة.

ثم قال له: «هات المِشْعَل الآن.»

وأخذه من يده، وجعل ينظر بنوره من ذلك الثقب، فرأى رواقًا طويلًا يشبه الدهليز الذي هو فيه.

فوضع المِشْعَل على الأرض، وصعد في ذاك الرواق، فقال لميلون: «انتظرني هنا إلى أن أتفقد هذا الرواق.»

ولم يَطُل بحثه حتى علم أنه في أحد تلك الأقبية الطويلة التي يستعملها تجار المشروبات عند ضفاف النهر.

وقد تهدم بعض أرض ذلك القبو حين الانفجار، فَفُتح فيها ذلك المنفذ الذي لم يكن من قبل حتى إن صاحب هذا القبو نفسه قد يكون جاهلًا أن قبوه فوق دهليز.

وعند ذلك رجع روكامبول إلى المنفذ، فجلس على حافته، ومد ساقيه قائلًا لميلون: «تعلق بساقي، واصعد إلى حيث أنا.»

فصعد، وبات الاثنان في القبو.

عند ذلك حمل روكامبول المِشْعَل وقال لميلون: «اتبعني؛ فلا بد أن ننتهي في هذا القبو إلى باب.»

وسارا بضع خطوات، فرأيا براميل مرصوفة في جانبي ذلك القبو الطويل الضيق، وهنا سمعا دويًّا فقال ميلون: «ما عسى أن يكون هذا الدويُّ؟»

فأصغى روكامبول هُنَيْهَة، وقال: «إنه صوت أمواج النهر.»

ثم واصلا سيرهما، فرأى روكامبول بعد حين نورًا بعيدًا.

وأطفأ روكامبول المصباح، فسأله ميلون: «لماذا أطفأت المصباح؟»

– لأن هذا النور الذي رأيناه هو نور السماء لا بدَّ أن يكون نافذًا من طاقة مفتوحة، أو باب مفتوح، فإن أبقيت المِشْعَل مضاءً فقد يراه أحد من الخارج.

وبعد هُنَيْهَة وصلا إلى مصدر ذلك النور، ورأيا نافذة مفتوحة، وسمعا من تحتها هدير أمواج التيمس.

وكانت النافذة عالية فقال له ميلون: «ماذا تصنع؟»

– إذا أردت أن تُدَقَّ عنقك فألقِ بنفسك من هذه النافذة إلى النهر!

– ولكننا إن بحثنا في هذا القبو فقد نجد حبلًا.

– لا فائدة لنا بالحبل؛ فقل لي كم الساعة الآن؟

– نحن في الساعة الرابعة.

– إذًا، فستعلو المياه بعد نصف ساعة، أي حين يجيء زمن المد فنلقي أنفسنا من تلك النافذة فنسقط في المياه وننجو سباحة، أما إن سقطنا الآن فلا تسقط إلا على الأرض لانحسار المياه.

فتنهد ميلون، وقد رأى هذا الزمن الوجيز الذي يحول بينه وبين الحرية أطول من دهر!

أما روكامبول فإنه ابتسم، وقال له: إننا منذ هُنَيْهَة كنا سجينين بين صخرين نتوقع الموت جوعًا، ففتح الله لك بابًا للنجاة فكيف تتنهد وتتضجر؟!

– لقد أَصَبْتَ، يا سيدي؛ فإني لجوج ضجور.

– ولكني سأخفف عنك وطأة الضجر بالعود إلى تلك الحكاية التي كنت أقصها عليك.

– أَتُطْلِعُنِي على سر زوج بيتزي؟

– كلا لم يَحن الوقت بعد، ولكني أخبرك بأمر إعدامه.

– ألعلَّك حضرت شنقه؟

– دون شك.

ثم جلس على تلك النافذة، وأدلى رجليه منها إلى الخلاء، وأخذ يحدث ميلون بينما كانت مياه النهر آخذة بالتصاعد تباعًا لقرب زمن المد.

٧

قال روكامبول: وكان الحاكم لا يزال يرجو أن يحملني على الإقرار فكان يحسن معاملتي، وقد أَذِنَ لي بالاجتماع مع زوج بيتزي حين أريد، فكنت أعزيه خير تعزية.

أما الحاكم فكان يسألني كل مرة أجتمع فيها مع هذا الرجل إذا كنت ما أزال غير وجل من الموت فأجيبه سلبًا.

وتوالت الأيام على ذلك إلى أن جاءني الحاكم ليلة قائلًا: «إن غدًا موعد إعدام قاتل اللورد ألا تزال راغبًا بمشاهدة هذا المشهد الهائل؟»

– نعم …

– إذًا، يجب أن أنقلك من غرفتك هذه إلا إن أحببت أن تبيت الليلة مع الرجل المحكوم عليه.

– إني أوثر أن أبيت مع هذا المنكود، وعسى أن أعزيه.

– وأنا أرجو أن يؤثر فيك شقاؤه وبأسه؛ فإن هذا التعس لم يبقَ له غير ساعات معدودة.

– وأنا أرجو رجاءك؛ فإني إذ كنت لا أخشى الموت فلا أحب الحياة.

– وهنا مسألة أحب أن أطلعك عليها؛ لأنك تجهلها دون شك.

– ما هي؟

– إن جسم المقتول شنقًا يُعطى للجلاد فيبيعه للأطباء كي يُعَلِّموا فيه التلامذة التشريح، ولكن الحبل الذي به يكون ملك المشنوق، وله أن يورثه من يشاء وهذا الحبل يجلب السعادة.

– إنه زعم سائد على الأكثرين، وإن وهبني هذا الحبل فإني أرجو النجاة من الشنق.

– ولا سيما إذا أقررت؛ فإن إقرارك يفيدك أكثر مما يفيدك الحبل.

ثم تنهد، وتركني، وبعد ذلك بساعة ذهبوا بي إلى غرفة زوج بيتزي، وكان لديه فتاتان من أخوات السجون، فابتسم الرجل حين رآني وقال: «إن غدًا يومي الأخير.»

– ألم تخشَ الموت؟

– كلا …

ثم رفع يديه إلى السماء، وقال: «إنه حين يموت المرء في سبيل الواجب يموت مستريح البال.»

– ألم يبقَ لديك ما تقول؟

– كلا، فقد عرفت كل شيء، ولكني أهبك الحبل الذي سأشنق به؛ إذ يحق لي أن أهبك هذا الحبل.

– لقد رجا الحاكم أن تهبني هذه الهبة.

فابتسم الرجل، وقال: «مسكين أنه ليس من أكفائك.»

وقد أمضى الليل والفتاتان تصليان وأنا أتحدث معه بصوت منخفض.

فلما بلغت الساعة الخامسة صباحًا، فُتح باب الغرفة، ودخل الجنود، فانصرفت الفتاتان، وعانقت الرجل مودعًا، فكان آخر ما قاله لي: «تذكر ما وعدتني به.»

فقلت له: «مت بسلام.» وذهب الجنود به إلى ساحة الإعدام.

أما أنا فقد قال لي الحارس: «إني مأمور أن أذهب بك إلى غرفة فيها نافذة تشرف على الإعدام.» ثم ذهب بي إلى تلك الغرفة، وكانت نافذتها مرتفعة فوقفت على كرسي، وأَطْلَلْتُ من النافذة، فرأيت الحاكم بملابسه الرسمية واقفًا في طليعة الجنود، ورآني، فابتسم لي، وحياني بيده.

ثم ترك الجنود، وجاء إليَّ فوقف تحت النافذة، وقال لي: أترى كل شيء من المكان الذي أنت فيه؟

– نعم، ولكن من هؤلاء الرجال المرتدون بالملابس السوداء؟

– هم القضاة الذين حكموا على الرجل، والشرع يقضي عليهم بحضور تنفيذ الإعدام.

فقلت في نفسي: «إنها حكمة بالغة؛ فإن القاضي متى وقف هذا الموقف الهائل، ورأى ذلك المنظر المفجع لا يتسرع في أحكامه.»

ثم تركني الحاكم وذهب إلى الجلاد، فوقفت في مكاني أنتظر بقلق شديد نفوذ القضاء في هذا الرجل الذي ما عرفته إلا بعد أن وقفت على سره، فأَحْلَلْتُه محلًّا عظيمًا من قلبي، وكدت أذوب لهفًا عليه.

وفي الساعة السادسة جاءوا به إلى هذا الموقف الرهيف، فصعدوا به إلى المشنقة، وهو أصفر الوجه غير أنه كان ثابت الجأش؛ فأجال بين الحاضرين نظرًا تائهًا حتى رآني، فقال لي بعينيه ما يفيد معنى «تذكر».

ثم وُضع الحبل في عنقه، وفتحت الهاوية فزُجَّ إلى الأبدية.

ولما تفرق الحضور أسرع الحاكم إليَّ وقال: «ماذا رأيت؟»

– رأيت كل شيء.

– وماذا كان تأثير هذه الفاجعة عليك؟

فضحكت، وقلت: «لم تُؤَثِّرْ في أدنى تأثير.»

فقال لي بلهجة دلت على اضطرابه: «إذًا، لا تريد أن تبوح بأسرارك؟»

– سأرى فيما بعد.

وعندما وصل روكامبول بحكايته إلى هذا الحد نظر إلى مياه النهر فقال لميلون: «إن الماء قد بلغ حدَّه، فهل تريد أن تنزل إليها؟»

– ولكنك لم تَقُل لي سر الرجل المشنوق؟!

– سأرويه لك في غير هذا المقام؛ إذ يجب علينا أن نفر قبل المباغتة، فاتبعني.

ثم وثب إلى المياه وتبعه ميلون فتواريا في الأمواج، ثم ظهرا وجعلا يسبحان إلى جسر لندرا.

٨

ولنعد الآن إلى مرميس؛ فقد تركناه مع شوكنج وفاندا عند منزل زعيم الإرلنديين، وقد ذكر لهما اسمه، فلما رأى أنهما لم يدركا قصده قال لهما: «إن هذا المنزل ينبغي أن يكون فوق المكان الذي تهدمت فيه قبة الدهليز وسجن روكامبول وميلون، وهو لأحد زعماء الإرلنديين كما تقدم لي القول.

ولهذا المنزل قبو لو نزلنا إليه نجد به منفذًا إلى مكان السجن، وإن لم نجد منفذًا ثقبنا الأرض.»

فقالت فاندا: «إن كل ما ترويه معقول، ولكن هل أنت واثق أن هذا المنزل كائن فوق المكان الذي سمعنا فيه صوت روكامبول؟»

– كل الوثوق.

– ولكن كيف عرفت ذلك؟

– أتعلمين؟! إن من بعض أفضال الرئيس عليَّ أنه أمرني بدرس الهندسة، درست هذا الفن درسًا دقيقًا وقد قست بفضل قواعدها المسافة بينه وبين الدهليز قياسًا نظريًّا، وأرجو أن لا أكون مخطئًا في حسابي، والذي أراه أنه يجب أن نثقب ثقبًا لا يقل عمقه عن عشرة أقدام.

فقال شوكنج: «إذًا، بقي علينا أن ندخل إلى هذا المنزل، ونخبر صاحبه بمرادنا.»

– لا حاجة إلى ذلك.

فقالت فاندا: «لماذا؟»

– لأن هذا الزعيم الإرلندي لا يعرفنا، وما نحن من الإرلنديين ولا نعرف رموزهم السرية فنتعارف بها.

– إذًا، ما العمل؟

– نرسل شوكنج إلى الخمارة، فيأتينا بالإرلندي الذي كان يصحبه، وهو يكون واسطة التعارف بيننا وبين صاحب المنزل.

ثم أمر شوكنج أن يذهب فانطلق مسرعًا، وبقي مرميس وفاندا ينتظران في الشارع.

ولم يطل انتظارهما؛ حيث عاد شوكنج بالإرلندي بعد ربع ساعة.

وكان شوكنج قد أخبره بالأمر، وأتيا يحملان الآلات اللازمة لثقب أرض القبو.

فلما وصل الإرلندي ذهب توًّا إلى المنزل، ونقر عليه بأصابعه نقرات اصطلاحية، فلم يُفتح الباب، وكان مظلمًا لا نور فيه.

فقال مرميس: «إن سكانه نيام دون شك.»

قال له الإرلندي: «صبرًا، ثم جعل ينقر على الباب بطريقة مخالفة للطريقة الأولى، فلم يُفتح ولم يظهر أثر للنور.»

قالت فاندا: «ألعلَّ البيت مهجور؟»

– كلا، يا سيدتي، ثم عاد إلى طرق الباب بطريقة ثانية فظهر النور فجأة، وفُتح الباب، وبرز منه رجل كهل يحمل بيده مصباحًا وهو بملابس النوم.

فأشار إليه الإرلندي إشارة سرية بسرعة، فأجابه بمثلها، ونظر إلى مرميس وفاندا نظرة تدل على الاطمئنان، ثم دخلوا جميعهم إلى المنزل.

وكان الإرلنديون من الزعماء، فقال صاحب المنزل لوصيفه باللغة الإرلندية: «ألم يحدث الانفجار النتيجة المطلوبة؟»

– كلا.

– ولكني سمعت دويًّا خلت بعده أن نصف لندرا قد تهدم.

– أشعرت باهتزاز في المنزل؟

– إنه اهتز كما يهز الأرضَ الزلزال، ولا بدَّ أن يكون قبو منزلي قد تصدع …

فقال الإرلندي لمرميس ورفاقه: «إننا سنوضح لكم ما لم تفهموه من حديثنا، والآن فلننزل إلى القبو.»

فقال صاحب المنزل: «ماذا تريد أن تفعل بهذه الآلات؟»

– سوف ترى.

وسار بهم صاحب المنزل إلى باب، ففتحه، ونزلوا جميعهم سلمًا انتهوا منه إلى رواق ضيق طويل كانت البراميل مرصوفة فيه على الجانبين.

وعند ذلك دنا الإرلندي من مرميس، وقال له: «افحص الآن هذا المكان، وانظر إن كنت غير مخطئ في حسابك.»

فأخذ مرميس المصباح، وسار في ذلك الرواق حتى انتهى إلى أن رأى منها نور الفجر، وأطل فوجد أنها مشرفة على نهر التيمس، فقال في نفسه: «هذا الذي كنت أتوقعه.»

ثم عاد إلى رفاقه، وقال لهم: «إني لم أخطئ بحسابي، فهَلُمُّوا بنا أدلكم على المكان الذي تهدم في الدهليز تحت هذا القبو.»

فأذعنوا له، وسار أمامهم في الرواق حتى انتهوا إلى المكان الذي خُسفت أرضه، فقال الإرلندي: «لم يكن لديَّ ريب أن أرض القبو قد انشقت من الانفجار.»

أما مرميس فإنه نزل من ذلك الثقب، فصادفت رجلاه صخورًا فأخذ المصباح من شوكنج وتوارى عن الأنظار.

وبعد خمس دقائق عاد إلى رفاقه، فقال: «إن الرئيس قد نجا دون شك.»

وصاحت فاندا صيحة فرح، قائلة: «أأنت واثق، يا مرميس؟»

– دون شك فاتبعوني، وسوف ترون.

ثم سار بهم إلى جهة النافذة.

وكانت أرض القبو رطبة، فجعل مرميس يدلهم على آثار الأقدام فيها حتى وصلوا إلى النافذة فاختفت تلك الآثار.

فقال لهم مرميس: «أعلمتم الآن كيف نجا الرئيس وميلون؟!»

ثم أشار بيده إلى النهر، وقال لهم: «إنهما من أمهر الناس في السباحة، وقد وثبا من هذه النافذة إلى النهر على أمواجه إلى جسر لندرا.»

فركعت فاندا عند تلك النافذة، وجعلت تشكر الله.

٩

بعد ثمانية أيام من هذه الحوادث كان مرميس وفاندا في الدور الأول من منزل في زقاق سانت جورج في شارع وينغ، وقد أوشك الليل أن يقبل وأنيرت مصابيح الغاز.

وكان الاثنان جالسين عند نافذة يتحدثان بصوت منخفض، وينظران إلى الطريق من حين إلى حين كأنهما ينتظران قدوم زائر.

أما فاندا، فقد كانت مقطبة الجبين تقول لمرميس: «قد ذهبت مساعينا أدراج الرياح؛ فإننا نبحث منذ ثمانية أيام عن روكامبول ولا نجده، رباه! ألعله مات؟»

وأجابها مرميس: إن ذلك محال؛ لأنه لو كان قُضِيَ عليه وعلى ميلون غرقًا لوجدوا جثتيهما.

– من يعلم؟ واأسفاه!

– إني رأيت جميع الغرقى الذين أخرجوهم من النهر، ثم إنك تعلمين مهارتهما في السباحة …

– إذًا، ما جرى لهما؟

– إنه سر لا بدَّ أن نهتدي إليه.

– ولكن الإرلنديين قد بحثوا عنه في كل مكان، وأخبرتنا اليوم مس ألن أن البوليس الإنكليزي لم يقبض عليه، فهل هي واثقة من ذلك؟

– دون شك.

– كيف تجزم بهذه الثقة؟

– ذلك لأن اللورد بالير بات يحب الإرلنديين الآن بقدر ما كان يكرههم؛ فإن ابنته قد حملته إليهم وهو لورد وعضو في المجلس الأعلى؛ أي إنه يحق له تفقد السجون ومعرفة ما لا يعرفه سواه.

– إن ما تقوله، يا مرميس، يدعو إلى الاطمئنان غير أني لا أزال مضطربة البال على الرئيس.

– ممن تخافين عليه؟

– من ألد أعدائه، وهو الأسقف بترس توين.

فهز مرميس كتفيه، وقال: «أما أنا فلا أخاف هذا الأسقف؛ فليس هو من أكفائه.»

– ولكننا إن كنا لم نهتدِ إلى روكامبول، فكيف هو لم يهتدِ إلينا؟ ألعلَّه لم يبحث عنا لاعتقاده أن الصخور سحقتنا في الدهليز؟

فلم يُجِبْها في البدء، بل أطرق مفكرًا، ثم قال: «إن الرئيس قد يكون برح لندرا، ولكننا أسأنا إليه إساءة لا تغتفر.»

فدُهشت فاندا، وقالت: نحن أسأنا إليه؟!

– دون شك، ألا تذكرين حين كان يَهِمُّ بوضع النار في الفتيل ما قاله لنا، وهو أنه قد يموت بالانفجار، وأنه يجب علينا أن نتم أعماله.

– نعم، أذكر ذلك، وقد أمرنا أن نذهب إلى امرأة تُدعى بيتزي، وأعطاني نوطًا إذا أريتها إياه أعطتني ما لديها من الأوراق.

– هو ذاك، فهل فعلنا شيئًا من هذا؟

– كلا، ولكننا كنا نرجو لقاءه بعد وثوقنا من نجاته.

– وهنا أصل الخطأ؛ لقد كان يجب أن نبدأ أبحاثنا عن بيت هذه المرأة، لأن الرئيس لا بدَّ أن يكون ذهب إليها.

– لقد أَصَبْتَ يا مرميس، وقد كان يجب أن يخطر لنا هذا الخاطر من قبل، فهلم بنا إليها.

– كلا؛ إذ يجب أن ننتظر الآن.

– ننتظر من؟

– الزعيم الإرلندي، سيزورنا ليخبرنا بنتائج أبحاث الإرلنديين عن رئيسنا.

ولم يكد يتم حديثه، حتى رأى من النافذة ذاك الزعيم قادمًا مع شوكنج.

وبعد حين دخل الزعيم وشوكنج وعليهما علائم الكآبة.

فقال مرميس مخاطبًا الزعيم: «ماذا فعلتم؟»

– بحثنا بحثًا مستفيضًا فلم نظفر بشيء.

وتابع مخاطبًا شوكنج: «إننا قد انتهينا حيث يجب أن نبدأ.»

– ماذا تعني؟

– أتعرف شارع أدم ستريت؟

– دون شك …

– اذهب، وائتنا بمركبة.

فخرج شوكنج، وقال مرميس للزعيم الإرلندي: «أرجو أن تصبر إلى الغد فتجمع رجالك.»

– لماذا؟

– لأني أتوقع شيئًا جديدًا.

– كما تريد.

وبعد هُنَيْهَة عاد شوكنج، وقال: «إن المركبة عند الباب.»

وودع الزعيم مرميس على أن يجتمعا في الغد وانصرف.

أما مرميس فإنه قال لفاندا: «هلم بنا ولنسرع جَهْدَ الإمكان.»

وسأله شوكنج: «ألا تأذن لي بالذهاب معكما؟»

– تعالَ معنا إن أحببت.

ثم ذهب الثلاثة بالمركبة إلى شارع وينغ، ووقفت المركبة عند مدخل زقاق أدم ستريت لتعذر دخولها في الزقاق.

ونزلوا من المركبة، وساروا في ذاك الزقاق حتى وصلوا إلى بيت بيتزي؛ لأن الرئيس أخبرهم بنمرته، فاهتدوا إليه.

وكان المنزل حقيرًا تدل ظواهره على فقر ساكنيه، وهو مؤلف من ثلاثة أدوار يدخل إليه من رواق ضيق مظلم.

وكان يوجد عند الباب خمارة فسأل مرميس صاحبها عن بيت بيتزي، فقال له: إنها تقيم في الدور الأعلى …

– أتعلم إن كانت في البيت؟

– نعم؛ فإنها لم تخرج منه منذ عدة أيام، لأنها مريضة.

•••

وصعد الثلاثة إلى ذلك البيت وقرع مرميس الباب، فسمع صوتًا ضعيفًا يقول له: «ادخل.»

فدخل مرميس مع رفيقيه، ووجد تلك المرأة نائمة على مقعد، وهي شديدة الهزال.

ولما رأتهم بيتزي، قالت لهم: «ألعلَّكم آتون للذهاب بي إلى السجن كما فعلتم بزوجي المنكود، ثم تشنقونني كما شنقتموه؟»

وأجابها مرميس: «كلا، أيتها العزيزة، فما نحن من رجال الشرطة، بل من الأصدقاء.»

وتأوَّهت قائلة: «أحقٌّ ما تقولون أم أنتم تخدعونني؟»

– بل إنا نقول الحق، يا سيدتي، فنحن أصدقاء الرجل العبوس.

وارتعدت بيتزي، وقالت بلهجة السرور: «الرجل العبوس، ألعلَّه خرج من السجن؟»

– نعم، يا سيدتي.

ثم نظر إلى فاندا نظرة يأس؛ لأنه أيقن من سؤال بيتزي عن روكامبول أنه لم يأتِ إليها، فانقطع آخر رجاء كان باقيًا لديه من البحث عنه.

أما فاندا فقد تمكن اليأس منها، وقالت بصوت خنقته العبرات: «ويلاه! إنه مات، يا مرميس.»

وجلست بيتزي في سريرها، وقد اضطربت اضطرابًا شديدًا، وقالت: «من الذي مات؟»

ثم جعلت تنظر إلى الثلاثة نظرات القلق والجزع.

١٠

وساد السكوت هُنَيْهَة إلى أن بدأت بيتزي الحديث، وقالت: «إنكم مخدوعون … إن ذلك لا يمكن أن يكون، إن الرجل العبوس لم يمت.»

وقال مرميس: «عسى الله أن يحقق رجاءنا.»

– إن الرجل العبوس وعد زوجي توما أنه سيعاقب المجرمين، وينتصر للمظلومين، فلا يأذن الله بموته قبل أن يقضي هذه المهمة الشريفة، وهذا الواجب المقدس.

فقال شوكنج: «وأنا أرى رأيك، يا سيدتي؛ فإن الله أرأف من أن يقضي عليه هذا القضاء.»

ونظرت بيتزي إلى مرميس، وقالت له: «ماذا أتيتم تعملون عندي؟»

– أتينا لنبحث عن الرجل العبوس.

– وأنتم أصحابه كما تقولون؟!

– بل نحن تلاميذه، بل أبناؤه.

ورأى مرميس أنها مرتابة بهم، فقال لها: «إننا حين فارقنا الرجل العبوس قال لنا قد يتفق أن لا يكون لقاء بعد هذا، ثم أمرنا أن نحضر إليكِ.»

– عندي أنا؟

– نعم، وأن نسألك باسمه إعطاءنا الأوراق.

وازداد ارتيابها عندما سمعت ذكر الأوراق، وأجابت: «كلا، لا يمكن أن تكونوا قادمين من قِبَلِه.»

فقال لها شوكنج: «أقسم لكِ، يا سيدتي، إن ما قاله لك أكيد لا ريب فيه.»

– ولكني لا أستطيع التصديق.

وأخذ مرميس يدها بين يديه، وقال لها: «انظري إليَّ، يا سيدتي، أتجدين بين ملامحي ما يدل على أني من الكاذبين؟»

فتلجلج لسانها، وقالت: «لا أعلم.»

– ثقي، يا سيدتي، واعلمي أنه إذا كان الرجل العبوس قد مات، فإنك تُخطئين خطأً شديدًا لعدم ثقتك بنا.

– إني لا أستطيع التفكير إلا بأمر واحد.

– ما هو، يا سيدتي؟

– هو أنه حين ذهبوا بزوجي المنكود إلى السجن قال لي: «احذري أن تسلمي الأوراق لأحد.»

– أحتى للرجل العبوس؟!

– كلا، فإني أسلمه كل شيء.

– ولكن، الرجل العبوس هو الذي أرسلنا إليك.

– هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

فسألها شوكنج: «ألا تعرفينني يا سيدتي؟»

– كلا، لكن يُخال أني رأيتك مرة ولا أذكر أين.

– إني أُدعى شوكنج.

وكأنما هذا الاسم قد نبه حواس بيتزي، فقالت: ألعلَّك شوكنج المتسول؟

– هو بعينه.

– قد عرفتك، ولكن ذلك لا يبرهن لي على أنكم قادمون من قِبَل الرجل العبوس.

– ولكني صديقه.

– كيف تثبت ذلك؟

– أتعرفين، يا سيدتي، الأب صموئيل؟

– أعرفه وأُجِلُّه غاية الإجلال.

– إن جئت به، وقال لك إننا قادمون من قبل الرجل العبوس، أتعطينا الأوراق؟

– دون شك.

ونظر شوكنج إلى مرميس كأنه يستشيره.

فأجابه: إن الرئيس قد أصدر إلينا أوامره، ولا بدَّ من إنفاذها، غير أني أعتقد أنه لا يزال في قيد الحياة.

– وأنا أعتقد اعتقادك.

– ولكن يجب علينا تنفيذ أوامره كأنه قد مات.

– وأنا أرى رأيك أيضًا.

– لكن أين نجد الأب صموئيل الآن؟

– أنا أتعهد بإحضاره إن كنتم تنتظرونني في هذا المنزل.

– ننتظرك، فاركب مركبة، وسِرْ بها على عجل.

فقالت بيتزي: «ليقل لي الكاهن إن الرجل العبوس أرسلكم، أسلمكم الأوراق.»

وجعل مرميس ينظر إلى الغرفة متفقدًا باحثًا فقالت له: «لو بحثت طول العمر عن هذه الأوراق لما وجدتها.»

أما شوكنج، فإنه انصرف، وجلس مرميس وفاندا عند سرير بيتزي.

•••

كان شوكنج يعلم أن الكاهن يقيم في قبة الكنيسة، فركب عربة بُغْيَة الإسراع، وذهب توًّا إليها، وطرق الباب، ففتح له حارس الكنيسة، وهو ذلك الشيخ الذي تقدم لنا وصفه في الأجزاء السابقة.

وكان الشيخ يعرف شوكنج حق العرفان لكثرة ما كان من تردده مع روكامبول إلى زيارة الكاهن، فقال له: لقد مضى عهد طويل لم أرَك فيه، فأين كنت؟!

– كنت في فرنسا، وأنا قادم الآن لمقابلة الكاهن في شأن خطير، فهل هو في القبة؟

– نعم فاصعد إليه.

فصعد شوكنج، وكان الكاهن يصلي، فانتظر إلى أن فرغ من صلاته، فقال له: «إنك تعلم، يا سيدي، أني صديق الرجل العبوس، بل خادمه المطيع.»

– دون شك.

– أتؤيد ذلك بشهادتك إن دعيت إليها؟

– دون ريب.

– إذًا، أتوسل إليك، يا سيدي، أن تذهب معي.

– إلى أين؟

– إلى بيت في أدم ستريت؟

– إني أعلم إلى أين تريد الذهاب بي، أليست صاحبة هذا البيت تُدعى بيتزي؟

– نعم.

– وهي لم تصدق أنكم جئتم إليها من قِبَل الرجل العبوس؟

– هو ذاك، يا سيدي، إلا إن شهدت أمامها على صدق كلامنا.

– هَلُمَّ بنا؛ فإني ذاهب معك.

ونظر شوكنج إليه نظر الفاحص، وقال له: «ألعلَّك تعلم، يا سيدي حديث الأوراق؟»

– نعم.

– من الذي حدثك به؟

– الرجل العبوس نفسه.

فصاح شوكنج صيحة الفرح قائلًا: «إذا كان ذلك فلا شك أن الرجل العبوس حيٌّ يُرزق.»

أما الكاهن فإنه لم يُجِبْ.

١١

ولما خرجا من القبة إلى ساحة الكنيسة أخذ شوكنج يد الكاهن، وقال له بلهجة تدل على القلق: ألم تَقُلْ، يا سيدي، إنك رأيته؟

– من؟

– الرجل العبوس.

– رأيته دون شك.

– متى اليوم أو البارحة؟

– لا اليوم ولا البارحة، بل رأيته منذ أسبوعين في سجن نوايت.

فصاح شوكنج صيحة يأس، وقال: «إن كان ذلك فإنك لا تعلم شيئًا عنه؟»

فنظر إليه الكاهن نظرة المنذهل، وقال: «كيف ذلك؟»

– يظهر ياسيدي أنك لا تعلم بما حدث، وأن الرجل العبوس قد أفلت من سجن نوايت.

– بل أعلم.

– إذًا، أنت تعلم أين هو الآن؟

– كلا.

– أما نحن فنحسبه من الأموات.

فلم يُجِبْه الكاهن بشيء، ولم يظهر عليه شيء من دلائل الأسف كأنما هذا الخبر لم يؤثر عليه.

فقال له شوكنج: إنك تعلم، يا سيدي، دون شك، من أموره أكثر مما نعلم.

– ربما …

فانقطع شوكنج عن السؤال، ولكنه رسخ في ذهنه أن روكامبول لم يَمُتْ، وأنه يؤثر الاحتجاب لأغراض خفية إلا عن الكاهن.

ثم خرجا من ساحة الكنيسة إلى الشارع حيث كانت تنتظرهما المركبة، فسارت بهما إلى بيت ييتزي، وكان مرميس واقفًا ينتظر عند الباب فلما رأى الكاهن قال له: «أَسْرِعْ، أَسْرِعْ.»

فقال شوكنج: «ماذا حدث؟»

– إن المرأة مشرفة على الموت، وقد أَرَيْتُها النوط الذي أعطانا إياه الرجل العبوس، فأصرت على عدم الثقة بنا.

– ولكن ما أصابها؟

– إنها أُصِيبَتْ بعد انصرافك بنوبة عصبية عقبها ضعف شديد، وهي تكاد لا تستطيع التنفس الآن.

ثم دخلوا جميعهم إلى غرفة بيتزي، فرأوها ممدودة على سريرها، وهي تشبه الموتى.

غير أنها حين رأت الكاهن مقبلًا تجددت قواها فجأة، واتَّقَدَتْ عيناها ببارقٍ من السرور فقالت: «لقد كنت أخشى أن أموت قبل وصولك.»

فأخذ الكاهن يدها، وقال: «تشجعي، يا ابنتي.»

– إنك تعرف مبلغ صبري، يا سيدي، حق العرفان، لكني خشيت أن يذهب دم زوجي هدرًا …

ثم أشارت بيدها إلى شوكنج، وقالت: «أتعرف هذا الرجل؟»

– نعم.

– أهو من أصدقاء الرجل العبوس؟

– نعم …

– أهو آت من قبله؟

– نعم.

– إذًا، لا بأس من أن أرشده إلى مكان الأوراق.

– دون شك …

فجلست عند ذلك بيتزي في سريرها، وقالت بصوت خافت: «إذًا، أصغوا إليَّ، أتعرفون كنيسة روتهتيت؟!»

فأجابها الكاهن: نعم.

– إنها محاطة بمقبرة كسائر كنائس لندرا، فاعلموا أنه يوجد في هذه المقبرة ضريح مكتوب عليه اسم (روبرت)، وعلى هذا القبر صليب من الحديد، لا يوجد سواه على شكله في تلك المقبرة الصغيرة بحيث لا يصعب عليكم إيجاده.

فقال لها مرميس: «ألعلَّك خبَّأت الأوراق في ذلك القبر؟»

– نعم …

– حسنًا فسننبشه ونخرج منه الأوراق.

– ولكنكم لا تستطيعون ذلك؛ لأن الأبواب مقفلة في الليل.

– اطمئني، يا سيدتي، فإننا نكسر الأبواب …

فقال شوكنج: «لا حاجة إلى ذلك؛ فإني أعرف طريقة تمكننا من الدخول إلى المقبرة دون أن نكسر أبوابها.»

وقال الكاهن: «وأنا أعرف أيضًا الطريقة السرية.»

فقال مرميس: «إذًا، لنذهب.»

وقالت فاندا: «أما أنا، فيجب أن أبقى لدى هذه المرأة، إلى أن تنفرج أزمتها.»

فأجابتها بيتزي بصوت ضعيف: «إنك لا تقيمين كثيرًا، يا سيدتي؛ فإني أشعر بدنو الأجل، ولكني لا أموت مطمئنة إلا إذا أيقنت أنكم استوليتم على الأوراق.»

فأجابها الكاهن قائلًا: «إننا نعود حين نخرجها.»

ثم تقدم مرميس وشوكنج فتبعاه، حتى إذا وصلا إلى الشارع قال لهما الكاهن: «إن هذه المقبرة أحد الأماكن التي يجتمع بها الإرلنديون، وسندخل إليها من الطريق الذي يسلكه الإرلنديون، وهو طريق لا تعلمونه، ولكن الرجل العبوس يعلمه.»

فقال له مرميس: «أراك تحدثنا عن الرجل العبوس، أتعلم ما جرى له؟!»

– إنه نجا من السجن.

– وبعد ذلك؟

فاضطرب الكاهن، ولم يُجِبْ.

فقال له مرميس: «إننا نخشى أن يكون قد مات.»

– كلا.

– أَأَنت واثق أنه لا يزال في قيد الحياة؟

– ربما …

– ألعلَّك رأيته؟

– كلا، ولكني أؤكد لك أنه لم يمت.

فخفق قلب مرميس خفوقًا شديدًا، وقال: أسألك، يا سيدي، بالله أن تخبرنا بما تعلمه عن الرجل الذي تدعونه أنتم الرجل العبوس، وندعوه نحن الرئيس …

– إني لا أستطيع أن أقول شيئًا، ولكني أقتصر على القول إنه حيٌّ معافًى وإنكم سترونه يومًا.

فانقطع مرميس عن الإلحاح، وذكر أن روكامبول قد غاب عنهم مدة طويلة منذ أربعة أعوام، ثم عاد إليهم فجأة دون انتظار.

وما زال الثلاثة سائرين إلى المقبرة حتى وصلوا إلى خمارة مجاورة لها، فطرق شوكنج بابها، فلم يُفتح، فعاد إلى الكاهن، وقال: «إني لا أعرف كلمة المرور، يا سيدي.»

– أنا أعرفها. ثم دنا من الباب فوضع فمه عند ثقب القفل، وقال بضع كلمات باللغة الإرلندية الاصطلاحية، ففُتح الباب.

وقد ذهب صاحب تلك الخمارة حين رأى الأب صموئيل، وقال: «ليس اليوم موعد اجتماع.»

– هو ذاك، ولكننا قادمون إلى المقبرة.

وكان صاحب الخمارة يعرف شوكنج، ولكنه لا يعرف مرميس، فلما رآه الأب صموئيل ينظر إليه نظرة إنكار، قال له: «إنه صديق الرجل العبوس.»

فحياه الرجل باحترام، ثم أوقد مصباحه، وقال لهم: «اتبعوني.»

١٢

وقد تقدمهم بعد أن أقفل باب الخمارة إلى باب سرِّيٍّ فيها، فانجلى عن قبو، فلما دخلوا إلى ذلك القبو قال الكاهن لصاحب الخمارة: «لم يعد لنا بك حاجة فعُدْ إلى خمارتك.»

– ألا تنتظر قدوم أحد بعد؟

– كلا.

فعاد الرجل إلى الخمارة، ومشى الكاهن أمام مرميس وشوكنج حتى وصل بهما إلى دهليز، فساروا منه إلى المقبرة.

وكان الظلام حالكًا، غير أن الكاهن كان يعرف موضع القبر فسار بهما إليه.

فقال له مرميس: «ألعلَّك كنت عارفًا بوجود الأوراق في الضريح؟!»

– كلا، ولكني أعرف شيئًا مما تحويه؛ فقد جاءني رجل منذ ثلاثة أشهر، وقال لي إنه يريد أن يحدثني بأمره، وكان هذا الرجل توما زوج بيتزي.

– ألم يكن قُبض عليه في ذلك العهد؟

– كلا، وأخبرني بأمره، وتوسل إليَّ أن أساعده لاعتقاده أني قادر على إنجاح مسعاه،

غير أنه كان لنكد طالعه إيكوسيًّا (أي بروتستانتيًّا) ولا يقدم الإرلنديون على مساعدة أعدائهم.

فلما أخبرته بذلك، ودعني وداع القانط وانصرف، فكان هذا آخر عهدي به.

وبعد ذلك بيومين قَتل توما اللورد أفندال.

– ألم تَقُلْ له شيئًا عن الرجل العبوس؟

– كلا.

– كيف عرف الرجل العبوس حكايته؟!

– إنه اجتمع به في سجن نوايت.

– إذًا، لا شك أن الرجل مظلوم؛ فإن الرئيس لا يعمل إلا لنصرة المظلومين.

وعند ذلك وصلوا إلى القبر، وكان الظلام حالكًا، فحاول شوكنج أن يُنِير المكان كي يقرأ الاسم، فمنعه الأب صموئيل، وقال له: «لا حاجة إلى النور؛ فإني أعرف هذا الضريح.»

فقال مرميس: «ولكننا لم نُحْضِر الآلات لنبش القبر!»

– لا حاجة إلى ذلك؛ فإن الضريح مسدود بحجر يُزاح دون عناء فينكشف عن حفرة وُضع فيها التابوت.

فظهرت علائم الرعب على شوكنج، فقال له مرميس: ألعلَّك خفت؟

– بعض الخوف.

– لماذا؟

– لأنه ينبغي أن تكون الأوراق في التابوت، ولا أُطِيقُ النظر إلى الجثث البالية.

– إذًا، ابقَ مكانك؛ فأنا أتولى الأمر عنك.

ثم أزال الحجر، ونزل إلى الحفرة، وجعل يبحث بيديه عن التابوت لاشتداد الظلام، فعثر بأربعة توابيت؛ لأن هذا القبر كان من القبور العمومية، ففتحها وجعل يبحث فيها حتى عثر بلفافة ضخمة من الورق ملفوفة بقطعة من القماش المشمع الأسود.

فأخذها، وصعد من الحفرة، ووجد شوكنج واقفًا بعيدًا لفرط ما أَلَمَّ به من الرعب.

فناداه مرميس قائلًا: «لا تخف؛ فقد قُضِيَ الأمر.»

ثم ردَّ الحجر إلى موضعه، وخرجوا جميعهم من المقبرة إلى الخمارة، ثم انصرفوا منها إلى بيتزي، فوجدوا تلك المنكودة في حالة الاحتضار.

فأخذ الكاهن الأوراق وأراها إياها، فلما رأتها قالت: «هي، هي بعينها فَلْأَمُتْ الآن مطمئنة البال.»

وكان ذلك آخر ما قالته، وما زالت الروح تُحَشْرَج في صدرها، وجميعهم راكعون يصلون حتى أخرجت النفس الأخير.

فأقام الثلاثة مع فاندا كل تلك الليلة عند سريرها، وقد فتح مرميس تلك الأوراق فوجدها دفترًا ضخمًا مكتوبًا عليه هذا العنوان الغريب:
مذكرة مجنون

ففتحه، وجعل يقرأ بصوت مرتفع ما يأتي:

١٣

إن جبال شفيوت تفصل بين إيكوسيا وإنكلترا، وهي جبال شامخة تناطح السحاب وقد لبست عمامة من الثلوج لم تخلعها منذ الأزل.

ويحيط بهذه الجبال غابات كثيفة ووديان فرشت ببسط الخضرة، فكانت خير مرعى للماشية.

وكان على بعد ثلاثة مراحل من هذه الجبال قصر شاهق، يُدعى قصر باميلتون، بُني قبل أن تأخذ إنكلترا الممالك الثلاث، في ذلك العهد الذي كان لكل نبيل فيه جيش يحارب فيه أعداءه النبلاء، فكان أشبه بالحصن المنيع.

فلما توحدت تلك الممالك تحت ظل العلم الإنكليزي، وبطلت سيادة الأفراد، بنى أصحاب هذا الحصن قصرًا جميلًا بجانبه، وكانوا يصطافون فيه.

وكان صاحب هذا القصر يُدعى اللورد باميلتون، وهو من أعضاء المجلس الأعلى في لندرا.

وقد احتفظ بلقب البارون الأيكوسي على كونه من اللوردية لفرط إعجابه بهذا اللقب القديم الذي ورثه من آبائه.

وقد قضى هذا اللورد نحبه في معركة نافارين، وهي المعركة التي اتحدت فيها فرنسا وإنكلترا على تركيا فأخرجتا أسطولها من المياه اليونانية.

وقد مات عن زوجته وولدين، يُدعى أكبرهما اللورد أفاندال باميلتون، وكان عمره حين موت أبيه ثلاثة أعوام، وعمر أخيه الأصغر ثمانية عشر شهرًا.

فلما علمت اللادي باميلتون خبر قتل زوجها في تلك المعركة برحت لندرا فجأة، وجاءت بولديها، ولكنها لم تقم في ذلك القصر الذي كانت تقيم فيه كل صيف؛ بل أقامت في ذلك الحصن القديم.

وقد حدثت أمور غريبة اتسع بعدها للناس مجال الظنون؛ فإنها أمرت بزيادة تحصين الحصن، ودعت إليها جميع الفلاحين الذين في أراضيها، وهم يشبهون الجيش.

فاختارت أشدهم، وأقامتهم في القصر، ثم عرضت عليهم ولديها واستحلفتهم بخالق السموات والأرض أن يحرصوا على الولدين، فأقسموا، وأردفوا القسم بالهتاف العظيم لها وللولدين.

غير أن نفوسهم شُغلت بهذا التحفظ الشديد، وبسُكْنَى ذلك الحصن الذي لم تكن تقيم فيه تلك الأسرة إلا في القرون الوسطى!

وقد أُشْكِلَ فَهْمُ هذا الأمر إلا على رجل أيكوسيٍّ يُدعى توما كان شقيق امرأة اللورد بالرضاع.

فإنها حين تقدمت إلى ذلك الحصن جعل ينام على كرسيٍّ عند باب غرفة الولدين كل ليلة، وبيده المسدس، بينما كان الحراس يرودون عند أبواب القصر في الليل والنهار.

وكانت هي تسير بينهم متفقدة أعمالهم، ولا تغفل عنهم طرفة عين.

وقد استمرت على ذلك ثلاثة أشهر؛ فكثرت فيها الأقاويل، وأجمع الناس على أنها فقدت صوابها إِثْرَ نكبتها بموت زوجها، ما خلا ذلك الأيكوسي توما؛ أي شقيقها بالرضاع.

فإنه كان ينفي هذه الظنون، ويثبت أنها على أتمِّ حالة من العقل، وأنها مضطرة إلى ما تبديه من الحذر.

غير أنه لم يكن يزيد على هذه الأقوال شيئًا، فاختلف الناس بين مصدق ومكذب لأقواله.

وبعد أن تمت الأشهر الثلاثة أرجعت الفلاحين إلى حقولهم، وغادرت ذلك الحصن مع ولديها إلى القصر، فعاد الناس إلى التحدث، وجعلوا يقولون إنها شفيت من الجنون.

أما السبب في رجوعها عن ذلك الحذر وعودتها إلى سُكْنَى القصر فهو أنه وردت إليها رسالة برقية من لندرا كما يأتي:

سافر السيد أرثر صباح اليوم إلى الهند.

والسير أرثر هذا شقيق زوجها الأصغر، فكأنها كانت متحذرة منه حتى إذا أيقنت من سفره اطمأن بالها، ولم تعد في حاجة إلى الحذر.

وفي اليوم التالي لوصول هذه الرسالة زارها في قصرها رجلان أحدهما يدعى اللورد أسكولت والثاني البارون جمس.

أما الأول فهو أبوها، والثاني فهو أخوها، وكان كلاهما في لندرا، وإنما قدما لزيارة اللادي، لما اتصل بهما من أنباء مناهجها، ولخوفهما أن تكون أصيبت بالجنون.

فلما رأتهما استقبلتهما بالبكاء، ولم يريا من حديثها وتصرفها ما يدل على الجنون.

ولكنهما لم يجدا بدًّا من سؤالها عما اتخذته من أسباب الاحتياط، خلال الشهور الثلاثة.

فأبت اللادي أن توضح لهما الأسباب، فاستعان اللورد بسلطته الأبوية، فلم تجب، فألح عليها فلم يفلح حتى غضب وأنذرها بتجريدها من حق الوصية على ولديها.

فاسترسلت عند ذلك إلى البكاء، وركعت أمام أبيها، وقالت له: «إني أعلم، يا أبي، أنه لا يحق لي عصيانك، ولكني أعلم — أيضًا — أني إذا بُحْتُ لك بالأسباب التي دعتني إلى الاحتياط فَطَرَ الحزن قلبك! فأتوسل إليك أن تأذن لي بالكتمان.»

ولكن اللورد أبى أن يجيبها إلى التماسها، فدخلت به عند ذلك إلى غرفتها ففتحت خزانة وأخرجت منها دفترًا مكتوبًا بخط كادت تمحو سطوره الدموع! فدفعته إليه، وقالت: «إني كتبت حكاية نكبتي، يا أبي، في هذا الدفتر فاقرأ.»

ثم غادرت أباها في الغرفة وانصرفت.

أما اللورد أسكولت فإنه أقام في الغرفة يقرأ نحو ساعة، ثم عاد إلى ابنته وقد امْتُقِعَ لونه، واصفرَّ وجهه، حتى بات كالأموات، فضم ابنته إلى صدره، ومزج دمعه بدمعها، ثم قال لها: «إني بلغت من الكبر عتيًّا؛ فلا أستطيع الانتقام لك، ولكن أخاك لا يزال في عنفوان الشباب وهو سيكون ساعدي في الانتقام.»

أما هذا السر الهائل الذي وقف عليه اللورد، فلا بدَّ لنا لإيضاحه من نقل جميع ما حواه ذلك الدفتر، الذي أعطته إياه اللادي، وهذا بيان ما قرأ.

١٤

إن أسرة دندري، التي كان اللورد أسكولت رئيسها، كانت من أهل نورمانديا.

وهي قديمة تتصل بعهد الدوق غليوم اللقيط الذي سئمت به نفسه الكبيرة وبات يُدعى الملك غليوم الفاتح، فاتصلت هذه الأسرة بالأسرات النبيلة الإنكليزية منذ ذلك العهد.

وقد أخذ اللورد أسكولت يهتم بتزويج ابنته مس أفلين حين بلغت السادسة عشرة من عمرها.

ومثل هذه الغنية النبيلة الحسناء لم يكن يعوزها الخُطَّاب؛ فقد رغب بها معظم النبلاء، غير أنها كانت مخطوبة منذ عهد بعيد حسب الطريقة الإنكليزية إلى اللورد باميلتون.

وكان للفتاتين قصران متجاوران، فكان الخطيبان متصلين منذ عهد الحداثة.

ولما بلغت الفتاة العاشرة من عمرها والفتى ثمانية عشر عامًا، عقدت بينهما الخِطْبة، وسافر اللورد أفندال إلى الهند في إحدى الدوارع لانتظامه في الخدمة البحرية.

وكان لهذا اللورد شقيق أصغر منه يُدعى جورج، كان يزور خطيبة أخيه كل يوم مدة خمسة أعوام، حتى ارتفع حجاب الكلفة بينهما، ثم حل في قلبيهما الحب.

وكانت الفتاة لا يطيب لها عيش بغير لقائه، وكان السير جورج يتمنى أن تهب عاصفة فتغرق الدارعة التي يخدم أخوه فيها.

وبقيا على ذلك إلى أن تغلب الحب فباح به السير جورج لخطيبة أخيه، فأجفلت أفلين، وقالت: «أيها التعس، ألا تعلم أني خطيبة أخيك؟»

– نعم، أعلم واأسفاه! ولذلك عزمت عزمًا أكيدًا لا يثنيني عنه شيء؛ فإني إذا فرضت أن أخي يتخلى لي عن حقه بخطبتك فإن عائلتنا لا توافق على زواجي بك؛ لأني الأخ الأصغر؛ أي إن كل ثروتنا وألقابنا لأخي الأكبر بفضل شرائعنا الجائرة.

ثم تنهد تنهدًا طويلًا، وقال: «إني عولت على الرحيل وسأسافر اليوم.»

وسالت دمعة من عين الفتاة، وقالت: «إلى أين تسافر؟»

– إلى لندرا في البدء.

– وبعد ذلك؟

– أرحل إلى الهند حيث يقيم أخي وأخدم في الجيش.

وتنازع قلب الفتاة عاملان: عامل الحب وعامل الشرف والواجب، إلى أن تغلب الواجب.

ثم مدت يدها إلى السير جورج، وقالت له: «الوداع.»

– إنه وداع الأبد.

وفي اليوم نفسه سافر إلى لندرا، ثم برحها إلى الهند.

وكان أبوه لا يزال في قيد الحياة حين سفره، ثم مات بعد ستة أشهر، فورث أخوه الأكبر خطيب حبيبته جميع ثروته ولُقِّب باللوردية والمنصب في البرلمان، فاضْطُرَّ إلى الرجوع إلى لندرا.

وبعد ذلك بعام تزوج مس أفلين، فخفف توالي الزمن تأثير وجدها، وكانت تفتكر من حين إلى حين بذلك الفتى المنكود، الذي هرب من أجلها إلى الهند.

ولكن زوجها كان يحبها حبًّا صادقًا، وباتت أُمًّا، فأنساها الواجب ومرور الأيام والأمومة وحب زوجها ذلك الحب القديم.

غير أن القدر أبى إلا أن يتداخل؛ لأن زوجها على كونه بات من أعضاء البرلمان أحب أن يحتفظ بمنصبه في البحرية.

وكانت الحرب قد نَشِبَت في ذلك العهد بين تركيا وفرنسا وإنكلترا، وكثرت غزوات قرصان البحار وسافر زوجها مع الأسطول، وعادت هي إلى لندرا مع ولديها.

وكان قد صدر الأمر إلى الأسطول بالسفر بأوامر مختومة لا تُفتح إلا في جزيرة مادير.

ولم تكن اللادي أفلين تعلم الجهة التي سافر إليها زوجها، ولا تدري من أموره سوى أنه سافر في دارعة تُدعى مينوتور.

وطال غياب زوجها، وأقامت وحدها تنتظر قدوم الغائب وتتنهد.

وإن العزلة مستشار سيئ — كما يقولون — فإن تذكار السير جورج عاد إليها بعد أن محته الأيام من صفحات قلبها.

فبينما كانت جالسة ذات ليلة عند نافذة مشرفة على الحديقة رأت رجلًا فتح باب الحديقة بمفتاح ودخل إليها، فصاحت صيحة رعب دون أن تتبين وجه هذا الرجل.

وأخذت الحبل المعلق به جرس الخدم، وجذبته استدعاءً لهم، فلم يحضر لنجدتها أحد من الخدم.

فأوشكت أن تُجَنَّ من رعبها، وأسرعت إلى الباب قبل أن ترى وجه الرجل.

ولكن هذا الرجل أسرع إليها، فقبض عليها، وقال لها بصوت يتهدج: «ما هذا الرعب، يا أفلين، ألم تعرفيني؟!»

فذُهلت ذهولًا قويًّا، وقالت: ماذا أرى؟ السير جورج! …

فركع جورج عند قدميها، وقال لها: «نعم، أنا هو ذلك المنكود شقيق اللورد أفندال.»

١٥

فأنكرت اللادي أفلين دخوله عليها دخول اللصوص، وقالت له: «كيف أتيت إلى هنا؟»

فأجابها بلهجة حنو خففت من رعبها، وقال لها: «لا تحكمي عليَّ، يا أفلين، حكمًا جائرًا قبل أن تسمعي كلامي.»

– ولكن من أين أنت قادم؟

– من الهند.

– ألعلَّك اعتزلت الخدمة؟

– كلا، بل جئت بالإجازة، وربما أتيت من أجلك.

فعادوها الرعب، وقالت: «كيف تجسر أن تجيء من أجلي؟!»

– ما أوحى إليَّ هذه الجرأة غير الحب، يا أفلين.

– أيها التعس، أنسيت أني امرأة أخيك؟

– ولكن أخي بعيد.

فذعرت ذعرًا هائلًا، وقالت: «أعرفت أنه مسافر؟»

– نعم، ومن أجل هذا أتيت.

وقد تبينت صدق العزيمة من عينيه، وأدركت مقاصده السافلة، فقالت له: «إنك، يا جورج، شقيق أفندال، وهو زوجي!»

– إني أكرهه.

– ولكن ألا تزال تحبني؟

– إن نيران الجحيم تَتَّقِد بين ضلوعي.

– إذا كنت تحبني كما تدعي، فقد وجب عليك أن تحترمني، فاخرج الآن، وعُدْ إليَّ غدًا في رابعة النهار، وادخل من باب هذا القصر الكبير الذي يقيم فيه أخوك.

فقهقه ضاحكًا، وقال: «إني لا أحب أن يطردني الخدم.»

ثم أخذ يدها بين يديه، وهمَّ أن يعانقها.

وأفلتت منه إلى آخر الغرفة، وقالت له: «اذهب من حيث أتيت … إني لا أريد أن تبقى هنا.»

فضحك ضحكًا عاليًا دون أن يجيب.

وهاج غضبها، وقالت له: «اذهب.»

– كلا، إني أهواك.

– قلت لك اذهب، أو أدعو الخدم.

وعاد إلى الضحك، ودنا منها.

وعند ذلك مدت يدها إلى حبل الجرس، وقرعته قرعًا عنيفًا دون أن تسمع له صوتًا.

فقال لها: «اقرعي قدر ما تشائين، فلا يجيبك أحد؛ لأن الجرس مقطوع.»

فذُعِرَت ذعرًا شديدًا، وجعلت تستغيث بملء صوتها.

– لا فائدة من الصياح؛ فإن جميع الخدم غائبون.

فركضت إلى الباب، وحاولت أن تفتحه وتفر منه، فوجدته محكم الإقفال، فخَطَر لها عند ذلك أن تثب من النافذة إلى الحديقة.

غير أن السير جورج تعدَّى عليها، وقال: «كلا، إنك لا تخرجين.»

ثم هجم عليها، وضمها إلى صدره ضمًّا عنيفًا، فأغمى عليها، وهي بين يدي ذلك الفاجر الأثيم.

١٦

كانت دارعة اللورد أفندال تمخر في عُبَاب الأوقيانوس ذاهبة في طريق ملبورن إحدى عواصم أوستراليا.

وكان كلما وقفت الدارعة في ميناء يكتب إلى امرأته كتابًا ملؤه الحنو والشوق، حتى إنه أوشك أن يستقيل ويعود إلى امرأته وولده، ولكنه رأى أن بلاده في حرب، فإذا استقال عُدَّت استقالته جبنًا ونذالة.

وقد أقامت دارعته عامين في أوستراليا تطارد القرصان، ثم استدعته نظارة البحرية إلى لندرا.

فلما قدم ذهبت امرأته لاستقباله، ومعها ولدان؛ لأن الولد الثاني خلق بعد سفر زوجها.

وكانت صفراء الوجه منقبضة الصدر تبدو الكآبة عليها، فراعت هذه الكآبة زوجها، ولم يعلم سبب هذا الانقلاب.

فإنها بعد تلك الليلة الهائلة، التي قضتها مع السير جورج، كرهت معاشرة الناس، وبرحت لندرا إلى قصر باميلتون واعتزلت فيه، وهناك ولدت ابنها الثاني.

أما زوجها فقد راعه هذا التحول، ودعا لها أشهر أطباء لندرا، فأجمع أولئك الأطباء على أنها محتاجة إلى تبديل الهواء، وسافرت مع زوجها إلى إيطاليا، وأقامت شهرين في نابولي ورومة، ولكنها لم تزد في خلالهما إلا نحولًا وقنوطًا من الحياة.

ولم تكن تبتسم إلا لاثنين، وهما توما شقيقها بالرضاع، وولدها الأكبر، أما ولدها الثاني فإنها لم تكن تنظر إليه حتى تسيل من عينيها دموع الخجل.

ثم عادت مع زوجها إلى لندرا، وكانت فرنسا قد اتفقت مع إنكلترا على الانتصار لليونان.

واضْطُرَّ زوجها أن يسافر بدارعته إلى ساحة الحرب لمقاتلة الأتراك، وعادت امرأته إلى الإقامة وحدها.

فبينما كانت يومًا تتنزه في هايد بارك ومعها ولدها الأكبر وقد قرب الظلام سارت في منعطف، ولم يكن فيه أحد من المتنزهين ووراءها خادمان.

وقد توغلت في هذا المنعطف وهي تائهة في مهامه التفكير، وبينما هي على ذلك رأت أن رجلين من عامة الشعب يقتربان منها فخافت، والتفتت وراءها كي تنادي خادميها فلم تجدهما.

وعند ذلك أطبق أحد الرجلين وسدَّ فمها كي لا تستطيع الاستغاثة، واختطف الرجل الآخر الغلام وأركن إلى الفرار.

وبعد ذلك بساعة عثروا باللادي مغمًى عليها وذهبوا بها إلى قصرها، أما الغلام فلم يقف له أحد على أثر.

غير أنه لحسن حظ تلك اللادي كان توما أخوها بالرضاع مقيمًا معها، وقد علم لفوره الغاية من سرقة الغلام.

فإن اختطاف الغلمان كثير الشيوع في لندرا، وهم يسرقونهم كما يسرقون الأمتعة.

ومنهم من يسرق الصغار للارتزاق بهم. مثال ذلك، أن امرأة متسولة لا تكسب رزقها بسعة، إذ لا تجد وسيلة لاستدرار الرحمة والإشفاق، ولكنها إذ كانت تحمل بين ذراعيها طفلًا أشفق عليها الناس، ودرَّت عليها الرزق.

ثم إنه يوجد كثير من المربيات يُعهد إليهن بتربية الأطفال فيقتلنهم طمعًا بمالهم، ثم إذا جاء وقت تسليم الطفل إلى ذويه سرقت تلك المربية طفلًا في عمره، وسلمته لذويه فظفرت بالمال.

غير أن توما لم يخطر له المربيات والمتسولات؛ بل قال في نفسه لأول وهلة إن السارق هو السير جورج دون سواه.

أما اللادي أفلين فإنها لم تكن رأته منذ تلك الليلة الهائلة، ولكن توما رأى ليلة رجلًا يرود في الحدائق العمومية، فعرفه بالرغم عن تنكره أنه السير جورج.

ولم يعد لديه شك أنه هو سارق الغلام، وجعل يبحث عنه في تلك العاصمة المتسعة.

وكان توما إيكوسيًّا، ولكنه رُبِّيَ في لندرا وعرف كل خفاياها، ولم يطل بحثه عن السير جورج، وعلم أنه يقيم في زقاق مظلم في شارع وينغ، فذهب إليه وانقض على عنقه انقضاض الصاعقة، وهو لا يزال في سريره، فأشهر عليه المسدس، وقال له: «إذا لم تُرْجِع الغلام فأنت من الهالكين.»

أما السير جورج فإنه تظاهر بالانذهال العظيم، وقال له: أي غلام تعني، أيها الشقي؟ ومتى كنتُ من خطفة الغلمان؟!

– أعني به ابن اللادي أفلين البكر؛ أي ابن أخيك اللورد باميلتون.

فأنكر السير جورج كل الإنكار وجعل يحتج على هذه التهمة الشائنة.

غير أن توما لم يكترث لأقواله، وقال له ببرود: «إني أمهلك خمس دقائق فإذا لم تُرْجِع إليَّ الغلام قتلتك دون إشفاق.»

ورأى السير جورج دلائل العزم الأكيد بادية بين عيني توما، فخشي فوات الأوان، وأقر بجميع ما فعل.

وهو أن السير جورج قد دفع ابن أخيه إلى عصابة من اللصوص، وطلب إليهم أن يربوه ويدربوه على مهنتهم، وقد دل توما إلى مكان تلك اللصوص.

فقال توما: «إني أصدق أقوالك، ولكني أود أن تذهب معي إلى اللصوص، وإذا حاولت الفرار أقتلك في قارعة الطريق.»

فارتدى السير جورج ملابسه مكرهًا مُضْطَرًّا مع توما إلى اللصوص، واسترد منهم الغلام، ودفعه لتوما وعاد به إلى أمه.

وفي ذلك اليوم اختفى السير جورج، ومرت شهور طويلة دون أن يراه أحد.

أما غرض السير جورج من هذا الاختطاف فإنه كان يكره أخاه اللورد باميلتون ويكره امرأته التي طالما أحبها وتُدِلُّه بهواها، ولكنه كان يحب ولده منها، وهو ابن اللادي الثاني، أي ابن الجريمة.

ولذلك رأى أنه إذا اختطف ابن أخيه، عادت ثروة أخيه كلها إلى ابنه، أي ابن السير جورج، لأنه معروف لدى الشرع والناس أنه ابن اللورد باميلتون.

ومن ذلك الحين تولى توما مراقبة الغلام، وكان لا يفارقه في الليل والنهار.

وكذلك اللادي أفلين؛ فإنها كانت لا تسير خطوة خارج المنزل إلا إذا كان يصحبها توما، فلما ورد إليها ذلك النبأ الهائل، نبأ مقتل زوجها في الحرب، برحت لندرا مع توما وولديها وسارت بهم إلى ذلك الحصن كما تقدم، فلبثت فيه حتى علمت أن السير جورج سافر إلى الهند، برحت الحصن إلى القصر الذي يجاوره.

١٧

هذا هو سر اللادي أفلين الذي كتبته في الدفتر وعرضته على أبيها اللورد أسكولت فضمها إلى صدره، وقال لها: «إني شيخ عجوز، ولكنَّ أخاك ينوب عني في الانتقام.»

وبعد ثلاثة أشهر كان السير جمس أي أخو اللادي في الهند.

وكان السير جورج في كلكوتا حين قدم السير جمس، فلقيه في حفلة راقصة أعدها الحاكم في منزله، فدنا منه وحياه، ثم قال له: «إني قادم من لندرا بمهمة من أجلك، فأرجوك حين ينتهي الرقص أن توافيني إلى الفناء المشرف على البحر.»

– سأوافيك. ثم تركه، وعاد إلى الرقص مع ابنة رجاه وافرة المال والجمال.

وبعد ربع ساعة وافاه إلى المكان المعين، فنظر إليه السير جمس نظرة منكرة، وقال له: «إني أعرف كل شيء.»

فاضْطَرَبَ السير جورج، وقال له: «ماذا تعرف؟»

– أعرف أنك خنت أخاك.

– وماذا يعنيك أمري؟

– يعنيني منه أنك دنست شرف أختي، وأن جميع دمائك لا تكفيني لغسل هذا العار.

– إني طوع لك فيما تريد.

– ولكنك تعلم أننا متصلان بصلة قربى.

– تريد أنك لا تود استلفات الأنظار إلى أختك.

– هو ذاك.

– إذًا، نتبارز دون شهود.

– أين؟

– في غابة على أبواب المدينة.

– ليكن.

– ولكن هذه الغابة لا يأوي إليها غير النمور، وغيرها من الوحوش الكاسرة.

– إنها كسائر غابات الهند، فمتى تريد أن نذهب إليها؟

– غدًا عند غروب الشمس؛ فتأكل الوحوش جثة من يقتل منا، ولا يدري بسرنا أحد.

– قد رضيت بهذا الاقتراح، وسأوافيك غدًا إلى الغابة.

وفي مساء اليوم التالي التقى الاثنان في الغابة، فلم يدر أحد ما جرى بينهما، ولكن السير جمس عاد وحده إلى كلكوتا، وقد بدأت النجوم تشرق في السماء، فكتب إلى أبيه أسكولت هذا التلغراف:

إن شرفنا سليم، وقد انتقمت لها.

وفي اليوم التالي رأى الصيادون في الغابة قطعًا من ملابس الجنود الرسمية، وكان قد شاع خبر احتجاب السير جورج، فحسب الناس أن الوحوش قد افترسته في الغابة لاشتهاره بحب الصيد.

أما توما واللادي أفلين، فقد حسبا نفسيهما مطمئنين بعد ورود ذلك التلغراف.

١٨

بعد هذا العهد بخمسة أعوام، وذلك في شهر إبريل سنة ١٨٣٤ كان اثنان يتحدثان بصوت منخفض في إحدى قاعات قصر باميلتون.

وكان المتحدثان توما وزوجته بيتزي، وهذا بيان الحديث الذي كانا يتحدثان به.

قالت بيتزي: «أعيد عليك ما قلته إن اللادي أفلين مخطئة بعودتها إلى هذا القصر.»

– إني لا أوافق ولا أعترض على ما تقولين.

– ولِمَ هذا التردد في الحكم؟

– لأن اعتقادي قد يكون مخالفًا للحقيقة.

– أما أنا فإني على غير رأيك.

– على أي شيء تعتمدين في تخطئتها؟

– على ما أجده من الضعف المتوالي بجسمها، فإنها آخذة بالانحطاط في كل يوم، وهي مصدورة، دون شك، ومناخ هذه الأرض لا يوافق المصدورين.

– ربما كنتِ مصيبة من هذا القبيل، غير أني أصبحت الآن أرى غير رأيك؛ فإن اللادي أفلين دعتني إليها يومًا منذ ثلاثة أعوام، وقالت لي: «إني أحب أن أستشيرك في أمر؛ لأنك من أصحاب الآراء الصائبة.»

– تكلمي يا سيدتي.

– إني منذ أشهر وأنا أحلم أحلامًا هائلة، بل هي حلم واحد، ولكنه حلم يلقي الرعب في القلوب.

– اشرحي لي هذا الحلم علِّي أستطيع تفسيره.

– إن حلمي مقسم ثلاثة أقسام، أما القسم الأول فإني أرى نفسي فيه مقيمة في قصر باميلتون الجديد، أتنزه في الحديقة، يصحبني ولدي البكر وليم.

فقاطعته بيتزي، وقالت له: «أعجب لتسمية ولدها البكر وليم، ألم يكن زوجها يُدعى أفندال؟!»

– نعم …

– أليس العادة في بلاد الإنكليز عند اللوردية، أن يرث الابن البكر اسم أبيه أيضًا فيما يرث؟

– هو ذاك.

– إذًا، كيف دعوه وليم لا أفندال؟

– ذلك أن أباه اللورد أفندال كان له صديق صدوق، ولما ولد غلامه البكر، أحب ذلك الصديق أن يكون عرابه فسمي الغلام باسمه وهو وليم، وسمي الولد الثاني باسم أفندال …

– لقد فهمت الآن، فعُدْ إلى حديث الحلم.

– إن اللادي قالت لي إن القسم الأول من حلمي أجد نفسي أتنزه في حديقة القصر الجديد، ويد ولدي وليم بيدي، ثم أرى فجأة أن وجه ولدي قد امْتُقِع واصفرَّ واستحال إلى خيال، ثم احتجب بغتة بضباب كثيف، ثم أخذ الضباب يتبدد تباعًا، فأرى ولدي — إذ لا تزال يده بيدي — ولكني أرى وجهه تغير فيصير أفندال، وليس وليم.

فقلت لها: إنه حادث هائل، ولكنه حلم لحسن الحظ.

– اصبر وأَصْغِ إلى النهاية؛ فإني حين أحلم هذا الحلم أستيقظ مرعوبة كمن يصاب بالكابوس، ثم أنهض منذعرة واجفة القلب إلى غرفة ابني أتفقده وأعود إلى غرفتي فأنام.

– أتحلمين أيضًا؟

– نعم … إني أحلم القسم الثاني من هذا الحلم الهائل، وهو أني أرى نفسي قد فارقت الحياة، ولم يبق من أثري غير رسم لي معلق في قاعة المنزل، وقد لبست ملابس الحداد، ولكنني وأنا أرسم كنت أشعر وأفتكر كالأحياء.

وقد وضعوني في القاعة الموجودة فيها رسوم أجداد أسرة باميلتون، وبإزائي رسم زوجي الفقيد، وكان رسمه مثلي يشعر ويتكلم فكنا نتحدث بصوت منخفض.

وكانت نوافذ القاعة مفتوحة، وأشعة القمر تنبعث إلينا، فكنا نرى منها أشجار الحديقة.

وقد رأينا رجلًا يتنزه لم نكن نعرفه تصحبه امرأة متأبطة ذراعه، ومعهما كثيرون من الأشراف، فكانوا يدعونه ميلورد ويدعون المرأة اللادي.

– إن هذا اللورد كان وليم دون شك.

– بل كان أفندال.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك جعلت أنظر إلى زوجي وهو ينظر إليَّ وكلانا رسمان فنذرف الدمع السخين.

فقلت: كيف صار أفندال لوردًا، وهو حق أخيه؟! ألعلَّه … ولم أجسر أتمم حديثي …

– إنه لم يمت، يا توما؛ فإن وليم كان لا يزال حيًّا.

وعند ذلك احتجب ضوء القمر، واكتنفتنا الظلمات، وسمعت زوجي الفقيد يشهق بالبكاء، ثم تلا ذلك دويٌّ عظيم كدويِّ الصاعقة تلاه برق يخطف الأبصار …

إلى هنا ينتهي القسم الثاني من حلمي، ويبدأ القسم الثالث، وهو تتمة هذا الحلم، وجعلت تبكي، فأخذت أنظر إليها نظر المنذهل، وأتمت حديثها، وقالت:

١٩

«بَصُرْتُ فرأيت أن قمم جبال شفيوت قد توارت، وتلك الثلوج قد احتجبت، وهذه المروج الخضراء القائم في وسطها قصرنا قد توارت عن الأنظار.

ومع ذلك فإني أنا وزوجي كنا لا نزال رسمين معلقين في الجدار، ولكننا نستطيع أن نرى إلى مسافات بعيدة.

وكنا في رابعة النهار، وأشعة الشمس تملأ الفضاء، وكنا نرى عن بعد عمالًا يشتغلون فيها نبتًا، فلا ينالونه؛ لأن أولئك العمال كانوا من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.

وقد نفتهم الحكومة الإنكليزية إلى البلاد الأوسترالية إلى أن تنقضي المدة المحكوم بها عليهم، وكان بصرنا يمتد حتى يصل إلى تلك القارة.

وأن بين هؤلاء المجرمين رجلًا بريئًا كان يشتغل مكرهًا، حتى إذا أضنكه التعب رفع عينيه إلى السماء كأنه يستشهد الله على ما يعانيه».

وهنا توقفت اللادي عن الحديث، ومسحت دموعها، ثم قالت: «أتعلم، يا توما، من هو هذا الرجل البريء المنكود؟ إنه ولدي: اللورد وليم!»

فدهشت لحلمها وراعني تأثرها منه، فقلت لها: «إنها أضغاث أحلام، أيتها العزيزة، فكيف يمكن أن يتفق مثل هذا، وليس لنا غير عدو واحد، وهو السير جورج، ولكن أخاك قتله كما تعلمين؟!»

– كلا … إن الأمر لم يَجْرِ كما ظننت؛ فإن أخي وذلك الشقي قد تبارزا في غابة في ضواحي كلكوتا، لكن أخي لم يقتله، بل أصابه بجرح بالغ في فخذه.

– هو ذاك ولكن السير جورج سقط، ولم يستطع النهوض، فافترسته الوحوش الكاسرة، ألا تذكرين أن جميع الجرائد نشرت هذا الخبر؟

– نعم، فإنهم وجدوا بقية من ملابس جندي، ولكن من يعلم إن كان هذا الجندي هو السير جورج؟

– إنكِ قد جريتِ شوطًا بعيدًا في هواجسكِ، وإن موت السير جورج حقيقة راهنة لا ريب فيها.

فهزت رأسها، وقالت: «ولكني أريد أن أبرح هذا القصر في الحال.»

– إلى أين تريدين الذهاب؟

– إلى الحصن …

– كما تشائين. إذ لم أستطع أن أعترضها.

وهذا هو السبب، يا امرأتي العزيزة، في قدومنا إلى هنا.

وقالت بيتزي: «ولكن صحة اللادي آخذة بالانحطاط كل يوم، ويقول الأطباء إنه لا رجاء لهم بنجاتها.»

– من يعلم؟ فقد يخطئ الأطباء.

– ولكن الطبيب جوهان ممبروك لا يخطئ؛ فهو يرى أن حياتها لا تطول، وهو حاضر قريبًا لعيادتها فسله إن شئت.

– ولكنه طبيب غريب الأخلاق والصفات.

– هو ذاك فإنه غني لا يعالج للارتزاق، ولكن ندر أنه عالج مريضًا دون أن يشفيه.

وفيما هما يتحدثان سمع قرع الجرس، من الباب الخارجي الكبير، فنهض توما وأسرع إلى الباب ليرى من الطارق، فقد كانت معهودة إليه حراسة الحصن العامة.

ولقي كبير الحراس وقال له: «من يطرق الباب؟»

– اثنان أحدهما فارس والآخر راجل.

– ماذا يريدان؟

– يريدان الدخول.

– ماذا يدعيان؟

– إن الفارس يقول إنه قادم من بيرت.

– والراجل؟

– إنه لا يقول شيئًا.

فذهب توما إلى الباب الكبير وكان البرد قارصًا والهواء زمهريرًا والمطر يهطل كأفواه القرب، ففتح نافذة صغيرة من الباب ونظر إلى الفارس فعرف أنه الطبيب ممبروك.

ثم نظر إلى الثاني، وسأل الطبيب: «من هو هذا الرجل القادم معك؟»

– إنه فقير هندي لقيني في الطريق، وسألني صدقة فوعدته بالضيافة.

فقطَّب توما حاجبيه، وقال: إنه يوجد كثير من الهنود في لندرا، ولكني لم أرَ أحدًا منهم في جبالنا، وما تعودت اللادي أن تأذن لمن لا تعرفهم بالدخول إلى حصنها، فسأعطيه صدقة، وليذهب إلى القرية فيبيت فيها.

– كلا، هذا لن يكون …

– لِمَ، يا سيدي الطبيب؟

فأجاب: «لأن هذا الرجل قد أضنكه التعب، ووهت رجلاه، فلا يستطيع المسير.»

– إنه يجدد قواه في القرية، وسأمنحه ما يكفيه.

– إني أرجوك أن ترفق به؛ فإن الإنسانية تقضي عليك بإيوائه.

– ولكن الواجب يقضي عليَّ بعدم قبوله، لقد أقسمت يمينًا للادي أن لا أدخل إلى قصرها من لا أعرفه.

– إذًا، أنت مصمم على عدم قبوله؟

– كل التصميم؛ لأني لا أستطيع أن أنهج هذا النهج.

ثم أخرج من جيبه جنيهين، ورمى بهما إلى ذلك المتسول الهندي.

ولكن الطبيب منعه أن يأخذهما، ثم جذب الفقير إلى جواده فأردفه وراءه وذهب وهو ينظر إلى توما النظر الشذر.

ففتح توما الباب، وجعل ينادي الطبيب، فلم يجبه الطبيب، وسار ينهب الأرض بجواده إلى القرية.

وعاد توما إلى الحصن، فركب جوادًا وذهب إلى تلك القرية، فرأى الهندي مقيمًا في فندقها قرب النار، ولم يجد الطبيب.

وقد كان هذا الطبيب، قال لصاحب الفندق: «إذا جاء توما، وسأل عني فقل له إني لا أحب من خلت قلوبهم من الرفق الإنساني، فلا يدعونني لزيارتهم بعد الآن.»

وعاد توما إلى الحصن منقبض الصدر كثير الهواجس، وصعد إلى غرفة اللادي، فوجدها ملقاة على سريرها كأنها نائمة.

وناداها بصوت لطيف فلم تجب، فرفع صوته بالنداء، فلم تستيقظ، فدنا منها ولمسها، ثم صاح صيحة رعب؛ لأن اللادي لم تكن نائمة بل كانت قد فارقت الحياة.

٢٠

بعد ذلك بعشرة أيام كان فارسان في نضارة الصبى يسيران فوق جواديهما جنبًا إلى جنب في ضواحي قصر باميلتون، وكان هذان الفارسان ولدي اللادي باميلتون.

وكان اللورد وليم باميلتون، الذي حرصت عليه أمه وتوما كل هذا الحرص قد بلغ مبلغ الشباب، وبات جميلًا قوي البنية خلافًا لأخيه الأصغر فقد كان نحيف الجسم.

وكان اللورد وليم طلق المُحَيَّا كثير الابتسام متوقد العينين، تدل مخائله على النجابة والسلام، وأما أخوه السير أفندال، فقد كان مقطب الجبين رقيق الشفتين.

وكانت علائم الإخلاص بادية في وجه الأول خلافًا للثاني؛ فقد كانت دلائل الحسد بادية فيه.

وكانا يمتطيان جوادين من خير الخيول الإيكوسية، وهما لابسان ملابس الصيد، وذاهبان إلى الغابة للانضمام إلى رفاقهم الصيادين.

ولما أوشكا أن يصلا إلى الغابة اعترضهما ذلك المتسول الهندي، وهو شيخ ابيضت شعوره وطالت لحيته حتى بلغت إلى صدره، فقال لهما: «أرجو، يا سيدي، أن لا تنسيا الفقير الهندي المسكين.»

فألقى اللورد وليم جنيهًا إليه، وقال له: «امْضِ في سبيلك.»

فالتقط الهندي الجنيه، واختفى وراء الأدغال.

وعندها قال السير أفندال لأخيه: إنك نغصت عليه لذته بإحسانك إليه، فلماذا طردته يا أخي بعد إحسانك إليه؟!

– لأنه كان السبب في موت أمنا، فلا أطيق النظر إليه.

– كيف ذلك؟

– ألم يخبرك توما شيئًا عن هذا؟

– كلا.

فتنهد اللورد وليم، وقال: إن أمنا كانت يومًا في أشد حالات المرض، فدعا لها توما الطبيب ممبروك، فأقبل إلى الحصن، ولكنه لم يجئ وحده؛ بل جاء معه هذا الفقير الهندي، فأبى توما إدخال الهندي لأنه لا يعرفه فأفضى الأمر إلى استياء الطبيب، وانصرف دون أن يعودها فماتت في تلك الليلة.

وأجابه أفندال: «إن كان كذلك كان الذنب ذنب الطبيب لا ذنب هذا الفقير المنكود.»

– هو ما تقول، ولكنه كان السبب في استياء الطبيب وانصرافه، ومهما يكن من أمره فإني أشعر بانقباض حين أراه.

– أتراه دائمًا؟

– إني ما مررت بطريق إلا تعرَّض لي.

– ولكن، كيف أن هذا الرجل ولد في بلاد الهند وطابت له الإقامة في جبالنا؟!

– هذا ما أجهله.

– ولكن توما قد يعلم شيئًا من أمره.

– لا … فلم يقف أحد من أهل القرية على شيء من سره، وغاية ما عرفوا عنه هو أنه يُدعى نظام، وأنه يقضي كل ليله في الغابات ونهاره عند أبواب القرية أو القصور، ولم يعرفوا له مهنة غير التسول.

فقال له أفندال: «إنه شيخ عجوز.»

– إن هذا لا يمنعه عن العمل؛ فإنه قوي نشيط.

– ولكني رأيت منه ما راعني حين أحسنت عليه بالدينار؛ فإنه نظر إليك نظرة تُشِفُّ عن البغض الشديد، في حين أنه كان ينظر إليَّ نظرات الحنو والانعطاف.

فضحك اللورد وليم وقال: «هذا يدل على أنه راضٍ عنك، وأني لم أتشرف بإرضائه.»

– ولكنَّ عزاءك أن هذا الفقير إن رضي عني دونك فإنه يوجد كثيرون يسفكون دماءهم عند قدميك ويفضلونك عليَّ كل التفضيل.

فهز اللورد كتفيه، وقال: «أظنك تعني توما.»

– توما وامرأته بيتزي.

– أتظن أنهما لا يحبانك؟

– دون شك، ولو كنت مثلك لوردًا لطردت هذا الرجل وامرأته.

فأجابه اللورد وليم بجفاء: «إذًا، تكون ارتكبت خطأً عظيمًا؛ فإن توما أخو أمنا بالرضاع، وأرجو أن لا تنسى هذا يا أخي.»

فسكت أفندال، وسار الاثنان دون أن يتكلما حتى دخلا إلى الغابة.

•••

ولم يسيرا بضع خطوات حتى رأيا على مسافة بعيدة جمهورًا كبيرًا من الفرسان، جميعهم بملابس الصيد الحمراء، وأمامهم فتاة ممتطية جوادًا أسود، وهي مرتدية بملابس بيضاء.

فخفق قلب اللورد وليم حين رآها، أما السير أفندال فإنه نظر إلى أخيه نظرة ملؤها البغض والحسد.

غير أن وليم لم يرَه، ولكز جواده، وهو يقول: «إن هذه هي مس إينا.»

٢١

كانت مس إينا في الثامنة عشرة من عمرها، وهي فتنة للناظرين، لما وهبها الله من الجمال.

وهي ابنة السير أرشيبالد كيرتون، كان أبوها قد سافر إلى بلاد الهند، واشتغل بالتجارة على كونه كان من النبلاء الأغنياء، فجمع ثروة طائلة، وتزوج ابنة رجاه هندي فازدادت ثروته أضعافًا ولم يرزق منها غير هذه الفتاة.

وكان قصره يبعد عن قصر اللورد وليم مسافة ثلاثة أميال، فكانا يتزاوران، وكانت مس إينا يحمر وجهها حين ترى اللورد وليم.

ولما تمكن الحب منها ذهب اللورد وليم إلى السير أرشيبالد، وقال له: «إني أحب ابنتك، وأسألك أن تنعم علي بزواجها.»

فأجابه: «وأنا رأيت أن ابنتي تحبك — أيضًا — ويسرني عقد هذا الزواج بينكما، ولكن امرأتي قد توفيت، وهي ابنة رجاه هندي واسع الثروة، ولا وارث له غير ابنتي، فلذلك لا أستطيع تزويجها دون مصادقته.»

ورأى السير أرشيبالد أن اللورد وليم قطَّب جبينه، فقال: «ولكني أخبرك مقدمًا أن الرجاه يصادق لفوره؛ فإنه يريد ما تريده ابنتي.»

وكانت هذه المفاوضة سرية بينهما، وكتب السير أرشيبالد إلى الرجاه، غير أن الطامعين بزواج الفتاة كانوا لا يزالون يختلفون إلى منزلها، فكانت تلاطفهم، وتحضر معهم حفلات الصيد، لشدة وَلُوْعِها بتلك الحفلات.

ولذلك كانت في طليعة أولئك الصيادين الذين توافدوا في ذلك اليوم إلى الغابة، ووافاهم إليها اللورد وليم وأخوه.

ولقد تقدم لنا القول إن اللورد وليم، حين رأى مس إينا دفع جواده في تلك الغابة، ولبث أخوه السير أفندال يسير وراءه الهويناء، وهو ينظر إليه بعينين تَتَّقِدان ببارق الحسد والحقد.

أما اللورد وليم فإنه التقى بمس إينا، فمدت إليه يدها وصافحته قائلة له وهي تبتسم: «إن لدى أبي نبأ سار سيوحيه إليك.»

فاحمر وجهه وقد أدرك القصد، وعند ذلك دنا منه السير أرشيبالد، وقال له: «إن الكتاب الذي ننتظره من الهند قد وصل، يا بني، وإن الرجاه يوافق على الزواج.»

ثم التفت إلى أولئك النبلاء المحيطين بهم، وقال لهم: أتشرف، أيها السادة، بإخباركم أن ابنتي مس إينا ستُزف قريبًا إلى اللورد باميلتون.

فوقع هذا النبأ وقوع الصواعق على كثيرين من الذين كانوا طامعين بزواج الفتاة، ولكنهم كظموا الغيظ وأقبلوا يهنئون الخطيبين.

وعند ذلك رأى السيد أرشيبالد السير أفندال، فقال له: «وأنت، أيها العزيز، لدي نبأ سار أيضًا أخبرك به، ألم تطلب الخدمة في جيش الهند؟»

– نعم …

– إذًا، أبشرك الآن أنك قد عينت قائد فرقة، وقد صدر الأمر بتعيينك في هذا الصباح.

فاضطرب السير أفندال اضطرابًا شديدًا خاله أخاه اللورد وليم اضطراب فرح، وقال له: «يجب عليك أن تشكر، يا أخي، السير أرشيبالد؛ فقد ساعدك بملء الإخلاص، ولكني أرجو أن لا تسافر على الأثر أليس كذلك؟»

– إنك رئيس أسرتنا فعليك أن تأمر وعلينا أن نطيع.

– إذًا، أرجو أن تبقى إلى أن تحضر زواجي.

– سأمتثل.

والتفت السير أرشيبالد إلى رفاقه، وقال لهم: «هلموا إلى الصيد، أيها السادة.»

ونفخ في بوق الصيد، وانطلق الصيادون يطاردون الأرانب بجيادهم الصافنة، ما خلا واحدًا منها، وهو السير أفندال، فإنه تخلف عنهم، وترجل عن جواده فربطه إلى شجرة، وجلس على العشب وقد عض قلبه الحسد، وخرج الحقد لهبًا من عينيه، وجعل يحدث نفسه بصوت مرتفع ويقول: ما هذا القدر الجائر؟ وما هذا الظلم الشائن؟ ألم أكن أخاه؟ ألم أولد مثله من أب واحد وأم واحدة؟ ألا يجول في عروقنا دم واحد؟ فما باله اختص بالثروة والشرف، واللقب، ومس إينا في حين أني لم أنل غير رتبة قائد في الجيش الهندي؟! إنها قسمة جائرة فيا ويل هذا الأخ، إني أكرهه أشد كره.

وكان يتكلم بصوت مرتفع وهو يحسب أنه وحده في تلك الغابة. ولكنه لم يكد يتم حديثه حتى فُتحت الأدغال، وخرج منه شيخ أبيض الشعور.

ولما رآه أفندال قال: «أنت الفقير الهندي؟!»

فأجابه بلهجة التهكم: أنا هو صديقك الهندي الذي لا يريد إلا خيرك من هذا الوجود، وهو يكره اللورد وليم كما تكرهه.

٢٢

وجعل أفندال ينظر إلى هذا الرجل منذهلًا؛ فإنه كان عجوزًا كما تدل شعوره البيضاء، غير أن من تمعن في ملامحه يجد بينها دلائل القوة والنشاط.

والغريب في أمره أن لون وجهه كان يدل على أنه من الإرلنديين إذ لم يكن له من علائم الهنود غير اللون الأصفر.

وكان هذا الرجل حين يسير في الأزقة متسولًا يرفع أكمام ثوبه، ويكشف صدره، فينذعر من يراه؛ لأن جسمه كان مصابًا بجراح مغطاة بقشرة رقيقة شفافة كورق البصل.

وكان منظرها مما تقشعر له الأبدان، وهو يُدعى نظامًا كما قدمناه، فكان إذا أراد حمل الناس على الإشفاق عليه يقص عليهم قصته الغريبة، وهو أنه سقط بين براثن النمور في إحدى غابات الهند. فبينما النمور تمزقه بأنيابها وهو مستسلم للقضاء كسائر الهنود، سمع دويَّ قاصف كدويِّ الرعود، فتوقفت النمور عن نهشه وجعلت تتشاور بالأنظار، وقد قلقت لهذا الدويِّ.

وكان الدويُّ يدنو منها فتهتز له الأرض، وبات منتظمًا يشبه صوت أقدام جيش كثيف يسير بخطوات موزونة.

فلما اقترب الصوت هربت النمور، وتركت نظامًا لا يزال في قيد الحياة، أما هذا الجش الكثيف فقد كان من الأفيال.

فقال نظام في نفسه: «إن النمور قد تخلت عني، فهل تصفح عني الأفيال؟»

وكان عدد الأفيال يبلغ نحو مائتين وفي طليعتها فيل، وهو ذلك الفيل المقدس عند الهنود.

فلما وصلت تلك الأفيال إلى نظام وقف الفيل الأبيض، فوقفت الأفيال كلها! ثم لف الفيل الأبيض خرطومه على نظام، ورفعه برفق إلى فوق ظهره، ومشى فتبعته الأفيال.

وما زال سائرًا به والأفيال تتبعه حتى وصل إلى حقل أرز فألقاه فيه، وانصرف برفاقه بعد أن جعله في مأمن من النمور.

وهكذا كانت نجاة نظام فإن جراحه شفيت، ولكن الجلد لم ينمُ فوقها بل نمت بشرة رقيقة كانت تشف عن تلك الجراج الهائلة فتبدو للأنظار بما يحمل على الذعر.

وقد بقي من مشكلات أسراره سفره من الهند وإقامته في تلك الجبال؛ فإنه لم يَبُح بسرها لأحد.

أما هذا الفقير فإنه حين لقي السير أفندال جلس بجانبه دون كلفة، وقال له: «لا تخف مني شيئًا؛ فإني متصل بك أكثر من اتصال الشجر بقشرها، فإني أحبك حبًّا لا أصفه؛ إذ لا أفيه، وقد أوقفت دمائي لك.»

– أحقٌّ ما تقول؟

– كل الحق؛ لأني أحبك وأحب أن أجعلك لوردًا.

فتنهد السير أفندال، وقال: «إن هذا مستحيل لسوء الحظ.»

– لا شيء مستحيل في هذا الوجود، أَصْغِ الآن ألا تستطيع التخلي عن هذا الصيد؟

– نعم …

– أَيَروق لك أن تسمعني؟

– قل ما تشاء.

– إنك، يا سير أفندال، تحب مس إينا.

فارتعد الفتى، وقال: «كيف عرفت ذلك؟!»

– إنك حين ترفع عينيك إلى هذه الجبال، ترى فوقها أبراج حصن باميلتون.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك ترى تلك الحقول المتسعة التي تكتنف القصرين على مسافة عشر مراحل.

فتنهد أفندال، وقال: «هو ما تقول!»

– وإنهم ينادونك بلقب الأشرف البسيط في حين أنهم ينادون أخاك بلقب ميلورد.

– هو ذاك، ولكن ما تريد أن أفعل؟

– يجب أن تصير لوردًا، وإذا أردت أنا أبلغك هذا المقام.

فنظر إليه وقال: «أنت؟!»

فاتقدت عينا نظام، وقال: «لا تهزأ بي، فإن الناس يستخفون بي هنا حين يرونني، ولكني إذا أردت جعلتك لورد باميلتون.»

– كيف ذلك؟

– أصغ إليَّ.

٢٣

ثم أخذ يده بين يديه، وقال له: «كم كان عمرك، يا بني، حين ماتت والدتك؟»

– سبعة أعوام.

– أي كنت صغيرًا لا يمكن الإباحة لك بالأسرار.

فارتعش أفندال، وقال: «أي سر تعني؟»

– سر يتعلق بمولدك.

فشمخ السير أفندال بأنفة، وقال له بلهجة ملؤها العظمة والكبرياء: «إن مولدي لا أسرار فيه.»

– سوف تعلم؛ لأني سأخبرك بكل شيء، والآن قل لي ألم تسمعهم يتحدثون بعمك السير جورج باميلتون؟

– بالقليل النادر.

– ولكنهم ذكروا اسمه أمامك بعض الأحيان.

– نعم …

– من كان يحدثك عنه؟

– خدم المنزل.

– وأمك؟

– لم أسمعها ذكرته مرة أمامي.

فابتسم الهندي ابتسامة الأبالسة، وقال: «ألم تذكر اسمه على الإطلاق؟!»

– بل أذكر أن أحد الخدم ذكر اسمه مرة أمامها، فأوشكت أن يغمى عليها.

فقال الهندي بلهجة المتهكم: «ولكنها لم يكن يغمى عليها من قبل.»

فاستاء أفندال من تهكمه، وقال: «ماذا تعني أيها المتسول؟»

أما الهندي فإنه لبث يبتسم، وقال له: «لا تحتقرني، يا سير أفندال؛ فإني أنا المتسول أستطيع أن أفعل ما لا تستطيعه وأنت من النبلاء، وقد قلت لك إني قادر أن أجعلك لوردًا، وأزوجك مس إينا، تلك الغنية الحسناء.»

فاهتز السير أفندال اهتزاز الأجسام الكهربائية، وقال له: «امضِ في حديثك.»

– إنه يوجد رجل أيضًا في باميلتون لا يذكر السير جورج بلسان، وهو توما شقيق أمك بالرضاع.

– نعم، وإني أكره هذا الرجل أشد الكره.

– لقد أصبت في كرهك إياه، ولكن لماذا تكرهه؟

– لأنه يحب أخي، ويؤثره عليَّ بكل أمر.

– بل يوجد سبب آخر لو عرفته لتضاعف حقدك.

– ما هو؟

– سأكشفه لك. ولكني لا أريد البحث الآن في توما، بل في السير جورج.

– تكلم.

– إن السير جورج كان منذ عشرين عامًا مثلك، ثاني أبناء اللورد باميلتون، بل كان مثلك في كل أمره؛ فإن أخاه تزوج ابنة اللورد أسكولت وتمتع بتلك الثروة الواسعة، في حين أن أخاه كان قائدًا بسيطًا في الجيش الهندي.

فتنهد أفندال، وقال: «وأنا — أيضًا — سأخدم في جيش الهند.»

– غير أن السير جورج كان يهوى مس أفلين.

فاضطرب السير أفندال، وقال: «وهل كانت مس أفلين تهواه؟»

– نعم …

– إنك كاذب نمام.

فأجابه الهندي ببرود: «إني لم أكذب في حياتي.»

ثم نظر إليه نظرة تسلط بها على حواسه، وقصَّ عليه بالتفصيل جميع ما مر من الحوادث بين السير جورج وأمه تلك الليلة الهائلة التي اضطرت فيها اللادي باميلتون إلى خيانة زوجها مكرهة.

فكان السير أفندال يسمع حديثه، والعرق ينصب من جبينه، إلى أن أتم حديثه.

ثم قال له: «إذًا، إن السير جورج كان …»

فقاطعه الهندي ببرود: «نعم، إنه أبوك … وقد خَطَر له — أيضًا — أن يجعلك لوردًا.»

– ولكن السير جورج قد مات.

– لقد مات في عرف جميع الناس.

– وفي عرفك؟

– إنه لا يزال حيًّا يرزق، وسأبرهن لك على صدقي فيما أقول.

ثم نهض، وقال لأفندال: «انتظرني هنا فسأعود إليك قريبًا.»

وتركه وانصرف، فدخل بين أشجار الغابة.

وهنا ذهب إلى ساقية وغسل وجهه بمياهها عدة مرات، وعاد إلى السير أفندال.

فلما رأه دُهِشَ دهشة عظيمة؛ لأن ذلك النور الأصفر قد امَّحَى، وحلَّ محله لون الأوروبيين الأبيض.

وبينما كان السير أفندال ينظر إليه منذهلًا قال له الفقير: «إني لست من الهنود، وإن السير جورج هو أنا، يا بني.»

وكاد السير أفندال يُجَنَّ لدهشته، وجعل يكرر قوله: «أنت، أنت … أنت أبي! …»

– نعم، أنا هو أبوك …

ثم ضمه إلى صدره، وجعل يعانقه بلهف شديد؛ فإن هذا الرجل الذي كانوا يدعونه في تلك الجبال باسم نظام، ويحسبونه من الهنود، كان السير جورج بعينه.

وكانت الحكاية التي يرويها عادة للناس عن أسباب جراحه صادقة، فقصها على ولده أفندال، وأخبره في الختام أن الجيش الإنكليزي يعتقد أنه قد مات، وأن الجرائد نشرت خبر وفاته، فتنكر بلباس الهنود وجاء إلى هذه الجبال.

فقال له السير أفندال: «وأي غرض لك من أن يحسبك الناس ميتًا؟»

– سأقول لك كل شيء، يا بني، فأصْغِ إليَّ.

٢٤

إن شفاء جراحي طال شهرين، كنت مختبئًا في خلالهما في منزل أحد البراهمة.

وكانت النمور قد شوهتني تشويهًا عظيمًا، حتى إني لو ذهبت إلى الجيش الإنكليزي واختلطت برفاقي الجنود لما عرفني منهم أحد.

ولكن، لم يكن نُصْبَ عيني غير غرض واحد وهو الرجوع إلى إنكلترا ليس لأرى اللادي أفلين، بل لأرى ابن غرامنا، وهو أنت.

وكان الهندي يتكلم وعلائم التأثر بادية من حديثه، بحيث لم يشكك السير أفندال أن نظام والسير جورج واحد، وأن السير جورج هو أبوه دون شك.

قال السير جورج: وقد أقمت عند الرجل الهندي ثلاثة أشهر بُحْتُ له في خلالها بسري، وأطلعته على بعض مقاصدي، فأعطاني صباغًا جعل لون وجهي كلون الهنود.

وسرت إلى كلكوتا وامتزجت مع الناس فلم يعرفني أحد.

وقد أقمت في المدينة السوداء، وهي مدينة الوطنيين. ولم يكن لديَّ شيء من المال، وأنا في حاجة إليه لنفقات السفر، فلفقت حكاية عن سبب تشويهي.

وكان تشويهي يستلفت الانتباه، فجعلت أقصها على الوطنيين والإنكليز وأتخذها وسيلة للكسب، فما مر بي ستة أشهر حتى جمعت النفقات اللازمة لسفري إلى أوروبا.

فجئت إلى لندرا وقد أقمت فيها عدة أشهر، فكنت أرود بين قصر باميلتون، وأتردد إلى الحدائق العمومية، فكنت أراك في بعض الأحيان.

فقاطعه السير أفندال قائلًا: «لقد ذكرت ذكرى بعيدة، وهي أني عندما كنت في الرابعة من عمري أذكر أنهم ذهبوا بي إلى الحدائق، وبينما أنا ألعب مع الغلمان رأيت رجلًا هنديًّا ينظر إليَّ ويبتسم، فلم يغب رسمه عن ذهني.»

– هذا الرجل هو أنا، يا بني، فقل ألا تذكر شيئًا — أيضًا؟

– نعم، فإننا كنا نلعب فوق الجليد، ثم فُتِح الجليد فجأة وسقط أحد الغلمان في النهر، فأسرع الرجل إليه وانتشله ورده إلى أهله دون أن يصاب بأذى.

– ألا تذكر أنك رأيتني بعد ذلك؟

– نعم …

– إذًا، أَصْغِ إلى تتمة حديثي.

إن اللادي باميلتون برحت لندرا، وجاءت بك وبأخيك وبتوما إلى هذا الحصن فأقامت فيه.

ولم أجد بدًّا من القدوم — أيضًا — لأراك، ولكن لم يكن لديَّ نفقات السفر، فقطعت تلك المسافة الشاسعة مشيًّا على الأقدام، وكنت أستدل على الطريق حتى وصلت.

غير أني لم أكن أراك إلا في النادر؛ لأن أمك وذلك الشرير توما قد جعلا القصر حصنًا منيعًا ولم يأذنا لأحد بالدخول إليه.

وقد بالغت في الحيل تَوَصُّلًا إلى الدخول إلى القصر فما استطعت.

وبينما كنت أرود ليلة حول الحصن، وكانت ليلة باردة ممطرة، رأيت فارسًا قادمًا إليه فاستوقفته وسألته الإحسان، فنظر إليَّ مشفقًا، وقال: «إن البرد يؤثر فيك كما أرى.»

– إن البرد ينخر عظامي، والجوع يعض قلبي، ولا أجد سبيلًا للقوت وللمبيت.

– تعالَ معي فتأكل وتدفأ.

– إلى أين؟

– إلى هذا الحصن.

– لقد أخطأت، يا سيدي؛ فإن أبوابه لا تُفتح للبائسين أمثالي.

– اتبعني؛ فإني طبيب العائلة المقيمة فيه، ولا يقفلون دوني الأبواب.

فامتثلت له، ولكن توما أبى أن يأذن لي بالدخول، بالرغم من إلحاح الطبيب ورجائه.

وعاد الطبيب مغضبًا دون أن يدخل إلى المنزل، وهو يقول: «إن الرفق قد انْتُزِع من قلوب هؤلاء الناس فلتقع التبعة عليهم.»

ولقد أصاب فيما كان يتوقعه؛ لأن أمك ماتت في اليوم التالي، ولو أدركها الطبيب لأنقذها، فكان توما الجاني عليها بإغضابه الطبيب.

فقال له أفندال: «ألا تزال منذ ذلك العهد في هذه الجبال؟»

– نعم.

– ماذا تصنع؟

– أستعطي وأحاول أن أراك، فأنسى الكدية وما أنا فيه حين أمتع عيني بوجهك.

– إذًا، أنت السير جورج، أنت أبي؟

فأدمعت عيناه، وقال: «نعم، يا بني.»

– إذًا، إني مسافر إلى الهند وستسافر معي، فلا يعلم أحد بأمرنا وتعيش معي سعيدًا.

فضمه السير جورج إلى صدره، وقال له: «كلا، يا ولدي، إنك لا تسافر إلى الهند.»

– إلى أين إذًا تريد أن أذهب؟

– تبقى هنا.

– لماذا أَلِكَي يقتلني حقدي على أخي؟

– كلا، بل لكي تحلَّ محله وتصير لوردًا.

– أنا أصير لوردًا؟!

– وتتزوج — أيضًا — مس إينا خطيبة أخيك.

فاضطرب السير أفندال، وقال: إذًا، يجب أن يموت أخي وليم.

– ربما.

– ولكن كيف يموت، وهو في ريعان الشباب؟!

– إن الموت لا يروعه الصبا.

– ألعلَّك تريد قتله؟

– ماذا يهمك؟

– كلا، كلا، إني لا أريد سفك دمه.

فأطرق السير جورج هُنَيْهَة، ثم قال: «إذًا، لنفترض أن جميع الناس باتوا يعتقدون أن اللورد وليم ميت، وهو مع ذلك لا يزال في قيد الحياة.»

– ولكن ذلك مستحيل.

– ليس من مستحيل عليَّ، وكل شيء ممكن في هذا الوجود.

– إذًا، يبقى أخي حيًّا، ويعتقد الناس أنه مات؟

– نعم.

– وأتزوج مس إينا؟

– تتزوجها.

– ولكنك تقسم لي أن أخي لا يموت.

– أقسم لك بك أني لا أقتل أخاك.

ثم ضمه إلى صدره فقبله، واحتجب في الغابة بين الأشجار.

٢٥

لم يرَ أفندال أباه في ذلك اليوم، وفي المساء عاد إلى القصر، وهو مفكر مهموم.

وكان اللورد وليم قد وصل إلى القصر عائدًا من الصيد فرأى أخاه، وقال له: «ماذا أصابك وأين كنت؟»

– إني تهت عنكم في الغابة، فقضيت يومي متنزهًا بين الحقول.

– لقد شُغِلَ بالي عليك حين طلبتك فلم أجدك لا سيما أن لديَّ أمورًا خطيرة أحب أن أطلعك عليها.

فارتعش السير أفندال، وسأله: «ما هي؟»

– هي أولًا أني أحسب نفسي من أسعد الناس؛ لأنه لا يمضي ثلاثة أسابيع حتى تصبح مس إينا اللادي باميلتون.

– إني أهنئك، يا أخي، وأرجو لك التوفيق.

– ثم إنني تحدثت مليًّا بشأنك مع والد مس إلينا.

– على أي محور دار الحديث؟

– اعلم، يا أخي العزيز، أني أنكر الشريعة الإنكليزية كل الإنكار فيما يتعلق بحقوق البكورية.

وابتسم السير أفندال ابتسام المتهكم، وقال: «كيف ذلك؟»

– ذلك أني أخوك البكر، فلي اللقب والأراضي ولي السعادة وعضوية المجلس الأعلى.

فأجابه أخوه بلهجة الراضخ لأحكام القدر: «أما أنا فلا شيء لي.»

– هو ذاك، ولكني أَعُدُّ هذه القسمة جائرة، ولا أرتاح لهذه الشريعة، وإني أحب أن أشركك في كل ما لديَّ، ولكن الشرع لا يجيز هذا الاشتراك لنكد الطالع.

فأجابه أفندال بجفاء: «أتراني سألتك شيئًا من ذلك؟»

فابتسم اللورد وليم، وقال: أَصْغِ إليَّ، يا أخي العزيز، فقد خَطَر لنا خاطر أرجو أن يكون صالحًا.

– ما هو؟

– إنك تعلم أن خطيبتي حفيدة أحد أمراء الهند.

– نعم.

– وإن لعميدها الأمير خالًا لا تقل ثروته عن ثروة أخيه وله بنت واحدة، فخَطَر لوالد خطيبتي أن يزودك برسائل توصية إلى والد هذه الفتاة، فلا يبقى عليك إلا أن تريد الزواج بدابي تاتا.

– أتُدعى هذه الفتاة دابي تاتا؟

– نعم، يا أخي، وهي بارعة في الجمال.

– إني أشكرك خير شكر لحسن عنايتك بي.

وكانت نبرات صوته تدل على شيء من التهكم، غير أن اللورد وليم لم ينتبه لتهكمه؛ فقد كان سليم النية شديد الرفق بأخيه، فلم يخطر له الشر في بال.

ولما أصبح السير أفندال وحده ضم يديه منذرًا متوعدًا، وقال: «ليست تلك الفتاة الهندية التي أبتغيها أيها الأبله، بل مس إينا، ولا أريد العيش بين حقول الأرز، وتحت سماء الهند المحرقة، بل أريد العيش في هذه الحقول البديعة التي تكتنف قصر باميلتون.»

ومضى على ذلك يومان، كان السير أفندال يخرج كل يوم فيهما متنزهًا، ويذهب إلى ذلك المكان الذي روى له فيه الفقير الهندي حكايته، فلا يجده.

وفي مساء اليوم الثالث، بينما كان عائدًا من الغابة، وقد كاد يقنط من عدم لقاء أبيه، لقي توما بملابس السفر، وهو يحادث أخاه اللورد بصوت منخفض.

فدنا منهما، وقال لأخيه: «إلى أين يسافر توما؟»

– إلى لندرا.

– لماذا؟

– ليحضر لي أموالًا وضعتها في المصارف.

وعند ذلك ودعهما توما وذهب، فتأبط وليم ذراع أخيه، وقال له: إن الشرائع الإنكليزية تقضي عليَّ أن أحتفظ بثروة العائلة العقارية أما المال النقدي فإني أتصرف فيه كما أشاء.

وإن لديَّ في المصارف عشرين ألف جنيه، فاسمح لي، يا أخي العزيز، أن أقدمها لك.

فاضطرب السير أفندال، وتلعثم لسانه ولم يَدْرِ ماذا يجيب.

وافترق الأخوان، واحد يضمر الشر والكيد لأخيه المحسن إليه، وآخر لا يريد له إلا الخير. فلما حان وقت الرقاد دخل السير أفندال إلى مضجعه.

•••

وكانت تلك الليلة من ليالي الصيف الحارة، ففتح السير أفندال النوافذ وصعد إلى سريره، ولكنه لم يستطع النوم لكثرة همه وتفكيره.

وفيما هو يفتكر بأبيه سمع حفيف أوراق تحت النافذة، ثم رأى رجلًا قد وثب فجأة من تلك النافذة إلى الغرفة بخفة القرود.

فذُعِرَ أفندال، ولكنه ما لبث أن رأى الرجل حتى صاح صيحة فرح، وقال: أهذا أنت، يا أبي؟ وأين كنت؛ فإني لم أرك منذ ثلاثة أيام؟

– إني كنت في لندرا وقد عدت منها الآن.

– وأي شأن لك في لندرا؟

– ذهبت إليها للبحث عن أصحاب، أحتاج إليهم ليساعدوني على جعلك لوردًا.

فارتعش السير أفندال، وقال: إذًا، سأصبح لوردًا حقيقة؟

– دون شك.

– متى؟

– قبل أن يمر شهر.

– ولكنك تبر بقسمك، ولا تقتل أخي اللورد وليم.

– لقد أقسمت لك، وهو قسم أجله.

فتنهد السير أفندال، وقال: إذًا، يبقى حيًّا ويحسبه الناس من الأموات؟

– هو ذاك.

– ماذا عزمت على أن تصنع به؟

– لا تتسرع، يا بني، فسأخبرك حين يحين الأوان، غير أني محتاج إلى شيء من المال.

– لا أعلم مقدار حاجتك، وهذا مالي بين يديك، فخذ منه ما تحتاج إليه.

ثم قام إلى خزانة ملؤها الأوراق المالية ودفعها إلى أبيه، فأخذ منها مائتي جنيه ورد الباقي فقال: «إن هذا القدر يكفيني الآن، وإذا احتجت إلى المزيد عدت إليك.»

عند ذلك ذهب إلى النافذة كي يعود منها كما أتى، ثم عاد فقال لابنه: «أسافر توما؟»

– نعم.

– متى؟

– في هذا المساء.

فاتقدت عيناه ببارق السرور، وقال: «إذًا، لقد آن لنا أن نبدأ بالعمل، فاطمئن يا بني؛ فستغدو لوردًا.»

ثم تركه وانصرف.

٢٦

عقب تلك الليلة يوم حر شديد انقطعت فيه الطيور عن التغريد، واحتجبت بين الأوراق فرارًا من أشعة الشمس المحرقة.

وقد كف الناس عن السير في الطرقات، وأصبحت تلك البلاد الباردة كأنها في خط الاستواء.

ومع ذلك فقد كان فريق من الرجال يسيرون في طريق كثر الغبار فيها، وقد أنهك التعب والحر أجسامهم، وهم مقيدون بسلاسل، كل اثنين منهم بسلسلة.

وكانوا جميعًا حفاة الأقدام حاسري الرءوس حليقي الشعور، وهم من المجرمين الإيكوسيين المحكوم عليهم بالنفي إلى أوستراليا، فكان الجنود سائرين بهم إلى ميناء ليفربول.

وكانوا يسيرون ببطء، والعرق يسيل من أجسادهم، وكان بعضهم يشكون ويتوجعون، وآخرون يتضجرون ويشتمون، وإذا أضنى التعب أحدهم وتوقف عن المسير أدركه كرباج الجندي، فصاح صيحة ألم وتبع الرفاق حذر السوط.

غير أن أولئك الجنود كانوا يعانون نفس ما يعانيه أولئك المجرمون، فقال أحدهم لرئيسه: «لقد أنهكنا السير، وصهر الحر أجسادنا، ألا ترى أن نستريح؟»

– أراك قد تعبت.

– إن قدمَيَّ قد تورمتا.

– وأنا أكاد أموت ظمأً.

– بئست هذه الطريق؛ فإننا لا نجد فيها قطرة ماء.

فأجابه الرئيس: «ذلك لأن هذه الثلوج التي تراكمت فوق هذه القمم، لم تذب بعد.»

– إني أخشى أن لا تذوب.

– وهذا ما أراه، غير أنه لا بدَّ لنا أن نجد قرية أو فندقًا.

– إني أعرف هذه البلاد، فإنه يوجد على مسافة مرحلتين — أيضًا — قرية باميلتون.

– ولكني لا أستطيع الصبر على العطش إلى أن نبلغ القرية.

– ولكننا نتوقف عن السير قبل البلوغ إليها.

– أين؟

– ألا ترى هذه النقطة السوداء الشاسعة؟

– نعم …

– إنها غابة كثيفة تبدو في آخر ما يمتد إليه البصر كالنقطة في الكتاب، غير أنه يوجد فيها نهر صغير نقيم على ضفته إلى المساء بدلًا من أن نواصل السير إلى قرية باميلتون.

– بل أرى أن نروي عطشنا من هذا الجدول، ثم نواصل السير إلى القرية.

فأجابه الضابط وكان يدعى برسي: «كلا، بل نقيم عند النهر، فإننا نكسب بذلك مائة جنيه.»

فنظر إليه الجندي نظرة المنذهل، وقال له: «كيف ذلك؟! ألعلَّ الشمس قد أثرت فيك أم أنت تهزأ بي؟!»

– لا هذا ولا ذاك؛ فإني أقول الحق.

– ولكن، كيف نكسب المائة جنيه؟

– هذا سر من أسراري، ويكفيك أن تعلم أنك ستنال منها نصفها.

– أنا أنال النصف؟

– نعم، إنما يجب من أجل ذلك أن تفعل ما أقوله لك.

– إني أفعل كل ما تريد؛ فإن هذه القيمة لا أنالها في عام، فقل لي ما يجب أن أصنع.

– إنك تتسرع يا جوهن، والتسرع غير محمود، ثم سكت ولم يوضح له شيئًا.

وكان المجرمون قد كثر تذمرهم فرق الضابط لهم، وقال: «صبرًا، ألا ترون هذه الغابة؟ فإننا سنستريح فيها ونحن في هذا الشقاء سواء.»

فارتاح المجرمون لهذا الوعد، وكان عددهم ثمانية.

وكان يسير وراء المجرمين بغل يقوده جندي ثالث، وفوق هذا البغل رجل نائم.

وكان هذا الرجل فتى لا يتجاوز العشرين من العمر، وقد أخذوه من مستشفى على الطريق وهو كأنه مصاب بداء البرص، وهيئته تحمل على الرعب.

وكانوا يخافونه خوفًا شديدًا حذر العدوى، فإذا توقفوا للاستراحة عزلوه عنهم، ولبس الحارس الذي يقدم له الطعام والشراب قفازًا اتقاءً لهذا الداء الوبيل.

على أن هذا الفتى المنكود لم يكن مصابًا بالداء وحده؛ بل زاد في نكبته أنه كان معتوهًا، ولم يكن ينطق بحرف.

ولم يكن بينهم من يعلم أي ذنب جناه هذا الرجل غير أن الذي كانوا يعلمونه من أمره أنه كان محكومًا عليه بالنفي.

وبعد أن أذاب الحر أجسادهم وصلوا إلى تلك الغابة، فصدر أمر القائد بالتوقف عن السير، ولكن المجرمين بدلًا من أن يتوقفوا اندفعوا إلى النهر وقد كاد الظمأ يقتلهم وألقوا أنفسهم في المياه، فكانوا يشربون ويغتسلون في وقت واحد، فيروون عطشهم ويتداوون من الحر بشرب المياه.

وبعد أن فرغوا من الشرب والاغتسال فرق القائد عليهم قطعًا من الخبز، وقال لهم: «إنكم تستطيعون أن تناموا إذا أحببتم؛ فإننا سنقيم هنا إلى المساء.» فنام أولئك المنكودون فوق العشب، وبقي القائد برسي والجندي جوهن قربهم يتحدثان بصوت منخفض.

قال القائد للجندي: «إننا سنربح مائة وخمسين جنيهًا لا مائة كما قلت لك، ولكنك تقبض خمسين وأقبض مائة.»

– لتكن القسمة كما تشاء، ولكن أود أن أعلم كيف نكسب هذا المال.

– ألا تذكر حين وصلنا إلى برت وأخذنا من مستشفاها ذلك العليل أن حارس السجن أعطاني علبة من الصفيح.

– نعم، ولكني لا أعلم ما يوجد في هذه العلبة.

– يوجد فيها حية زرقاء.

– كيف تكون الحية زرقاء؟!

– إنها من أفاعي الهند، وهي صغيرة حتى لا يزيد طولها عن أصبع ولكنَّ لسمها تأثيرًا هائلًا؛ فإنه يورم الجسم والوجه ورمًا عظيمًا ويشوه الملسوع تشويهًا غريبًا بحيث لا يمكن لأهله أن يعرفوه، وهذا السجين العليل قد لسعته هذه الحية.

– كيف اتفق ذلك؟

– إن حارس السجن وضعها في فراشه قبل الليلة التي كنا عازمين على أخذه فيها، وقد كان صحيح الجسم والعقل، قبل أن تلسعه وأنت ترى الآن كيف استحال.

– ولكني لا أعلم لماذا أساء إليه حارس السجن هذه الإساءة الهائلة.

– ذلك ليربح أيضًا مائة جنيه.

– إني لا أفهم ما تقول.

فابتسم القائد وقال: «يوجد رجل غني في إنكلترا يستطيع أن يشتري بماله جميع أمثالنا فيها.»

وبينما هو يحدثه حانت منه التفاتة، فاضطرب، وقال: «كفى الآن، وسأتم الحديث في فرصة أخرى.»

ثم نهض؛ ذلك أنه رأى رجلًا مضطجعًا على العشب على مسافة قريبة، وقد أشار إليه الرجل إشارة سرية اضطرب منها وأسرع إليه.

أما ذلك الرجل فقد كان نظام الفقير الهندي، أي السير جورج والد السير أفندال.

٢٧

ولما وصل إليه وقف السير جورج، وقال له بلهجة الحذر: «أَأَنت هو القائد برسي؟»

– نعم …

– إذًا، أنا هو الذي تنتظره فهل أحضرت الأفعى؟

– هي معي في هذه العلبة.

ثم دفع العلبة إليه، فأخذها السير جورج، وأخرج من جيبه خمسين جنيهًا، فأعطاه إياها، وقال: «خذ هذه الدفعة من أصل الحساب.»

فأخذها القائد فرحًا، وقال: «إني أنتظر أوامرك، يا سيدي.»

– يجب أن تبيت الليلة في هذا المكان، وغدًا تكون في قرية باميلتون فتتظاهر أنك مريض لا تستطيع مواصلة السير.

– كم ينبغي أن أقيم في القرية؟

– لا أعلم الآن؛ فإن ذلك موكول إلى الحوادث، وفوق ذلك فإن أولئك المجرمين لا تسوءهم الإقامة في هذه القرية.

– دون شك؛ فإنهم لا يسيرون إلا بعد أن نجلدهم بالسياط لشدة الحر.

– إذًا، فاعلم أنه يوجد في هذه القرية فندق قرب قصر باميلتون يجب أن تقيموا فيه؛ فإن صاحبه من رجالي، فهو يسجن المجرمين في قبو ويعين بقية غرف الفندق لك ولرجالك وللرجل الملسوع.

– وبعد ذلك؟

– تنتظر إلى أن ترد لك تعليماتي فتعمل بموجبها.

ثم وضع العلبة في جيبه وانصرف.

ولم يكن المجرمون قد تنبهوا من رقادهم، أما الرجل الملسوع، فقد كان ملقيًّا على العشب، قرب البغل وهو يتوجع ويئن أنينًا يقطع القلوب من الإشفاق.

•••

وأما السير جورج فإنه ذهب توًّا إلى ابنه فلقيه قرب القصر ودار بينهما الحديث الآتي: فقال السير جورج: «أظن أننا وحدنا الآن.»

– نعم، فماذا تريد أن تقول لي؟

– إن كل شيء قد تهيأ.

فارتعش السير أفندال، وقال: كيف ذلك؟

– ذلك أن الحية باتت عندي.

ثم أخرج العلبة وأراه إياها.

فاضطرب السير أفندال، وقال: «أريد أن أعود إلى الاستيثاق منك؛ فأقسم لي أن من تلسعه هذه الأفعى لا يموت.»

– إني أقسم لك، وإن كان القسم لا يكفيك فاذهب غدًا إلى فندق باميلتون.

– ما أفعل في هذا الفندق؟

– سل القائد برسي أن يريك ذلك الرجل الذي لسعته الحية الزرقاء تجد أنه لا يزال في قيد الحياة.

– لقد صدقتك.

– إذًا، يجب أن تعمل الآن بما يقوله المثل السائر، وهو ساعد نفسك يساعدك الله.

– بل إن الأبالسة تساعدني في هذه المهمة.

– كما تشاء.

– ماذا تريد يا أبي؟

– أين هو أخوك الآن؟

– في منزل خطيبته …

– متى يعود؟

– قرب انتصاف الليل.

– أتجد وسيلة للدخول إلى غرفة رقاده دون أن يراك أحد؟

– نعم، فإني أدخل إليها من غرفة المكتبة.

– إذًا، انتظرني هذه الليلة في غرفتك.

– في أية ساعة؟

– في الساعة الثامنة من المساء.

– أتدخل من النافذة كما دخلت أمس؟

– إني سأسلك نفس الطريق.

ثم تركه وانصرف.

•••

في الليلة نفسها أقام السير أفندال في غرفته وترك النافذة مفتوحة، فأتاه أبوه في الساعة الثامنة حسب الاتفاق وسأله عن اللورد وليم فقال له: «لم يعد بعد.»

– إذًا، هلم بنا.

وكان السير أفندال أصفر الوجه يتكلم بصوت يتهدج.

ولما رأى أن الوقت حان أجفل من الخيانة، وقال لأبيه: «كلا … إني لا أريد …»

فقال له أبوه: «ألا تريد أن تكون غنيًّا أيها الأبله؟»

– كلا.

– إذا كان ذلك فكيف ترجو الحصول على مس إينا؟!

فأثر ذلك في أفندال تأثيرًا عظيمًا، وهاج عامل غرامه فأقدم على الجريمة وزال من نفسه ما كان يشعر به من الخوف فقال لأبيه: «هلم بنا.»

ثم فتح بابًا يؤدي إلى غرفة المكتبة، ودخل إليها مع أبيه.

وكان في هذه الغرفة باب يؤدي إلى غرفة اللورد وليم، وولج الشقيَّان منه إلى غرفة ذلك المنكود.

وعندئذ، أخذ السير جورج علبة من جيبه ودنا من سرير اللورد وليم، فكشف الغطاء، ثم فتح العلبة فوثبت الحية منها إلى السرير، وأسرع السير جورج ورد الغطاء إلى ما كان عليه بحيث باتت الحية تحته.

وعند ذلك عاد الاثنان إلى غرفة أفندال، فوثب السير جورج من النافذة، وهو يقول إلى الغد.

أما السير أفندال فإنه بقي واقفًا قرب النافذة ينتظر قدوم أخيه، ويقول إني سأصبح لوردًا وستكون مس إينا لي.

٢٨

بعد أن ذهب السير جورج بساعتين، عاد اللورد وليم من بيت خطيبته إلى القصر، وكان السير أفندال لا يزال ينتظره.

ودخل اللورد وليم وهو لا يزال مشرق الجبين طلق المُحَيَّا وعلائم السرور والارتياح بادية بين ثنايا وجهه، ولما رأى أخاه لا يزال ساهرًا أسرع إليه، وعانقه قائلًا: «إني بت، يا أخي، من أسعد الناس.»

فأجابه بلهجة المتهكم: «إني أهنئك، يا أخي العزيز.»

– إن مس إينا تحبني حبًّا أكيدًا.

ولم يجبه السير أفندال، ولو كان لدى أخيه أقل أثر من الريب به لرأى الغضب يتقد في عيني ذلك الشقي.

غير أن اللورد وليم كان يحب أخاه، ولا يخطر له غدره في باله، فأتم حديثه قائلًا: إنها تحبني كما قلت لك، لقد اعترفت لي اليوم بما لم أكن أتوقعه.

– بِمَ اعترفت لك؟

– إننا كنا في الحديقة، وكان أبوها معنا فتركنا هُنَيْهَة منفردين، ولما خلا بنا المكان وضعت يدها بيدي وقالت لي: «إني أحب أن أحدثك بأمر طالما أخفيته عنك.»

فارتعشت، وقلت: «ماذا عسى أن يكون، أيتها الحبيبة؟»

– «إني لا أريد، أيها الميلورد أن أكون امرأتك إلا متى قرأت سور الغرام في قلبي، كما تقرأ في كتاب مفتوح، فاعلم أني أحبك حبًّا نقيًّا، ولكني ما أحبك لشرف آبائك، ولا لأنك من أعضاء المجلس الأعلى، بل أحب منك أنت.»

فأخذت يدها، وقبلتها قبلات، وعادت إلى الحديث، فقالت: «إني أحبك وأردت الزواج بك لغاية هي غير غاية أبي.»

فذُهلت لقولها، وقلت لها: «ما كانت غاية أبيك؟»

– إن أبي واسع الثروة، ولكنه غير عريق في النسب مثلك، وليس له شيء من الألقاب، فهو إنما رغب في هذا الزواج طمعًا بشرف مصاهرتك، أما أنا …

وهنا توقفت عن الحديث وقد احمرَّ وجهها.

فقلت لها: «أَتِمِّي حديثك، أيتها الحبيبة.»

– أما أنا فكنت أود لو كنت دعيًّا في نسبك فقيرًا معدمًا لا تملك شروى نقير؛ لأني لا أحب مجدك ونسبك بل أحب أنت.

– هذا ما قالته لي، يا أخي العزيز، ولم يبقَ لزواجنا غير أسبوعين غير أنهما سيمران بي سيمران بي كدهرين.

وسكت السير أفندال، وقد كاد الحقد ينفجر في قلبه انفجار البراكين.

وعاد اللورد وليم إلى الحديث بعد سكوت قصير، فقال: «أسألك العفو، يا أخي؛ لأن السرور قد غلب عليَّ فلم أتكلم إلا عن نفسي، ولكنك ستغدو سعيدًا مثلي؛ فإن والد خطيبتي يُعِدُّ لك خير زواج.»

وأجابه فندال بجفاء: «لا تقارن، أيها الأخ، بيننا ولا تشابه بين حالتينا.»

– كيف ذلك؟

– ذلك أنك تحب مس إينا.

– حب عبادة.

– ولكنك تقول إن الفتاة الهندية حسناء، ولكن قد يمكن أن لا يجد جمالها سبيلًا إلى قلبي.

ثم تَنَهَّدَ تَنَهُّدَ القانطين، فشعر اللورد وليم أنه أخطأ بمحادثته أخاه عن سعادته وغير الحديث، وقال لأخيه: إني عازم على النوم فإن حديث خطيبتي قد أثر فيَّ، فبت محتاجًا إلى الراحة، وفي كل حال فإني أرجوك أن تصفح عني.

– إنك لم تخطئ إلي فأصفح عنك، وسأوصلك إلى غرفتك إذا أذنت.

– حبًّا وكرامة.

ثم سار الاثنان إلى غرفة اللورد وليم.

وكانت النوافذ مفتوحة فقال السير أفندال: «أتريد أن أقفل هذه النوافذ، يا أخي؟»

– كلا؛ لأن الحر شديد.

– ولكن ألا تخشى رطوبة الليل؟

– كلا، فدعها مفتوحة، لقد تعودت في الصيف أن أفتح النوافذ.

– وأنا أفعل مثلك؛ لأن حر هذا الصيف لا يطاق.

وقد سُرَّ أفندال من ترك النوافذ مفتوحة؛ إذ قد يتبادر من الفور إلى الأذهان أن الحية قد تسلقت الشجرة وانسابت إلى أخيه من النافذة، وفي هذا ما يبعد الظن ويضيق مجال الاتهام.

ثم ودَّع أخاه وخرج من غرفته بعد أن نظر نظرة خفية إلى السرير، ووجد أن الغطاء لا يزال على حاله، وأن الحية لا تزال نائمة تحته، دون شك.

•••

بعد ذلك بساعة سمع خادم غرفة اللورد وليم صرخة مزعجة في غرفة اللورد المجاورة لغرفته.

وكانت صرخة ألم شديد فهب الخادم منذعرًا وأسرع إلى غرفة سيده، فوجد ذلك اللورد الشاب واقفًا في وسط الغرفة بملابس النوم، وهو قابض بيده على تلك الحية.

ولكن الحية كانت قد لسعته في وجهه قبل أن يقبض عليها، وأسالت بعض نقط من الدماء على خده.

وكانت عينا اللورد قد جحظتا واصفر وجهه فبات كالمجانين.

ثم ألقى تلك الحية مغضبًا على الأرض، وأسرع الخادم وسحقها بقدمه، ثم خرج من الغرفة وجعل ينادي الخدم مستغيثًا لما رآه من خطورة الحالة.

أما اللورد فإنه كان يصيح متألمًا، وقد بات في حالة من اليأس لا سبيل فيها إلى العزاء.

وبعد هُنَيْهَة أقبل الخدم وأسرع واحد منهم إلى إحضار طبيب، ففحص المكان الملسوع، والحية القتيلة، فقرر أن الحالة شديدة الخطورة، ولكنها لا تحمل على اليأس.

ثم غسل الجرح وطهره وأعاد اللورد وليم إلى سريره.

أما السير أفندال فقد كان يتظاهر بالحزن الشديد، وينسب هذا الحادث إلى إهمال أخيه وتركه النوافذ مفتوحة، ويقول إنه لولا هذا الإهمال لما فوجئنا بهذه النكبة الهائلة.

وكان يمثل الحزن واليأس خير تمثيل حتى كان الخدم يشفقون عليه.

ولكنه إذا خلا بنفسه أشرق وجهه بنور البشر وعلل النفس بإدراك ما يبتغيه من ثروة أخيه ولقبه وخطيبته.

أما ذلك اللورد المنكود الذي قُضِيَ عليه أن يكون ضحية الحسد واللؤم والمطامع السافلة، فقد أُصِيب بحمى شديدة لزمته فأضاعت رشاده.

ثم اختلط عقله فصار يهذي ويتكلم كلامًا غير مفهوم.

وكان وجهه قد تورم واسود فبات لونه كلون الفحم.

على أنه في هذيانه كان يردد كلمة واحدة تخرج واضحة من فمه دون سواها وهي اسم خطيبته مس إينا.

ورأى السير أفندال أنه يجب في هذا المقام إبلاغ مس إينا وأبيها فأمر أحد الخدم أن يدعوهما.

وركب الخادم جوادًا، وانطلق به يسابق الرياح، إلى منزل السير أرشيبالد.

وعند الفجر أقبل السير أرشيبالد وابنته فلم تكد تراه الفتاة حتى صاحت صيحة رعب …

فإن وجهه انتفخ انتفاخًا شديدًا حتى لم يعد يعرفه أحد.

وكان لحم وجنتيه قد تناثر واندلع لسانه وازرقت شفتاه، وغارت عيناه فلم يعد له شيء من الشبه بالإنسان.

ولما رأى الطبيب تلك الاستحالة هز رأسه إشارة إلى القنوط: «لم يبقَ للطب حيلة في هذا المنكود.»

أما السير أفندال فقد كان خرج من غرفة أخيه وغادر القصر، فسار دون أن يعرف إلى أين يسير.

وكان حاسر الرأس، ولعله ندم على فعلته الشنعاء. ولم يعد يطيق النظر إلى وجه أخيه، أو أنه خجل من تكلفه الكآبة وهو يضمر السرور والارتياح.

وفيما هو سائر إلى حيث تدفعه قدماه رأى أباه خرج من الأدغال وتعرَّض له وهو يبتسم ابتسامة الأبالسة فسأله: ما وراءك من الأخبار، يا بني؟

– أخشى أن تكون خدعتني، يا أبي.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن اللورد وليم على فراش الموت ولقد أقسمت لي أنه لا يموت.

فابتسم وأجابه: «ولا أزال أقسم لك أنه لا يموت.»

– ولكن الطبيب أكد أنه مشرف على الموت.

وأجابه ببرود: «إنه طبيب جاهل … والآن فاحذر من أن يبدو منك ما يفتضح به أمرك، فإني أراك شديد الاضطراب، وقد تمكن منك الرعب شأن من لا إرادة عنده ولا صبر له على المهام الجسام فهلا تريد أن تغدو لوردًا، وتتزوج مس إينا؟»

فاضطرب فؤاده عند ذكر خطيبة أخيه، وعادت إليه السكينة، فقال لأبيه: «قل ماذا تريد مني الآن؟»

وأخرج السير جورج شمعة من جيبه، فدفعها إليه قائلًا: خذ هذه الشمعة …

– ماذا تريد أن أصنع بها؟

– أريد أن تضعها في شمعدان بدلًا من الشمعة التي تكون فيه.

– وبعد ذلك؟

– تضعها في غرفة أخيك، وتسهر مع السير أرشيبالد وابنته في الغرفة، فإنهما سيقضيان الليل في غرفته دون شك، فتضع هذه الشمعة فوق المستوقد وتضيئها.

– إني لم أفهم شيئًا.

– لا حاجة الآن إلى أن تفهم. ثم ضحك، وقال: «سوف تعلم، فأودعك الآن على أمل اللقاء القريب.»

٢٩

كان ذلك اليوم هائلًا في قصر اللورد باميلتون، فإن الحمى اشتدت على اللورد حتى أوشكت أن تفتك به.

ثم تلاها انحطاط شديد فوهنت قواه وأطبقت عيناه.

وكانوا قد أرسلوا الرسائل البرقية إلى لندرا يستقدمون فيها أعظم أطبائها وأبعدهم شهرة، وأوسعهم علمًا، ولكنهم كانوا يخشون أن لا يدرك الأطباء هذا العليل المنكود، لما رأوه من انحطاطه وخطورة حاله.

وكان السير أرشيبالد وابنته قد أقاما في غرفة اللورد.

أما السير أرشيبالد فقد كان حزين النفس منقبض الصدر، ينظر إلى صهره نظر القانط من حياته، فيتجهم جبينه، وتنطبع على وجهه علائم الكآبة والحزن الشديد.

وأما مس إينا فإنها كانت لا تنظر إلى وجه خطيبها حتى تصيح صيحة ذعر فتحمل رأسها بين يديها وتذرف الدمع السخين، ثم تنقطع إلى الصلاة وتنذر النذور.

وأما السير أفندال، فقد كان يمثل دوره أتقن تمثيل فيتنهد ويشهق بالبكاء ويمتنع عن مناولة الطعام، كأنما هذه النكبة قد أصابته حقيقة، وكأنما ليست يده الأثيمة التي دست لأخيه اللورد وليم هذا السم!

ولقد أشفق عليه السير أرشيبالد لما رآه من دلائل يأسه، فأقبل يعزيه، وتعزت مس إينا بما رأته من دلائل صدق إخائه، فعانقته وهي تناديه: «يا أخي العزيز.»

وفي المساء تغيرت حالة اللورد بعض التغيير، وزال عنه ذلك الذهول ففتح عينيه وتكلم بضع كلمات، فعاد الرجاء إلى قلب مس إينا وحسبت أنه سيستفيق ويعود إلى الرشاد.

أما السير أفندال فقد قطب جبينه حين بدت هذه الدلائل من أخيه، فقال في نفسه: «إنه إذا عاد إليه صوابه فلا أدري كيف يستطيع أبي أن يفي بما وعد.»

وكأنما هذا التغيير الفجائي قد أحدث ارتياحًا في نفس السير أفندال ورضي أن يأكل، وخرج مع الفتاة وأبيها إلى قاعة الطعام.

ولكنه لم تمر به ساعة حتى بدأ يفهم قصد أبيه؛ ذلك أنه شم رائحة غريبة عبَّقت في تلك الغرفة.

وقد شم السير أرشيبالد وابنته نفس تلك الرائحة ولكنهما حسبا أنها صادرة من جسم اللورد، فإن لحم وجنتيه كان قد تناثر ولم يخرجا من تلك الغرفة التماسًا للراحة، لتوهمهما أن ذلك دليل على دنو ساعة اللورد، وأنه لا يجمل بهما تركه في مثل هذه الساعة.

أما السير أفندال فقد علم أنها رائحة الشمعة.

•••

ولم تطل مدة انبعاث هذه الرائحة فإن السير أفندال شعر بدوار في رأسه وبحاجة قوية إلى النوم لا تقاوم.

على أنه قاوم ما استطاع حين رأى السير أرشيبالد والفتاة قد أغمضا عيونهما وكذلك خادم الغرفة التي كان واقفًا بجانب سرير العليل يعالجه بدواء الطبيب وأطبق هو عينيه بالرغم عنه.

وبعد ذلك بزمن وجيز شعر باهتزاز عنيف، ثم أحس ببرود في جسمه، ففتح عينيه واستفاق من ذلك الإغفاء.

ولكنه لم يجد نفسه في غرفة أخيه اللورد وليم، بل كان في غرفته الخاصة وفي سريره الخاص.

وقد وجد رجلًا بالقرب منه، أما هذا الرجل فكان أباه.

وكان بيد السير جورج إسفنجة غمسها بالخل وجعل يدعك بها صدغي ولده حتى استفاق تمام الاستفاقة.

ونظر إلى أبيه، وقال له: «أين أنا وما حدث؟»

– انهض من سريرك.

ونهض السير أفندال، ووثب من سريره إلى الأرض، وقد عاد إلى حالته الطبيعية، ولم يبقَ مصابًا إلا بدوار خفيف.

وعند ذلك قال له أبوه: «اتبعني.»

ثم فتح باب الغرفة المؤدي إلى المكتبة، التي تؤدي إلى غرفة اللورد وليم.

وكان السير جورج قد دخل إلى تلك الغرفة قبل ولده، وهو يبتسم ابتسام الهازئ، وتبعه ولده وهو يمشي مشية المضطرب الخائف، وهو لا يعلم أيشفق على أخيه فيندم، أم يسترسل إلى الطمع بنتيجة فوزه على أخيه.

ولما دخل إلى غرفة أخيه قال له أبوه: «انظر.»

حتى نظر إلى أخيه، فرآه مسجى فوق سريره، وليس عليه شيء من دلائل الحياة.

فقال له أبوه: «هلم بنا نتحدث الآن، ولا خوف علينا فإن دوي المدافع لا يوقظ النائمين، وإن طالت إقامتنا في هذه الغرفة تؤثر فينا رائحة الشمعة، وتفعل بنا فعلها بهم.»

– أرى أنك خدعتني، يا أبي؛ فإن أخي لا حراك به.

– كلا، بل هو نائم.

– ألا تخدعني؟

– كلا، فَادْنُ منه وضع يدك فوق قلبه تشعر بدقاته.

فامتثل السير أفندال ودنا من أخيه غير هياب فاستوثق مما قاله له أبوه، وأيقن أن أخاه لا يزال في قيد الحياة، ولكن يده كانت تضطرب اضطرابًا قويًّا، فإن الجريمة تمثلت له حين لمس أخاه فأثرت به أسوأ تأثير.

ثم نظر إلى أبيه بعد أن أدار ظهره كي لا يرى أخاه، وسأله: وبعد ذلك؟

– انظر.

وأشار إلى زاوية في الغرفة ودله على جسم إنساني كان ممددًا في تلك الزاوية ومغطًّى بقطعة كبيرة من القماش.

فذُعِرَ السير أفندال، وسأل: «ما هذا؟»

فمشى السير جورج إلى هذا الجسم، وأزاح عنه الغطاء.

غير أن السير أفندال لم يلبث أن رأى ذاك الجسم حتى صاح صيحة رعب منكرة؛ فإنه رأى جثة باردة.

وكانت جثة متورمة وقد كثر تشويه الوجه بحيث لم يعد يعرف كوجه اللورد وليم.

أما السير جورج فإنه قابل ذعر ولده بابتسام، وقال له: «إذا وضعت الآن هذه الجثة مكان أخيك أيمكن التمييز بينهما؟»

– كلا، فإن التشويه واحد والتورم متشابه.

– إذًا أنت ترى التشابه بين الاثنين؟

– هذا أكيد، غير أن أحدهما ميت والآخر حي.

– إن هذا الرجل الذي تراه في الزاوية هو ذاك الملسوع الذي كانوا يحملونه على البغل.

– ولكنه مات؟

– نعم …

– أرأيت إذًا أن سم تلك الحية قاتل؟

– إنك منخدع، يا بني.

– كيف أكون منخدعًا وأنت تقول إنه مات؟

– لم يمت حتف أنفه، ولكنا قتلناه.

– كيف ذلك؟

– إننا سقيناه سمًّا فمات، والطبيب يحسب أنه مات بسم الأفعى.

وجعل السير أفندال ينظر نظرًا مضطربًا إلى الجثة وإلى أخيه.

فقال له أبوه: كفاك تضطرب اضطراب الأطفال، وهلم إلى مساعدتي.

ثم دنا من سرير اللورد وليم فحمله من سريره ووضعه فوق مقعد، وعاد مع ولده إلى الجثة فحملاها ووضعاها فوق سرير اللورد وليم.

وبعد أن وضع فوقها الغطاء، قال لولده: «يحب الآن أن تساعدني على إخراج أخيك من القصر.»

– كيف ذلك؟

– إننا سنحمله في البدء إلى غرفتك.

– إلى غرفتي؟

– نعم … فإن رجلين ينتظرانني تحت نافذة غرفتك، وقد وضعا سلمًا تصل إليها.

– من هما هذان الرجلان؟

– القائد برسي والجندي جوهن.

– ولكن أخي نائم نوم تخدير، فإذا نقل إلى حيث تريد نقله فلا بد له أن يستفيق بعد ذلك.

– إنه يستفيق دون شك.

– إذًا ماذا تصنع؟

– ألم أقل لك إنه سيغدو مجنونًا عدة أسابيع من تأثير سم الأفعى.

– نعم …

وضحك السير جورج، وقال: إنه في مدة هذه الأسابيع يصبح بعيدًا بعدًّا شاسعًا عن إنكلترا فمتى عاد إلى صوابه يجد نفسه في أوستراليا.

– وأنا ما يكون من أمري؟

– إنك تصبح لوردًا؛ إذ لا وارث لأخيك إلاك، وهو ميت في عرف الناس.

ثم حمل ذلك اللورد المنكود على كتفه إلى غرفة السير أفندال وتبعه ولده إليها.

•••

أما الشمعة المخدرة في غرفة اللورد وليم فقد ذاب ثلاثة أرباعها، ولكنها كانت لا تزال مضاءة.

٣٠

ولما وصلا باللورد وليم إلى غرفة أفندال أطل السير جورج من النافذة ورأى الخائنين لا يزالان في موقفهما.

فأشار إلى أحدهما أن يصعد على السلم، فصعد وألقى إليه اللورد وليم، وأعانه حتى بلغ به إلى الحديقة.

وعند ذلك التفت إلى ولده، وقال له: «ينبغي الآن أن تعود إلى غرفة أخيك، وتجلس في المكان الذي كنت جالسًا فيه مع السير أرشيبالد وابنته فيؤثر فيك المخدر وتنام نومهما.»

ثم تركه ونزل من النافذة، فخرج باللورد وليم من الحديقة، وتوارى عن الأنظار.

أما السير أفندال فإنه بقي واقفًا عند النافذة حتى احتجبوا عنه وأيقن أنهم ساروا بأخيه فعاد إلى أخيه.

وقد رأى أن الشمعة لا تزال منيرة فجلس على الكرسي الذي كان جالسًا عليه قبل أن يتخدر منذ بضع ساعات، وهو يقول في نفسه: «لست أبالي الآن بالتخدير، بل أود أن يطول زمن تخديري، فيستفيق السير أرشيبالد وابنته قبلي.»

ولبث في موضعه وهو يعلل النفس بالأماني ويبسط فرش المستقبل ورائحة الشمعة تدخل من خياشيمه إلى رئتيه وتفعل فعلها فيه.

وما زال يفتكر بأخيه وما عسى أن يكون من أمرهم حين يستفيقون ويجدونه ميتًا.

وبلغ المخدر مبلغه منه فأطبق أجفانه ونام.

وبعد حين انطفأت الشمعة وأخذ هواء الغرفة يُنقى تباعًا.

فما مضى على ذلك ساعة حتى استفاق السير أرشيبالد، ولكنه كان لا يزال مشتت الحواس لا يستطيع الوقوف.

وبعد جهد قوي تمكن من الوقوف، وجعل يمشي مشية السكارى، فلا يخطو خطوة حتى يقف.

ولم يكن يعلم ما أصابه، غير أنه شعر أنه يكاد يختنق وأنه محتاج إلى الهواء النقي.

فجر نفسه إلى النافذة ولم يتمكن من فتحها، فضرب زجاجها بيده فتحطم، ودخل الهواء النقي إلى الغرفة. ووقف يتنشقه هُنَيْهَة حتى خفَّ ما به، فالتفت ورأى ابنته والخادم قد استيقظا، ولم يبقَ نائمًا غير السير أفندال.

وكان الفجر قد انبثق وملأ شعاعه الغرفة فنظرت مس إينا إلى ما حولها منذهلة حتى استقر نظرها على يد باردة من تحت غطاء السرير.

فدنت منه وهي تحسب أن اليد يد خطيبها اللورد وليم وأخذتها بين يديها وهي تضطرب لاصفرارها.

ولم تكد تلمسها حتى صاحت صيحة رعب منكرة لما شعرت به من برودتها، وقالت: «ويلاه! إنه مات.»

فأسرع السير أرشيبالد ووضع يديه على قلبه، وقال: «إنه ميت، واأسفاه!»

أما السير أفندال فإنه صحا لصوت مس إينا، فأجال نظرًا قلقًا مضطربًا وقال: «ماذا جرى؟»

فأخذه السير أرشيبالد ووضع يده بين يديه، وقال: «صبرًا، يا بني، إن أخاك مات ونحن نيام.»

•••

وبعد ذلك وصل الطبيب، وأثبت وفاة اللورد مسمومًا، وعلل نوم أخيه والسير أرشيبالد وابنته، بسبب تسمم هواء الغرفة، وعدم تجديده.

أما السير أفندال فإنه أظهر من الحزن ما لا تظهره أمٌّ فُجِعَتْ بولدها فكان يضرب الجدار برأسه ويحاول الانتحار، حتى انصرف جميع الخدم إلى مراقبته لإشفاقهم عليه من الانتحار.

وفي مساء اليوم التالي خرج السير أفندال من القصر ماشيًا إلى الخلاء، وهو مطرق الرأس كئيب النفس، حتى وصل إلى قمة مشرفة على الطريق العام.

وهنا وقد استلفت نظره منظر غريب، وهو جماعة من الرجال مقيدون بسلاسل، وهم يسيرون مكرهين، ودلائل اليأس بادية في وجوههم.

وكان يمشي في طليعتهم القائد برسي والجندي جوهن، ووراء الجماعة بغل عليه رجل مشوه الخلقة مورم الجسم.

فرآه السير أفندال وارتعش ارتعاشًا عظيمًا، حتى أوشك أن يسقط على الأرض؛ إذ عرف أن هذا المنكود أخوه.

وعند ذلك دنا منه رجل فقير وكان قرب أولئك المجرمين، فقال له: «إن هؤلاء المجرمين تعساء، يا سيدي الميلورد، ولكن أشدهم بؤسًا ذلك الرجل المحمول على البغل.»

فألقى السير أفندال دينارًا إلى ذلك الفقير ومشى هائمًا على وجهه لا يعلم أين يسير لما أصابه من الاضطراب.

وفيما هو ينزل عن تلك القمة، سمع صوت رجل يناديه بلقب اللورد.

والتفت فرأى أن هذا الرجل أبوه وقد كان واقفًا عند أسفل القمة يراقب سير المجرمين.

ووقف السير أفندال وهو مصفر الوجه منعقد اللسان فقد أثر به منظر أخيه تأثيرًا عظيمًا حتى أوشك أن يبوح بما جرى.

أما السير جورج فإنه وثب إليه، وقال: «لقد وفيت بوعدي، يا بني، فأنت اليوم لورد وستتزوج مس إينا بعد ستة أشهر.»

ثم تركه وتوارى عن الأنظار مختفيًا بين الأدغال.

ولقد صدق هذا الرجل الجهنمي الأثيم بما تنبأ به؛ فإن السير أفندال الذي بات الآن لوردًا بعد احتجاب أخيه، تمكن من الفوز بمراده من زواج مس إينا.

وذلك أن والد هذه الفتاة كان كثير الطمع بالجاه شديد التزلف من النبلاء، وقد رأى أن آماله خابت بمصاهرة اللوردية بعد موت اللورد وليم فطمع بأخيه أفندال لا سيما وقد علم من ابنته أنه يهواها.

غير أنه رأى أن ابنته لا تهواه، فما زال بها وهو يسهل لهما أسباب الاجتماع والاختلاء، ويبالغ في مدح أفندال وإظهار حسناته، حتى رضيت به بعلًا فخلعا ثياب الحداد وعقد زواجهما فأدرك هذا الأثيم ما كان يبتغيه.

وفي اليوم الذي دفن فيه ذلك الرجل المجرم الذي كان يعتقد الناس أنه اللورد وليم، عاد توما من لندرا ولكنه عاد متأخرًا ولو عاد قبل يوم لما تمكن السير جورج من فوزه بالدسيسة.

فبكى سيده بكاءً شديدًا واعتزل الخدمة من قصر باميلتون فإنه أنف من أن يخدم ابن الجريمة.

أما السير أفندال فإنه بعد أن جاء بعروسه إلى قصره نزل إلى حديقة القصر لمقابلة أبيه؛ فقد كان السير جورج سأله أن يوافيه إليها.

وكان نور القمر يتألق في السماء ويرسل أشعته إلى تلك الحديقة من خلال أوراق الشجر فيلقيها على العشب كالدنانير.

فلما وصل اللورد أفندال إلى تلك الشجرة التي اتفق مع أبيه على الالتقاء عندها رأى أباه ولكنه رآه مضطجعًا على العشب.

وناداه باسمه.

ولكن السير جورج لم يجب النداء.

ودنا منه ولم يكد يصل إليه حتى صاح صيحة رعب.

ذلك أنه رأى أباه صريعًا ورأى خنجرًا مشكوكًا في قلبه والدم يسيل من جرحه.

فأسرع إليه، وانتزع الخنجر من قلبه ونظر فيه فرأى خنجر الصيد الذي كان يتقلده توما زوج بيتزي.

٣١

ولنعد الآن إلى توما فإنه في اليوم الذي تزوج فيه اللورد أفندال مس إينا خطيبة أخيه، أنف الإقامة في ذلك القصر قصر الإثم والجريمة فاستقال من خدمته.

وقد عرف القراء أن اللورد وليم كان قد أرسله إلى لندرا لقبض ما كان لديه من المال النقدي في مصارفها.

فلما عاد وعرف ما أصاب مولاه بكاه وهو يعتقد أنه مات حقيقة؛ إذ لم تخطر له هذه الجريمة الهائلة في بال.

وكان السير أفندال يمثل الكآبة خير تمثيل، فلم يجد توما أقل سبيل للشك به.

غير أنه اتفق له مرة قبل سفره إلى لندرا ببضعة أيام أنه رأى رجلًا يسير بين أشجار الحديقة.

وكان توما واقفًا عند النافذة والقمر يسطع في السماء، فرأى توما الرجل وعرف أنه نظام، أي الفقير الهندي الذي كان قد طرده من القصر حين جاء إليه مع الطبيب يوم وفاة أم اللورد.

وقد كان يكره هذا الرجل كرهًا قويًّا لاعتقاده أنه كان السبب في وفاة أخته بالرضاع، ولأنه كان يتبين دلائل الخبث والشر من عينيه.

فلما رآه ينسل بين أشجار الحديقة أنكر وجوده فيها كل الإنكار، وهمَّ بالنزول إليه وطرده أقبح طرد.

ولكنه رأى على نور ضوء القمر رجلًا خرج من باب القصر وعرف أن هذا الرجل هو السير أفندال.

فراقبه ورآه قد لحق الهندي وانضم إليه.

وقد ذُعر واشمأز حين رأى السير أفندال قد تأبط ذراع الفقير الهندي ومشى وإياه دون كلفة على ما بينهما من التباين في المقام.

واتسع مجال الشك لدى توما، وأيقن أن الاثنين شريكان في الجريمة.

ثم خطر في ذهنه أن هذا الرجل هندي، وأنه هو الذي أحضر الحية الهندية الزرقاء.

واستنتج من ذلك أن السير أفندال قد قتل أخاه طمعًا بثروته ولقبه كما حاول أبوه من قبل أن يفعل بأخيه؛ لأن الحية لا تلد إلا الحية.

ومن ذلك الحين، جعل يراقب الهندي مراقبة الجواسيس، ولازمه لزوم الظل.

وقد كان توما واثقًا من أن اللورد وليم قد مات قتيلًا، وأن الاثنين شريكان بالجريمة.

غير أنه كان يعوزه البرهان كي ينتقم للورد وليم انتقامًا هائلًا، ترتعد له الفرائص.

ولم يكن يخطر له في بال أن هذا الفقير الهندي والسير جورج واحد، بل كان يعتقد أنه رجل أثيم سافل، وأن السير أفندال قد استخدمه لأغراضه الدنيئة.

وما زال يراقب الاثنين مراقبة اليقظ، حتى رأى السير أفندال يسير ليلة لموافاة الهندي فتبعه حتى رآه دخل إلى الغابة واختلى فيها بالفقير الهندي الذي كان ينتظر بين الأشجار.

وكان الظلام كثيفًا فاختبأ توما بين الأدغال وراء الشجرة التي كانا جالسين عندها وسمع حديث هذين الأثيمين.

وبعد انصرافهما، خرج توما من الأدغال، والعرق البارد ينصب من جبينه.

إذ علم الآن أن هذا الرجل المتنكر بأزياء الهنود لم يكن إلا والد السير أفندال؛ أي السير جورج باميلتون.

وقد علم توما أن السير جورج الذي أذاعت الجرائد خبر وفاته، منذ خمسة عشر عامًا، لا يزال في قيد الحياة.

وعلم أن السير أفندال وأباه قد اشتركا بالجريمة.

غير أن الذي بقي مشكلًا عليه من هذه الخفايا مما سمعه من حديثهما أن اللورد وليم لا يزال حيًّا.

وكان يقول في نفسه: «كيف أنه لم يمت؟ وإذا كان لم يمت، فكيف دفنوه؟ وإذا كانوا دفنوا سواه بدلًا منه، فمن هذا الشخص المدفون؟ وأين هو اللورد؟»

كل هذه الألغاز كانت تجول في ضميره فلا يهتدي من حلها إلى مراد، ولا يزيده إشكالها إلا حقدًا على هذين الأثيمين.

ففي اليوم الذي تزوج فيه السير أفندال مس إينا، اعتزل توما وامرأته بيتزي خدمة القصر، وسافرا في رائعة النهار، إلى المحطة التي تسير منها القطارات إلى لندرا.

ورآهما الخدم وصلا إلى المحطة بأمتعتهما، ووثق السير أفندال كل الوثوق من سفرهما.

غير أن توما سافر بالقطار إلى أول محطة فنزل فيها وترك امرأته تواصل السير إلى لندرا.

واختبأ في تلك المحطة إلى الليل، ثم عاد إلى قرية باميلتون دون أن يعلم بعودته أحد.

وما زال يراقب السير جورج حتى رآه ليلة دخل إلى حديقة القصر.

فاقتفى أثره على مسافة بعيدة فرآه جلس عند جزع الشجرة التي كان يتسلقها إلى غرفة ولده واضطجع فوق العشب.

وكانت الأنوار لا تزال تتألق في القصر، وكان السير جورج ينظر إليها ويتوقع انطفاءها بفارغ الصبر.

وفيما هو على ذلك رأى رجلًا وثب إليه وثبة النمر.

وكان هذا الرجل توما.

فإنه انقض عليه وقبض على عنقه وكان مشهرًا خنجرًا، في حين أن السير جورج لم يكن لديه سلاح.

فذُعِرَ السير جورج ذُعْرًا قويًّا وحاول أن يصيح مستنجدًا. غير أن توما ضغط على عنقه حتى كاد يخنقه، وقال له: إذا فُهْتَ بكلمة أغمدت هذا الخنجر في قلبك.

فخاف السير جورج إنفاذ وعيده، وقال له بصوت منخفض: «ماذا تريد مني؟»

– أن أقول لك إني أعرف كل شيء؛ فما أنت نظام وما أنت من فقراء الهنود، بل أنت السير جورج باميلتون.

فأنَّ السير جورج أنين الموجع، وقال: «أعرفتني؟»

– نعم، وعرفت أنك قتلت اللورد وليم.

– كلا.

– أيها الشقي أتجسر على إنكار الجريمة؟!

– إني لا أنكر فقد قلت الحقيقة، ولم أقتل اللورد وليم.

– ولكنك أنت الذي جئت بالحية الزرقاء؟

– نعم.

– وأنت الذي وضعتها في فراش اللورد؟

– هو ذاك.

– إذا كنت تقر هذا الإقرار، فكيف تجسر بعد ذلك على إنكار الجريمة؟

– قلت لك إني لم أقتل اللورد وليم.

– وأنا أقول لك إنك نذل خائن سفَّاك أثيم.

– إن اللورد وليم لم يمت، ولكنك متى عرفت ما صار إليه تتمنى لو كان في مصاف الأموات.

فوضع توما ركبته فوق صدر السير جورج ووضع رأس خنجره فوق عنقه، وقال له: أتبوح أيها الأثيم بكل شيء أم تؤثر الموت؟

– أتريد أن تعلم كل شيء؟

– دون شك.

– وإذا قلت لك ما جرى للورد وليم أتعفو عني؟

– كلا؛ إنك لا تستحق الحياة.

– إذًا، أخبرك بما صار إليه، ويكون هذا آخر انتقامي.

ثم ظهرت عليه علائم الانتقام الوحشي وخرج الزبد من شدقيه، فأخبر توما كيف أنه قتل أحد المجرمين المحكوم عليه بالنفي إلى أوستراليا ووضعه في فراش اللورد وليم.

ثم أتمَّ حكايته وضحك ضحك الأبالسة، وقال له: «لم يبقَ لك فائدة من علمك أن اللورد وليم في قيد الحياة؛ لأنك لن تلقاه.»

إن اللورد وليم سافر مع المجرمين باسم ذلك المجرم الذي قتلته ووضعته في فراشه، فحسب الناس أنه مات.

– ما اسم هذا المجرم؟

– لن تعرفه.

– قل ماذا يُدعى أو قتلتك؟

– كلا.

وكان السير جورج يحاول الإطالة في الحديث راجيًا أن يوافيه ولده السير أفندال وينقذه مما هو فيه.

غير أن توما أدرك قصده، فقال له: «قل أو أنت من الهالكين.»

– كلا، كلا، لا أريد.

– إذًا، مت أيها الفاجر الأثيم.

ثم طعنه بخنجره طعنة نجلاء فأغمده في قلبه، فمات هذا الشقي دون أن يسمع له صوت.

وعند ذلك نهض توما عنه وهو يقول في نفسه: «إني لا أدري أي اسم دُعِيَ به هذا اللورد المنكود.

ولكني لا أبالي، وإن الأرض واسعة، ولكن الله يعينني على إيجاده.»

ثم ترك الخنجر مغمدًا في قلب السير جورج، وأركن إلى الفرار.

٣٢

وسار توما منذ ذلك اليوم مستطلعًا باحثًا عن مولاه اللورد وليم بل ربيبه بل ابن أخته بالرضاع.

وإن الأرض متسعة فلا أصعب من البحث فيها عن رجل لا يعرف اسمه بل إن إيجاده يعد ضربًا من المحال.

غير أن توما كان يحب اللورد وليم حب عبادة، فجعل يبحث عنه غير مكترث لهذه الصعاب.

وكان أول ما بدأ به أنه سافر إلى امرأته في لندرا، فأخبرها بما علمه من السير جورج.

وكانت امرأته بيتزي ذكية الفؤاد بالغة الإخلاص، فأصغت إلى كلامه بملء الاهتمام، حتى إذا أتمَّ حكايته، قالت له: «إنه يجب قبل كل شيء أن تعرف أمرين.»

– ما هما؟

– أولًا معرفة اسم القائد الذي يقود المجرمين.

– والثاني؟

– من أي مدينة إيكوسية جاءوا بذلك المجرم الذي دُفن الآن في تربة أسرة باميلتون بدلًا من اللورد وليم؟

– لقد أصبت وسأسلك هذا السبيل.

وكان توما يعرف كثيرين من لندرا، وله صحبة مع بوليس سري شهير كان رئيس بوليس لندرا يعهد إليه بأعظم المهمات الخطيرة.

فذهب إليه وباح له بسر اللورد وليم.

وكان توما يعلم أن البوليس الإنكليزي لا يخدم مثل هذه الخدمات مجانًا، فنفحه ثلاثمائة جنيه.

أما البوليس فإنه قبض المال شاكرًا وسأله أن يمهله ثمانية أيام.

وبعد ثمانية أيام، أرسل هذا البوليس الحاذق إلى توما، هذه المذكرة، وهي:

إن ضابطًا يقود المجرمين إلى منفاهم مر بهم، منذ سبعة أشهر، بقرية باميلتون.

وهو يدعى برسي، وقد ذهب بهم إلى ليفربول. والمرجح أنه سافر معهم.

فسار توما لفوره بالسكة الحديدية إلى ليفربول.

وهناك بحث في سجلات البحرية فوجد حقيقة اسم برسي على ما وصفه له البوليس السري.

ثم علم من ذلك السجل، أن برسي قد سافر مع المجرمين المنفيين إلى زيلندا الجديدة.

فتردد توما في أمره بين أن يسافر في الحال إلى زيلندا وبين أن يبحث قبلًا عن اسم المجرم الذي دُعِيَ به اللورد وليم.

إلى أن استقر رأيه على ضرورة معرفة ذلك الاسم فسار إلى إيكوسيا.

وكان أول مسيره إلى ومبورج ثم إلى غلاسكو فكان يستقصي في طريقه ويبحث أدق الأبحاث.

إلى أن وصل إلى تلك المدينة الصغيرة التي تسمى بيرت واختلط مع أهلها وباحثهم عن الجرائم، فقصوا عليه هذه الحكاية الغريبة وهي:

إن رجلًا يُدعى ولتر بريس حُكِمَ عليه بالنفي خمسة أعوام لكثرة سرقاته.

وقد كان مسجونًا في سجن بيرت وهو على أتمِّ ما يكون من العافية.

وبينما هو نائم في سجنه استيقظ مرعوبًا، وجعل يصيح صياحًا هائلًا.

فأسرع السجان إليه فلقيه قد جُنَّ، وأن وجهه قد تورم واسود.

فلما سمع توما هذه الحكاية رأى أن تورم هذا المجرم واسوداد بشرته ينطبق كل الانطباق على ما كان عليه اللورد بعد أن لدغته الأفعى.

وخَطَر له أنه نفس المجرم الذي دُفِنَ باسم اللورد وليم، ولكنه أراد أن يستوثق فسأل من كان يحدثه عن مصير هذا الرجل.

فقال له: «إنه نقل إلى المستشفى، وبقي فيه حتى مرت قافلة المجرمين، فأخذوه بالرغم من علته واستفحال دائه.»

فسأل عن تاريخ هذه الحادثة فعلم أن القافلة سافرت من بيرت إلى قرية باميلتون قبل أن يذاع موت اللورد وليم بخمسة أيام.

وهنا أيقن توما أن اللورد وليم يُدعى ولتر بريس.

ولكنه بقي عليه أن يجد ولتر بريس؛ فلم يرَ بدًّا من العودة إلى لندرا.

ولم يكن توما غنيًّا؛ إذ لم يكن لديه غير بضع مئات من الجنيهات كان اقتصدها طيلة خدمته في قصر باميلتون من رواتبه.

فلما أخبر امرأته بعزمه على السفر إلى زيلندا الجديدة، للبحث عن مولاه اللورد المنكود قالت له: «خذ كل ما لدينا من المال، فإني أشتغل وأكفي نفسي، ولا تُبقِ لي شيئًا؛ فإني أشتغل وأعيش، وأنت أحوج مني إلى المال في اغترابك.»

وبعد ذلك بثمانية أيام سافر توما إلى زيلندا الجديدة.

وكان جميع ما أخذ معه من المال ألفًا ومائتي جنيه، جعلها أوراقًا مالية ووضعها في منطقة من جلد، فتمنطق بها حذرًا عليها من السرقة أو الضياع.

وكان قد سافر في سفينة شراعية، فوافق الهواء سير السفينة في الشهر الأول من سفرها، واجتازت الجهة الغربية من أميركا، ودخلت في الأوقيانوس الباسيفيكي.

ولكنها صدمت صخرًا بعد ذلك بأسبوع في ليلة مظلمة فغرقت.

وكان الربان والبحارة بذلوا مجهودهم في سبيل إنقاذها فلم يفلحوا، فلما قنط الربان من إنقاذها صرف همه إلى إنقاذ المسافرين فأنزل القوارب إلى البحر وازدحم فيها الركاب والنوتية بعضهم فوق بعض.

وقد لقي توما في هذه الرحلة أخطارًا هائلة.

وإنه أقام في ذلك القارب ثمانية عشر يومًا تائهًا في البحر مع رفاقه لا يدرون أين يسيرون.

ثم نفد الزاد من عندهم وقاسوا آلامًا هائلة من الجوع.

على أنهم رأوا البر بعد اليوم العشرين وبعد أن كاد يفتك بهم الجوع فصاحوا جميعهم صياح الفرح والاستبشار.

وقد حسب أولئك المنكودون أنهم نجوا، غير أنهم وقعوا في بلاء لا يذكر معه بلاء الغرق والجوع.

ذلك أن هذا البر الذي رأوه، وحسبوا أن النجاة فيه، إنما كان جزيرة يسكنها المتوحشون من أكلة البشر، ووجدوا أولئك المنكودين طعامًا مريًّا!

غير أن توما كان أسعدهم حظًا فإنه كان هزيل الجسم فرأى أولئك المتوحشون أن يصبروا عليه إلى أن يسمن فيأكلوه خلافًا لرفاقه؛ فإنهم لم يبقوا على أحد منهم وأكلوهم أكل الخرفان.

وقد أقام في تلك الجزيرة المتوحشة الهائلة خمسة أعوام، ينتظر أهلها أن يسمن فيأكلوه، وهو لا يزيد إلا نحولًا كل يوم أملًا أن تمر سفينة بهذه الجزيرة فيفر عليها.

إلى أن اتفق يومًا مرور سفينة إنكليزية بمياه تلك الجزيرة فأسرع إليها أولئك المتوحشون لبيع أثمارهم حسب عادتهم.

وهناك أخبروا بحارتها أن لديهم رجلًا من البيض أمثالهم.

فأشفق الربان عليه، لما كان يعلم من عادات أولئك الهمج بأكل لحوم البشر. فأرسل بعض رجاله لإنقاذه فأنقذوه، وجاءوا به إلى تلك السفينة.

وكانت السفينة مسافرة إلى زيلندا الجديدة. فكان حظ توما مزدوجًا بنجاته من أنياب المتوحشين وباتفاق سفر السفينة إلى زيلندا حيث كان يرجو أن يلاقي اللورد وليم.

وكان المتوحشون قد تركوا له أمواله لعدم اهتدائهم إليها في منطقته فتشجع لهذا الاتفاق وشكر الله لسلامته وسلامة أمواله وعد ذلك فألا حسنًا فاستبشر بلقاء مولاه.

وبعد ذلك بشهر وصلت السفينة إلى زيلندا، وكان توما قد أصبح لضعفه مثل الخيال.

وكان أول ما فعله أنه كتب لامرأته يطمئنها عنه، ثم أخذ يبحث عن اللورد وليم بل عن ولتر بريس الذي سموه باسمه.

وطال بحثه عدة أيام وهو لا يظفر بشيء من مراده إلى أن علم بعد البحث الطويل أن نحو مائة من المجرمين المنفيين سافروا إلى أوستراليا ولكنه لم يعلم إذا كان ولتر بريس بينهم.

غير أنه لا بد له من السفر، فسافر في اليوم التالي إلى ملبورن عاصمة أوستراليا بل إحدى عاصمتيها.

وهناك بدأ أبحاثه، فكان يتردد على الحانات، ويسأل كل من يجده فيها من البحارة، فلم يجد بينهم من يخبره عن ولتر بريس.

غير أنه لم يقنط بعد هذا الفشل، بل برح العاصمة الأولى إلى العاصمة الثانية، وهي سدني.

فنزل في فندق حقير من فنادقها التماسًا للاقتصاد في النفقة، وهناك عرف رجلًا ألمانيًّا يُدعى فونتر هوسر.

وقد كان هذا الرجل فقيرًا معدمًا، فسأل توما أن يساعده بشيء من المال، ثم قصَّ عليه حكايته، وهي أنه قُضِيَ عليه ظلمًا بالنفي إلى زيلندا الجديدة منذ ثمانية أعوام، وأنه يقاسي أشد العناء لما يلقاه من العسر، وضيق سبل الرزق.

فأعطاه توما شيئًا من النفقة، وقال له: «أكان لك اختلاط بالمنفيين من الإنكليز؟»

– نعم، ولي صحبة مع أكثرهم.

– أعرفت رجلًا بينهم يُدعى ولتر بريس؟

– نعم، ويا طالما ضحكنا منه! فقد كنا نلقبه بالميلورد.

فصاح توما صيحة سرور وأخذ يد فونتر بين يديه، وقال بلهف: «بالله امضِ في حديثك، وقل لي كل ما تعلمه عن هذا الرجل.»

٣٣

فنظر إليه فونتر نظرة المنذهل، وقال: نعم، عرفت رجلًا يُدعى بهذا الاسم، بل إنهم دعوه به.

– إنه كان ينكره كل الإنكار، أليس كذلك؟

– نعم، ولكن الغريب في أمره أنه كان يدَّعي بالنسب الرفيع والثروة الطائلة، بل كان يقول إنه لورد من أعضاء المجلس الأعلى، ولهذا كنا نلقبه بميلورد مجازاة له على ما علمناه بأنه من المجرمين.

– إنكم لا تعلمون شيئًا، وحاشاه أن يكون من أهل الإثم.

ونظر فونتر نظرة السائل المستغرب.

أما توما فإنه مضى في حديثه، فقال: «إن هذا الذي كنتم تدعونه ولتر بريس هو لورد حقيقة، فقل لي الآن أين اجتمعت به وكيف عرفته.»

– إنهم استعبدونا سوية مدة أربعة أعوام.

– أين كان ذلك؟

– في زيلندا الجديدة كما قلت لك.

– وبعد ذلك؟

– افترقنا فلم أعد أراه.

– كيف افترقتم؟ ولماذا؟

– أما أنا فلأن مدة عقابي قد انتهت، فأطلقوا سراحي وخيروني بين أن أعود إلى أوروبا وبين أن أحضر إلى هنا.

– وولتر بريس؟

– إن مدى عقابه ينبغي أن تكون قد انتهت أيضًا.

– إذًا، إنه عاد إلى أوروبا؟

– لا أظن.

فاضطرب توما، وقال: «كيف ذلك؟»

– إني لا أضمن حقائق التعليمات التي سألقيها إليك، ومع ذلك فأَصْغِ إلى ما سأرويه …

فجعل قلب توما يخفق خفوق أجنحة الطائر، وقال: «تكلم …»

– إن المجرمين الذين يُحكم عليهم بالنفي إلى هذه البلاد لا يعود منهم عادة إلى أوروبا غير نفر قليل، وأما معظمهم فإنهم يؤثرون البقاء في أستراليا.

وهم يشتغلون أشغالًا مختلفة فيها بعضم يرعى المواشي، وبعضم يشتغل في المناجم، وقد اتفق لكثير منهم أنهم نالوا ثروة عظيمة من هذه البلاد.

أما أنا فقد كنت منذ ستة أشهر في ملبورن وكان اليوم خاصًّا ببيع البهائم في سوقها الخاص.

فكانت الثيران والخرفان والماعز ترد ألوفًا إلى السوق، ومعها أصحابها وكثير من الرعاة.

وأذكر أني رأيت في ذلك اليوم رجلًا يشبه ولتر بريس في الغابة مع الرعاة، فأسرعت إليه كي أحدثه، ولكن الازدحام كان شديدًا فلم أعثر به، ولم أتمكن بعد ذلك من لقياه.

فقال له توما: هب أن هذا الرجل الذي رأيته كان ولتر بريس بعينه، فماذا تستنتج من ذلك؟

– أستنتج أنه اسْتُخْدِمَ راعيًا عند أحد أصحاب المواشي.

– في أوستراليا؟

– دون شك.

– ولكن، أوستراليا عظيمة تشبه القارة باتساعها، ففي أي قسم منها تحسب أن يكون؟

– هو ذاك، غير أن ملبورن لا ترد إليه الماشية إلا من الأقاليم الغربية.

– حسنًا فسأبحث عنه في هذه الأقاليم، فإن قلبي يحدثني أني سأجده.

– ألعلَّه كان صديقك؟

– كلا، بل كان سيدي ومولاي.

– كيف ذلك؟ أكان هذا الرجل حقيقة من الأسياد؟!

– لقد قلت إنه لورد نبيل.

– أيمكن أن يُحكم على اللوردية هذه الأحكام، وأن تبدل أسماؤهم هذا التبديل؟

– إن لذلك حديثًا طويلًا لا يمكن أن أرويه لك اليوم.

– متى تقصه عليَّ؟

– بعد أن أقترح عليك اقتراحًا وأرى رأيك فيه.

– قل ما تريد؟

– إنك فقير معدم، أليس كذلك؟

– بل إني أكاد أموت من الجوع.

– ولذلك أظن أنك لا تأنف من كسب عشرة جنيهات في الشهر.

فاتقدت عينا فونتر ببارق من السرور، وقال: عشرة جنيهات؟!

– نعم.

– وماذا يجب أن أصنع لأكسبها؟

– تصحبني أين سرت وتشترك معي بالتفتيش عن ولتر بريس، أي لورد وليم.

– إني أرضى بذلك كل الرضى؛ فإني أحببت هذا الرجل لصفاء قلبه، وفوق ذلك فإني محتاج إلى هذا الكسب.

– إني لا أقتصر على منحك هذا الراتب؛ فإن وجدنا اللورد كان لك خير مكافأة تعيش بها سعيدًا بقية أيامك.

– إن كان ذلك فإني أسير معك حيث تشاء.

وفي اليوم التالي سار توما وفونتر إلى سيدني ليذهب منها إلى ملبورن.

وكان موعد سوق الماشية قريبًا، فقررا أن ينتظراه على رجاء أن يظفرا باللورد بين الرعاة. غير أن توما لم يكتفِ بالانتظار، بل جعل يتفقد جميع الفنادق والحانات ويسير في جميع الشوارع والأزقة باحثًا عن ولتر بريس فلا يعثر به ولا بمن وقف على أثره.

وكان الاثنان يبحثان عنه وكل منهما قد سار في قسم من المدينة، وكان فونتر أسعد حظًّا من توما في أبحاثه؛ وذلك أنه رأى راعيًا كان يعرف ولتر بريس.

فأسرع إليه وسأله عنه؛ فقال له: إن السعادة قد تفاجئ المرء من حيث لا يدري.

– ماذا تعني؟

– أعني أن ولتر بريس أحد هؤلاء السعداء.

وكان توما واقفًا مع فونتر يسمع الحديث، فكان قلبه يخفق خفوقًا عظيمًا، ولكنه لم يفه بحرف، أما فونتر فإنه قال للراعي: إذًا قد أصبح ولتر بريس من السعداء.

– بل من أسعدهم.

– وأين هو الآن؟

– على بعد مرحلة من هذا المكان في الشمال الغربي.

– أرأيته؟

– منذ ستة أشهر …

– ماذا يعمل؟

– إنه عندما عاد من زيلندا الجديدة، كان راعيًا مثلي، وأما الآن فهو من أعظم تجار المواشي.

– كيف حصلت له هذه الثروة؟

– إن ابنة تاجر المواشي الذي كان راعيًا عنده أحبته فتزوجها وهي وحيدة، فلم يمضِ بضعة أشهر على هذا الزواج حتى توفي أبوها فورث ولتر بريس ثروته ومواشيه.

– أتستطيع أن ترشدنا إلى المكان الذي يقيم فيه ولتر بريس بالتدقيق؟

– بل أفعل خيرًا من ذلك؛ فإنه قريب منا وسأرافقك إليه.

– متى؟

– متى شئت، فإني الآن قد بعت جميع المواشي التي أتيت بها من قريتي في السوق، ولم يبقَ لي ما أعمله في هذه المدينة.

– إذًا نسافر غدًا؟

– كما تريد.

أما توما فقد كان سروره لا يوصف؛ فشكر الراعي شكرًا عظيمًا، وافترق عنه على أمل اللقاء غدًا.

وفي اليوم التالي التقى فرنتر وتوما بالراعي وسافروا.

وقد كان سفرهما شديد البطء لوعورة المسالك في تلك البلاد، ولأن المركبات تجرها الثيران.

وكانت المسافة بين المدينة وبين مركز اللورد وليم مائة مرحلة ينبغي لاجتيازها ثمانية أيام؛ فوصلوا في اليوم السابع — بعد ذاك السير الشاق — إلى مركز الراعي، وبات عنده تلك الليلة واستراحا من عناء السفر.

وفي صباح اليوم التالي سافروا جميعهم عند الفجر.

وبعد أن ساروا أربع ساعات قال لهم الراعي: إن المسافة لا تزال شاسعة بيننا وبين منزل ولتر بريس، ولكننا نمشي الآن في مراعي مواشيه، فإن جميع هذه الأراضي المتسعة له.

فأجفل توما لهذا الخبر، وعجب؛ كيف أنه لم يعد إلى إنكلترا ويعاقب الأثمة، لقد كان يحسب في البدء أن الفقر يمنعه من السفر أو الحكم عليه بالنفي.

أما وقد انتهت مدة عقابه ولم يعد يعوزه المال؛ فلا بد أن يكون هناك مانع عظيم يحول دون سفره إلى مسقط رأسه.

ومن ذلك الحين زاد اضطرابه وهواجسه وطلب إلى رفيقيه أن يسرعا في المسير، فقد نفدت جعبة صبره وأكبر هذه المعميات.

وما زالوا سائرين حتى توسطت الشمس في قبة الفلك، فرأى توما منزلًا أبيض جميلًا قائمًا بين غابة كثيفة من الأشجار الباسقة.

فقال له الراعي: إن هذا المنزل منزل ولتر بريس.

فسالت دموع توما من الحنو، وقال في نفسه: ترى أيعود معي إلى أوروبا؟

ثم واصل السير إلى ذلك المنزل ورجلاه تضطربان من فرط تأثيره وهو يبكي بكاء الأطفال، فإنه قد ربى اللورد وليم حتى بات لديه كأبنائه.

وزاده ولعًا به وإشفاقًا عليه نفوذ هذه الجريمة فيه، وإرساله إلى أقاصي الأرض في عداد المجرمين وهو أطهر الناس قلبًا وأسلمهم نية، واشتغاله في حرث الأرض ورعي المواشي، وهو ربيب النعمة وابن الرخاء، وسليل النبلاء، بل هو الذي كان إن لمس الحرير يدمي بنانه.

فبات يحمل المعول في تلك اليد بعد أن كان يحمل بها عصا اللوردية وهي أولى بحمل الصولجان.

٣٤

كان هذا المنزل الأبيض جميل الرونق لطيف المنظر، يشبه وهو بين الغابات حمامة بيضاء مستترة بين الأوراق.

وقد وجدوا عند مدخله إسطبلات وزرائب محاطة جميعها بسور ناصع البياض.

أما هذا المنزل؛ فقد كان في وسط حديقة غناء باسقة الأشجار وهي محيطة به كالنطاق.

ودخل توما ورفيقاه إلى الفناء الخارجي، واستقبلهم خادم زنجي يدعى بافان.

وكان الراعي يعرفه معرفة جيدة فقال له بعد التحية والسلام: إن هذين الرجلين من أصدقائي، وقد أتينا لزيارة المستر بريس.

فرحب الزنجي بهم وقال لهم: إن المستر بريس ليس في منزله الآن.

فاصفر وجه توما وخشي أن يكون مسافرًا.

وقال له الراعي: أين هو ألعله مسافر؟

– كلا، ولكنه ذهب لتفقد بعض قطعانه في مسافة لا تبعد أكثر من ميل.

– ألعله يعود قريبًا؟

– دون شك.

وسأله توما: أيؤذن لنا بانتظاره في هذا الفناء؟

– بل في المنزل؛ فإن امرأته فيه فهلموا واتبعوني.

وتردد توما في البدء، ولكنه تبعه بعد إلحاحه.

وكان باب المنزل الكبير مفتوحًا، فرأى توما حوالي هذا الباب حديقة خاصة بالزهر تتصل الأزهار منها إلى سلم المنزل وتتصاعد عليه حتى تبلغ غرفه.

ولما صعدوا السلم فتح الباب وظهرت منه امرأة صبية تحمل على صدرها طفلًا صغيرًا كانت ترضعه، ووراءها فتاة في الرابعة من عمرها، نظرت إلى الزائرين نظرة المنذهل إذ لم تكن رأتهم قبل هذه المرة.

أما المرأة فكانت زوجة ولتر بريس أو اللورد وليم.

وانحنى الراعي أمامها وحياها بكل احترام.

وقالت له: ما جاء بك يا طوبيا؟ ألعلك تريد مقابلة المستر ولتر؟

وكانت تكلمه وتنظر إلى توما وفونتر، كأنها تسأله بعينيها عن هذين الرجلين.

وأشار الراعي إلى توما وقال لها: هو ذا يا سيدتي رجل نبيل عاشر زوجك منذ عهد بعيد وهو من خير أصدقائه.

فارتعشت المرأة وقالت له: أين عرفه؟

فأجابها توما: إني عرفته في إنكلترا يا سيدتي.

وزاد اضطرب المرأة وقالت: ماذا؟ أفي إنكلترا؟

– نعم يا سيدتي.

– أفي قرية برت؟

– كلا، بل في باميلتون.

وكان توما يكلمها بصوت يتهدج.

وسألته: من أنت يا سيدي؟

– إني أدعى توما.

وانذهلت المرأة انذهالًا شديدًا وقالت: أنت تدعى توما؟!

– نعم يا سيدتي، ولم هذا الانذهال؟ إني أدعى توما، وقد رأيت أن اسمي قد أثر عليك، فهل زوجك يحدثك عني؟!

– بل يحدثني كل يوم.

وفيما هي تكلمه سمعوا وقع حوافر جواد في الفناء الخارجي، فقالت: هو ذا زوجي قد حضر.

وأسرع توما وقد زاد به الاضطراب حتى وهت رجلاه وأوشك أن يقع؛ فجعل الراعي يعينه على المشي.

أما ولتر بريس فقد كان شابًّا يبلغ السابعة والعشرين من العمر، وهو أبيض الوجه غير أن الشمس لوحته فبات أميل إلى السمرة.

ولم يكن باقيًا في وجهه شيء من التشويه وتلك الندوب التي أصيب بها بعد أن لسعته الحية الزرقاء.

ولما رأى توما مقبلًا لاستقباله، والحنو يسيل من عينيه، نظر إليه نظرة إنكار، ولم يعرفه في البدء، فإن شعوره قد ابيضت، واخترم الهم جسمه، وغير هيأته.

ثم ترجل عن جواده وقال لامرأته: من هذا الرجل؟

وبكى توما قائلًا له: ألم تعرفني إلى الآن يا سيدي؟

وعرفه من صوته وقال له بلهجة المضطرب: أنت توما؟

– نعم يا سيدي اللورد، وقد صدق حديث قلبي لأني كنت أعتقد أني لا بد لي أن أجدك.

وعانقه اللورد وليم عناقًا طويلًا وكلاهما يذرف الدموع.

ثم نظر اللورد إلى فرنتر والراعي وابتسم ابتسامة حزن وقال لهما: ألم أقل لكما إني من اللوردية فهل صدقتم ورأيتم بأعينكم؟

ثم قال لامرأته: اذهبي أيتها العزيزة بهذين الضيفين إلى قاعة الطعام، أما أنا فإني أحب الاختلاء بتوما وسأوافيكم إليها.

وذهبوا إلى قاعة الطعام وتأبط اللورد ذراع خادمه الشيخ الأمين توما، وسار به إلى غرفته وكلاهما يتعانقان ويضطربان ويبكيان.

ولما اختليا عانقه اللورد أيضًا وقال له: إذًا أنت تبحث عني؟

– إني برحت إنكلترا باحثًا عنك منذ ستة أعوام، ولولا تلك القبائل المتوحشة التي أوقعني نكد الطالع بأيديها للقيتك منذ عهد طويل.

– أية قبائل تعني؟

– أواه يا سيدي اللورد إن مصائبي وما لقيته من العذاب لا يذكر في جنب مصائبك وعذابك.

– ولكني قبل أن أخبرك بأمري أحب أن أعرف أمرك.

وكان يكلمه بلهجة السيادة؛ فلم يسع توما إلا الامتثال.

ثم قص عليه جميع ما اتفق له، منذ مبارحته إنكلترا باحثًا عنه إلى أن لقيه.

وقال له اللورد بعد أن أتم حكايته: لا يزال يشكل علي يا توما أمر لم أجد سبيلًا لفهمه.

– ما هو يا سيدي اللورد؟

– إني فقدت الذاكرة عامًا كاملًا وقد قالوا لي إني كنت من المجانين.

وكان آخر ما أذكره من أمري أني صعدت إلى سريري بغية الرقاد في قصر باميلتون الجديد، ولم أكد أستقر فيه حتى صحت صيحة ألم شديد وشعرت بجسم بارد يدب على وجهي.

– وبعد ذلك؟

– لم أتذكر شيئًا من حياتي الماضية.

على أني نهضت في صباح يوم من رقادي فشعرت أني صحوت بعد حلم طويل وقد وجدت سلسلة حديدية في وسطي شأن المجرمين، ورأيت نفسي أشتغل في منجم من مناجم الفضة.

وكان يحيط بي رفاق مقيدون مثلي ويشتغلون شغلي فدهشت لأمري، وجعلت أناديك باسمك وأنا أحسب نفسي حالمًا وأني لا أزال في قصري.

أما رفاقي فإنهم جعلوا يضحكون ويهزءون بي.

فأكبرت هزأهم بي وقلت لهم: ويحكم ألا تعلمون من أنا؟

فأجابني أحدهم: كيف لا نعلم فإنك ولتر بريس.

– إنكم منخدعون فإني أدعى اللورد باميلتون.

فأضحكهم قولي ضحكًا شديدًا.

وكان مراقب الأعمال يسمع هذا الحديث، فدنا مني، وقال: ما هذه الأقوال يا ولتر؟ ألعلك عدت إلى الجنون؟

– ومتى كنت مجنونًا أيها الأبله؟

فاستعظم شتمي إياه بعد توقفي عن العمل وجلدني بسوطه ست جلدات.

وبقيت ثمانية أيام في أسوأ حال؛ أستغيث فلا أرحم، وأسأل عدالة؛ فلا أجاب، وأحدث من حولي بحقيقة أمري فلا ألقى غير الهزء والسخرية، فإذا قلت لهم: إني لورد، قالوا: ما أنت إلا ولتر الإيكوسي، وإنه محكوم عليك في قرية بيرت بالنفي خمسة أعوام.

وهنا توقف اللورد هنيهة عن الحديث وقد راعه هذا التذكار.

أما توما فإنه كان يبكي بكاء الأطفال.

٣٥

ثم عاد اللورد إلى الحديث؛ فقال: على أني كنت واثقًا من نفسي أني في تمام العقل وأني أنا هو وليم باميلتون نفسه وأني في يقظة ولست من الحالمين.

وهنا عادت إلي تذكارات حياتي السابقة؛ فذكرت أيام حداثتي وأيام صباي ولم يفتني حادثة.

وكنت أستدرجها في ذاكرتي حادثة حادثة حتى إذا انتهيت بها إلى حادثة شعرت أن قلبي قد أخفق خفوقًا شديدًا حتى أخشى أن ينفجر صدري وتنطق شفتاي هذا الاسم (مس إينا).

وبعد أن أفرغت وسعي في إقناع رفاقي — على أني كما وصفت لهم دون أن أفلح — تمكنت بعد الجهد الشديد من الوصول إلى الحاكم العسكري، الذي كان يحكم البلد والمنفيين إليها وقد توسلت إليه أن يأذن لي بشرح حالي.

وأذن لي الحاكم بعد إشفاقه علي لفرط توسلي، وأخبرته أني لا أدعى ولتر بريس، بل إني اللورد وليم باميلتون.

أما الحاكم فإنه أصغى ببرود ثم طلب سجل المنفيين؛ فقرأ ما كتب فيه، وقال لي: إنك تدعى ولتر بريس، وإنك كنت تبلغ العشرين من العمر حين حكم عليك مجلس بيرت بالنفي.

وقد أصبت حين كنت في سجن تلك المدينة بمرض غريب شوه وجهك تشويهًا كثيرًا حتى لم تعد تعرف.

وبعد ذلك أصبت بالجنون، واضطروا أن يحملوك على بغل إلى لفربول؛ لأنك لم تكن تستطيع المشي مع المجرمين.

ولما نقلوك من لفربول إلى السفينة كنت لا تزال مشوهًا معتوهًا.

ولم تذهب عنك آثار التشويه إلا بعد وصولك إلى هنا، وقد أصبحت هادئًا ساكنًا، ورجونا أن يكون ذلك مقدمة لشفائك من الجنون.

فلما سمعت هذه الأقوال من الحاكم كدت أجن حقيقة لغرابتها، ولكني كظمت اضطرابي ورويت للحاكم جميع أمري بلهجة يتبين منها الصدق الأكيد، فقصصت عليه جميع علائقي السابقة مع أصحابي في لندرا، ومعظمهم من مشاهيرها.

فوقع موقعًا حسنًا من فؤاد الحاكم، وقد داخله الريب في حكايتي الغريبة؛ فقال لي: إني سأكتب إلى إنكلترا وأسأل عنك، وسنرى في أمرك بعد ورود التفاصيل.

فخرجت من حضرته شاكرًا ممتنًّا وقد تمكن الرجاء من قلبي، فإن قلبي كان يحدثني أنك تبحث عني، وكنت أقول في نفسي: إن أخي لا بد أن يكون تأثيره عظيمًا لاحتجابي.

فصبرت عامًا كاملًا وأنا أتقلب فيه بين عوامل اليأس والرجاء، إذ كنت أعلل النفس بورود التعليمات عني من لندرا فأطمئن، ثم تتوالى الأيام والشهور دون ورودها فأعود إلى القنوط.

وبعد انقضاء العام دعاني الحاكم العسكري إليه.

ولما مثلت بين يديه بادرني بقوله: أشفيت أم لا تزال على ما كنت فيه من الهوس؟

ولم يكن وقع الصواعق أشد علي من وقع هذه الكلمات؛ فقلت له: ماذا حدث يا سيدي؟

– حدث أني كتبت إلى لندرا سائلًا عنك.

– وهل ورد جواب؟

– نعم … وهذا هو!

ثم دفع إلي كتابًا موقعًا عليه باسم اللورد أفندال باميلتون.

ففحصت التوقيع وأيقنت أنه خط أخي، وقرأت ما يأتي:

لحضرة حاكم زيلندا الجديدة …

لقد كان لي حقيقة أخ يدعى اللورد وليم وهو أخي البكر.

غير أنه توفي منذ عامين في قصره في قرية باميلتون …

وقد توفي مسمومًا؛ فإن حية لسعته في فراشه.

وإنك تجد — في طي هذا الكتاب — سجل وفاته مصدقًا عليه من محافظ المدينة، التابعة لها القرية التي توفي فيها، وهو واضح كل الإيضاح ولا سبيل بعده للريب …

وقد أشار علي، عمي السير أرشيبالد، أن أرفع قضية إلى نظارة الحقانية، سائلًا فيها معاقبة ذلك المزور الخائن الذي تجاسر على انتحال اسم أخي التعيس.

اللورد أفندال باميلتون

ولما فرغت من تلاوة هذا الكتاب، بل هذه المعميات، نظر إلي الحاكم وقال لي بلهجة المتهكم: أي حضرة اللورد كيف رأيت؟

فأطرقت برأسي إلى الأرض ولم أجب بحرف؛ لأني فهمت عند ذلك كل شيء …

وقال له توما: ماذا فهمت يا سيدي؟

– فهمت أن أخي قد سلبني لقبي وثروتي وخطيبتي …

غير أني لا أزال أفكر إلى الآن كيف تمكن من البلوغ إلى هذه الغاية دون أن أهتدي إلي حل هذه المشكلة العويصة.

ثم تنهد وقال: وإني أخشى أن لا أهتدي إلى حلها مدى العمر.

فقال له توما: بل أنا أكشفها لك.

– أنت تعرف هذا السر؟

– نعم …

ثم مسح توما دموعه وقال له: أتذكر ذلك الفقير الهندي الذي كان يدعى باسم نظام؟

– نعم …

– إذن فاعلم أنه كان شريك أخيك بالجريمة، بل إن فكره الجهنمي هو الذي دبر هذه المكيدة الهائلة.

– أية إساءة أسأت بها إلى هذا الشقي؟

فضحك توما ضحك المتألم وقال: أتعرف من هو هذا الرجل؟

– كلا.

– إنه عمك السير جورج باميلتون الذي خان أخاه النبيل ودنس أمك الطاهرة.

فاصفر وجه اللورد وليم، وأطرق برأسه مستحِيًا من هذه الجريمة كأنه هو الذي ارتكبها.

فقال له توما: وإن أخاك قد حذا حذو أبيه، والحية لا تلد إلا الحية كما يقال.

ثم قص عليه توما كل ما جرى مما عرفه القراء.

فقال له اللورد: لماذا لم تقل شيئًا لأخي عندما قتلت هذا الأثيم؟

– لأني كنت أحب أن أراك قبلًا.

– إذًا تزوج مس إينا؟

– إني غادرت القرية يوم زواجه.

وهنا قص عليه توما، جميع ما لقيه من الشقاء والأخطار، بين القبائل المتوحشة.

ولما أتم حديثه قال له اللورد: لقد تبين لي الآن أنه عندما كتب الحاكم إلى أخي يسأله عني كنت قد برحت إنكلترا.

– هو ذاك.

فصمت اللورد هنيهة ثم قال: إني منذ أبلغني الحاكم كتاب السير أفندال استسلمت إلى القضاء ولم أعد أكترث بشيء.

وقد استمر رفاقي المجرمون على اعتباري منهم، ورجعت عن اعتبار نفسي من اللوردية وقلت: ليفعل الله ما يشاء.

ثم توالت الأيام والسنون، إلى أن جاء يوم أبلغوني فيه أن مدة عقابي قد انتهت.

وقد دعاني الحاكم إليه، فدفع إلي شيئًا من المال جزاء أتعابي الشاقة في حفر المناجم خمسة أعوام، وقال لي: إنك أصبحت الآن حرًّا مطلق السراح، ولك الخيار بين أن تعود إلى إنكلترا، أو بين أن تبقى في زيلندا، وبين أن تذهب إلى أوستراليا فتشتغل فيها.

وكانت نفسي قد سئمت الوجود، وكرهت العودة إلى بلاد يفتك فيها الأخ بأخيه، وعولت على الذهاب إلى أوستراليا والارتزاق فيها.

فأرسلني الحاكم إلى ملبورن، فوصلت إليها في يوم كانوا يعرضون فيه الماشية للبيع.

ولقيني في تلك السوق رجل من تجار المواشي، وعرض علي أن أكون راعيًا عنده، فرضيت الاقتراح وذهبت معه إلى منزله.

أما هذا الرجل فقد كان والد لوسي زوجتي.

على أن ما لقيته من الشقاء في شغل المناجم بعشرة أولئك المجرمين الأدنياء أعوامًا لم يؤثر على أدب نفسي أقل تأثير، ولم تغير تلك العشرة السيئة شيئًا من فطرتي الغريزية.

وهنا حدث لي حادث غرام جدير أن يكون حكاية تكتب، فيتفكه بها الناس، غير أني لا أقصها عليك لطولها، وأكتفي بالقول أن تعاقب الأيام محا أثر مس إينا من قلبي، لا سيما بعد عرفاني أنها أصبحت زوجة أخي وحلت محلها لوسي.

– أكانت هي تحبك؟

– كما كنت أحبها، وقد مضى على ذلك عامان، كسبت فيها ثقة هذا التاجر، فخلا بي يومًا وقال لي: أرى أنك تحب ابنتي، وابنتي تحبك، ولا أنكر تباين الحالة بيني وبينك غير أني ميال إلى التساهل، لا سيما وقد حكيت لي حكايتك فصدقتك، فإذا شئت جعلتك زوجًا لابنتي.

وبعد شهرين عقد زواجنا، ثم توفي أبوها، فورثت امرأتي جميع أمواله، وأنا أعد نفسي الآن من السعداء.

فقال له توما: ولكنك لا تطيل إقامتك في هذه الديار بعد الآن؟

– بل أبقى.

– كيف ذلك؟ أرجعت عن المطالبة بحقوقك؟

– أية فائدة بقيت من ذلك؟ فإن الذي كان يدعى اللورد وليم بات يدعى ولتر بريس؟

– إن هذا محال، بل تعود إلى بلادك وتعود إليك ثروتك وألقابك.

– كلا، فإني هنا سعيد.

وعند ذلك دخلت امرأته ومعها ولداها، فأشار اللورد وليم إليهما، وقال لتوما: انظر إلى هذين الملاكين، فما يعوزني بعد من أسباب السعادة؟!

٣٦

وقد أقام توما عدة أشهر في منزل مولاه اللورد وليم، وهو يرجوه ويتوسل إليه كل يوم أن يذكر أنه يدعى اللورد وليم، وأن يطالب بحقه المسلوب، ويدخل دخول الرئيس إلى قصر أجداده.

غير أن اللورد وليم كان يأبى أن يعود إلى موطنه، وقد تنازل عن ثروته وألقابه، وعول على الإقامة في أوستراليا؛ لما كان يجد فيها بين امرأته وولديه من أسباب السعادة، وتوفر دواعي الهناء.

ثم إنه كان أكبر جريمة أخيه كل الإكبار، حتى إنه بات يحتقر تلك الثروة، وذلك الجاه اللذين أفسدا قلب أخيه، وحملاه على ارتكاب هذه الجريمة السافلة.

وكان إذا ألح عليه توما يقول له: إني لا أسافر إلى إنكلترا، ولا أدعك تذهب إليها، فاكتب إلى امرأتك كي تحضر إلينا فنعيش في هذه البلاد عيش الهناء والسلام.

غير أن توما لم يقنط ولم يكف عن محاولة إقناع مولاه، إلى أن ألح عليه توما وقال له: لا بد من عودتك إلى إنكلترا.

– أصغ إلي أيها الصديق.

– تكلم يا سيدي.

– لنفرض أني امتثلت لرأيك.

– أتعود إلى إنكلترا؟

– لنفرض أننا عدنا إلى إنكلترا وذهبنا إلى أخي.

– يجب أن يعرفك ويعترف بحقوقك.

– لقد أخطأت يا توما، فإنه لا يقتصر على عدم الاعتراف بحقوقي؛ بل إنه يشكوني ويتهمني بالتزوير.

– ولكننا نبرهن للقضاء عن الحقيقة فلا تخفى عليهم.

– كيف أستطيع إبداء هذا البرهان بعد أن ثبت في السجلات الرسمية أني أدعى ولتر بريس وأني مجرم محكوم عليه بالنفي.

فلم يحفل توما باعتراضه، وقال له: إنه إذا أبى السير أفندال إلا أن ينكرك فإن لدينا من لا يستطيع إنكارك.

– من هو؟

– مس إينا.

فمرت غمامة كثيفة في ذهن اللورد وليم، وقال: كلا، إن حب هذه المرأة قد انتزع من قلبي وأنا أحب امرأتي.

فتظاهر توما بالاقتناع، وكف عن البحث في هذا الشأن.

وفي اليوم التالي عاد إلى ما كان عليه فلم يفز بمراده.

وما زال على ذلك إلى أن حدثت حادثة أعانت توما على الفوز بما يسعى إليه.

وذلك أن الثروة في البلاد الأوسترالية تتكدس بسرعة ولكنها قد تذهب أيضًا كما أتت وتتبدد بنفس السرعة.

فإن معظم المهاجرين إلى تلك البلاد من الأفاقين والمجرمين الذين انتهت مدة عقوباتهم، فيشتغلون بملء الجد ويقدمون على طلب الثروة بهمة لا تعرف الملل.

وأكثرهم يبدءون برعي المواشي، ثم يصبحون باقتصادهم من تجارها وتأخذ ثروتهم بالازدياد.

على أن هذه الثروة تكون غالبًا معرضة لأشد الأخطار.

ذلك أن صاحب الماشية ينام ليلته غنيًّا، وهو يملك مائة ألف من الخرفان ترعى في مسافة عشرين مرحلة مربعة، في أية أرض اختارها، فامتلكها بحق وضع اليد.

ثم ينهض في اليوم التالي فقيرًا معدمًا لا يملك شروى نقير؛ كأنما تلك الثروة كانت أضغاث أحلام.

أما سبب هذا الانقلاب السريع فإنه يوجد في أوستراليا كثير من العبيد الذين يهربون من المستعمرات التي كانوا مستعبدين فيها؛ فيعيشون في أوستراليا من السرقة والنهب والحرائق.

وقد عظم شأن أولئك السود حتى إن الحكومة ألفت منهم جندًا سمته الجيش الأسود.

أما هؤلاء السود فإنهم كانوا يقصرون على سرقة ما يحتاجون إليه من المواشي للقيام بأودهم.

ولكنهم إذا وجدوا سبيلًا للشكوى من أحد التجار، عقدوا مجالسهم واتفقوا على نهب هذا الرجل والانتقام منه بتجريده من ثروته قوة واغتصابًا.

فيصبح هذا المسكين ويجد منزله مطوقًا محصورًا بجيش من أولئك المنتقمين، يعظم ويقل بنسبة عدد حراس هذا التاجر، فيهاجمونه من كل صوب ويسلبون مواشيه، فلا يسلم من شرهم إلا إذا أدركته النجدة قبل فوات الأوان.

ومن عاداتهم أنهم قد لا يفتكون بأصحاب المنزل، ولكنهم يحرقونه ويقتلعون الأشجار، ويسدون الينابيع، ويقتلون ما لا يستطيعون حمله من المواشي.

فيصبح المنكود لا يمتلك شروى نقير ويضطر أن يعود إلى جمع الثروة كما بدأ بها؛ أي إنه يعود إلى مصاف الرعاة.

وكان اللورد وليم مسالمًا لهذه الطوائف محبوبًا منهم، فإذا رأى بعضهم يرودون حول منزله أرسل إليهم جميع ما يحتاجون إليه من المأكل والمشرب بسخاء يحملهم على الشكر والإخلاص والامتنان.

فما زال آمنًا شرهم، وما زالوا راضين عنه، حتى حدث حادث غرام أفسد إخلاصهم ومحا أثر الامتنان من قلوبهم.

ذلك أن زعيمًا من زعماء هذه الطائفة يدعى كبليرين أحب جارية سوداء كانت تخدم في منزل اللورد.

وقد بلغ حبها من قلبه مبلغًا عظيمًا حتى إنه تجاسر على أن يسأل اللورد وليم الزواج بها.

فقال له ولتر بريس: اخطبها من نفسها فإذا رضيت بالزواج بك فلا أكون من المعارضين.

فذهب الأسود إليها وطلب أن تقترن به، فأبت وردته ردًّا قبيحًا كبر وقعه عليه.

فأقسم أن ينتقم منها ومن مولاها على السواء.

وبعد ذلك ببضعة أيام تسلق سور المنزل في ليلة حالكة الأديم، وولج إلى غرفة الفتاة التي يحبها.

غير أن الفتاة لم تحسن استقباله، بل استقبلته بالصياح وطردته أقبح طرد ففر هاربًا لا يلوي على شيء.

وقد اتفق أن أحد حراس منزل اللورد وليم رأى هذا العبد يفر فأطلق عليه بندقيته فقتله.

وكان هذا القتيل أحد زعماء السود كما قدمناه، فأيقن المستر بريس في اليوم التالي أن العبيد لا بد أن ينتقموا منه وأخذ يتأهب، ولكنه تأهبه لم يفده في شيء.

وذلك أنه في الليلة التالية حاصر منزله نحو ألف رجل من أولئك السود كما تحاصر الجنود القلاع.

وقد جمع أعوانه ودافع دفاعًا جميلًا، ولكن سهام السود المسمومة كانت تفتك بأعوانه وتنكل بهم غاية التنكيل.

ولم يكتفوا بقتل الحراس؛ بل إنهم أشعلوا النار في المنزل.

ولما رأى اللورد وليم ما حل به من هذه النكبة الفادحة، جمع من بقي حيًّا من خدمه، ودافع بهم عن امرأته وولديه دفاع المستبسل المستميت.

وما زال على دفاعه وهو يتوقع القتل في كل لحظة حتى جاءته النجدة، وأقبل الجنود السود، فأركن السود إلى الفرار، وسلم اللورد وامرأته وولداه وتوما من القتل، ولكنه بات فقيرًا معدمًا؛ لأن أولئك السود قد نهبوه.

غير أن توما كان لا يزال لديه نحو سبعمائة جنيه، وهو مبلغ يكفيه للعودة مع عائلة اللورد إلى إنكلترا.

ولما فرق الجند شمل المعتدين، خلا توما بسيده اللورد، وقال له بلهجة الفائز: لا بد لك بعد هذه النكبة الآن أن توافقني على ما اقترحته عليك وأن تعود إلى اسمك الكريم.

فتنهد اللورد وليم وقال: إني لو كنت وحدي لفضلت البقاء، وعدت إلى تجديد ثروتي الضائعة، ولكن لي امرأة وولدين، لا أطيق أن أراهم يقاسمونني الشقاء، ولهذا السبب وحده رضيت أن أعود معك إلى لندرا.

فسالت دموع السرور من عيني توما، وشكر الله.

وبعد شهر سافر توما واللورد وليم وعائلته إلى ملبورن، ومنها إلى إنكلترا.

أما توما فإنه كتب إلى امرأته قبل السفر بأسبوع يبشرها بقدومه مع اللورد.

وسافر ونفسه تفيض بشرًا ورجاءً.

وأما اللورد وليم فإنه كان منقبض الصدر يذكر منزله في أوستراليا بين تلك الحقول الناضرة، فتسيل دموعه، ويحسب أنه خسر كل ما كان يطمع به من أسباب السعادة والهناء.

٣٧

ولنعد الآن إلى لندرا، فندخل إليها بأذهان القراء في فصل الصيف، وقد تبدد ضباب شتائها الكثيف وملئت شوارعها أشعة وهواءً نقيًّا.

وكانت البساتين والحدائق في ذلك اليوم غاصة بالمتنزهين، ولا سيما حديقة هايد بارك.

فقد كانت تدهش الأبصار بازدحام المتنزهين، بين حسان يشرقن من مركباتهم إشراق الأقمار، وفرسان يتنزهون على صهوات جيادهم، وخطيب يروي لخطيبته حديث غرامه ويقنعها أنه أبدي دائم لا يزول، وأطفال يلعبون عند السواقي، والسلامة تخرج من أفواههم ضحكًا عاليًا يرتاح إليه المقطبون.

وكان هذا الخليط يذهب ويجيء في تلك الحدائق الغناء، مستنشقًا نسمات الغروب البليلة بعد أن كان حر النهار يصهر الأجساد.

وكانت الساعة الثامنة، ولا يزال شفق الشمس المتوارية يرسل أشعته الأخيرة لترقد بين أوراق الأشجار الباسقة.

وكان بين هؤلاء المتنزهين امرأة ماسكة بيد غلام يتبعها خادمان وهي تتنزه عند ضفة النهر.

إن هذه المرأة كانت تدعى من قبل مس إينا، وهي تدعى الآن اللادي أفندال باميلتون، وكان الغلام الذي يصحبها ولدها.

وكانت تسير الهويناء متنزهة وظواهر القلق بادية عليها، ذلك لأنها رأت رجلًا يقتفي أثرها منذ مدة على مسافة قريبة.

ولم تكن قد تبينت وجه هذا الرجل فتعرفه، ولكنها استدلت من لباسه وملامحه أنه ليس من الذين يخشون، لا سيما وأنه كان مبيض الشعور وفي ذلك ما يدعو إلى الاطمئنان.

إن الذي رابها أنه كان يقتفي أثرها من مدة طويلة ويتبعها إلى حيث سارت، فأفضى بها الأمر إلى الخوف منه.

ثم ظهر من هذا الرجل فجأة أنه أقر على أمر كان يتردد فيه، فتقدم الخادمين اللذين كانا يسيران وراء اللادي، ودنا منها وقبعته في يده.

فذعرت اللادي في البدء حين رأته.

غير أن الرجل ابتسم لها وقال: ألم تعرفني سيدتي؟

فعرفته، وقالت له: أأنت توما؟

– نعم يا سيدتي.

– أنت هو خادم وليم الأمين؟

– هو بعينه.

– كنت أحسبك فارقت هذه الحياة.

– وأنت ترين يا سيدتي أني لا أزال حيًّا أرزق؟

فجعلت اللادي باميلتون تنظر إليه نظرات الانذهال، ثم قالت له: أين كنت؟

– إني قادم من أوستراليا يا سيدتي وقد أتيت خصيصًا لأراك.

فزاد انذهالها، وقالت: لتراني أنا؟!

– نعم يا سيدتي.

– إذًا ليست هي الصدفة التي جعلتك تلقاني؟

– كلا يا سيدتي، فإني أرود حول قصرك منذ ثمانية أيام.

– ولماذا لم تدخل إليه؟

– لأني أحب أن أراك دون أن يرانا أهل القصر.

فعاود القلق اللادي وقالت له: كيف هذا؟

– ولا يجب أن يسمع حديثنا أحد.

– إن هذه اللهجة السرية تريعني منك يا توما.

– ولكني لا أجد بدًّا من مباحثتك، دقائق معدودة، إذا كنت تأذنين.

– لا بأس؛ امش إلى جانبي، وحدثني بما تريد؛ فإن الخادمين بعيدان، ولا يسمع حديثك أحد.

– لدي يا سيدتي سر أحب أن أستودعك إياه.

– سر؟

– نعم سر، لو ألقي إليك منذ بضعة أعوام لكان لك خير بشرى، وتلقيته بالسرور العظيم. أما اليوم فإنه سيقع منك أسوأ موقع، ويملأ قلبك الرقيق حزنًا وغمًّا.

– إنك ترعبني بما تقول يا توما.

فمضى توما في حديثه دون أن يحفل بكلامها، وقال: لقد قلت لك يا سيدتي: إني عائد من أوستراليا.

– ماذا تعني بذلك؟

– أعني أني لقيت فيها رجلًا كان يذكرك، ويحدث نفسه بك كثيرًا.

– من هو هذا الرجل الذي يفكر بي في أوستراليا؟

– إنه يدعى ولتر بريس يا سيدتي.

– إني لم أسمع هذا الاسم قبل الآن.

– قد يكون ذلك يا سيدتي، ولكن هذا الرجل قبل أن يدعى بهذا الاسم كان له اسم آخر.

– ماذا كان يدعى؟

– اللورد وليم باميلتون.

فصاحت صيحة ذعر، وقالت: ماذا أصابك يا توما ألعلك جننت؟

– كلا يا سيدتي، فإني بتمام العقل بحمد الله.

– ولكنك تعلم أن اللورد وليم قد مات من عهد بعيد، وأنت بكيته كما بكيناه.

– هو ذاك، يا سيدتي، فإني كنت أعتقد أنه مات، كما كنت تعتقدين.

– أما أنا فإني رأيته ميتًا.

– لم يكن اللورد الذي رأيته على فراش الموت أيتها اللادي.

– إذًا من هو؟

– هو ولتر بريس.

فنظرت إليه عند ذلك نظرة المشفق، وقالت: إني أرى يا توما أن حزنك على وليم قد برح بك وأضاع رشدك.

– لقد قلت لك يا سيدتي: إني لست بمجنون.

– إذا كنت سليم العقل فما هذه الأقوال؟

– أتوسل إليك يا سيدتي أن تصغي إلى تتمة حديثي.

فظهرت على محياها علائم الجزع، ونظرت إلى ما حواليها فرأت أنها بخلوة تامة معه؛ لأن الخادمين حين رأيا هذا الرجل يحدث مولاتهما دون كلفة ابتعدا عنهما.

وخافت أن يكون حقيقة من المجانين، ولكنها رأت الخادمين على مسافة بعيدة وأنهما يريانها، فاطمأنت بعض الاطمئنان وقالت له: ماذا تريد أن تقول بعد؟

– أعيد عليك، يا سيدتي اللادي، ما قلته، وهو أن اللورد وليم باميلتون لا يزال في قيد الحياة، وستصدقين كلامي حين تعلمين حقيقة ما جرى.

ثم قص عليها تفصيلًا كل ما عرفه القراء من قصة هذين الأخوين.

على أن اللادي باميلتون بقيت مرتابة في صحة عقل توما، ولم تصدق حكايته.

فقال لها توما عند ذلك: إنك لا تزالين مشككة بأقوالي، ولكنك حين ترينه يزول منك كل ريب.

– كيف أراه ألم تقل: إنه في أوستراليا؟

– لقد كان فيها أما الآن فهو في لندرا.

فاصفرَّ وجهها، وقالت: أفي لندرا يقيم هذا الرجل؟

– ولكن هذا الرجل كنت تحبينه وقد بكيته.

– تقول: إني أراه.

– نعم يا سيدتي سوف ترينه.

وكان يمشيان حتى وصلا إلى عطفة.

وهناك مقعد من الخشب، كان رجل جالسًا عليه، وهو لا يزال في مقتبل الشباب، غير أن غضون وجهه كانت تدل على أنه لاقى كثيرًا من المصائب.

فلما رأى هذا الرجل توما واللادي قد اقتربا منه نهض عن مقعده، وقال: مس إينا؟

فارتعشت اللادي باميلتون.

أما توما فإنه قال لها: هذا هو اللورد وليم يا سيدتي.

فنظرت اللادي إلى اللورد وليم نظرة جامدة، ثم التفتت إلى توما، وقالت له: إني أرى يا توما شبهًا كبيرًا بين هذا الرجل وبين اللورد رحمه الله، ولكنه ليس هو كما تعتقد؛ لأن اللورد قد مات.

أما اللورد فإنه صاح صيحة منكرة، وأركن إلى الفرار وهو يقول: رباه! لماذا أبقيتني حيًّا فإني كنت واثقًا أنها لا تعرفني؟!

٣٨

يوجد في لندرا شارع يدعى شارع المكاتب، ولكن هذا الشارع لم يكن مقتصرًا على أصحاب المكاتب وحدهم، بل كان يقيم فيه أيضًا عمال وتجار وموظفون.

وكان في هذا الشارع محام مشهور، والمحامون في لندرا يكسبون مكاسب عظيمة ويتقاضون أجرة فاحشة، ثم يطيلون القضايا حتى لا يبقى متسع للتسويف.

فإذا وقع الغني بين براثنهم قضي عليه بالفقر قضاءً مبرمًا، إلا إذا كان من العقلاء، وتنازل عن دعواه أو تراضى مع خصمه.

على أن هذا المحامي كان يتسابق إليه أصحاب القضايا لاشتهاره بالفوز في كل قضاياه.

وكان هذا المحامي يدعى سيمونس، وهو — على شدة طمعه وحبه للمال — محبوب من الناس لبعد صيته، ولكثرة تضلعه في القوانين حتى إنهم كانوا يعدلون كل كلمة من أقواله بجنيه.

وكان على هذه الشهرة لا يزال في مقتبل الشباب، وقد رشحه مريدوه مرارًا لعضوية مجلس العموم، ولكنه كان يرفض القبول ويقول: إني لا أزال في حاجة إلى المال، ولم أروِ منه غلي، فلا يسعني الانصراف للخدمة العامة.

وكان شديد الفصاحة قوي الحجة، ولكلامه تأثير عظيم على القضاة، فإنه دافع مرة عن إرلندي كان يتوقع الجميع أن يحكم عليه بالإعدام فبرأ ساحته وأطلق سراحه، وكان إعجاب الناس به عظيمًا.

غير أن إعجاب الناس به لم يكن قاصرًا على فوزه، بل لأن هذا الإرلندي المنكود كان معدمًا فقيرًا، فكان دفاعه عنه دفاعًا محضًا عن الإنسانية.

ولا ينكر أن بعض حساده أذاعوا أنه إنما أراد بذلك إشهار أمره، ولكن العقلاء لم يعبئوا بهذه الإشاعات ولم تؤثر هذه الأقوال بحسن صيته، فإن الإحسان محمود كيفما كانت مقاصد المحسنين.

ففي ذات يوم؛ كان هذا المحامي راكبًا في مركبته وخارجًا من منزله، فاستوقفه رجل على الطريق يريد أن يكلمه.

وكان هذا الرجل متأنقًا بلباسه، فلم ترع هيئته ذلك المحامي وأمر بإيقاف مركبته كي يرى ما يريد.

وقد نظر إليه وقال في نفسه: أذكر أني أعرف هذا الرجل، ولكني لا أذكر أين كنت أراه.

فقال له الرجل باسمًا: ألم تعرفني يا سيدي سيمونس؟

– كلا! ولكن يخال لي أني رأيتك.

– بل كنت تراني مرارًا وذلك منذ عشرة أعوام.

– أنا؟

– في مكتب أعمالك فإني كنت من زبائنك.

– كيف ذلك ومتى؟

– ذلك حينما كنت عند اللورد باميلتون، فإني أدعى توما يا سيدي، وأنا الذي كنت آتيك بأشغال سيدي اللورد النبيل.

– لقد ذكرتك الآن وعرفتك حق العرفان.

– إذًا، فاسمح لي يا سيدي أن أخلو بك، فإني قادم إليك بمهمة خطيرة.

– إذًا ادخل معي إلى مكتبي.

وكان مكتبه ومنزله في بيت واحد، فنزل المحامي من المركبة وعاد إلى المكتب يتبعه توما.

ولم يفه توما بكلمة حتى دخل إلى غرفة المحامي الخاصة.

وهناك قال له المحامي: ألعلك لا تزال في خدمة أسرة باميلتون؟

فأجابه توما: نعم ولا.

فذهل المحامي لجوابه وقال: كيف ذلك؟

– ذلك أني اعتزلت خدمة السير أفندال، ولكني لا أزل في خدمة اللورد وليم.

فزاد انذهال المحامي، فإنه كان يعلم — كما يعلم معظم أهل لندرا — أن اللورد وليم قد مات، وأن السير أفندال قد ورثه وخلفه باسمه ومذهبه وخطيبته.

وقد حسب في البدء أن توما قد أصابه مس من الجنون، ولكنه أمعن النظر فيه، فلم يجد في لهجته وملامحه وعينيه شيئًا من دلائل الجنون، فقال له: أرجوك، أيها الصديق، أن توضح بجلاء، فإن حديثك قد أشكل علي.

– إني موضح لك كل شيء إذا أحببت الإصغاء إلي.

– إني كلي آذان للسمع فتكلم.

وكان هذا المحامي صبورًا من طبعه، وقد تدرب دهرًا طويلًا في هذه المهنة، فعلمته التجارب أنه مهما كانت رواية الزبون مضطربة مشوشة، فلا بد أن يجد بها بابًا يصلح للدفاع.

ولذلك عول على أن يصغي لتوما كل الإصغاء، بالرغم عما ظهر له في مقدمة حديثه من الغرائب المدهشة.

أما توما فإنه استوى في محله، وقال: إني واثق، يا سيدي، من مروءتك وشرف طباعك. ولهذا أتيت إليك في مهمة خطيرة لا تخطر لأحد في بال.

وإن رجال الشرع يا سيدي يشبهون رجال الدين من حيث الوثوق بهم فيما يؤتمنون عليه من الأسرار، فعلي أن أوحي إليك بأسراري وعليك أن تسمع كل ما أقول.

هو ذاك أيها الصديق، وأرجو أن لا يكون من وراء ذلك إلا الخير.

وعند ذلك قص عليه توما جميع ما عرفه القراء من حكاية اللورد وليم، وكيف أسفرت هذه الجريمة الهائلة، عن تلقيب السير أفندال بلقب اللوردية.

وقد فصل له أدق تفصيل حياة اللورد وليم من عهد حداثته إلى تعلقه بمس إينا، إلى تلك الجريمة التي حدثت في قصر باميلتون وأسفرت عن استبدال اللورد وليم باسم ولتر بريس.

فلما أتم حديثه الغريب قال له المحامي: إن جميع ما رويته لي أكيد، دون ريب، ولكنه بعيد الإمكان، غير أني لو حملته على محمل الحقيقة؛ فماذا تريد مني؟

– أريد أن تؤيد مطالب اللورد وليم.

فابتسم المحامي ابتسامًا وجف له قلب توما، وسأله: وما هي هذه المطالب؟

– إن الأمر بسيط يا سيدي، فإن اللورد وليم لم يمت وحقه صريح باسترجاع ثروته ولقبه.

– ولكن هذا مستحيل.

– لماذا؟

– لأن اللورد وليم قد مات في عيون الناس، وأثبت اسمه رسميًّا في سجل الأموات.

– ولكننا نبرهن على أنه لا يزال في قيد الحياة.

– ما هو برهانك؟

– هو أن أروي الحكاية كما اتفقت.

– إن حكاياتك قد أصدقها أنا، وأما القضاة فهيهات أن يصدقوك.

– إذًا كيف نعمل؟

– إن رجلًا واحدًا تفيد شهادته وأقواله في هذا المقام.

– من هو؟

– هو الضابط برسي الذي كان يقود المجرمين، وكان شريك السير جورج باميلتون بالجريمة.

– إني أجد هذا الرجل أين كان.

– إنك قد تجده ولكنه لا يشهد هذه الشهادة.

– ولكن لا بد له أن يشهد ويعترف بالحقيقة.

فهز المحامي سيمونس كتفيه ثم قال بعد أن تمعن هنيهة: يجب قبل كل شيء أن نتصرف تصرف المتدربين.

– قل يا سيدي؛ فإن ثقتي بك لا حد لها.

٣٩

فأطرق المحامي هنيهة ثم قال: إن هذا الرجل الذي تدعوه مولاك، قد يكون حقيقة اللورد وليم، وقد كان محكومًا عليه بالنفي كما تقول.

– نعم يا سيدي.

– وهو برح إنكلترا منذ عشرة أعوام أليس كذلك؟

– بالتقريب.

– إذًا لا بد أن تكون تغيرت ملامح وجهه في هذه الفترة الطويلة، فإذا أراد أخوه إنكاره كان المجال متسعًا.

– هو ذاك واأسفاه.

– وعلى ذلك فإن مولاك إذا ذهب إلى اللورد أفندال أنكره كما تنكره امرأته أيضًا، دون شك، إذ لا يطيب له التخلي عن تلك الثروة والمجد وهو يتمتع بهما منذ عشرة أعوام.

– سأخبرك بكل شيء يا سيدي، فإن اللورد وليم قابل امرأة أخيه.

– وماذا كان من هذه المقابلة؟

– إنها أنكرته أو لم تعرفه.

– إن هذا سبب آخر يدعوك إلى قبول ما سأقترحه عليك.

– ماذا تقول يا سيدي؟

– لا شك أنك رجعت مع مولاك من أوستراليا دون مال.

فلم يجبه توما ولكنه أطرق برأسه.

فقال له المحامي: إن اللورد أفندال واسع الثروة ولي ملء الثقة من إمكان الوصول إلى تسوية بين اللورد وأخيه.

فأجابه توما بعنف: أية تسوية تعني؟

– إن التسويات تختلف، ولكن التسوية التي أعنيها هي أن يبقى للورد اسم ولتر بريس، فيعطيه اللورد أفندال مقابل ذلك أربعين أو خمسين ألف جنيه.

فأجابه توما ببرود: إنك مجنون.

– أتظن ذلك؟

– دون شك لأن اللورد وليم لا يتنازل عن شيء من حقه.

– أيريد أن يكون لوردًا؟

– نعم.

– أيريد أن يستولي على الثروة بجملتها؟

– دون شك.

– إذًا أنت مجنون يا توما ومولاك أشد جنونًا منك.

فبهت توما لكلامه وقال: كيف ذلك؟

– سأبرهن لك، فإنه لا ينفع في هذه القضية غير شهادة الضابط برسي كما قلت لك.

– إني سأبحث عن هذا الرجل وسأجده دون شك.

– ولكني أعيد عليك ما قلته أيضًا: وهو أن هذا الرجل لا يبوح بشيء.

– لا بد له أن يبوح.

– وعلى افتراض أنه باح بما يعلمه؛ فإن شهادة مثل هذا الرجل الذي يقضي العمر في معاشرة المجرمين لا يكون لها تأثير عظيم على القضاة، ولكنها قد تفيد بعض الفائدة.

– قلت لك: إني سأجده.

– على افتراض أنك وجدته ورضي أن يبوح؛ أتحسب أن الأمر ينتهي عند هذا الحد بالفوز؟

– هذا ما أراه.

– إنك مخطئ، فإن وزير الحقانية لا يتداخل في هذه القضية؛ لأن اللورد أفندال من أعضاء مجلس البرلمان، ويقتضي للمحاكمة إذن خاص من المجلس الأعلى.

ولا أرجح أن المجلس الأعلى يأذن بمحاكمته في مثل هذه القضية.

– بل يأذن، فإن القلوب لم تتجرد من الشفقة.

– لنفرض أنه أذن أيضًا، فقد بقيت مشكلة أخرى، وهي أن مثل هذه القضايا الخطيرة تكلف نفقات باهظة، وأنا لا أتولاها إلا إذا ضمن لي أجرة قدرها عشرة آلاف جنيه.

فأجفل توما لجسامة الطلب، وقال: عشرة آلاف جنيه؟

– على الأقل.

– إن العشرة آلاف جنيه تساوي مائتين وخمسين ألف فرنك.

– ومع ذلك فإنها تنفق قبل الشروع في القضية.

– أيحتاج المرء إلى مثل هذه النفقات الهائلة للحصول على حقه؟ فما هذه المحاكم؟ وما هذا العدل؟

– لا أنكر عليك انتقادك فهو حق، ولكن الحقيقة هي ما قلته لك.

– إذًا ماذا نصنع؟

– تقنع سيدك على التسليم.

– بماذا؟

– بالتسوية.

– إن هذا محال، لا أرضاه، ولا يرضاه.

– أنت وشأنك فيما تريد، إنما أوصيك بالحذر.

فنظر إليه توما نظرة إنكار وقال: ممَّ تريد أن أحذر؟

– من اللورد أفندال، فإنه في حالة تدعو إلى الحذر منه.

– ما عساه يصنع؟

– إذا كان ما تقوله أكيدًا، فإن هذا الرجل لا يقف عند حد ولا سيما إذا حاولت فضيحته.

– ولكننا في بلاد إنكلترا بلاد الحرية والعدل والأمان.

فهز المحامي كتفه دون أن يجيب.

أما توما، فإنه نهض مغضبًا، وقال: يسوءني يا سيدي أن أكون مخطئًا باعتمادي عليك.

وأجابه المحامي ببرود قائلًا: إني لا أزال مستعدًّا لخدمة اللورد وليم بأتم إخلاص، ولكني لا أتجاوز الحد الذي أقترحه عليك، وهي مسألة التسوية.

فقال له توما: إننا لا نريد تسوية، بل نريد حقًّا.

ثم خرج من مكتب المحامي مغضبًا، فشيعه إلى الباب، وقال له: إننا سنلتقي.

– لا أظن أن يكون بيننا لقاء بعد هذا الفراق.

– أما أنا فإني واثق من اللقاء القريب.

وخرج توما وقد تولاه اليأس، فإن اعتماده على هذا المحامي كان عظيمًا، حتى إنه كان واثقًا من الفوز كل الثقة.

ولكنه لم يلق منه غير الخيبة والخذلان، فسار هائمًا على وجهه، من مكان إلى مكان حتى وصل إلى زقاق أدم ستريت، حيث تقيم امرأته بيتزي.

وكان اللورد وليم وامرأته وولداه يقيمون في المنزل نفسه الذي يقيم فيه توما.

أما توما؛ فإنه دخل إلى امرأته واليأس باد بين عينيه، فأجفلت لمرآه، وقالت له: ماذا أصابك؟ وما وراءك من الأخبار؟

فهز توما رأسه وقال: إن هؤلاء المحامين قد خلت قلوبهم من الرحمة.

ثم قص عليها جميع ما جرى بينه وبين المحامي سيمون.

وكانت بيتزي عاقلة ذكية الفؤاد، فأطرقت هنيهة، بعد أن سمعت حكاية زوجها وقالت: أرى أن هذا الرجل مصيب فيما ارتآه، ولكن لي رأي آخر.

– ما هو؟

– إني خرجت منذ هنيهة إلى السوق لشراء أغراضنا، فلقيت امرأة مقنعة بقناع كثيف، وهي كأنها تبحث عن شيء.

– ومن هي هذه المرأة؟

– لقد لاح لي أنها مس إينا.

فارتعش توما وقال: اللادي باميلتون؟

– نعم، وأظن أنها تحاول أن ترى اللورد وليم، ثم أردفت: انظر! أنها لا تزال في موقفها.

٤٠

فقام توما إلى النافذة ونظر منها فرأى امرأة مبرقعة وهي تنظر نظرات تائهة كأنها تبحث عن شيء.

فعرفها للحال وقال: هي، هي بعينها.

أما المرأة فإنها دخلت فجأة إلى رواق المنزل كأنها اهتدت إليه بعد طول بحثها وتوارت عن الأنظار.

فقال توما لامرأته: انتظريني فإني ذاهب للقائها.

ثم خرج من الغرفة ونزل السلم.

وكانت المرأة تصعد عليه، والتقيا عند وسطه، وسألها توما بصوت منخفض: بماذا تأمر اللادي؟

فأزاحت المرأة برقعها، وقالت: إني أبحث عنك.

وكانت تضطرب، وملامح الخجل بادية بين عينيها، كأنها قد خجلت من الدخول إلى هذا المنزل الحقير.

وتأبط توما ذراعها وصعد بها.

أما إينا، أو «اللادي باميلتون»، فإنها صعدت معه وقالت له: إني أتيت إليك دون أن يعرف اللورد أفندال، فإني أحب أن أرى مرة ثانية هذا الرجل الذي قلت إنه اللورد وليم.

– إنه هنا يا سيدتي.

– هنا في هذا المنزل؟

– نعم، وهذا باب المنزل الذي يقيم فيه فقد وصلنا إليه.

– أهو وحده؟

– كلا، فإنه يقيم مع امرأته وولده.

فدهشت دهشًا عظيمًا وقالت: امرأته وولده!

ثم سكن اضطرابها وقالت: ولكني أريد أن أراه وحده.

– إذًا، اصعدي إلى منزلي، فأخرج أنا وامرأتي منه، وأدعو اللورد إلى موافاتك.

وظهرت على اللادي علائم التردد، وكأنها قد ندمت لاندفاعها، غير أنها رأت أن الأوان قد فات، وأنه لم يعد سبيل إلى الرجوع.

وصعد بها توما وهي تسير نادمة متثاقلة إلى منزله، فأقامها فيه وذهب للإتيان باللورد وليم.

ولما علم اللورد وليم بمجيء اللادي إليه تأثر تأثرًا عظيمًا، وقال في نفسه: إنها لم تعرفني حين رأتني المرة الأولى، ولكن لا بد لها أن تعرفني هذه المرة.

ثم خرج من منزله إلى غرفة توما ورجلاه تضطربان.

أما توما فإنه أشار إلى امرأته أن تتبعه كي يخلو لهما المكان، فامتثلت وخرج الاثنان.

وكانت اللادي باميلتون قد أرخت نقابها، حتى إذا خرج توما وامرأته أسفرت عن وجهها، وجعل كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة الخائف الواجم، دون أن يجسر على الكلام.

إلى أن بدأت اللادي بالحديث وقالت: أردت يا سيدي أن أراك مرة ثانية للتحقق من أمرك.

– وأنا أرى من عينيك يا سيدتي أنك قد عرفتني حق العرفان.

ولم تجبه على كلامه وقالت له: ألعلنا وحدنا يا سيدي؟

– دون شك.

– أنت واثق أنه لا يسمع حديثنا أحد؟!

– إني واثق كل الثقة.

– إني أردت الآن أن أراك يا سيدي لكي أخدمك خدمة خالصة في كل ما تريد.

وارتعش اللورد وليم، وقال: كيف ذلك يا سيدتي؟!

أجابت: إني رأيت اللورد وليم ميتًا، ومع ذلك فإنك تقول لي: إنه لا يزال في قيد الحياة.

– هو أنا يا سيدتي …

– ليكن ما تقول، ولنعتبر أنك أنت هو اللورد وليم.

– ماذا تريدين بذلك؟!

– أتوسل إليك أن تصغي إلى تتمة حديثي.

– إني مصغ يا سيدتي كل الإصغاء فقولي ما تشائين.

– إني كنت أعتقد كل الاعتقاد أنك مت والله يعلم كم بكيتك.

وكانت تقول هذا القول بلهجة المضطرب، ثم عادت إلى الحديث فقالت: نعم إني بكيت عدة شهور، وأبيت كل الإباء أن أتزوج بعدك، ولكن أبي كان يلح عليَّ والسير أفندال يظهر لي حبًّا أكيدًا، فلم أجد بدًّا من الامتثال لأبي واضطررت مكرهة إلى الزواج بالسير أفندال.

وقال لها اللورد وليم: وبعد ذلك؟!

– وبعد ذلك أفضت بي الألفة إلى حب السير أفندال الذي لم أتزوجه إلا من قبل الامتثال لأوامر أبي، وأصبحت أمًّا بعد حين، وكنت من أسعد النساء، إلى أن ظهرت لي، وأنا أعتقد أنك ميت، فوقعت وقوع الصاعقة على رأسي، ولذلك أتوسل إليك أن لا تفضحنا، وأن لا تنازع أخاك نزاعًا لا فائدة منه.

فقال لها: ولكن كيف ترجين مني ذلك وأنت تعلمين أن زوجك قد نهبني؟

– إنا مستعدان لأن نعوض عليك بما تريد.

وأجابها بعظمة: إني لا أريد تعويضًا عن حقي، بل أريد كل هذا الحق.

– ولكن … يستحيل عليك يا سيدي أن تبرهن أن اللورد وليم لا يزال في قيد الحياة.

– بل أنت واهمة يا سيدتي، فإني سأثبت ذلك كل الإثبات.

– إذًا … ستنهب أخاك كما نهبك، ولا يكون من ذلك غير فضيحة بيتكم النبيل.

– إذا كنت تقولين مثل هذه الأقوال يا سيدتي، فلماذا أتيت إلي؟

– إني أتيت لأقترح عليك تسوية أرجو أن لا يكون بعدها غير الاتفاق.

– اعرضي اقتراحك علي لأرى رأيي فيه.

– إني أقترح أن تبرح هذه البلد وترجع إلى لندرا، أو أستراليا فيبقى لك اسم ولتر بريس …

فأجابها بلهجة المتهكم: وما تعطونني مقابل هذا التنازل؟

– قدر ما تشاء من المال؟

فابتسم اللورد وليم وقال: إنك تسألين المحال يا سيدتي، فما أنا بطالب مال.

– إذًا ما تريد؟

– أصغي إلي كما أصغيت إليك يا سيدتي، فإني أشفق على شرف أسرة باميلتون أكثر من إشفاقك عليه.

وقد اقترحت علي اقتراحًا، وأنا سأقترح عليك اقتراحًا آخر أرجو أن تسمعيه.

– ما هو هذا الاقتراح الذي تقترحه علي؟

– إن عمي السير جورج الذي كان متنكرًا باسم نظام كان السبب في جميع ما لقيته من المصائب، فلماذا لا يكون هو المجرم الوحيد؟

– إني لم أفهم شيئًا مما تقول فأوضح لي.

– لماذا لا يعترف أخي أن هذا الرجل قد خدعه، وليس من يعلم أنه كان عمنا؟

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك يعترف أني أخوه فتقسم الثروة بيننا، ويبقى له لقب اللوردية، فإني أحب أن أبقى من أسرة باميلتون.

– إن ما تطلبه محال يا سيدي.

– لماذا؟

– لأن حق البكورية لا يزال معمولًا به في بلاد الإنكليز.

فبدرت من اللورد وليم بادرة غضب وقال لها: احذري أيتها اللادي.

فأجابته ببرود قائلة: تقول إنك اللورد وليم أليس كذلك؟

– إنك تعرفين ذلك حق العرفان.

– ولكن يجب أن تبرهن على صدق ما تقول.

– إني سأبرهن على ذلك عند الاقتضاء.

– وفي ذلك اليوم الذي تبرهن فيه أنك اللورد وليم يرجع لك اللورد أفندال ثروتك وتخرج من هذه المعركة خروج الظافرين.

ثم نهضت تحاول الذهاب، وحاول اللورد وليم أن يوقفها، ولكنها أبت أن تقف؛ ففتحت الباب وهي تقول: إنك لو كنت حقيقة وليم الذي كان يحبني لما كلمتني بهذه اللهجة العنيفة، فأودعك الآن يا سيدي، فإننا لا نلتقي بعد ذلك إلا في مواقف القضاء.

ثم خرجت بملء العظمة والكبرياء.

أما اللورد وليم فإنه أن أنين الموجع، ثم وضع رأسه بين يديه، وقال: إن اللادي قد عرفتني حق العرفان.

٤١

في مساء ذلك اليوم كان ثلاثة مجتمعين في قصر باميلتون يتداولون.

وكان هؤلاء الثلاثة اللورد أفندال وامرأته ووالدها السير أرشيبالد.

وقد عرف القراء شيئًا من حال السير أرشيبالد؛ فإنه لم يكن من طبقة النبلاء، ولكنه كان واسع الثروة، وقد جمع مالًا عظيمًا من الهند، ولما عاد من تلك البلاد النائية إلى إنكلترا لم يكن يخطر في باله غير تزويج بنته بفضل ثروته من أحد كبار النبلاء.

وكان أول من وقع في شركه اللورد وليم.

ولما توارى هذا اللورد طمحت نفسه إلى أخيه اللورد أفندال، كانت الرواية التي روتها اللادي باميلتون للورد وليم صادقة في جميع معانيها.

فإنها قاومت أباها مقاومة عنيفة في البدء، ولكنها اضطرت في النهاية إلى الإذعان، وبات اسمها منذ ذاك الحين اللادي باميلتون.

ثم عقدت الألفة الزوجية الحب بينهما، ورزقت منه بنين، فدعاها جميع ذلك إلى نسيان اللورد وليم؛ لأنها كانت تعتقد أنه من الأموات.

ويذكر القراء أنه بعد ذلك بثلاثة أعوام اهتم حاكم زيلندا بما عرضه عليه ولتر بريس «اللورد وليم» فكتب إلى إنكلترا يسأل عما أشكل عليه من أمره.

وكان اللورد أفندال في ذلك العهد غائبًا عن لندرا، ففتحت امرأته كتاب الحاكم، وقرأته فوقع عليها وقوع الصاعقة وأخبرت أباها بما قرأته.

وقال لها السير أرشيبالد: إن اللورد وليم قد مات، وإن هذا الذي ينتحل الآن اسمه من أهل الزور والنفاق، ولكن لنفرض أنه صادق فيما يدعيه، وأن اللورد وليم لا يزال في قيد الحياة، فيجب أن تعتبريه من أهل القبور.

إنك تدعين الآن اللادي أفندال باميلتون، وليس لزوجك أخ بعد أن كتب اسمه في سجل المائتين.

وبعد حين رجع اللورد أفندال إلى لندرا، فاطلع على هذا الكتاب، وأنكر الجريمة أتم الإنكار وأظهر النفور والاشمئزاز من هذه العيوب، لكن امرأته انتهت بالفوز عليه، فباح لها بسر الجريمة الهائلة مدعيًا أنه لم يقدم عليها لطمعه بمال أخيه وألقابه، بل لحبه إياها ولطمعه بالزواج بها.

فغفرت له ذلك الذنب مقابل هذا الحب فكانت كما قال هملت في جنسها:

كذا خلق النساء فكل أنثى
تصدق ما يدعى غرامًا

وقد صدقت حديث هذا الحب، وأنستها كلمات غرامه الحلوة تلك الجريمة التي تقشعر لها الأبدان، وذاك اللورد خطيبها الأول المنكود، فوافقت زوجها على كل ما فعل.

وقد زاد حرصها على تلك الثروة الشائنة، التي لم ينلها زوجها إلا منغمسة بدم الجريمة والإثم، وأشفقت عليها إشفاقًا شديدًا، حتى باتت تكره اللورد وليم بعد ذلك الحب القديم حين علمت أنه في قيد الحياة، وأنه قد يعود ويطالبهم بالثروة المسروقة.

وقد كانت اللادي تحدث أباها وزوجها في ذاك الاجتماع بما جرى بينها وبين اللورد وليم وهما يسمعان حديثها بملء الجزع.

حتى إذا أتمت حديثها قال لها أبوها: أحق ما تقولين أنه قد تغير حتى لم يعد يعرف؟

أجابت: إنك لو أقمت بقربه طول العمر لما عرفته.

فقال لها زوجها: ومع ذلك لم يقبل اقتراحنا.

– بل هو يأباه كل الإباء.

فابتسم السير أرشيبالد وقال: إنها ستكون قضية شائنة، ولكننا سنخرج فائزين منصورين.

فقال اللورد أفندال: وفوق ذلك فإن مثل هذه القضايا الكبرى يقتضي لها المال الكثير، ومن أين له هذا المال كي ينفق هذا الإنفاق؟

فأجابته زوجته: إني رأيته في أشد درجات الفقر، فقد رأيته مقيمًا في أحقر المنازل.

فقال السير أرشيبالد: ولكن يجب أن يبرح هذا الرجل لندرا.

قالت: لا أعلم، لكن لا بد لنا أن نجد طريقة.

وبينما كان السير أرشيبالد يقول هذا القول دخل الخادم وهو يحمل على صينية من الفضة رقعة زيارة وقدمها إلى اللورد أفندال.

فتناولها اللورد ونظر إلى توقيعها فرأى اسم الأسقف بترس توين فقال له: ما عسى يريد مني هذا الأسقف الآن؟

– إنه يا سيدي يطلب مقابلتكم بإلحاح.

– إذن أدخله.

وبعد هنيهة دخل الأسقف الذي عرف القراء فيما تقدم من الأجزاء السابقة أنه أعدى عدو للرجل العبوس «روكامبول» وكهنة الكاثوليك.

وكان السير أرشيبالد قد خرج مع ابنته.

فلما دخل الأسقف وجد اللورد أفندال وحده في انتظاره، غير أنهما كانا لا يزالان عند الباب فناداهما الأسقف وقال لهما: لا حاجة إلى انصرافكما، بل إن بقاءكما لا بد منه.

فقال اللورد بعد أن عادت زوجته وأبوها إلى مجلسيهما: تفضل يا سيدي الأسقف وقل لنا السبب الذي دعاك إلى تشريفنا بهذه الزيارة.

– إني يا سيدي اللورد زعيم الرسالة الإنجليكانية في جميع إنكلترا، وإن أعمالنا الخيرية يقتضي لها كثير من النفقات، ولذلك تعجز رسالتنا، على كثرة إيرادها عن القيام بهذه النفقات وتحتاج إلى مساعدة أهل الخير من أمثالكم الأغنياء.

– إذا كنت آتيًا لهذا الغرض فإني أكتتب بخمسمائة جنيه.

فابتسم الأسقف وقال: إن هذا المبلغ كثير على غيرك أما عليك فهو قليل.

– إذًا أزيدك خمسمائة أيضًا فأكتتب بألف.

– إنك لو تعلم، يا سيدي الخدمة التي سأخدمك إياها لما ساومتني هذه المساومة …

فارتعش اللورد أفندال وقال: أية خدمة تعني؟

– إن جمعيتنا — يا سيدي اللورد — كثيرة الفروع، ولها مرسلون في كل مكان، حتى في زيلندا الجديدة، وقد رجع حديثًا أحد هؤلاء المرسلين إلى إنكلترا.

– وأية علاقة لي برجوعه؟

– إن علاقتك به يا سيدي أن هذا المرسل عرف في تلك البلاد حين كان فيها رجلًا منفيًّا يدعى ولتر بريس.

فاصفر وجه اللورد أفندال، وجعل السير أرشيبالد وابنته ينظر كل منهما إلى الآخر نظرات تشف عن القلق.

فقال له أفندال: أحق ما تقول؟

فأجابه الأسقف: بل أزيدك يا سيدي أن هذا الرجل — ولتر بريس — يقيم الآن في لندرا وهو يدعي أن اسمه الحقيقي اللورد وليم باميلتون؛ أي اسم أخيك.

– إن هذا الرجل مزور محتال.

فأجابه الأسقف ببرود: وهذا رأيي فيه.

ثم نظر إليه محدقًا وابتسم ابتسامة تشف عن معرفته الحقيقة، وأن المباحثة بجلاء خير من التمويه.

فأدرك أفندال معنى هذه الابتسامة، ولكنه لبث في موقف المتردد.

فقال له الأسقف: إن هذا الرجل سواء كان صادقًا أو كاذبًا فيما يدعيه فإنه قد يولد لك مشاكل ومصاعب على أني أستطيع أنا وقايتك منها.

– أحق ما تقول؟

– ذلك لا ريب فيه بشرط أن نتفق.

– إذًا قل ما تريد.

٤٢

ولم يدرِ أحد ما جرى بين هذا الأسقف وبين الثلاثة المتآمرين، غير أنه في التالي وردت إلى توما هذه الرسالة دون توقيع، وهي: «إن رجلًا لا يستطيع التصريح باسمه، ولكنه يخلص إخلاصًا شديدًا للورد يخبر توما أن الضابط برسي رجع إلى مسقط رأسه في مدينة بيرب من أعمال إيكوسيا.

وهو الآن في حالة عسر شديد يعيش من دريهمات تنفقها عليه الحكومة وقد ذهب بصره وهو يقيم مع ابنته في تلك المدينة.

إنه شديد الفقر إذا أعطيته القليل من المال باح لك بما يعلمه من ذاك السر الرهيب.»

فأخذ توما الرسالة إلى اللورد وليم، فلما اطلع عليها قطب حاجبيه ثم قال: إني أخشى أيها الصديق أن تكون هذه الرسالة شركًا نصب لك وأشير عليك أن تذهب إلى بيرت.

– أتظنها مكيدة؟

– نعم، فإن مس إينا قد عرفتني، وأيقنتُ أنها ليست فقط لم تعد تحبني، بل إنها باتت شريكة زوجها الأثيم، وقد طلبت إليَّ أن أبرح إنكلترا، فأبيت وأخذت تكيد المكائد إذ لم تستطع إقناعي.

– وأية غاية لها من هذه الرسالة؟

– التفريق بيني وبينك بغية إضعافنا.

– إنك قد تكون مصيبًا، وسأكتب إليه بدلًا من أن أسافر.

وكان توما يعرف كثيرين في مدينة بيرت، بينهم رجل من تجار الخيول كان من أصدقائه المخلصين، فذهب إلى إدارة التلغراف وأرسل إليه الرسالة البرقية الآتية:

صديقي العزيز …

إن بيرت مدينة صغيرة، يعرف كل الناس بعضهم بعضًا فيها، فأرجو أن تخبرني إذا كان فيها رجل يدعى برسي كان من الضباط الذين يقودون المجرمين إلى منفاهم.

أرسل الجواب بهذا العنوان:

توما
وكيل اللورد باميلتون سابقًا
نمرة ١٧ شارع أدم سيتملس لندرا
وأقام ينتظر الرد فجاءه في المساء الجواب الآتي:

صديقي العزيز

إن الضابط برسي يقيم في بيرت، ولكنه مريض وحالته شديدة الخطورة.

فأخذ توما الجواب إلى اللورد وليم، وأطلعه عليه فقال له: مهما كان المبلغ الذي يحمله على الإقرار زهيدًا، لا أستطيع دفعه إليك، إذ لا مال لي.

– ولكن بقي لي مائة جنيه.

– إن هذا المبلغ لا يكفي.

– ولكني أسافر في كل حال، فإذا كان المبلغ غير كاف، فلا أعدم وسيلة للحصول على الكفاية من المال في تلك المدينة، إذ لي فيها كثير من الأصدقاء.

– إذًا سر على بركات الله.

فخرج توما من عنده كي يعد معدات السفر، فلما خرج تصدى له رجل تشير ملابسه على أنه من رجال الشرع، فحياه وقال له: إني أدعى يا سيدي إدوارد كوليرس.

– لقد تشرفت بمعرفتك يا سيدي، فهل أنت قادم إليَّ؟

– نعم إني أشتغل في مكتب المحامي سيمون.

فبرقت عينا توما ببارق السرور، وقال في نفسه: لا شك أن هذا المحامي قد تمعن في الأمر، ووجد وسيلة صالحة لفوز اللود وليم وإرجاع ثروته وألقابه إليه.

وأتم إدوارد كلامه فقال: إن غرفتي يا سيدي مجاورة لغرفة المحامي سيمون لا يفصل بين الغرفتين غير جدار رقيق من الخشب، بحيث إذا أصغيت سمعت كل ما يدور من الحديث بينه وبين زبائنه، وقد كنت أنت أمس عنده، أليس كذلك؟

– هو ذاك.

– إني سمعت حديثكما بالتفصيل، فلم تفتني كلمة منه.

فنظر إليه توما نظرة ريب، وقال: إذًا أليس هو المحامي سيمون الذي أرسلك إليَّ؟

– أرجو أن تصغي إلى حديثي حتى أتمه، يا سيدي، ثم سلني ما تشاء.

– تكلم.

– إني أشتغل منذ عشرين عامًا، وقد جمعت بعض المال مما كنت أقتصده، وأنا الآن طامع بشراء مكتب المحامي سيمون، فإنه يريد أن يتخلى عن الأعمال بعد أن نال ما ناله من الثروة، ولكني لا أزال في حاجة إلى ثلاثة آلاف جنيه لتتمة الثمن.

فابتسم توما ابتسامة حزن، وقال له: إذا كنت معتمدًا علي، فقد أخطأت.

– إني لست مخطئًا بقدر ما تتوهم، فقد قلت لك إني جمعت بعض المال باقتصادي، وأزيدك أن ما جمعته يربو على اثني عشر ألف جنيه، أما هذا المال فإني مستعد لوضعه بين يدي اللورد وليم، يتصرف به كيف يشاء.

فدهش توما لما سمع وقال: أحق ما تقول؟

– دون شك وفوق ذلك فإني من رجال الشرع المتضلعين، وإني واثق من كسب القضية.

– ألعل ذلك من الممكنات؟

– إني بالأمس كنت مترددًا بالحكم، أما اليوم فإني على أتم ثقة من الفوز، وأنا هو الذي أرسل إليك الرسالة.

– أنت هو مرسل الرسالة التي لا توقيع فيها؟

– نعم.

– إذًا؛ إن الضابط برسي هو في بيرت حقيقة؟

– لا بد أن تكون عرفت ذلك بالبرهان.

– هو ذاك فقد سألت عنه تلغرافيًّا في بيرت فأجابوني بالإيجاب.

– وهل عزمت على السفر؟

– إني مسافر الآن.

– ولكن كم لديك من المال.

– مائة جنيه.

– إن هذا المبلغ لا يكفي.

– ربما، ولكن هذا كل ما أملكه.

– إذًا خذ هذه الحوالة بألف جنيه، واسمح لي أن أعرض عليك شروطي …

– ما هي؟

– هي أنه حين نكسب القضية يكون لي منها خمسون ألف جنيه.

فأخذ توما الحوالة منه، وقال: سيكون لك هذا المبلغ.

فقال له إدوارد: اذهب إلى بيرت وأحضر برسي، وأنا الضمين بإقناعه على الإقرار.

– أأستطيع أن أكتب لك من بيرت؟

– لا فائدة من الكتابة فإن كل الفائدة بحضور برسي.

ثم تركه وانصرف.

أما توما فإنه عاد إلى اللورد وليم وأخبره بجميع ما جرى، وقال: إن ساعة الانتصار قد دنت يا سيدي.

فأجابه اللورد بلهجة المرتاب: من يعلم؟

وبعد هنيهة ركب توما القطار المسافر إلى أدمبرج، وكانت الساعة الثامنة من المساء.

وكان وحده بالمركبة، ولم يلق فيها أحدًا من الركاب، وفي المحطة الثانية دخل مسافر وجلس بالقرب من توما في تلك المركبة.

فتعارفا وبعد حين أخذ المسافر سيكارًا من علبته وقدمه لتوما فأخذه منه وجعل يدخن بها.

ولم يكد يأتي على آخره حتى نام نومًا عميقًا.

٤٣

كان هذا السيكار الذي قدمه الرجل لتوما يحتوي على مادة مخدرة، بدليل أن توما نام على أثر تدخينه عدة ساعات.

فلما استفاق وجد نفسه في ظلام دامس، وحاول أن يتحرك فلم يستطع؛ لأنه كان مقيد اليدين والرجلين، فحسب أن القطار واقف.

غير أن عينيه تعودتا تباعًا على الظلام فرأى أنه لم يكن نائمًا في قطار فجعل يصيح مستغيثًا دون أن يجيبه أحد.

وعند ذلك حاول أن ينهض فسقط على الأرض وشعر أن الأرض رطبة، فعلم أنه في قبو.

فتمثلت له الحقيقة وأيقن أنهم نصبوا له شركًا بغية التفريق بينه وبين اللورد وليم.

فانقطع عن الصياح وجعل يفكر فيما صار إليه.

ثم أجال في ذلك المكان المظلم نظرًا فاحصًا، فرأى نورًا ضعيفًا قد ظهر له ثم توارى.

وفحص الأرض التي كان ملقيًّا عليها، فلم يجد ترابًا بل خضبًا رطبًا، ثم شم رائحة زفت، وشعر بعد ذلك باهتزاز عظيم، فعلم لفوره أنه في عنبر سفينة.

وبعد هنيهة سمع وقع أقدام فوق رأسه وعاد النور إلى الظهور، ثم تلا ذلك أصوات بشرية عقبها زيادة الاهتزاز.

وعند ذلك سمع صوت صفير شديد، فلم يبق لديه شك أنه في سفينة بعد أن كان في قطار.

وقد كان المنكود يسأل نفسه إلى أين تسير به السفينة وبيد من وقع، فلا يهتدي إلى حل هذا اللغز.

وعند ذلك مر بخاطره اسم اللورد أفندال فوجف قلبه وعاد إلى الاستغاثة والصياح دون أن يجيبه أحد.

وكانت السفينة قد رفعت مرساها وأخذ النوتية يهتمون بها في بدء السفر فلم ينتبه إليه أحد.

ولكنه لم ينقطع عن الصياح وما زال يستغيث حتى رأى الباب قد فتح ودخل منه النور.

فرأى توما رجلًا دخل إليه فدنا منه وقال له: أأنت هو الذي كان يصيح هذا الصياح؟

– نعم أنا هو، فمن الذي قيدني قيد المجرمين؟ ومن جاء بي إلى هذه السفينة؟

فجعل النوتي يضحك وقال له: اذهب واسأل الربان هذا السؤال، أما أنا فلا أعلم شيئًا من أمرك، على أني أنذرك أنك إذا رجعت إلى مثل هذا الصياح المزعج، جلدتك خمسين جلدة، وقد أعذر من أنذر.

– إني لا أطيق الجلد وسأنقطع عن الصياح كما أردت إنما أرجوك أن تخبرني أيها الصديق أين أنا؟

– إنك في عنبر سفينة.

– وإلى أين مسافرة هذه السفينة؟

– إلى أميركا.

– ولكن كيف وصلت إلى هنا ومن جاء بي؟

– لا علم لي بشيء من هذا.

ثم تركه وانصرف.

وبعد ذلك ببضع ساعات رجع إليه بشيء من الطعام والشراب فوضع المائدة أمامه وفك قيود يديه كي يستطيع أن يأكل.

وكان اليأس قد تمكن من قلبه، والسفينة مجدة في السير، فمضى النهار وعقبه الليل.

ثم تعاقب الليل والنهار وفي كل يوم يأتيه النوتي مرة بالطعام، ثم يقيد يديه بعد أن يفرغ من الأكل.

وبعد ثلاثة أيام جاءه النوتي وقال له: لدي أوامر جديدة من الربان، فقد رأى أنه لم يبق فائدة من بقائك في العنبر.

– أحق ما تقول؟

– بلا ريب والبرهان أني سأفك قيودك وأصعد بك إلى ظهر السفينة إذ لم نعد نخاف شيئًا الآن.

– ماذا تعني بما تقول؟

– إننا أصبحنا على بعد مائة مرحلة من الشواطئ الإنكليزية، فلم نعد نخشى أن تفر سباحة.

ثم فك قيده وصعد به إلى ظهر السفينة.

وبعد أن فحص توما هذه السفينة قال في نفسه: إن هذه الباخرة هي من بواخر الحكومة، فإن ربانها من الضباط، ولا شك أنه من أهل الظرف والأدب فإني سأكلمه بأمري فيعلم أن سجني في باخرته إنما كان خطأً ومكيدة فيطلق سراحي.

وعند ذلك جعل ينتظر مناسبة تمكنه من محادثة الربان.

وكان البحارة ينظرون إليه منذهلين، ولم يكلمه أحد.

ولبث صابرًا إلى أن أقبل الظلام، فرأى الربان قد صعد إلى حيث كان واقفًا ينتظره.

فأسرع إليه وحياه بملء الاحترام، ولكنه لم يلبث أن بدأ بشكواه حتى قاطعه الربان بعنف وقال له بجفاء: إني لا أستطيع أن أخبرك بشيء وغاية ما أستطيع قوله أني تلقيت أوامر بشأنك فأنفذتها كما تلقيتها.

ثم تركه وانصرف.

فذهب توما واليأس ملء قلبه إلى الربان الثاني، فلقي من قسوته أشد ما لقي من الأول، وقال له: إنك إذا عدت إلى التثقيل علينا بمثل هذه الأسئلة وضعتك في أصفاد الحديد.

فتركه توما آسفًا حزينًا، وقد علم أنه لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه، فأقام في تلك السفينة ينتظر فرصة تمكنه من الفرار، وقد طال انتظاره.

ولكن هذه الفرصة قد وافته فاغتنمها، كما سنبينه للقراء.

٤٤

إن هذه السفينة التي كان مسافرًا عليها توما، كانت ذاهبة إلى بونس أيرس.

وقد وصلت بعد اجتيازها البحار خمسة عشر يومًا إلى قرب تناناريف، فكانت السماء صافية والبحر ساكنًا هادئًا.

فواصلت سيرها، ولكنها لم تسر بضعة أميال حتى برد الهواء فجأة، وظهر بعض الغيوم في تلك السماء الصافية.

وكان الربان من المدربين في هذه المهنة الشاقة، فلما شعر ببرد الهواء فجأة أخذ منظاره وجعل ينظر إلى تلك الغيوم، فراقبها حينًا ثم قطب حاجبيه ولم يفه بحرف.

أما توما فقد استسلم إلى القضاء، وكانت له الحرية المطلقة بالإقامة أين يريد في السفينة.

وقد أذن له الربان بالتكلم مع البحارة، فلم يعد يخطر في باله بعد أن أمعنت في السفر أن يبرحها، ولكنه كان يراقب كل ما يجري فيها وقد رأى الربان حين نظر بمنظاره إلى الغيوم، ورأى تقطيب حاجبيه، فعلم أن العاصفة تنذر السفينة.

فلما أقبل الليل أمر الربان بإيقاف السفينة، فسر توما سرورًا عظيمًا، وإنما أمر بإيقافها لأنه رأى الرياح قد سكنت والأمواج قد ارتفع زبدها فقال للبحارة: ها هي العاصفة بدأت مقدماتها.

ثم هجم الليل وهبت العاصفة فكانت هائلة وأخذت السفينة ترقص فوق تلك الأمواج الثائرة.

وكان توما يعلم أن تناناريف لا تبعد غير مرحلتين، عن موقف السفينة.

فبينما كانت السفينة في أشد هياجها، وبحارة السفينة يخضعون جميعهم للربان كأنهم رجل واحد ويمتثلون لصوته الجهوري الرنان.

وبينما الصواري تكاد تنكسر لقوة الرياح، سمع صوت قائل يقول: «رجل في البحر.»

ولم يعلم أحد إذا كان هذا الرجل قد حملته السفينة أو أنه ألقى نفسه إلى البحر طائعًا مختارًا.

ثم إنهم لم يعلموا إذا كان من البحارة أو من المسافرين، بل إنهم لم يحاولوا أن يبحثوا لانشغالهم بما كانوا فيه من مقاومة العاصفة وإنقاذ السفينة مما كان يحدق بها من الأخطار.

وعند الصباح هدأت العاصفة وسكنت الأمواج، فعلم الربان أن الرجل الذي سقط في البحر كان توما.

ثم أخذ سجل السفينة وكتب فيه ما يأتي:

في هذه الليلة حملت الأمواج المدعو توما عن ظهر السفينة فغرق، وهو الرجل الذي أنقله إلى أميركا بأمر الرسالة الإنجليكانية في لندرا.

وواصلت السفينة سيرها غير أن ربانها كان مخطئًا في توهمه؛ لأن توما لم يغرق إذ كان من الماهرين في السباحة.

فما زال يسبح في ذلك الظلام الدامس ويقاوم تلك الأمواج الثائرة، حتى عثر — وقد أشرف على الغرق — بلوح كبير من الخشب كان السبب في نجاته، فإنه أمسك به واستراح، وجعلت الأمواج تقذفه وهو ممسك باللوح حتى بلغ البر.

إن هذا الرجل الذي لقيه في القطار وأعطاه السيكار المخدر، لم يكن غرضه سرقة ماله، بل الاحتيال على إقصائه، ولذلك أبقى له منطقته وفيها ما كان لديه من المال.

وقد كان أول وصوله إلى شاطئ مهجور، لا ينتابه غير الصيادين، فسقط مغميًّا غليه فوق تلك الرمال، لفرط ما عاناه من التعب.

فجاء أحد الصيادين عند الفجر ليتفقد شباكه، فوجده وعالجه حتى استفاق فذهب به إلى عاصمة الجزيرة.

وهناك ذهب توما إلى قنصل الإنكليز، وطلب إليه أن يعيده إلى بلده.

وقد اضطر أن يصبر ثمانية أيام إلى أن سارت باخرة نرويجية في تلك الميناء كانت مسافرة إلى أوروبا، فرجع عليها إلى إنكلترا، فاستمرت الباخرة في سفرها شهرًا كاملًا.

على أن توما كان قد كتب رسالتين من تناناريف، إحداهما إلى زوجته والأخرى إلى اللورد وليم، فشرح لهما أمره وفصل المكيدة، ثم طلب إليهما أن يختبآ في لندرا وأن لا يفعلا شيئًا قبل عودته.

وكان توما قد سافر إلى إيكوسيا وهو قد علم بعض الحقيقة، فقد كان واثقًا أن إدوار لم يخدعه وأن الرجل الذي أرسل إليه التلغراف من بيرت كان هو نفس الرجل الذي يعرفه، ولذلك كان واثقًا كل الثقة أن الذي نصب له هذه المكيدة إنما كان اللورد أفندال دون سواه.

ولذلك سافر توًّا إلى إيكوسيا ولم يقف إلا في بيرت.

فذهب حين وصوله إلى مركز البريد راجيًا أن يجد رسالة من زوجته أو من اللورد وليم فلم يظفر بشيء، فذهب إلى منزل ذلك الصديق الذي أرسل إليه الرسالة البرقية فعلم أن هذا الرجل قد برح مدينة بيرت منذ أعوام بعيدة، وأيقن أنه ليس هو الذي كتب إليه تلك الرسالة.

على أنه لم ييأس بعد كل ما اتفق له بل جعل يبحث عن برسي بأتم تدقيق فما وجد أحدًا رآه في تلك المدينة حتى إنه لم يجد من يعرفه فيها.

وعند ذلك عاد المنكود إلى لندرا عودة القانط، وأسرع إلى شارع أدم ستريت حيث ترك امرأته واللورد وليم، فكاد يجن من قنوطه حين علم أن اللورد قد برح المنزل منذ شهر، فلم تحبط هذه المصاعب عزمه، وأخذ يبحث عنهم وهو يقول: لا بد لي أن أجدهم أينما كانوا.

٤٥

وقد كان وصول توما إلى لندرا في الليل، فاضطر أن يؤجل أبحاثه إلى اليوم التالي.

وفي صباح اليوم التالي ذهب توما إلى مكتب المحامي سيمون، وأخبره بما اتفق له مع إدوارد الذي يشتغل في مكتبه.

فدهش المحامي دهشًا عظيمًا إذ لم يشتغل عنده رجل يدعى بهذا الاسم.

فأخبره توما بجميع ما جرى له وعن احتجاب امرأته واللورد وليم.

فقال له المحامي: إني لم أر أحدًا منهم على أن تلك الأمور التي أراك تستغربها لا أجد فيها شيئًا من الغرابة لأني كنت أتوقع حدوث مثلها، ألا تذكر أني حذرتك من السير أفندال؟

– والآن ماذا نصنع؟

– خير ما تصنعه هو أن ترضى بما عرضته عليك من قبل بشأن التسوية.

– ولكن هذا الشقي قد يكون قتل أخاه.

– إني لا أرى ما تراه، ألم تقل لي إن امرأتك واللورد وامرأته وولديه قد اختفوا؟

– نعم.

– إذًا اطمئن فإن قتل خمسة أشخاص ليس بالأمر اليسير.

– إذًا ماذا صنعوا بهم؟

– أصغ إلي أيها الصديق فإن ميزتي أن لا أهتم بما يتعلق بأعمال غيري، إني أصبحت واثقًا الآن أن اللورد وليم لا يزال حقيقة من الأحياء، وقد أشفقت عليك وعليه، وعولت على أن أهتم بأمره وبأمرك.

إني لا أزيدك الآن شيئًا على ما قلته، فعد إلي في هذا المساء وسوف ترى ما يكون.

فتركه توما وانصرف هائمًا على وجهه في لندرا يبحث عن امرأته وسيده دون جدوى.

ولما أقبل المساء رجع إلى المحامي ولم يكن لديه عند ذلك سواه، فقال له: ألعلك لقيت أحدًا من الضائعين؟

– كلا واأسفاه.

– أما أنا فقد كنت أسعد حظًّا منك.

فصاح توما صيحة فرح وقال: كيف ذلك يا سيدي؟

– لا تتسرع بالسرور أيها الصديق.

– رباه ماذا حدث ألعلهم ماتوا؟

– كلا، ولكنهم كادوا لهم مكيدة فسيحة أتعلم أين هو الآن هذا اللورد المنكود يا توما؟

– أين؟

– إنه في بدلام …

فصاح توما صيحة يأس وقال: أهو مجنون؟

– كلا، ولكنهم وضعوه في مستشفى المجانين، فإني أعرف بوليسًا ماهرًا يدعى روجرس، فدعوته إلي بعد انصرافك من عندي، وعهدت إليه أن يبحث عن اللورد، فقال لي: إن مسألة هذا اللورد قد عرضت علي فأبيت أن أتولاها، ولكني أعرف حقيقة ما حدث وإليك ما أخبرني به هذا البوليس.

إنه في اليوم التالي لسفرك ورد تلغراف منك إلى اللورد وليم.

فقاطعه توما وقال: تلغراف مني، إني لم أرسل له شيئًا!

– إنه تلغراف مزور، وقد كان مفاده ما يأتي: «وجدنا برسي، إن إدوار سافر ليقابلك فاصنع ما يقوله لك.»

وفي اليوم نفسه زار إدوار اللورد وليم، فأملى عليه مذكرة طويلة مزجها بعبارات كثيرة غير مفهومة، فكان إذا اعترض عليها وليم يقول له إدوار: إنها اصطلاحات قضائية تشكل عليك لأنك لم تألفها، ثم عهد إليه أن يذهب بنفسه إلى وزير الحقانية ويقدم له هذه المذكرة.

وبعد ذلك بيومين ورد إلى اللورد وليم كتاب منك.

فقاطعه توما قائلًا: ولكني لم أكتب إليه.

– هو ذاك، ولكنهم قلدوا خطك.

– وماذا كتبوا بلساني؟

– إنك كتبت إليه تقول: إن برسي مريض، وأنك مضطر إلى ملازمته حتى يبرأ.

وبعد ذلك بثمانية أيام صدر الأمر إلى اللورد وليم باسم ولتر بريس أن يذهب إلى نظارة الحقانية.

فذهب مسرعًا والرجاء ملء قلبه، ولكنه لم يعد في المساء فقلقت امرأته وامرأتك إلى أن ورد إلى امرأته كتاب بتوقيع اللورد وليم، فإنهم زوروا خطه.

وكانت خلاصة هذا الكتاب أن ناظر الحقانية لم يشكك في قول وليم، وأنه دعا إليه أفندال وجمعه به فاعترف بكل ما كان.

غير أن ناظر الحقانية نظر نظرة خوف إلى جسامة هذه القضية وأشفق على أسرة باميلتون من الفضيحة، فوفق بين الأخوين وعقد تسوية بينهما، وهي أن يقبض اللورد وليم من أخيه مائتين وخمسين ألف جنيه، ويستولي على قصر أسرة باميلتون الكائن في باريس في شارع أونوريه، وتكون إقامته في فرنسا.

وقد قال في ختام هذا الكتاب: إنه مسافر إلى فولكستون، وإنه ينتظر فيها امرأته وولديه، ثم دعا بيتزي إلى السفر إلى بيرت لتخبر زوجها توما وتأتي به إلى لندرا، ثم تسافر وإياه إلى فرنسا.

وكان يوجد في طي الكتاب ورقة مالية قيمتها مائة جنيه، فلم تشكك امرأته بشيء في هذا الكتاب لأن الخط كان مقلدًا أتم تقليد، والحكاية معقولة لا تحمل على الريب.

وأسرعت امرأة اللورد إلى دفع ما كان عليها من الدين ثم ركبت مركبة مع ولديها وسارت إلى محطة الجنوب، ولم يرها أحد بعد ذلك العهد.

فقال له توما: وماذا جرى للورد وليم؟

– إن ناظر الحقانية لم يصدق كلمة من حكايته، وقد ورد إليه في الوقت نفسه شكوى من اللورد أفندال خلاصتها أن أحد المجرمين قد انتحل اسم أخيه الميت وطلب معاقبته.

وبينما كانت امرأة اللورد وليم مسافرة مع ولديها إلى فولكستون، كان طبيبان من أطباء المجانين يفحصان اللورد وليم، فما ترددا في الحكم عليه أنه مجنون.

فاضطرب توما وقال: وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك أرسلوه إلى مستشفى المجانين ولا يزال فيه.

– وامرأتي؟

– إنها سافرت في اليوم نفسه إلى إيكوسيا في مركبة النساء، فلما بلغت إلى المحطة الأولى ادعت إحدى السيدات أنها قد سرقت في القطار.

فأقبل البوليس وفتش جميع النساء المسافرات فوجد كيس النقود المسروق في جيب امرأتك بيتزي فقبض عليها وذهب بها إلى السجن.

فصاح توما صيحة يأس وقال: رباه لقد قطع كل رجاء.

– لا تقنط يا توما فلا يزال لنا رجاء وطيد.

٤٦

فجعل توما ينظر إليه حائرًا مبهوتًا دون أن يفوه بحرف، فقال له المحامي: إنك بحثت عن برسي دون شك.

– إني بحثت عنه في كل مكان فلم أظفر بأثره ولا شك أنه قد مات.

– إنك مخطئ يا توما فهو لا يزال في قيد الحياة.

– أأنت واثق مما تقول؟

– كل الثقة، فإنك بينما كنت تبحث أنت عنه كنت أنا أبحث أيضًا، فعلمت أن برسي في قيد الحياة، وأنه ليس أعمى، ولا هو مريض بل إنه بأتم صحة.

– أين هو؟

– في لندرا …

ثم قرع جرسًا فأسرع إليه أحد الموظفين فقال له: اركب مركبة وسر بها إلى ذلك الرجل الذي جاءني أمس وأتني به.

وذهب الموظف، وعند ذلك قال المحامي لتوما: إنك استرسلت إلى اليأس منذ هنيهة، فلا تتمادى بالسرور الآن، فأصغ إلي، فإن برسي مقيم في لندرا وسيبوح بما يعلم مقابل مبلغ اتفقت معه عليه، بل هو سيفعل أكثر من ذلك فإنه سيقنع الحارسين اللذين شاركاه بالجريمة على الاعتراف أيضًا فيكون لدينا ثلاثة شهود وهذا فوق الكفاية.

وقد اعتزل هؤلاء الثلاثة خدمة الحكومة، ولهم الآن رواتب تقاعد فإن علمت الحكومة بما ارتكبوه ربما حكمت عليهم بالإعدام.

وعاد توما إلى الاضطراب وقال له: إذًا كيف ترجو أن يبوحوا؟

– لقد وجدت طريقة يقرون بها دون أن تنالهم يد الحكومة، وهي أني أعطي كل واحد منهم ألفًا وخمسمائة جنيه، وهو السعر الذي اتفقت عليه معهم لحملهم على الإقرار، وبعدها يبرحون لندرا إلى فرنسا.

فقال له توما: إذًا لا يبوحون.

– بل يعترفوا، ذلك أنهم حين وصولهم إلى باريس يذهبون إلى سفير إنكلترا ويعترفون له بجميع ما حدث، ويخبرونه أيضًا بخيانة ذلك السجان الذي وضع الحية في فراش ولتر بريس الحقيقي فيقبضون عليه فجأة ولا بد له عند ذلك من الإقرار.

فقال توما: إذًا يحكمون على هذا السجان؟

– هو ذاك، ولكنه يستحق أشد عقاب إذ كان له أطول يد في الجريمة.

فغلب السرور على توما وقال: إذًا كسبنا القضية.

– لا تتسرع بالحكم، فإن اللورد أفندال قوي، ولا تأذن الحكومة بافتضاح مثل هذا البيت النبيل.

فأطرق توما برأسه وقال: إذًا أية فائدة لنا بشهادة برسي ورفيقيه؟

– إنها تفيدنا بالحصول على التسوية؟

– أية تسوية تعني؟

– التسوية التي اقترحها خصومنا في كتابهم المزور إلى اللورد وليم.

– مائتان وخمسون ألف جنيه.

– وقصر باميلتون في باريس أيضًا.

– بواسطة تلك الأوراق فأتسلح بها وأذهب إلى اللورد أفندال فيخاف من الفضيحة بعد أن يرى تلك البراهين الجلية ويرضى بالتسوية على ما نبسطه له، ثم يطلق سراح أخيه من مستشفى المجانين بكلمة يكتبها.

– وبعد ذلك؟

– يبرح اللورد وليم لندرا إلى باريس، وهناك تتم المبادلة؟

– أية مبادلة تعني؟

– يقبض المال الذي اتفقنا عليه ويسلم أوراق ملكية القصر، وفي مقابل ذلك يرد لهم القرار المسجل بالسفارة.

غير أن توما لم يقتنع وكبر عليه أن يتنازل مولاه عن اسمه وحقه مقابل مال، فقال له المحامي: إنك لا تزال على خطئك على أنك لو علمت كم تقتضيه مثل هذه القضية من الزمن لرجعت عن هذا العناد، فقد يمر أعوام طويلة قبل أن يصدر الحكم فيها.

– وماذا يضرنا إن كان النجاح مضمونًا؟

– وجه الضرر فيه أن عائلة اللورد تموت جوعًا، وأن اللورد المحبوس بين المجانين يصبح مثلهم.

ثم إني لا أكتمك أيها الصديق أن هذه القضية يقتضي لها عشرون ألف جنيه على الأقل، ولا أستطيع المخاطرة بهذا المبلغ الجسيم.

فلم يجد توما بدًّا من الامتثال بعد هذه البراهين المفحمة، وقال: إذًا ليكن ما تريد.

– هذا الذي كنت أرجوه منك فقد انصعت للحق بعد ذاك العناد.

وعندها دخل الضابط برسي، وكان لا يزال شابًّا وعليه دلائل القوة والنشاط. فدله المحامي على توما، وقال له: إننا متفقون على كل الأمور ولم يبق إلا التنفيذ، فهل تسافر الليلة إلى باريس؟

– أسافر دون شك …

– إذًا هذه الخمسمائة جنيه لك ولرفاقك وسندفع لك الباقي بعد التسجيل.

ثم أخذ دفتر الحوالات فكتب له حوالة على أحد مصارف باريس وأعطاه إياها.

٤٧

فأخذ الحوالة ووضعها في جيبه، وقد برقت عيناه بأشعة الفرح، فقال له المحامي: اذهب الآن وتأهب للسفر في المساء، وعندما تصل إلى باريس أرسل إلي تلغرافًا يرشدني إلى الفندق الذي نزلت فيه مع رفاقك.

– أيجب أن نذهب إلى السفارة حين وصولنا إلى باريس؟

– كلا، بل تصبرون إلى أن يوافيكم هذا الرجل، وأشار إلى توما.

فخرج برسي ممتثلًا وبقي توما مع المحامي، فقال له: وماذا تصنع بامرأتي المنكودة وهي في السجن؟

– إنها ستخرج منه.

– كيف ذلك؟!

– إني أطلق سراحها بضمانة مالية.

– ولكنها إن برحت إنكلترا تخسر المال.

– لا بأس فإني أضيفه إلى ما أدفعه من نفقات اللورد وليم.

فأطرق توما برأسه إلى الأرض وبعد سكوت قصير قال له: ألم تقل لي يا سيدي إن امرأة اللورد وولديه قد احتجبوا؟

– نعم …

– ألعلهم أصيبوا بمكروه؟!

– هذا ما كنت أخشاه، أما الآن فقد اطمأننت عليهم بعض الاطمئنان.

– كيف ذلك …

– ذلك أني أرسلت في أثرهم ذلك البوليس الذي أخبرتك عنه، فوردني منه في صباح اليوم تلغراف يقول فيه: إنه موشك أن يقف على أثرهم.

– أتظن أنه سيجدهم؟!

– هذا لا ريب فيه.

فنهض توما يحاول الانصراف وقال: سأعود إليك في الغد.

– كلا، لا يجب أن يعلموا أنك حي إلا حين يكتب برسي ورفيقاه إقرارهم، ويسجلون ما كتبوه في السفارة وتصبح هذه الأوراق في يدنا، فقل لي أين تقيم الآن؟

– إني لم أجد بيتًا بعد.

– يجب أن تقيم في شارع بعيد.

– سأفعل، ولكن متى يجب أن أسافر؟!

– حينما يرد إلي نبأ من البوليس يدل على التقائه بامرأة اللورد وولديها.

– ألا يجب أن أرى اللورد وليم قبل سفري …؟

– إن الدخول إلى مستشفى بلدام غير ميسور …

– ولكنهم قد يرخصون للبعض.

– نعم … ولكن أعداءنا يراقبوننا كل المراقبة، وقد قلت لك: إنه يجب أن يعتقدوا أنك ميت إلى أن نحصل على الأوراق.

– ولكن أين أجدك غدًا.

– إني سأركب مركبة بين الساعة التاسعة والعاشرة قرب الحدائق فكن في ضواحيها.

ثم افترقا، وفي اليوم التالي ذهب توما في الموعد المعين لمقابلة المحامي فلقيه وقال له: أوجد البوليس امرأة اللورد؟!

– نعم … وهذا كتاب البوليس بشأنها فخذه واقرأه …

فأخذ توما منه الكتاب وقرأ ما يأتي:

إني أكتب إليك يا سيدي من المحل الذي تقيم فيه مدام بريس، وإنما كتبت لك رسالة بدلًا من تلغراف كي لا يطلع على ما أكتبه إليك سواك.

إن مدام بريس الآن في بريتون تقيم في منزل صغير عند شاطئ البحر، وهي لا تعلم شيئًا من دخائل المكيدة التي كيدت لزوجها، وتعتقد أنه ينتظرها في باريس، وإليك ما حدث لها بالتفصيل.

إن الكتاب الذي أرسل إليها بتوقيع زوجها كان الخط فيه مقلدًا أتم تقليد بحيث لم يحدث في فؤادها شيئًا من الريب.

وهي قد برحت لندرا منذ ثلاثة أيام كما تعلم، فلما وصلت إلى فولكستون لقيت رجلًا ينتظرها في المحطة.

ولم يكن هذا الرجل زوجها كما كانت تتوقع، بل كان رجلًا يدعي أنه قادم من قبل زوجها فأعطاها كتابًا منه، وحسبت تلك المنكودة أنه حقيقة من زوجها لإتقان تقليد الخط.

أما هذا الكتاب فقد كانت خلاصته: أنه عرض على شروط الاتفاق بينه وبين أخيه بعض التبديل والتحوير، فاضطر اللورد وليم للذهاب وحده إلى باريس، وهو يرجوها أن تعتمد كل الاعتماد على الرجل الذي أرسله إليها.

فوثقت تلك المنكودة بهذا الكتاب، كما وثقت بالكتاب الذي تقدمه، وسافرت مع ذلك الرجل إلى بريتون؛ حيث أقامها في منزل صغير وجدتها فيه صباح اليوم.

وقد وردها غير هذا الكتاب كتاب آخر من زوجها وفي طيه ما تحتاج إليه من النفقة، فلم أر من الصواب أن أخبرها بالحقيقة قبل أن ترد إلي أوامرك، وإني أخبرتها أني قادم إليها من قبلك لعلمها أنك أنت الذي تتولى عقد التسوية بين اللورد وأخيه، وفي كل حال فإني أنتظر أوامرك.

وبعد أن أتم تلاوة الكتاب رده إلى المحامي وقال له: ماذا فعلت؟

– أرسلت تلغرافًا إلى البوليس استحسنت فيه عمله.

– وماذا تصنع الآن؟

– يجب أن تسافر اليوم إلى باريس، وهذه حوالة على مصرف سامفري تقبض بموجبها ما تحتاج إليه من النفقات.

فأخذها توما، وقال له: أعلم اللورد وليم بشيء.

– كلا.

– إذًا لا بد أن يكون يأسه شديدًا.

– دون شك، ولكن ذلك خير من أن يعلم الحقيقة.

– لماذا؟

– حذرًا من أن ننبه اللورد أفندال.

– وأين أجد برسي ورفيقه في باريس؟

– لقد وردني منه تلغراف مفاده أنه يقيم في فندق شامبانيا في شارع مونتمار.

– ومتى ذهبت إلى عنده والتقيت به ماذا أصنع؟

– تذهب به توًّا إلى السفارة فمتى سجلت الأوراق تكتب لي؟

– بعد ذلك؟

– وبعد ذلك أذهب فأقابل السير أفندال.

فودعه توما وانصرف وعاد المحامي بمركبته إلى مكتبه.

وقد سافر توما بعد ساعة إلى باريس، وفي اليوم التالي ورد إلى المحامي هذا التلغراف:

القرار تم والسفير اقتنع والأوراق سجلت، وأنا مسافر هذا المساء إلى لندرا.

توما

فسر المحامي لهذه الرسالة وقال: إنها تسفر عن خير النتائج، ولا بد للورد أفندال أن يذعن بعد أن يقف على الحقيقة.

٤٨

ولما عاد توما من باريس كان في استقباله على المحطة امرأته والمحامي، فإن المحامي كان قد أطلق سراحها بضمانة.

وكانت ملامح توما تدل على الفوز؛ فإنه كان يحمل إقرار برسي مصدقًا عليه من السفارة.

فأخذ المحامي الأوراق منه وقال له: لقد بدأت الآن ساعة العمل فسأكتب إلى اللورد أفندال كي يعين لي موعد الاجتماع.

وفي اليوم التالي ذهب المحامي وتوما إلى منزل اللورد، ولما وصلا إليه قال المحامي لتوما: ابق أنت في المركبة، فإذا احتجت إليك دعوتك لأني أخشى أن تبدر منك بادرة غضب تفسد أمرنا معه.

ثم تركه في المركبة وصعد إلى منزل اللورد فوجده ينتظره.

ولم يكن اللورد أفندال يعلم ما يريده منه المحامي، غير أنه كان يعلم أنه كان يتولى أعمال أسرته في عهد أخيه، فقال في نفسه: إنه قادم لمثل تلك الأعمال دون شك.

أما المحامي فإنه بقي واقفًا فقال له اللورد: في أي شأن طلبت مقابلتي يا سيدي؟

– إني قادم بالوكالة عن أخيك يا سيدي اللورد.

– أي أخ تعني؟!

– أخاك البكر اللورد وليم.

– ولكني أخي البكر قد مات منذ عشرة أعوام.

– هذا ما كان يعتقده الناس.

– ولكنها الحقيقة.

فقال له المحامي ببرود: يوجد اثنان أيضًا يا سيدي اللورد يعتقد الناس أنهما من الأموات.

– من هما؟

– إن الأول يدعى تونا.

فارتعش اللورد وقال: والثاني؟

– هو برسي.

– إني لا أعرف هذا الرجل.

– ربما، ولكنه هو نفس الرجل الذي أعان أباك السير جورج على استبدال أخيك الحي بجثة ولتر بريس.

فقال له اللورد: إنك ما زلت عارفًا بهذه الأمور فلنتحدث بجلاء.

– إن هذا كل ما أتمناه يا سيدي اللورد.

– إذًا فاعلم أنه يوجد رجل شقي قد انتحل اسم أخي الفقيد بغية النصب علي فعلمت ذلك ولكني طلبت إلى الحكومة تأديبه.

– إني عارف يا سيدي بجميع ما صنعت.

– وإن الحكومة قد استعملت معه الرأفة فوضعته في مستشفى المجانين.

– ولكن لهذا الرجل امرأة وبنين.

– قد يكون ذلك.

– وإن جميع ذلك قد جرى بأمرك.

فأجابه اللورد بعظمة: إني أراك قد وقفت معي موقف قضاة التحقيق.

– أسألك المعذرة يا سيدي اللورد عما بدر مني، وإنما أردت به أن أظهر لك وقوفي التام على كل خفايا هذه المسألة الخطيرة.

– حسنًا تكلم …

– اتفق يا سيدي ذات يوم أن امرأة ولتر بريس «وندعها الآن بهذا الاسم» قد ورد إليها كتاب بخط زوجها، ولكن الخط مزور، وقد تضمن هذا الكتاب الاتفاق على التسوية.

– مع من هذه التسوية؟

– معك يا سيدي …

– وما هي هذه التسوية؟

– هي أن اللورد وليم يتنازل عن اسمه ولقبه ويبرح إنكلترا مقابل مائتين وخمسين ألف جنيه يقبضها من أخيه اللورد أفندال.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك رأيت أن هذه التسوية موافقة للفريقين فجئت أقترحها عليك يا سيدي اللورد.

ثم أخرج ورقة من جيبه فوضعها على المنضدة أمام أفندال وقال: إنك حين تقرأ هذه الورقة يا سيدي لا تتوقف لحظة عن قبول ما أقترحه عليك.

فجعل اللورد يقرؤها، وكان المحامي يراقبه فرآه قد اصفر وارتعش ثم بدرت منه بادرة غضب فدعك تلك الورقة بين يديه وكاد يمزقها.

فقال له: هذه صورة الأصل، أما النسخة الأصلية المسجلة في سفارة لندرا في باريس فإنها محفوظة في مكتبي.

فأطرق اللورد عند ذلك هنيهة مفكرًا ثم قال: لقد رضيت باقتراحك، فأية ضمانة تكون لي على تنفيذ شروطك؟

– إعدامك النسخة الأصلية المسجلة التي قرأت صورتها الآن فإنها البرهان الوحيد الخطير في هذه القضية.

– حسنًا، غير أن ولتر بريس في مستشفى المجانين.

– هو ذاك، ولكن إن أردتم كان إخراجه منه سهلًا ميسورًا.

– أتظن ذلك؟

– بل أؤكد، فإن كلمة منك إلى ناظر الحقانية تكفي لإخراجه.

– ومتى خرج يبرح لندرا؟

– لفوره.

– وإذا دفعت المال، وأعطيته القصر في باريس، ترجع إلي نسخة الإقرار الأصلية؟

– دون شك، فما كنت يا سيدي من الكاذبين.

– إذًا ليكن ما تريد، فسأذهب إليك غدًا في مثل هذه الساعة ونبرم الاتفاق النهائي.

فحنى المحامي رأسه للورد وخرج إلى حيث كان ينتظره توما في المركبة، فقال له: قضي الأمر وكسبنا القضية.

فقال له توما والسرور باد بين عينيه: أرضي بكل اقتراحك؟

– إنه رضي بكل شيء.

– واللورد وليم أيخرج من المستشفى؟

– إنه يخرج غدًا دون شك، وفي كل حال عد إلي في الساعة الثانية بعد ظهر غد فإني أرجو أن يكون كل شيء قد انتهى.

وعند ذلك افترقا، فذهب المحامي إلى مكتبه وانصرف توما إلى امرأته والفرح ملء قلبه.

وكان توما مثل كل الإنكليز، فإن الإنكليزي إذا نال نعمة وأراد شكر الله عليها أصبح يحمده وكأس الشراب بيده، وهكذا توما؛ فإنه قضى مع امرأته بقية يومه وبعض ليله وهو يتجول بها من خمارة إلى أخرى، ويحمد الله لانفراج أزمة مولاه ويناجيه بما توحيه إليه كئوس الخمر، فلم ينم إلا عندما بلغ من الخمر كل مبلغ.

على أنه صحا في اليوم التالي ونامت السكرة، فجعل ينتظر دنو الساعة الثانية بفارغ الصبر.

حتى إذا حان الموعد المعين أسرع مهرولًا إلى مكتب المحامي، فلما وصل إلى قرب ذلك المكتب وجد الناس محتشدين جماهير عند باب منزل المحامي.

وكانت علائم الكآبة بادية في ثنايا الوجوه، فامتعضت نفس توما وحدثه قلبه بحدوث سوء، وحاول أن يخترق الجماهير إلى منزل المحامي فلم يستطع لشدة الزحام.

ولما رأى أن المرور قد تعذر عليه سأل أحد الناس عن سبب هذا الزحام فقال له: لقد حدث مصاب عظيم.

فارتعش توما واضطرب قلبه وجعل العرق البارد ينصب من جبينه.

فعاد إلى سؤال الرجل وقال له بلهجة تشف عن القلق: ولكن ماذا حدث يا سيدي؟

– مصاب عظيم.

– أي مصاب!

– إن سيمون المحامي مات.

٤٩

ولم يكن وقع الصواعق على توما بأشد من وقع هذا النبأ عليه، فصاح صيحة يأس وكاد يذهب عقله، وفي ذلك الحين دنا منه ذلك الموظف الذي كان قد أرسله المحامي لإحضار برسي وقال له: أعرفت هذه الفاجعة الذي أصابتنا يا سيدي؟

– ولكن هذا مستحيل.

– لقد كنت مثلك منذ ساعة لا أريد تصديق هذا النبأ المحزن الأليم، ولكني رأيته بعيني مسجى على فراش الموت.

ثم قص عليه تفصيل وفاته، فقال له: إنه عاد أمس إلى منزله وعلائم السرور بادية بين عينيه، فتعشى حسب عادته ونام قبل أن ينتصف الليل، وفي الساعة الثامنة من الصباح لم يخرج من غرفته، فاستبطأته امرأته وقرعت باب غرفته فلم يجبها أحد، ففتحت الباب ودخلت فرأت زوجها على فراشه لا حراك فيه.

وبعد هنيهة أقبل الطبيب فأثبت أنه مات بسكتة دماغية نتجت عن عارض مجهول.

فقال توما: أمات هنا في منزله؟

– كلا، بل مات في ضواحي لندرا.

– إذًا فما بال الناس محتشدون هنا قرب مكتبه؟

– لأن الجنود قد دخلت إليه.

فدهش توما وقال: أي شأن للجنود في مكتبه؟

– إن الحكومة قد أرسلت مندوبها لوضع الأختام على خزائنه وأوراقه.

ففعل هذا الخبر بتوما كما فعل به خبر الوفاة ذلك أن إقرار برسي المسجل كان موجودًا عند المحامي في إحدى خزائن مكتبه، وهو البرهان الوحيد الذي حمل اللورد أفندال على الرضى بالتسوية، وإنما هاله هذا الخبر؛ لأنه كان يعلم بطء الحكومة الإنكليزية، إذا وضعت على منزل أختامها لا تفضها إلا بعد عهد طويل.

وبعد أن خرج الجند تفرق الناس ولبث توما واقفًا قرب المكتب فمرت الساعة الثانية والثالثة دون أن يحضر اللورد أفندال، انتظر إلى المساء لم يحضر، عندئذ أيقن أن المحامي المنكود لم يمت حتف أنفه، وأن موته الفجائي لم يكن قضاءً وقدرًا، بل كان من مكائد أهل الشر والمكر، وأنه لم يضربه هذه الضربة القاتلة غير تلك اليد الخفية الهائلة التي قلدت خط اللورد وليم.

ثم وجد نفسه فردًا بإزاء أعدائه الأقوياء، فكبر عليه هذا الأمر وكاد أن يحيط به اليأس لولا نفسه الكبيرة ورجاؤه أن يتولى من يخلف المحامي هذه القضية.

وبعد أن أيقن بوفاة المحامي ذهب إلى امرأته فأخبرها بما اتفق وأخذها فاختبأ وإياها في شارع مقفر خمسة عشر يومًا.

•••

وفي خلال هذه المدة تولى أحد تلامذة المحامي أشغاله … فذهب توما إليه وأخبره بما كان فقال له: إني واقف على حقيقة الأمر بالتفصيل … وسأتولى القضية وأقابل اللورد أفندال، متى رفعت الحكومة الأختام وأملي وطيد بالفوز.

ورجع توما إلى المكان الذي كان مختبئًا فيه …

وبعد أسبوع أزيلت الأختام، ولكن حدثت نكبة كانت أشد ما لقيه توما من النكبات، وهي أن إقرار برسي المسجل لم يكن بين أوراق المحامي الفقيد … لأن يدًا أثيمة قد اختلستها من مكتبه قبل أن يضعوا الأختام.

غير أن المحامي لم ييأس فقال لتوما: عد إلى باريس واطلب إلى برسي أن يكتب إقراره مرة أخرى وهو مسجل.

فظهرت علائم اليأس على توما وقال: ويلاه إنه في اليوم الذي كتب فيه إقراره خاف خوفًا شديدًا فقبض المال وسافر إلى حيث لا يعلم أحد أين هو.

– إذًا قضي علينا بالفشل، فلا سبيل إلى الفوز بغير هذه الأوراق.

وخرج توما من عند المحامي خروج القانطين، وهو لا يعلم ليأسه أين يسير …

وقد اتفق ساعة خروجه أن اللورد أفندال خرج من البرلمان وذهب إلى النادي، فأقام فيه إلى الساعة الثالثة بعد انتصاف الليل.

ثم خرج منه ماشيًا على الأقدام إلى منزله لقربه من ذاك النادي، ولم يكد يسير بضع خطوات، حتى شعر أن رجلًا يتبعه، فأسرع في سيره، فرأى أن الرجل قد اقتدى به، حتى إذا وصل إلى تمثال نلسن — قرب ترافلغار — وقد دنا منه الرجل الذي كان يتبعه، وقال له: لي كلمة أقولها لك يا ميلورد.

فارتعش اللورد وقال: ماذا تريد …؟ تكلم …

فدنا الرجل خطوة منه أيضًا وقال له: ألم تعرفني أيها اللورد؟

فأجابه بجفاء: كلا.

– إني أدعى توما …

– ماذا تريد؟

– إني جئت أسألك إطلاق سراح أخيك.

فضحك اللورد وقال: لا شك إنك مجنون.

فقال له توما بصوت يضطرب: احذر أيها اللورد.

فانتهره اللورد وقال: ارجع إلى الوراء أيها الشقي.

ثم التفت فرأى بوليسًا على مسافة قريبة فناداه مستنجدًا فقال له توما: إن الجنود لا يدركونك إلا قتيلًا أيها السفاك …

ثم هجم عليه هجوم الضواري وطعنه بخنجره طعنة نجلاء اخترقت قلبه فسقط صريعًا دون أن يصيح …

أما توما فإنه صاح صيحة فرح وقال: الآن … لقد انتقمت منك لأخيك أيها القاتل السفاك، فمت غير مأسوف عليك … لقد استراحت الأرض من شرورك وآثامك.

٥٠

كانت بيتزي واقفة على جميع مشروعات زوجها توما، إذ كان يطلعها على كل أسراره ونواياه، وكان قد أخبرها بعزمه على الانتقام من اللورد أفندال إذا لم يحقق طلبه وينصف أخاه، ولذلك لم تقلق عليه حين لم يعد إليها في المساء.

وفي اليوم التالي ذهبت ترود حول قصر اللورد أفندال، فوجدت جمهورًا من الناس محتشدين وسمعتهم يقولون: إن اللورد قتل بطعنة خنجر قرب ترافلغار.

فكان بعضهم يقول: إن الذي قتله إرلندي لأن اللورد ألقى خطابًا منذ يومين في مجلس البرلمان أثار سخط الإرلنديين، وبعضهم يقول: إن قاتله كان من اللصوص بغية سلبه ما معه ولم تسمع أحدًا منهم ذكر اسم زوجها توما.

غير أنهم كانوا جميعهم متفقين على أن الجنود قبضوا على القاتل … فلم يبقَ شك لدى بيتزي أن القاتل هو زوجها؛ لأنه لم يعد إليها في ليلة أمس، فقالت في نفسها: إنه سجن دون شك، ولكني لا أبالي فإني سأتم ما كان شارعًا به.

لأنها كانت تعتقد أن اللادي باميلتون تذكر بعد وفاة زوجها أنها أحبت اللورد وليم، وتوافق على التسوية التي اتفق عليها زوجها، مع ذلك المحامي.

فصبرت بيتزي أسبوعًا، وبعد انقضائه ذهبت إلى قصر باميلتون وطلبت مقابلة أرملة اللورد فرضيت بمقابلتها.

ولما مثلت بيتزي بين يديها قالت لها: إن الشقي الذي عبث بضميرك وقلبك أيتها اللادي قد لقي حفته وجازاه الله بما يستحق، فهل ترضين أن تعترفي بحق اللورد وليم حبيبك الأول؟

ولم تجبها اللادي باميلتون بشيء، ولكنها قرعت جرسًا كان أمامها، فدخل إليها رجلان، أحدهما والدها السير أرشيبالد، والآخر السير بترس توين.

ذلك الأسقف الشقي الذي دبرت قريحته الجهنمية تلك المكيدة التي أفضت إلى مقتل اللورد أفندال.

فلما رأت اللادي أباها أشارت إلى بيتزي وقالت: أرجوك يا والدي أن تطرد هذه المجنونة الشقية من أمام عيني.

فبدت على شفتي بيتزي علائم الاحتقار، وقالت بلهجة شفت عن الازدراء: لقد كنت أظن أنك آلة بيد ذلك اللئيم اللورد أفندال، أما الآن، فقد علمت أنك كنت شريكته بالجريمة، وأنك مثله من أهل الإثم والفساد فتبًّا لك من خائنة.

وأسرع السير أرشيبالد إلى مناداة الخدم وأمرهم بطردها.

فأخرجوها فجعلت تصيح خارج القصر، فجاءها بوليس الناحية وذهب بها إلى المركز.

وهناك حاولت أن تبوح بجميع ما تعلمه.

غير أن مأمور القسم أسكتها وأمر بإرسالها إلى السجن.

•••

وعند ذلك أيقنت بيتزي من ضياع كل رجاء … غير أنها كانت شديدة الحمية كزوجها، وقالت في نفسها: إني بت سجينة فلأبذل جهدي في مقابلة اللورد وليم.

وأخذت منذ ذلك الحين تتظاهر بالجنون، فما مر بها ثلاثة أيام، حتى قرر طبيب السجن أنها مجنونة، فأرسلت إلى مستشفى بدلام، وهذا الذي كانت تتوقعه، فإن اللورد كان لا يزال محبوسًا في ذاك المستشفى باسم ولتر بريس.

وكان رئيس هذا المستشفى قد تلقى أوامر سرية بشأن اللورد وليم، فعلم أنه يجب إبقاؤه في المستشفى مدة حياته، فكان يراقبه كل المراقبة، ولكن لا يمنعه عن الاجتماع بالمجانين، ولذا فلم يتعذر على بيتزي أن تراه.

ولم يكن هذا اللورد المنكود قد أضاع شيئًا من صوابه، ولكن الهم كان يقتله قتلًا بطيئًا، ويأخذ من حياته وصبره، فقد يئس من استرجاع ثروته ولقبه، ولم يعد يتمنى إلا أن يرى امرأته وولديه ويسافر بهم إلى أوستراليا فيعود إلى رعي المواشي مؤثرًا تلك الهمجية الصادقة على هذه المدنية الكاذبة، وذلك العدوان الصريح على هذه الآثام المزخرفة.

وقد كان كتب مذكرة ذكر فيها جميع ما اتفق له من الحوادث الهائلة المفجعة ودعاها مذكرة مجنون؛ لأنه كتبها في المستشفى وهو محبوس فيه بدعوى الجنون، فأتم مذكرته بما وقف عليه من بيتزي بعد اجتماعه بها.

•••

وكأنما الأقدار أرادت أن تساعد اللورد وليم وبيتزي بعد أن ضربتهما تلك الضربات الهائلة، فاتفق أنه بعد دخول بيتزي إلى المستشفى ببضعة أيام أدخلوا إليها رجلًا لم تلبث بيتزي أن رأته، حتى عرفته، فإنه كان إدوار ذلك الرجل الذي خدع توما بقوله: إنه من عمال المحامي سيمون.

ويذكر القراء أن هذا الرجل كان من أعوان اللورد أفندال في المكيدة، أو من أعوان الأسقف بترس توين، وهو الذي قلد خط اللورد وليم وأرسل إلى توما ذلك التلغراف من بيرت.

وقد جن هذا الرجل حقيقة، وكان السبب في جنونه غريبًا، فإنه في اليوم الثاني لمقتل اللورد أفندال ذهب إلى هذا اللورد فلما علم بمقتله ذهب عقله فجأة.

وذلك أن اللورد أفندال كان عازمًا على أن يدفع له، في ذاك اليوم، ألفي جنيه جزاء خيانته ونفقاته، ولما علم أنه مات قنط من قبض المال وأصابه اليأس بالجنون.

فذهبوا به إلى منزله، وله فيه امرأة وبنون فحبسوه فيه بضعة أيام إلى أن اشتدت أعراض جنونه فلم يجدوا بدًّا من نقله إلى المستشفى.

غير أن الغريب في أمره أن عقله لم يذهب إلا إثر انفعال شديد، وقد أصيب بمثل هذا الانفعال فعاد إليه صوابه فجأة كما ذهب، وذلك حين رأى بيتزي واللورد وليم في ذاك المستشفى.

وعادت إليه ذاكرته وعادت معها الندامة على ما ارتكبه من الآثام فركع أمام اللورد وليم سائلًا منه الغفران.

ثم اعترف له أنه كان آلة بأيدي اللورد أفندال، والأسقف بترس توين، وأنه هو الذي اختطف توما من القطار، وهو الذي ملأ قلب برسي خوفًا حتى دعاه إلى السفر من باريس.

وهو الذي سرق الأوراق المسجلة من مكتب المحامي قبل أن توضع عليها الأختام غير أن الأوراق المسجلة المتضمنة إقرار برسي لم يردها إلى اللورد أفندال، بل أبقاها رهينة إلى أن يدفع اللورد أفندال ما وعد به من المال.

فلما أتم اعترافه قال: إني إذا تيسر لي الخروج من هنا يا سيدي اللورد أصلحت جميع ما أفسدته يدي الأثيمة.

فهز اللورد رأسه وقال: إن من يدخل مستشفى بدلام لا يخرج منه.

فقالت له بيتزي: من يعلم يا سيدي، فقد خطر لي خاطر ربما سهل لي سبيل الفرار …

فنظر إليها اللورد نظرة المشكك، وقال لها: كيف يتيسر لك الخروج؟

– لقد وجدت طريقة صالحة، ولكني أرجو إدوار أن يخبرني: أين وضع هذه الأوراق؟

– سأرشدك إليها، دون شك، ولكن أخبرينا كيف تخرجين من هذا المكان؟

– بطريقة سهلة، وهي أنه يوجد في لندرا جمعية مؤلفة من السيدات، يدعونها أخوات السجون.

وهن يتفقدن المرضى في السجون والمستشفيات، ولا يأتين إلا متبرقعات؛ بحيث لا يرى الناظر إليهن غير عيونهن، وقد زارت إحداهن أمس مجنونًا فنظرت إلي ونادتني باسمي، فذهبت إليها وقلت: ألعلك تعرفينني يا سيدتي؟

– نعم، فإنك امرأة توما، وأنا أعلم أنك سليمة العقل، وأن وجودك بين المجانين لا يدل على أنك منهم.

– عجبًا يا سيدتي كيف عرفت هذا؟

– إني زرت زوجك في سجنه، قبيل إعدامه، فأخبرني بكل شيء، ويسوءني أني لا أستطيع أن أخدمك خدمات جليلة، ولكني مستعدة لفعل كل ما أستطيعه، حتى إن أردت الخروج من هذا المستشفى أخرجك منه.

– كيف ذلك؟

– ألست مقيمة وحدك في غرفتك.

– نعم …

– إذًا، لا تخرجي من غرفتك هذه الليلة وادعي أنك مريضة، فأزورك بعد يومين تصحبني امرأة أخرى من أخوات السجون وعند ذلك ترين كيف أخرجك؛ فلا تهتمي لهذا الأمر واعتمدي علي.

ثم تركتني وانصرفت.

فقال اللورد وليم: ولكني لم أعلم بأية طريقة تريد إخراجك.

– أظن أنها تريد أن تلبسني لباسها فأخرج بدلًا منها، وتبقى هي مكاني.

– ولكنها تضطر بعد ذلك إلى إشهار أمرها فتسوء بذلك سمعة هذه الجمعية.

– إن هذا من شأنها.

ثم التفتت إلى إدوار وقالت له: والآن أخبرني أين خبأت الأوراق.

– إن منزلي في شارع أولدلين في الطبقة الثانية ونمرته ٧، فخذي هذا الخاتم وأظهريه لامرأتي وقولي لها: إنك آتية من قبلي لأخذ الأوراق، فلا تعترض، أما الأوراق فإنها موضوعة في جوف تمثال على المستوقد في غرفة النوم، وهو تمثال الدوق ولنجتون.

فقالت له بيتزي: ولكن امرأتك لا تصدقني إلا متى اعتقدت أنك غير مجنون.

– إذًا أكتب لها كتابًا يدل على صحة عقلي.

وقد اتفقوا على ذلك، وذهبت بيتزي إلى غرفتها، فتظاهرت أنها مريضة، وفي اليوم التالي أبت أن تذوق الطعام.

وكان اللورد وليم قد أعطاها تلك المذكرات التي كتبها فخبأتها.

•••

وفي اليوم الثالث لتظاهرها بالمرض زارتها السيدتان، فأقفلت إحداهما باب الغرفة من الداخل، ثم فتحت صرة كانت بها، فأخرجت منها ثوبًا يشبه ثوب أخوات السجون وبرقعًا كثيفًا كبراقعهن، ثم قالت لبيتزي: أسرعي والبسي هذه الثياب.

فامتثلت وباتت بعد لبس هذه الملابس لا تختلف في شيء عن أخوات السجون.

وبعد أن أتمت لباسها فتحت السيدة الباب وقالت لبيتزي: اتبعيني.

ثم خرجت بها من ذلك المستشفى دون أن ينتبه إليها أحد بفضل ملابسها، أما السيدة الثانية فإنها خرجت من باب آخر.

ولما باتت مطلقة السراح أعطتها كيسًا من النقود وافترقت عنها فشكرتها بيتزي وذهبت توًّا إلى إدوار.

فأعطتها الرسالة والخاتم ثم أخذت منها الأوراق وعادت إلى منزلها فخلعت ملابس أخوات السجون ولبست ملابسها الاعتيادية.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى المحامي الذي خلف المحامي سيمون وعرضت عليه المسألة، وهي تتوقع أن يسر لوجود الأوراق، غير أنها رأت منه عكس ما كانت تتوقعه فإنه قال لها: لقد حدث في هذه الأيام أمور خطيرة؛ أولها أن زوجك قتل اللورد أفندال.

– لقد فعل ما يجب؛ لأن قتل هذا الفاجر أقل ما يستحق.

– إني وإياك على اتفاق، ولكن أعداءنا اليوم غير أعدائنا أمس، إذ هم الرسالة الإنجليكانية التي يرأسها الأسقف بترس توين، ولا قبل لأحد بمقاومة هذه الطائفة الشديدة.

– لماذا يا سيدي؟

– لأنهم يسحقونه سحق الزجاج.

ثم خفض صوته وقال: إني أسديك نصيحة إن عملت بها فربما توسطت لك بالعفو عن زوجك مقابل إتلاف الأوراق.

وخرجت بيتزي تتعثر بأذيالها واليأس يكاد ينفجر في قلبها وهي تقول: إني لن أتلف براهين خيانة اللورد أفندال، ولا أجرد أخاه التعس من سلاحه، فقد يرسل الله من يعينه على استرداد حقه المهضوم.

ثم رجعت قانطة إلى منزلها وهي تفتكر بطريقة تخفي فيها الأوراق في محل لا تهتدي إليه أسرة باميلتون، إلى أن خطر لها أن تدفنها في ضريح، فجعلت تتنكر وتخرج كل يوم إلى التربة بحجة الصلاة على الموتى، حتى اغتنمت فرصة ودفنت تلك الأوراق، وهي مذكرة اللورد وليم، وإقرار برسي ورفيقيه في ذلك الضريح، فأخرجها مرميس كما وصفنا في مقدمة هذه الرواية.

٥١

إلى هنا انتهت مذكرة اللورد وليم، وكانت الصفحات الأخيرة من ذلك الدفتر الضخم المكتوبة فيه مكتوبة بخط بيتزي.

وكان مرميس يقرأ هذه المذكرة بصوت مرتفع أمام فاندا والأب صموئيل وشوكنج وهم جلوس قرب سرير بيتزي الميتة، فلما فرغ مرميس من تلاوتها جعل مرميس وفاندا ينظر كل منهما إلى الآخر.

فقال مرميس: لقد عرفنا أشياء كثيرة وفاتنا أشياء، فإن اللورد وليم وعائلته لا يزالون أحياء.

فقال الأب صموئيل: أنا أخبركم بما لم تعرفوه فإن بيتزي قد دفنت هذه الأوراق في الضريح منذ ستة أشهر، وأنا مخبركم بما جرى في خلال هذه المدة، وهو أن بيتزي احتجبت عن الأنظار بعد أن خبأت الأوراق حذرًا من البوليس؛ لأنه كان يبحث عنها بحثًا دقيقًا لإرجاعها إلى مستشفى بدلام، فدام البحث ثلاثة أشهر حتى يئس منها.

وبعد ذلك جعلت بيتزي تخرج في كل مساء متنكرة فتذهب إلى الحانات وتعربد كي تحمل البوليس على القبض عليها باسم غير اسمها فيسجنها بقية الليل ثم يطلق سراحها في الصباح، وكانت تفعل ذلك كل ليلة في مركز كي تسجن في جميع سجون البوليس.

وغرضها من ذلك أنها كانت ترجو أن تجد في تلك السجون لصًّا تقرر سجنه في نوايت فتعهد إليه إخبار زوجها توما أنها وجدت الأوراق كي يطمئن ويموت قرير البال.

وما زالت على ذلك حتى لقيت الرجل العبوس في سجن البوليس يوم قبض عليه بمكيدة مس ألن وكلفته إخبار زوجها بما كان.

فقاطعته فاندا متأوهة وقالت: لا سبيل لإنقاذ توما من سجنه فإنه بات سجينًا في القبور.

فأجابها الكاهن: ولكنكم تتمون مشروعه.

– ولكنه مشروع صعب.

فقال مرميس: إني لا أرى ما ترينه، فإن إقرار برسي المسجل بيدنا ولدينا من المال ما يكفي للقضية.

فقال شوكنج: وإن المال يعينك على نيل ما تريد في هذه البلاد.

فقال الكاهن: أرى أنه يجب أن تبدءوا بإخراج اللورد وليم باميلتون من المستشفى.

فقالت فاندا: ألا ترون ذللك صعبًا؟

فقال مرميس: لا أنكر صعوبته ولكنه ليس مستحيلًا، وسأذهب غدًا إلى المحامي الذي خلف المحامي سيمون، وأرجو أن أبلغ بما أبذله من المال ما أريد كما قال شوكنج.

وعند ذلك انبعثت أنوار الفجر من نافذة الغرفة التي كانوا فيها وسقطت أشعتها على وجه بيتزي المصفر فركعت فاندا وصلت صلاة الأموات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤