الفصل الرابع

فسيولوجية السلوك

من أهم المسائل التي تشغل بال السلوكيِّين هي: ما السبب في حدوث السلوك؟ أو ما هو «الدافع» أو «الحافز» للحيوان على أن يفعل كذا وكذا؟ وقد عُزِي هذا «الدافع» أو «الحافز» إلى تغيُّرات داخلية في الجسم، وهو ما يُعبَّر عنه بالتغيُّر الفسيولوجي، على أنه معتمد أساسًا على وقوع المنبِّه الذي يجعل الجسم يستجيب بفعلٍ يردُّ به عليه، وقد دُرِس هذا الموضوع دراسةً مستفيضة بالنسبة لعدد قليل من أنواع السلوك التي سبق أن عددناها، ومن أهم ما دُرِس منها سلوك الاغتذاء وسلوك الاقتتال أو العِراك، ثم السلوك الجنسي، وأخيرًا سلوك رعاية الصغار.

فالاغتذاء بالنسبة لجميع الحيوانات إحدى الضروريات الأساسية لها، على أنه لا يجوز أن نكتفي بهذا القول، وإنما ينبغي أن نسأل ما الذي يدفعنا إلى تناول الغذاء؟

لقد أجرى أحد العلماء تجربةً على إنسان، هو مساعده في المعمل، فطلب منه أن يبتلع بالونًا متصلة به أنبوبة، وهذه متصلة بدورها بجهازٍ يسجِّل عليه جميعَ التغيرات الداخلية، ثم وضعه بحيث يكون بعيدًا عن ذلك المساعد، وطلب من المساعد أن يضغط على زرٍّ كلما أحسَّ بالجوع، ثم إن الجهاز أخذ يسجِّل التحرُّكات الداخلية التي تجري في مَعِدة ذلك المساعد، فوجد من هذه التجربة أن حركة الحجاب الحاجز تعمل على خلط الطعام في المَعِدة، وأن الجوع دائمًا يسبقه انقباضٌ في المَعِدة، ولكن ما الذي جعل المَعِدة تنقبض؟ لقد وجد أن نقصان مستوى السكر في الدم هو السبب في انقباضها، وعندما ينخفض مستوى السكر في الدم، فالعادة مع الحيوانات أنها تبحث عن الطعام في جِدٍّ حتى تجده، ومع الهضم والامتصاص والتمثيل يعود سكر الدم إلى مستواه الطبيعي، ويركن الحيوان إلى الهدوء. على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحدِّ — حد المستوى العام للسكر في الدم — وإنما هناك عواملُ أخرى، فقد عرف أن في المخ مراكزَ (موجودة في الجسم تحت السرير hypothalamus)، لو أُعْطِبت تجريبيًّا لما وقف الحيوان الواقع تحت التجرِبة عن الاغتذاء. وعلى ذلك فمن الممكن القول بأن هناك في المخ مراكزَ تتأثر بكمية السكر في الدم، وأن هذه المراكز تضبطُ شهيةَ الحيوان للطعام، كما أن هناك مراكزَ أخرى تُشعِر الحيوان بالظَّمَأ فيطلب الماء، وتتأثَّر هذه المراكز بالمستوى المائي للدم الذي إن نقص عن حدٍّ معلوم قلَّ إفراز الغدد اللعابية؛ ومن ثَمَّ يجف الحَلْق، ويمكن من هذا كلِّه التعميمُ بالقول بأن جانبًا من التنبيه ينجم عن التغيرات الداخلية التي تنتج عن العمليات الأيضية العادية (أيْ عملية التحوُّل الغذائي).

وسلوك العراك أو الاقتتال يتضمَّن أنماطًا عدة، منها الاعتداء والدفاع، ومنها الفرار، ومنها القصور والعجز، وطبيعيٌّ أن هذا السلوك لا يظهر إلَّا في وجود منبه خارجي، على أن لهذا السلوك تاريخًا ينشأ مع ولادة الحيوان؛ أيْ مع أول ظهوره في هذه الدنيا، ثم يتدرج مع الكبر، ودَعْنا الآن نتتبَّعُ تطوُّرَ هذا السلوك في حيواناتٍ دُرِس فيها هذا السلوكُ دراسةً مستفيضة، تلك هي الفئران. فهذه الحيوانات تُولَد عاجزةً عمياء عارية، على أننا لو أمسكنا بذيل واحد منها لصر صريرًا وحرَّكَ أرجله بسرعة ومشى بضعة سنتيمترات، فالسلوك هنا هو سلوك الفرار الذي يظهر في باكورة الحياة، وعندما تنبت أسنانُ الفأر فإنه يحاول أن يعضَّ بها مهاجِمَه، وهذا سلوكٌ دفاعي، وفيما بعد ذلك، وعندما تتفتَّح عيناه، فإنه يتخذ موقفًا دفاعيًّا أيضًا عندما يُهجَم عليه، فيرفع براثنه نحو مصدر الخطر، وهو يسلك هذا المسلك عندما يكون عمره اثني عشر يومًا.

أما سلوك الاعتداء فلا يظهر في الفئران إلَّا بعد أن يزيد عمرها على شهر. فالذكور تهاجم الذكور، ثم بعدئذٍ تهاجم الدُّخَلاء. فسلوك العِراك مختلِف جدًّا عن سلوك الاغتذاء؛ ذلك أن الفئران إذا تُرِكَت بدون غذاء بضع ساعات أصبحت نشيطة غاية النشاط، وتدور في أقفاصها تطلبه بشدة؛ لأن هناك عاملًا داخليًّا يدفعها إلى هذا دفعًا.

أما الفئران التي لا فرصةَ لها للعِراك فإنها تجنح للسِّلم، فالذكور لا تتعارك مع الإناث أبدًا حتى لو عاشت في قفصٍ واحد عدة أشهر، كما أن الذكور لا تتعارك إذا ما شبَّت معًا منذ ولادتها، وعندما يُوضَع فأران ذَكَران عُمرُ كلٍّ منهما خمسةٌ وثلاثون يومًا في قفص واحد، فإن أول ما يفعلانه هو أن يفحص كلٌّ منهما الآخَر بأنفه وبحَذَر، ثم يبدأ أحدهما في أن يتحسَّس الآخر، ويكون فظًّا معه على التدريج، وعندئذٍ يبدأ الآخَر في إزاحة المعتدي عليه بعيدًا عنه، وحينئذٍ ينشب العِراك بينهما بالركل والعض، فإذا ما أصاب أحدهما الآخَر، فإن الفأر المصاب يفرُّ والمعتدي يعدو في أثره، فإذا عجز المغلوب عن الفرار فإنه يقف ويرفع براثنه في وجه الغالب، ولكن بطريقةٍ قاصرة عاجزة، فإذا لم تُغْنِه هذه الوسيلةُ فتيلًا، فإنه يرقد على الأرض ويخضع في سلبية كاملة لضربات الغالب بطريقةٍ تذكِّرنا بإغماءة الموت في حيواناتٍ أخرى.

والدوافع الابتدائية التي تبعث على الاقتتال بين ذكور الفئران غير محدودة، كما أنها تختلف، ويبدو أن أحد أسبابها هو الألم، فعندما يحس أحد الفأرين بالألم فإنه يقاتل الآخَر، فإذا ما زاد الألم عن طاقته اندفع فارًّا من وجه المعتدي.

وليس هناك من دليل على وجود منبه داخلي يدفع إلى الاقتتال في أيِّ عمرٍ من أعمار الحيوان، غير أن الاستجابة للقتال نحو المنبهات الخارجية تتغيَّر كلما تقدَّم الحيوان في السن، وهذا ممَّا يشير إلى أن الحالات الفسيولوجية للحيوان قد تغيَّرت. ومن بين هذه التغيرات ظهورُ هرمون الجنس الذكري في الدم، فإناثُ الفئران من السلالات العادية لا تقتتل إلَّا في النادر القليل، غير أن الذكور تقتتل كثيرًا، ومن السهل إثارةُ القتال في الذكور عند بداية نضجها. وقد حاول أحد المجرِّبين أن يرى نتيجةَ إزالةِ الهرمون الجنسي من الذكور؛ وذلك بأن خصاها ثم تركها خمسةً وعشرين يومًا وعاد فوضعها معًا، فلم تُظهِر الفئران ميلًا نحو الاقتتال، وعاشت في سلام، ثم زُرِعَت في تلك الفئران ذاتها جسيماتٌ فيها الهرمون الذكري، فعادت الفئران إلى الاقتتال، ولما أُزِيلت منها تلك الجسيمات جنح بعضُها إلى السِّلم، واستمر بعضها الآخَر في الاقتتال، ومعنى ذلك أن هرمون الذكر لا يتحكَّم في الاقتتال كله، وإنما هو سببٌ جزئي له، وقد وجد بالفعل أن هناك هرمونًا آخَر يدفع إلى الاقتتال بين الحيوانات، ذلك هو الكورتيزون الذي تفرزه قشرةُ الكظر، وهو غدةٌ صمَّاء تقع فوق الكُلْية في الإنسان، وقد قام الدليل على ذلك من الدراسات التي أُجْرِيت لمعرفة أسباب الصدمة الجراحية، فعندما يُصاب الفأر إصابةً بالغة فإنه يدخل في بداية الأمر في مرحلةٍ تُسمَى مرحلةَ الصدمة، فتنخفض معها فاعليةُ الجسم فيدقُّ القلبُ بسرعةٍ بل ويضطرب، وتنخفض درجة حرارة الجسم، كما ينخفض التوتر العضلي وينخفض سكر الدم إلى غير ذلك، على أن هذه الأعراض قد تنعكس وتزيد فاعلية الجسم في مرحلة الرد على الصدمة (أو مضادة الصدمة) التي قد تلي الصدمة في خلال بضع دقائق، وقد تستمر الفاعلية ويسترد الحيوان قُواه أو يُنهَك ويموت.

وتضبط هذه التفاعُلاتِ هرموناتٌ أهمُّها هرمون تفرزه الغدة النخامية (وهي غُدَّة تقع أسفل المخ، وتُعتبَر من أهم الغُدَد الصُّم في الجسم)، وينبِّه هرمونُ الغُدة النخامية هذا قشرةَ الكظر لتفرز الكورتيزون الذي يُحدِث التأثيرات التي أجملناها توًّا. وتحدث نفسُ ردودِ الفعل في جسم الحيوان عند الاقتتال، عندما يحدث ألمٌ ناتج من إصابة، وربما كانت إغماءة الموت التي أشرنا إليها ترجع إلى حدٍّ ما إلى نتيجة الصدمة، إذن أيجعل الكورتيزون الفئرانَ محارِبةً أفضل أم إنه يساعد الفئران المغلوبة على مقاوَمة قاهِريها؟ على أن السؤال الأهم هو: ما الذي جعل الغدة النخامية تفرز هرمونها في أثناء وقوع الصدمة؟ والردُّ على ذلك هو أن الأنسجة المصابة؛ أي التي مُزِّقت في أثناء الاقتتال، تُفرِز سوائلَ تدور مع الدم حتى تصل إلى تلك الغُدة فتنبِّهها لإفراز هرمونها؛ وعلى ذلك فالاقتتال لا تدفع إليه تغيُّراتٌ أيضية (أيْ من تحوُّلات الغذاء الداخلية) كما هي الحال مع سلوك الاغتذاء، وإنما له مهيِّئات أخرى كما وضَّحنا.

على أن هناك ضبطًا عصبيًّا للاقتتال، ولم يتوصل العلماء إلى هذه النتيجة من تجاربهم على الفئران لأنها صغيرة الحجم، ويصعب إجراء العمليات الجراحية على أمخاخها؛ ولذلك اختاروا القطط لإجراء تلك التجارب. والقط وإن كان أليفًا مستأنسًا إلَّا أنه شرس بطبعه، وتقتتل القطط الذكور من أجل الاستحواذ على الأنثى اقتتالًا عنيفًا اقتتالًا يفوق اقتتال ذكور الفئران بكثير، وحتى وهي تتزاوج يعج الزوجان ويكشان ويرفعان براثنهما كلٌّ في وجه الآخر.

ولعل أحسن صورة تقرب إلى أذهاننا شراسة القط هي عندما نرى كلبًا يهدده، فحينئذٍ يدافع القط عن نفسه بصورة مميزة؛ ذلك أنه يقوِّس ظهره ويرفع ذنبه إلى أعلى وينتفش شعره، بل ويقف في جميع مناطق الجسم، ثم يعج القط ويكش ويرفع براثنه استعدادًا للضرب إذا ما اقترب الكلب منه، فإذا هجم الكلب عليه حقيقة فإنه يغدو صورة من الغضب المخيف والثورة العارمة، فهو يعض ويضرب بمخالب يديه وقدميه بسرعة تفوق حدَّ التصور، ولعل منا مَن حاول أن يمسك بقطة غصبًا عنها، فهو ما من شك لم ينس التجربة المريرة!

وقد كشف أحد العلماء عن الدوافع الداخلية لهذا السلوك عندما أزال من قط بعملية جراحية قشرة مقدم المخ، وعندما شفي القط من آثار الجراحة عاد إلى طبيعته سوى أنه كان يطعم بزق الطعام في فمه، وذلك بسبب أن المركز العصبي الذي يتحكم في الاغتذاء قد ذهب مع قشرة مقدم المخ، على أن القط إذا ما رفع باليد فإنه سوف يسلك مسلك القط الهائج فيعج ويكش ويخدش في جميع الاتجاهات.

وقد أجريت تجارب من نوع آخر، على القطط أيضًا، وذلك بأن وصِّلت أسلاك دقيقة من البلاتين ببعض مراكز المخ والقط بالطبع واقع تحت تأثير المخدر، فلما أفاق منه مُرر تيار كهربي في كلٍّ من الأسلاك على حدة، وقد وجد أن المركز الكامن في الجسم تحت السرير هو أشدها دفعًا لهيجان القط وغضبه.

وتختص قشرة مقدم المخ وتحت السرير إذن بالتعبير عن الغضب وإثارته، ويبدو أن بقشرة مقدم المخ أيضًا مركزًا يكبح جماح الغضب، ففي الحالة الطبيعية يعمل كلٌّ من المركزين مضادًّا لعمل الآخر، على أن المركز الموجود في الجسم تحت السرير يضاعف ويزيد من المنبهات الخارجية الأولية التي تثير الغضب، ثم تتحكم المراكز العصبية الموجودة في قشرة مقدم المخ في هذا الفعل وتوجهه، على أن إثارة الغضب تأتي أولًا من الخارج، ثم إن المركز العصبي الموجود في الجسم تحت السرير ينبه العضلات الإرادية التي تحرك الأصابع بحيث تجعلها تخدش، كما أنه ينبه أيضًا تلك العضلات التي تسبب تقويس الظهر.

كما أن هذا المركز أيضًا ينبه الجهاز السمبتي الذي يتحكم في عمل كثير من الأعضاء الداخلية؛ فالقلب يزداد دقًّا وبقوة وتقف عملية الهضم، ويتجه الدم تحت الضغط المرتفع إلى جميع عضلات الجسم الإرادية؛ أي إن هذه الاستجابات تضع الجسم في موقف المستعد للطوارئ التي تحتاج إلى نشاط جسمي كبير، ثم إن الكظر يتنبه فيفرز مزيدًا من الأدرينالين الذي يؤثِّر بدوره على الأعضاء الداخلية تأثير الجهاز العصبي السمبتي عليها، وإن كان تأثير الأدرينالين أبقى منه.

وليس الذي وصفناه توًّا سوى موجز للخطوات الفسيولوجية التي تسبب الشعور بالغضب، وهو شعور جربناه في أنفسنا، وهو كما نعلم قد يكون مصحوبًا بإحساسات أخرى قد تثير الرغبة في العراك.

أما مع الخوف، وهو شعور من نوع آخر يصطحب سلوك العراك، فالأعضاء الداخلية تلعب دورًا ظاهرًا فيه، على أن الخوف يصطحب في العادة سلوك الفرار (وهو مرحلة من مراحل سلوك الاقتتال إذا ما غُلِب الحيوان على أمره)، فالشخص الخائف يحس بتغيُّر غريب في معدته وفي أمعائه راغبة في تفريغ محتوياتها، وهما عرضان لا يظهران مع الغضب، وقد دلَّت البحوث الحديثة على أن هناك نوعين من الأدرينالين يشبه كلٌّ منهما الآخر وإن اختلفا قليلًا؛ أحدهما يثير الغضب والثاني يسبب الخوف، فينجم الشعور بأيٍّ منهما على حسب نوع الأدرينالين المُفرَز. وتأثير الخوف أظهر في الأعضاء الداخلية من تأثير الغضب، على أن المراكز العصبية التي تتحكم في الغضب قد عرفت مكامنها، أما تلك المسبِّبة للخوف فمعرفتنا بها أقل، وإن كان يُظَن أنها تقع في جزء من قشرة مقدم المخ؛ فقد أُزِيل هذا الجزء من القردة فأصبحت وديعة غير نافرة ولا وجلة.

وكثيرًا ما يتضارب السلوك أو إن سلوكًا معينًا يستحث سلوكًا آخر بعينه، فلو أننا وضعنا غذاء لفأرين شبعانين لما اكترثا به، بينما لو كانا جائعين لاقْتَتلا من أجله اقتتالًا مريرًا، فكأن الجوع هنا دفع إلى الاقتتال دفعًا، وهذا أمر نعرفه بين حيواناتنا المستأنسة.

فإذا ما انتقلنا إلى السلوك الجنسي وجدناه أوضح وأيسر في الفهم والتفسير، والسلوك الجنسي هو ما يتمُّ بين الذكر والأنثى وينتهي بالتسافُد حيث تحمل الأنثى من الذكر، وقد دُرِست هذه الدورة دراسة مستفيضة في خنازير غينا، وهي حيوانات صغار الحجم أكبر من الفأر وأصغر من الأرنب، وهي من رتبة القوارض التي تضم الفئران ولا صلة لها بالخنازير التي هي من اللواحم، وتصل أنثى خنزير غينا إلى نضجها الجنسي عندما تستكمل خمسة وأربعين يومًا من عمرها، وعندئذٍ يظهر عليها القلق وعدم الاستقرار فهي لا تهدأ بل تتحرك دوامًا، ثم تبدأ في مرحلة أخرى تستمر نحو ثماني ساعات، وذلك بأنها تحاول أن تمتطي ظهور الإناث والذكور على السواء، وبالطبع يكون هذا مثيرًا جدًّا للذكر، وفي النهاية يتمُّ التسافُد بينها وبين أحد الذكور، وبعدها تركل برجليها كلَّ ذكر يقترب منها وتجري مبتعدة عنه، فإذا لم يكن الحمل قد تمَّ عادت الأنثى سيرتها الأولى بعد ستة عشر يومًا تقريبًا.

وتظهر في أنثى خنزير غينا تغيرات داخلية قبيل ظهور السلوك الجنسي فيها؛ منها تغيُّر في التركيب الهستولوجي لجداري المهبل والرحم، ويرجع هذا التغيُّر إلى إفراز مزيد من الهرمون الأنثي (إيستروجن)، ولو أن هذا الهرمون حُقِن في أنثى غير قابلة للذكر لظهر فيها السلوك الجنسي على التوِّ، ويبدو أن هذا الهرمون يعمل بحيث يجعل الحيوان أكثر حساسية للمنبه الخارجي من أي نوع.

على أن الدورة الجنسية في أنثى خنزير غينا ذات مظهر خاص، تظهر دائمًا في منتصف الليل، ثم تصل إلى منتهاها في الصباح المبكر، أو مع خيوط الفجر، ويبدو أن التغيُّر في الإضاءة ينبه الغدة النخامية فتفرز هرمونًا ينبه بدوره مبيضي الأنثى، وقد قِيل إن تغيُّرات الضوء مع الفصول هو السبب الأول في ظهور السلوك الجنسي عند كثير من الطيور والثدييات.

أما خنزير غينا فسلوكه الجنسي أثبت وأبقى، وهو دائمًا مستجيب للأنثى الراغبة، كما أن له غددًا مُلحَقة بالغدد التناسلية تفرز إفرازًا يتجمد في داخل الأنثى، وهذا يؤمن حيواناته المنوية من ناحية، ويضع سلوك الأنثى الجنسي عند حدٍّ، كما أنه يجعل التسافُد قصير الوقت، وهذا بالطبع ضرورة بالنسبة لحيوانات ضعيفة كخنازير غينا معرضة لهجمات اللواحم. ومن التغيرات الداخلية التي تدفع الذكر إلى التسافد ضغط إفرازات غدده التناسلية الملحقة، أما العامل الداخلي فهو في الأنثى عامل هرموني.

وقد تكون هناك مراكز في المخ تقوي التنبيه الخارجي وتطيله، على أن هذا الأمر يعوزه الدليل القاطع وليس الأمر كما في سلوك الاقتتال الذي عرفت مكامن المراكز العصبية التي تدفع له.

فإذا ما تطرقنا إلى سلوك رعاية الصغار لنفهم من فسيولوجيتها شيئًا، فينبغي أن نعرف أن هذا السلوك ليس عامًّا، وإنما هو موجود في الحيوانات العالية التعضي ويصل إلى درجة عالية من التعقد في الطيور، فالطيور المهاجرة بنوع خاص عندما ترجع إلى أوطانها يبدأ الذكر منها في البحث عن المكان الذي تركه في الموسم الماضي، حتى إذا عثر عليه بدأ في بناء العش حتى يكمله، وهو يصدح ويغني ليذب عن عشه الدُّخلاء ولكي يجذب أنثى إليه، فإذا ما تمَّ له ذلك بعد سلسلة من الغزل طويلة، فإن الأنثى تضع البيض ثم ترقد عليه ولا تتركه إلَّا لفترات قصيرة تغتذي فيها، وفي تلك الفترات يقف الذكر عند العش حارسًا له، وقد يسهم في حضن البيض فيرقد هو نفسه عليه، فإذا ما فقس البيض فإن الأبوين لا ينفكان عن جمع الغذاء الذي عادة ما يكون من الحشرات بالنسبة لكثير من الطيور في أثناء أعمارها الأولى، ويزقان به الصغار في أفواهها، وهي دائمًا تطلبه، والعجيب أن الصغار، في الطيور ملازمة العش تخرج من البيض عارية عمياء ضعيفة، فلا ترى أبويها ولا ترى أي شيء من المحيط بها، غير أنها تفتح أفواهها لهما ليزقا فيه الغذاء، ولكن متى تفتح أفواهها وكيف تحس بوجود أبويها أو أحدهما؟ الواقع أن وقوف أحد الأبوين على حافَّة العش ينبهها إلى ذلك فتفغر له أفواهها على التو، كما أن الأبوين يمتثلان لهذا الإطعام بفعل لون يميز أشداق الصغار (فلون شدق فرخ العصفور وكذلك لون شدق فرخ الغراب أصفر).

وفي أثناء الليل يحنو أحد الأبوين (أو كلاهما) على الفراخ فيضمها تحت جناحيه ليفيء عليها الدفء، وقد ثبت أن هرمونًا تفرزه الغدة النخامية في جسم الأنثى اسمه البرولاكتين يزيد في الدم في هذا الفصل، ومن المعروف أن هذا الهرمون في الحمام ينبه إلى إفراز «لبن الحمامة» أو «اللِّبأ» وهو سائل أبيض غليظ القوام تفرزه حوصلة الحمامة وتطعم به فراخها.

ولا يقف سلوك رعاية الصغار في الطيور عند هذا الحدِّ، وإنما يظهر معه سلوك آخر هو سلوك الطرد أو الإقصاء؛ ذلك أن خَرْء الفراخ أو زبلها إذا ما تراكم في العش، وهو كما نعلم يميل إلى البياض، فإنه يكون علامةً ظاهرة تبدي ما ينبغي أن يخفى عن أعيُن جوارح الطير؛ ولذلك يعمد الأبوان دائمًا إلى طرد هذا الزبل وإقصائه كلما تراكم منه شيء في العش.

وعاطفة الأمومة عند الثدييات لا تقلُّ عنها في الطيور، كما أن لها مغزًى فسيولوجيًّا أيضًا، فإفراز اللبن واكتناز الثدي به يُحدِث تأثيرًا فسيولوجيًّا مختلفًا عن إفراز اللبأ في معظم الطيور. فالكلبة إذا أُخِذَت منها جراؤها فإنها تقلق ولا تستقر حتى تعود إليها؛ وذلك لأن غددها الثديية قد اكتنزت باللبن، على أنه من الممكن إزالة القلق عنها إذا حُقِنَت بمواد تمنع إفراز اللبن، فإفراز اللبن في الأم من الثدييات إذن يحدث تغييرًا فسيولوجيًّا محددًا في جسمها يستطيع أن يعمل كمنبه عصبي.

على أن هذا ليس العامل الوحيد، فقد شُوهِدَت إناث الفئران، وهي غير حامل ولا مرضعة تحنو على الصغار، كما أن الذكور تحنو عليها، وإن رأت منه عاجزًا حملته إلى ركن قصي، فالفئران الحديثة الولادة تعمل هنا كمنبه ابتدائي بالنسبة لهذا السلوك؛ ويمكن إثارة هذا السلوك إذا ما حُقِنَت الأنثى غير الحامل بالبرولاكتين والبروجسترون، وهما هرمونان يفرزهما جسم الأنثى في أثناء الرضاعة. فالهرمونات في الثدييات إذن هي الأسباب الأولية الهامة في السلوك الأمي (أي الأمهي، نسبة إلى أم أو أمة وهي الوالدة).

ويختلف نشاط الهرمونات في السلوك الجنسي، وفي سلوك الرعاية اختلافًا تامًّا عما هو عليه الحال في سلوك العراك، فإفراز الأدرينالين ينبه حقيقة نشاط الأعضاء الداخلية مثل المعدة والقلب، أما بالنسبة للهرمونات الجنسية والبرولاكتين فليس ثمة دليل على أنها تثير أي نشاط عضلي، وإنما الأمر لا يعدو أن يستجيب فيه الفرد إلى المؤثرات الخارجية، ولكن كيف لنا أن نفسِّر حالة الفأرة التي تُحبَس بمعزل عن الفئران فتصبح أكثر نشاطًا في فترة الدورة النزوية؟ فلا بدَّ إذن من أنه يحدث فيها تغيير يفسِّر هذا السلوك ولا علاقة له بالمؤثر الخارجي، ويختص هذا التغيير بإفراز الهرمونات الجنسية، كما أنه من المحتمل وجود مركز عصبي في المخ لم يُكتشَف بعد يتحكم في هذا السلوك الجنسي، وأن هذا المركز تنبِّهه الهرمونات الجنسية.

أما في سلوك طلب المأوى، فإننا نعرف ما يحدث للجسم من ارتعاش في أثناء البرد وبخاصة في الحيوانات الثديية والطيور، فالرعشة إذن بأسبابها الفسيولوجية المعروفة تدفع الحيوان نحو طلب الدفْء في مكان أقلَّ تعرُّضًا للعوامل الجوية، كما تدفعه أيضًا لالتماس الدفء في جسم فرد آخر من بني جنسه، أما عن أنواع السلوك الأخرى وبخاصة سلوك البحث والتنقيب أو الكشف، فلا نعرف من فسيولوجيَّتها شيئًا.

على أنه ينبغي لنا أن نحذر من التعميم، ونحن بصدد دراسة فسيولوجية السلوك، فما كان صحيحًا بالنسبة لنوع ما من الحيوان، قد لا يكون كذلك بالنسبة لنوع آخر أو أنواعٍ أخرى كثيرة؛ وعلى ذلك تنبغي دراسة الفسيولوجية الخاصة لكلِّ حيوان على حدة، أو على الأقل لكلِّ مجموعة واحدة من الحيوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤