أساليب في درس الأدب

عندنا كلمة عامية، واضحة المعنى، بارزة الدلالة، مثل كثير من الكلمات العامية، يقولها كل واحد منا حين يلتبس عليه أمر من الأمور، ولا يهتدي إلى وجه الحيلة فيه، يقول: شربوكة! يقولها في إظهار حيرته أو تمحله الأعذار؛ لعجزه عن حل المشكلة التي تعرض له أو يُسأل رأيه فيها، فإذا أعيته الحيلة أهملها وصرف النظر عنها، إلا إذا كانت مما لا مناص من حله والخروج منه، على أي وجه كان.

أما القاضي الذي يسأل الفصل في إحدى القضايا، فلا يسعه أن يقول ذات يوم، وهو على منصة الحكم: «شربوكة! تلك قضية لا تفهمها المحكمة، فهي إذن لن تفصل فيها … أيها الخصمان، انصرفا وانظرا ماذا تصنعان.» للقاضي أن يرد الدعوى بناءً على عدم صلاحيته القانونية، ولكن ليس له أن يردها بناءً على عدم صلاحيته العقلية، هذا ما لا جدال فيه، وهو في الوقت نفسه مدعاة للأسف الشديد واليأس المطبق؛ إذ القاضي بشر مثلنا، وقد تعرض عليه قضايا عويصة مبهمة مركبة، لا يعرف لها رأس من ذنب، يرى أنه لا يستطيع أن يعدل فيها عدلًا تامًّا أو قريبًا من الكمال. إنَّ القاضي حاكم محكوم عليه بأن يحكم، وما يدريكم؟ لعل الحكم الذي يضطره القانون إلى إبرامه دائمًا ومهما يكن من الأمر هو ابن عم الظلم، ولم نقل إنه الظلم الفاحش بعينه، كي لا نتهم بالشطط والمبالغة.

كان الفيلسوف الفرنسي مونتاني يرى من حق القاضي أن يفصل في تلك القضايا المعضلة المشكلة بقرار من هذا النوع: «إنَّ المحكمة لم تفهم.» أو يفتح رئيس المحكمة ذراعيه، إشارة العجز والحيرة والاستسلام، دون أن ينبس ببنت شفة، فيكون الحكم صامتًا. كان مونتاني يرى أن يعطي القاضي هذا الحق، وإلا فلا مندوحة له عن أن يسلك في حل الشرابيك أو المعضلات، تلك الطريقة المثلى التي اختطها قاضٍ من قضاة القصص والأساطير، وكان فيها موفقًا إلى حدٍّ بعيد، فقد كان يلجأ إلى النرد — هب يك، دوشش — وهو أعدل الحاكمين …

إذا كان مقضيًّا على القاضي أن يصدر حكمة دائمًا وفي كل حال، سواء أفهم أم لم يفهم، وعدل أم لم يعدل؛ مخافة أن يحكم العامة على القضاء نفسه بالعجز والتقصير، فليس أمر الناقد الأدبي على ما نظن كذلك. ليس ثمة ما يضطر الناقد الذي ينظر في كتاب أو كاتب ما ليحدث عنه القراء؛ إلى إبرام حكم قطعي جازم على الكاتب أو كتابه، مهما بلغ منه هوس الحكم. وبالفعل، إنَّ أغلب الخلق مبتلون بهذا الهوس المقيم المعقد، لا تكاد تنتهي من الكلام حتى يفاجئوك وهم على أحرِّ من الجمر بهذا السؤال المفحم حينًا، البليد أحيانًا … يقولون: «وأخيرًا؟ ذلك الكتاب، أسخافة هو أم آية في الفن؟ وذلك الكاتب، أنابغ هو أم رجل أحمق؟» وقد أقسموا أن لا يتركوك أو تجيب!

لا مراء في أنَّ الحياة وجهادها المستمر يرغمان أبناءها أكثر الأوقات على إصدار أحكام مبرمة، لا يتسرب إليها الشك ولا يثنيها التردد، كي يختطوا لأنفسهم السبل القويمة الملائمة لقضاء شئونهم وبلوغ مآربهم؛ أعني إذا كانت هذه الحياة التي نحياها، وهذه الدنيا التي نضطرب فيها، لا تتسعان إلا لأهل العزيمة النافذة واليقين الصارم، فليس الأمر كذلك في الآداب والفنون، لقد أعطيتم القاضي قانونًا وقلتم له: «اقضِ بين الناس وفقًا لبنود هذا القانون، وطبقًا لأوامره ونواهيه». فماذا أعطيتم الناقد الأدبي من هذا القبيل؟ وما هي الدساتير الأدبية أو الفنية المجمع عليها إجماعًا لا يأتيه الباطل؟

لا ينكر أنَّ لدينا مبادئ قدسها مرُّ الزمان وصقلتها التجربة، لكن الاختلاف في تفسير هذه المبادئ وفي فهمها وتطبيقها عظيم جدًّا، أعظم من اختلاف القضاة وعلماء الشريعة في تفسير أحكام القانون، وفي فهمها وتطبيقها بطبيعة الحال، وسبب ذلك بسيط غاية في البساطة، هو أنَّ مرد أحكام القانون في النهاية إلى العقل، بينما مردُّ أصول النقد الأدبي والفني أولًا وآخرًا إلى الذوق، والناس — كما لا يخفى — يتفقون في المسائل العقلية أكثر مما يتفقون في أذواقهم، حتى أنهم قالوا، بل قالت حكمة الأمم: «لا جدال في الذوق.» فأغلق الباب، وقطعت جهيزة قول كل خطيب.

ولا دليل على اختلاف الناس في ذائقتهم الأدبية أبين وأنصع من الصعوبة التي يصطدم بها أحدنا — وكأنه يصطدم بجدار — كلما حاول أن يحدد هذه الملكة النفسية الخاصة التي يسمونها الذوق، وبها لا بعقلنا الراجح أو القاصر نحكم على الآثار الأدبية ونقدرها قدرها، فالتعريف يجب أن يكون جامعًا مانعًا، وماذا — بالله عليكم — يجمع كل الأذواق، أو يمنع عنها ما ليس منها في شيء؟ ولا ننس أنَّ للعدوى والتقليد أثرهما البليغ في رواج تلك الأصناف من السلعة الأدبية أو جمودها في السوق، حتى أنها لتشبه من وجوه شتى الأشكال والأزياء التي تشيع اليوم لتغيب غدًا، ثم لا تلبث أن تعود، وهكذا دواليك. ينبغي أن ننتظر طويلًا كي نرى الزبد يذهب جفاء، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس. ينبغي أن نعتصم بالصبر الطويل، صبر التاريخ، ولكن المشكل أنه حينما يكون «تاريخ» فنحن لا نكون شربوكة!

ولله ما أكثر الأخطاء التي تعتور الأحكام الأدبية أو الفنية! فإن تجارب نقاد الأدب ومؤرخيه تحذرنا من مغبة هوس الحكم أن لا نطيعه ولا نستسلم إليه، وكأي من أديب غربي رفعه عصره وأعظم شأنه، فإذا هو اليوم نسي منسيٌّ، وآخر لم يحفل به الذين عاصروه فإذا هو في عليين! وإنما ذكرت الأدب الغربي؛ لأن نشاط الحياة الأدبية هنالك وتجددها الدائم يجلوان هذه الحقيقة بأجلى مظهر، ولكن ألا تجدون طرفًا من هذا في بيت لاذع قاله المتنبي قبل أن يلقبه التاريخ بمالئ الدنيا، وشاغل الناس في فجر حياته؛ إذ كان لا يحفل به الذين عايشوه؟

أنا في أمة تداركها الله!
غريب كصالح في ثمود

فأكبر الظن أنَّ المتنبي حين شكا غربته بين قومه، بما نحسه في هذا البيت من تفجع بليغ، وتحسر مذيب؛ لم يعنِ ذلك الشيء الجوهري عندنا، الذي يلازم اسم المتنبي، وهو الشعر، بل عنى شيئًا لا يعنينا نحن البتة، أو على الأقل، لا يمت إلى الشعر إلا بسبب بعيد. لقد كان المتنبي في ذلك العهد مترددًا بين عبقرية الشعر وعبقرية العمل، لهذا أنا أوثر أن لا أعرف في أي عهد، ولا لأية مناسبة قال المتنبي هذا البيت من الشعر، كي يوحي إليَّ ما يوحي دون أن ينقطع وحيه. ليؤذنْ لي أن أتجاهل الظرف — ظرف الزمان وظرف المكان — الذي وُلد فيه بيت من الشعر لم يزل بعد ألف سنة في ميعة الشباب حيًّا بحياته، قويًّا بقوته، موجودًا بذاته. لقد حذرتكم وحذرت نفسي من هوس الحكم، وأحب الآن أن أحدثكم عن هوس التاريخ، فليس هذا بأقل من ذاك تحكمًا واستبدادًا بالأذهان؛ أذهان المؤلفين والقارئين عن السواء.

منذ نحو خمسة أعوام أخرج المستشرق الفرنسي بلاشير كتابًا درس فيه حياة المتنبي وشعره، هو — ولا مراء — أفضل ما صنفه شرقي أو غربي في الموضوع، على كثرة ما كتب الكاتبون فيه، لا سيما لمناسبة (ذكرى الألف) التي لا إخالكم نسيتموها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنَّ هذا البحث القيم في التاريخ الأدبي، بسعة إحاطته وحسن طريقته، يصح أن نعده أنموذجًا حسنًا لهذه المباحث على إطلاقها، بل الأنموذج الأحسن الأمثل. وقد قسم المؤلف كتابه قسمين: في القسم الأول أتى على سيرة الشاعر العظيم، بتحقيق العالم الذي راض نفسه على أساليب العلم الحديثة في بحث التاريخ الأدبي، رياضة لا نكاد نجد لها أثرًا عند علمائنا الأعلام، حتى الذين تلقوا هذا العلم عن أهله في ديار الغرب، لعلة أو سلسلة من العلل أدع لكم مئونة تدبرها؛ إذ إنها ليست موضوع الكلام. وفي القسم الثاني درس بلاشير شعر المتنبي في العالم العربي، وفي آثار المستشرقين خلال ألف عام مرت على وفاة الشاعر، ما ترك شاردة أو واردة، مخطوطة أو مطبوعة، إلا أحصاها. لكنه في هذا القسم الأخير لم يخرج أيضًا من التاريخ، فكأنها سيرة المتنبي بعد موته، أو فلنقل: سيرة شعره الذي قال هو في «سيرورته»:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدَا
فسار به من لا يسير مشمرًا
وغنى به من لا يغني مغردَا

وعلى هذا يكون المتنبي صادقًا في نبوءته، إن يك قد عنى بالمقعدين الذين حملوا شعره وساروا به مشمرين، عصرًا فعصرًا، ومصرًا فمصرًا، جمهرةَ الشراح والمؤرخين. أما ذلك الآدمي الذي غنى بشعره مغردًا، وكان عهدنا به ينعب كالغراب، فأمهلوني أحدثكم عنه بعد حين.

أعرف كتابًا عن أبي العلاء المعري، هو أول ثلاثة أو أربعة من الكتب، أحسن بها عصرنا إلى الشاعر الحكيم الفذ في أدبنا العربي؛ صدقةً لوجه التاريخ. فهذا الكتاب يقع في نحو أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، مكتوبة بذلك الأسلوب المتمطي بصلبه كليل امرئ القيس. خص المؤلف بستين منها، لا أكثر ولا أقل، أدب المعري شعرًا ونثرًا في الطور الأول والثاني والثالث من حياته الأدبية، عارضًا للمديح والفخر والوصف والرثاء، ولم يلهُ عن النسيب متكلمًا على الدرعيات واللزوميات، ناظرًا في الرسائل ورسالة الغفران بنوع خاص. وقد استطاع أن يقارن فيها بين أبي العلاء من جانب، وبين عدي بن زيد وأبي نواس، وابن سينا، والمتنبي، وأبي العتاهية، وغيرهم في الجانب الآخر. ولم ينسَ دانتي الطلياني وملتن الإنكليزي، فكأنه يوم الحشر. أما شوبنهور الألماني داعي دعاة التشاؤم، فكان مذهبه يومذاك لم يزل في الطريق قاصدًا الأقطار العربية، فتمكن من النجاة بنفسه. تلك المقالة المعجزة التي وسعت كل هذه الأشياء، (ومرغليوث أيضًا) أليس عجيبًا أن يظل فيها متسع لدرس أدب المعري شعرًا ونثرًا؟ أما بقية فصول الكتاب فقد أُنفقت على التاريخ وفي سبيل التاريخ عن سعة؛ فغرق البحث الأدبي الصرف في أوقيانوس من البحوث التاريخية على أنواعها: من التاريخ السياسي، إلى التاريخ الاجتماعي، فالتاريخ الديني، حتى التاريخ الاقتصادي! ولا ننس أنَّ تلك المقالة التي وقفها المؤلف على درس أدب المعري، كانت أيضًا في التاريخ الأدبي … طوفان من التاريخ.

أذكر إذ كنا في الصف على مقاعد الدراسة، ونحن بضعة عشر طالبًا، وقد اقترح علينا معلم الإنشاء العربي أن نكتب في موضوع الحرية … لشدِّ ما كان عجبنا في اليوم الموعود، حين أخذ كل منا يتلو على الأستاذ ما جادت به قريحته، فما من طالب إلا استهل مقاله هكذا: «أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه شيئًا مذكورًا.» أليس جميلًا هذا الإجماع؟ ثم أليس من الطبيعي، وقد تكلم الصف بلسان واحد عن الإنسان الأول، أن ينتقل هذا الصف وكأنه في نزهة مدرسية إلى بدء الخليقة، فيشهد كيف أبدع الله آدم من الحمأ المسنون، ثم غضب عليه تعالى فأخرجه من جنته إلى دنيا العمل والجزاء؟ أقسم لكم أنَّ الصف بأسره اجتاز يومذاك الطوفان، متعلقًا بسفينة نوح عليه السلام، حتى قذف بنا التاريخ أخيرًا إلى ساحل النجاة، ونحن على آخر رمق. فإذا بالحرية المسكينة موضوع الحديث ما زالت بانتظار كلمة نطيب بها خاطرها الكسير، لكن لم يبق لنا من الوقت، وفينا من القوة، إلا أن نصرخ هاتفين: تحيا الحرية! وهكذا وفَّينا البحث حقه وزيادة. شهد بذلك معلمنا، الطيب القلب، الذي أحب أن يعده من قبيل توارد الفكر، لكني أرجح اليوم أنه كان من توارد اللافكر!

ما أنا بعدو التاريخ، أأكون عدو العلم في هذا المعقل العلمي؟ ولندع جانبًا تلك الفئة من المفكرين الذين زعموا أنَّ التاريخ فن لا علم، أبحاثه أشبه بالحكايات الخيالية منها بالمعارف الثابتة، وأنه أخلق أن يقرن بالقصص الموضوعة من أن يرفع إلى مصافِّ العلوم الصحيحة، فهذه قضية لسنا بصددها الآن. ولكن ما أجرؤ على إنكاره واستهجانه هو أن يغير التاريخ بخيله ورجله على الأدب، فيطغى عليه ويستبد بمصادره وموارده، فيمسي الأدب تاريخًا صرفًا، وحقلُ الأدب مستعمرةً للتاريخ.

من المسلم به أنَّ الخاصة والعامة — بدافع الفضول الإنساني — هم سواء في تولعهم بالأخبار والنوادر والأقاصيص، ولا تثريب علينا إذا قلنا إنهم أشد بها تولعًا منهم بأي شأن آخر، لا يؤثرون شيئًا على معرفة الشخص وحوادث حياته، حتى الهنات والزلات. ولكفاية هذه الحاجة الملحة في نفوس القراء، ترى جمهرة الكتاب يكثرون من التأليف في سير المشاهير من رجال الفن والفكر والعمل، وقد بلغ بالقارئين الافتتان، وبالكاتبين الافتنان؛ أن تعاونوا على إحداث نوع غريب بين التاريخ والقصص، هو ما يدعونه بالقصص التاريخي. في هذا النوع الجديد من الكتب يجد كل من المؤلف والقارئ حسابه موفورًا غير منقوص: المؤلف؛ قصصي تكفيه حوادث التاريخ مئونة الاختراع، والقارئ؛ طالب حقيقة أو علم يدرس التاريخ في الروايات … وهكذا شهدنا انعكاس الآية، فإذا ما يجب أن نبالغ في الاهتمام به عند أي شاعر أو ناثر، أعني شعره أو نثره الفني، يفسح المجال لما يصح أن نهتم له بالدرجة الأخيرة، أعني أخبارًا مشكوكًا في صحتها، وحالات مضطربة، وأقيسة ملتوية، يريدون أن تتألف منها سيرة من السير، هي أقرب إلى القصص الموضوع منها إلى الوقائع الراهنة. وليتها قصة بالمعنى الصحيح، لا مجموعة حوادث متضاربة مشوشة، معادة معارة، إذن لأخذ على الأقل بالألباب ما في حسن تأليفها ونظامها، ودقة اختراعها، وتخييلها من رائع الجمال.

هل يجدي شعرَ ابن أبي ربيعة مثلًا علمُنا أنه كان صادقًا في حبه، لا كاذبًا؟ وهل يضر بشعر المتنبي مثلًا علمنا أنه كان كاذبًا في مدح سيف الدولة، لا صادقًا؟ لنفرض أنهما كانا صادقين، ثم لنفرض أنهما كانا كاذبين، ولنقلب المسألة صدرًا لظهر، وظهرًا لصدر، فماذا يكون؟ ماذا يكون بالإضافة إلى الشعر؟ تُرى أيغض الكذب من قدر شعرهما، أو يرفع الصدق من شأنه؟ لقد كان المتنبي عبقريًّا رغم أنف الصدق والكذب، لعلة لا تتصل بالصدق والكذب، فيما وراء الصدق والكذب … وبعد، فبالله عليكم! معشوقات ابن أبي ربيعة مَن يكنَّ؟ وممدوحو أبي الطيب من يكونون؟ نبئوني مَن هؤلاء جميعًا — وكثيرٌ أضرابهم — إزاء ذلك الحادث الفذ العجيب في دنيانا، الذي يسمونه نبوغ شاعر، أو يسمونه المتنبي؟ كل الناس خير وبركة، ولكن لكل مقام مقال؛ فالحسان اللواتي شبب بهن ابن أبي ربيعة، والملوك أو الأمراء الذين مدحهم أبو الطيب أو هجاهم — ولا فرق — سواء أكان الشاعران صادقين أم كاذبين، في الغزل والمدح والهجاء، أرى بعد الاستئذان من سادتنا مؤرخي الأدب أن ينزوي أولئك جميعًا في زاوية من هامش الشعر، حيث يلزمون الصمت والسكون «متأدبين»، فلا يتكلمون إلا حين يُسألون. أما أن يجعل الشعر هامشًا لكشكول من الملح والنوادر مهما تكن طريفة، ومن الأخبار والحكايات مهما تكن لطيفة؛ فهذا ما لا يصح أن يكون. إنما يخلد الشاعر بشعره، لا بشروح شارحيه، أو أخبار مؤرخيه، وأحيانًا رغم أنف الشارحين والمؤرخين.

أخذ المستشرق بلاشير على كتَّاب العربية المعاصرين الذين درسوا المتنبي في حياته وشعره جملة أمور، أدع منها جانبًا ما يتصل بالتحقيق العلمي، وأساليبه المرضية، فلست من رجال هذا الميدان. ولا أكتمكم أنه كانت لي في الدراسة العلمية للأدب على أحدث أصولها تجارب قليلة غير موفقة، وقفت بي لحسن حظ العلم في أول الطريق. قلت لنفسي ذات يوم: إذا كان ثلاثة من أئمة النقد الأدبي في هذا العصر — وهم سنت بوف، وتان، وبرونتيار — ناهيك بهم ناهيك، لم يألوا جهدًا في تطبيق مبادئ العلوم الطبيعية وأساليبها، لا سيما الفسيولوجيا والبيولوجيا، على بحوثهم الممتعة في سير الأدب وسِيَر الأدباء، ولم يوفروا نظرية دارون ولا مارك التطورية، فما يعوقنا نحن عن الاقتداء بهم، والنسج على منوالهم، بعد أن أصبحنا عيالًا على الغرب في كل شيء، حتى أنَّ رباعيات الخيام، والألف ليلة وليلة لم تصل إلينا بشق الأنفس إلا عن طريقهم؟ فاستخرت الله، فكان نصيبي من العلوم: الأرتماطيقي، ولم أقل: الحساب؛ كي نظل جميعًا أنا وأنتم في الجو العلمي لا ينقطع سحره.

وبالفعل، أخذت (ألف ليلة وليلة)، وهو في رأي الغرب كتاب الشرق العربي، لا كتاب إلَّاه، أظهر إعجابه به «أندره جيد» فزعم أنَّ المفكرين في العالم هم عنده فئتان لا ثالثة لهما: فئة يفعل في نفوسهم الكتاب المقدس ومجموعة ألف ليلة وليلة، وفئة أفئدتهم غلفٌ مغلقة دون محاسن هذين السفرين العظيمين. بيد أنَّ أندره جيد ما لبث أن استشهد ببضعة أبيات من الشعر، تتلمظ في الفرنسية بوصف الكنافة، هي مما يصح أن تباهي الكنافة به جميع ما سواها من ألوان الطعام، ولا يصلح لأن يباهي الشعر العربي به شعر أمة من الأمم.

ولكن ما لنا ولهذا … فإذن أخذت (ألف ليلة وليلة) بيد، والأرتماطيقي باليد الثانية، وقلت: أحصي عدد الأشخاص، ذكورًا وإناثًا، الذين يغمى عليهم بين دفتي هذا الكتاب، لفراق أو تلاقٍ، لحزن أو فرح، لمرض في القلب أو عُسر في الهضم، ثم أُنوعهم أنواعًا، وأُصنفهم أصنافًا، معارضًا مقابلًا بعضها ببعض، على نحو ما يصنع العلماء في عِلْمَي النبات والحيوان. ولا حاجة إلى القول أنه منذ القصص الأولى، اجتمعت لديَّ أوفر مادة ممكنة عن الإغماء في مختلف أحواله وأشكاله، وأسبابه ونتائجه. أتحسبون أنَّ جنيًّا أو عفريتًا أفسد عليَّ عملي؟ لا، بل فتى من العاشقين عبقري الإغماء، استطاع أن يغيب عن صوابه في خمسة أسطر عشر مرات، يزيد إغماءً كلما زادوه إنعاشًا، فأعجزني وأيأسني صاحب هذا الرقم القياسي، الذي لم يسبقه سابق، ولن يلحقه لاحق، عافاه الله!

مما أخذه بلاشير على كتابنا المعاصرين في أساليب درسهم شعر المتنبي ما نسميه بعد أن تكلمنا على هوس الحكم وهوس التاريخ؛ ما لا ندحة لنا عن تسميته: هوس المقارنة، فتكتمل أضلاع المثلث. وينطوي هذا التعبير على بضع حالات أو هيئات متباينة في الظاهر، متماثلة في الباطن، ذكرها المستشرق الفرنسي في مؤلفه النفيس، وأرى أنه لم يعدُ وجه الحق في واحدة منها.

ودَّ فريق من الباحثين لو يكون المتنبي في عصر النهضات والقوميات هذا داعية القومية العربية، وشاعر الوطنية الأكبر، وليس بين هذه الرغبة في نفوسنا، وبين أن نجد كفايتها في جزء من شعر أبي الطيب وسيرته، أو نتوهم ذلك؛ إلا خطوة قصيرة. ولعمري، هل تستغني أمة من الأمم في فجر حياتها الاستقلالية ونهضتها السياسية عن شاعر فحل يمثل عواطفها وآمالها ومطامعها ومطامحها؟ فإذا كانت هذه النهضة يعوزها شاعر من الحاضرين يمدها بعبقريته، ويحدوها بإنشاده، فلا بأس بأن تستنجد بشاعر في الغابرين، يمثل روح الأمة الخالد وأمانيها العزيزة. فكان المتنبي ذلك الشاعر، نقارن بينه وبين شعراء الأمم في مشارق الأرض ومغاربها غير هيابين، بعد أن خلعنا عليه مذهبنا السياسي عنوة، وخرطناه «في الحزب».

وفريق آخر لم يعجبهم أن يكتفوا بالمقارنة بين المتنبي وبين شعراء الأمم، أمثال شكسبير وغوتي وهوجو، فأخذوا أيضًا في مقارنة «مذهبه الفلسفي» بنظريات العلماء والفلاسفة المحدثين، من دارون إلى نيتشه، حتى كدنا ننسى أنَّ المتنبي شاعر، وليس إلا شاعرًا.

وانتهى بلاشير إلى هذه النتيجة، وهي أنه لم يزل يبحث جادًّا، ولكن عبثًا، عن كاتب عربي يُعجب بشعر المتنبي ويشرح إعجابه به، لا لبواعث سياسية أو تاريخية أو فلسفية، بل لعوامل أدبية صرف، تتناول الفن الشعري ولا تتعداه.

ويمكنني الآن أن أقول إني قرأت كل ما كتبه عن المتنبي الكاتبون، وبحثه الباحثون، وأرخه المؤرخون، وشرحه الشارحون، فلم أخرج من ذلك جميعًا وأنا أكثر إعجابًا بالمتنبي، أو أشد متعة بشعره، كأن البحوث والشروح تحجب عنا الشيء الجوهري، أو تصرفنا عنه. ونحن نعلم أنَّ الشعر يتحدى كل تفسير، كما أنَّ كل تفسير يلاشي الشعر، ولكن هذه حكاية أخرى كما يقولون.

وعدتُ أن أحدثكم عن الآدمي الذي غنى بشعر أبي الطيب مغردًا، وكان عهده بنفسه ينعب كالغراب، إنَّ وعد الحر دين، فالغراب الغرِّيد هو أنا، ولا فخر. هو أنا، كلما خلوت إلى ديوان للمتنبي ساذج، ولم يزيَّن بالمقدمات والذيول والحواشي، فأجدني بضرب من السحر، بغتة، في حال من الوجد الشعري يُعييني ولا يَعنيني وصفها، مغمورًا بجو من الغبطة، لم أعرف له شبهًا في عالمي الإنس والجان، فإذا تغنيت بأبيات من شعر أبي الطيب شاع في كياني من الطرب ما لا أشتري به نعيم الدنيا وبعض الآخرة …

ولكن مهلًا، فأنا هنا لأحدثكم، لا لأغنيكم!١
١  حديث ألقي في «منتدى وست» في جامعة بيروت الأميركية بدعوة من جمعية متخرجي القسم الفرنسي مساء الثاني عشر من آذار سنة ١٩٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤