فيكتور هيجو ومدام درويه

الأدباء صنفان، أحدهما يرمي إلى غاية فلسفية، أو إلى مثل أعلى، يتحرى في أكثر ما يكتب أن يبلغهما، ويحث غيره على بلوغهما، فهو يعد نفسه مركزًا للكون، قد تمركزت فيه مقاصده العليا، فيرى من ذلك أن واجبه الحتم يقضي عليه أن يحقق هذه المقاصد؛ لأنها ليست مقاصده فحسب، بل هي مقاصد الكون أيضًا، فهذا هو رجل الفن.

وثم صنف آخر ليس له مثل أعلى ولا غاية فلسفية، تعنيه الصيغة، فلا يبالي بالغاية، قصاراه أن يترنم ويشدو، فإذا كتب ذهب جهده في وصف الألفاظ وتنسيقها، وتنسيق عبارته وتزيينها، فهذا هو رجل الصنعة؛ أدبه أدب الفسيفساء والدنتله.

وكان فيكتور هيجو من هذا الصنف الثاني، يؤلِّف القصائد والقصص والدراسات، فيصوغها أحسن صياغة، يجيد حبك العبارة، ويأتي بالعجب في تشبيهاته واستعاراته ومجازاته، ولكنه كان في جميع ما كتب خلوًا من الغاية الفلسفية. والناس في كل مكان، وبخاصة إذا كانت عواطفهم تسود عقولهم، تفتنهم الصنعة في الكتابة؛ لأنها نوع من أنواع الشدو والترنم، فللأسلوب الحسن المحبوك المزين إيقاعات تشبه إيقاعات الموسيقى، تبعث في النفس السرور، فكان فيكتور هيجو محبوبًا لهذا السبب عند العامة، مشهورًا بينهم. وقد عاش مدة طويلة، واشتغل بالسياسة، فصارت حياته ومؤلفاته رمزًا ودليلًا على فترة طويلة من الزمن في تاريخ فرنسا. وهذا وحده هو ما سيضمن بقاء مؤلفاته وكتاباته، واعتبارها سندًا من أسانيد تاريخ عصره.

وكان مما يتسم به هيجو، فوق إتقانه الصنعة وتماديه فيها، وإغراقه في الانكباب على وصف الألفاظ، أنه كان لا يدري معنى الفكاهة، فكان لذلك لا يلحظ السخف الذي يحدثه الإغراق في الصنعة، وكان أيضًا على شيء كبير من الغرور والتيه، فلا يأبه للنقد.

حدث مرة أن وضع قصة تُدعى «الرجل الذي يضحك»، وجعل أحد أفرادها من نبلاء الإنجليز، ودعاه باسم توم جم جاك. وكان هذا الاسم أشبه بالمهرجين منه بالنبلاء، فانتقد عليه ذلك أحد الإنجليز في لطف وكياسة، فما كان من هيجو إلا أن شمخ بأنفه منكرًا عليه ما لاحظه، مدعيًا أنه يدرك من الذوق في التسمية عند الإنجليز أكثر من هذا الإنجليزي.

وفي كتاب آخر أخطأ في اسم الموسيقى الاسكوتلاندية المعروفة، فكتبه Bugpipes، فلاحظ ذلك عليه أحد الاسكوتلانديين، وطلب إليه تحرير اللفظة بأن يجعل الحرف الثاني a بدلًا من u، فأبى وتعنت وكابر، بأن اللفظة يجب أن تكون كذلك!

كان هذا التيه هو الذي جعله ينتمي في الأصل إلى الجمهوريين؛ لأنه لم يكن يطيق أن يكون في فرنسا إمبراطور، لا يقف وإياه على مستوى واحد. وكان، مع أنه جمهوري في المبدأ، يتمحل الحكايات والأباطيل لكي يثبت أنه من بيت نبيل قديم، وذلك مع أن جده كان نجارًا، وكانت إحدى عماته متزوجة من خباز، وعمة أخرى متزوجة من حلاق، وأخرى كانت خياطة. ولو كان هيجو ديمقراطيًّا حقيقيًّا لافتخر بحقيقة نسبه، ولكنه — كما قلنا — لم تكن له غاية فلسفية في هذا العالم، وإنما كان يبغي الشهرة برصف الألفاظ والتدجيل على العامة.

وُلد في سنة ١٨٠٢، وشغف في صباه بالشعر، فنال عدة جوائز عليه، وذكرته الندوة الفرنسية في سنة ١٨١٧. ولما بلغ العشرين وقع في هوى فتاة تُدعى إديل فوشيه، كانت حوراء دعجاء، على رأسها إكليل جثل من الشعر الأسود، وكان بها حياء يغري، ورشاقة تفتن مَن ينظر إلى حركاتها، فتعرَّف فيكتور هيجو إلى أبويها، وصار يكثر من زيارتهما، حتى أدركت أم الفتاة أنه عالق بابنتها. ولم يكن للشاعر دخل ثابت تعتمد عليه عائلة في المعيشة، فلما اقترح على الأبوين أن يتزوج ابنتهما رفضا، واعتلا عليه بصغر سن الفتاة، وأنها لا تملك شيئًا، وأنه ليس له صناعة. وحدث أن الملك لويس الثامن عشر قرأ بعض قصائد فيكتور هيجو، فأُعجب بها، ورتَّب له معاشًا سنويًّا قدره ٤٠ جنيهًا، وكان قد باع ديوانه الأول في تلك السنة، فربح منه ٣٠ جنيهًا، ففرح بذلك، وذهب إلى أهل إديل، وأخذ يلح في زواجه الفتاة، ويحتج بأنه لا بد ناجح في الأدب، وأن معاش الملك باكورة دخله العظيم الذي يتوقعه من رواج أدبه.

وتزوج من إديل، وعاشا طويلًا، ورُزقا أولادًا، فكان بيتهم مثال البيت السعيد، ونجح فيكتور هيجو كما توقع، وذاع اسمه وكبر دخله.

وحدث أنه كان ممن يترددون على صالون هيجو أديب معروف يُدعى «سانت بوف» كان قد مدح بعض كتب هيجو، فأحبه الشاعر، وصار يقبل عليه، ويفتح له صدره، ويبسط له مائدته، فكان يقصد إلى داره كل يوم، وقد لا يجد الشاعر هناك فيجالس زوجته، ويأخذان في أطراف الأحاديث وشجونها.

هذا هو الواقع الذي كان يعرفه كل إنسان يتردد على دار فيكتور هيجو، ولكن سانت بوف كان سافلًا، بل كان غاية ونهاية في السفالة؛ فقد نشر كتابًا قال فيه إنه عشق مدام هيجو، ولو صح هذا العشق لكان أحرى به أن يخفيه عن الناس، ضنًّا بكرامة هذه المرأة أن تُبتذل في الأفواه، وبخاصة إذا كان يحبها، ولكن من الأسرار ما يجذب صاحبه على البوح، ولا يفتأ يعنته حتى يفشيه.

وهنا جدير بنا أن نقف هنيهة، وننظر في تلك الطبيعة اللاتينية التي يتسم بها أهل جنوب أوروبا، ونقابلها بطبيعة الأمم الجرمانية الإنجليزية التي يتسم بها أهل شمال أوروبا، فأدباء اللاتين يتفتحون ويصارحون القراء ويكشفون عن قلوبهم، لا يعتدون في ذلك بأي اعتبار أدبي، وهذا دأبهم من قديم ومن حديث؛ فإن اعترافات «سان أوغسطين» و«جان جاك رسو» تدل على ذلك، كما تدل أيضًا عليه كتابات «ألفرد دو موسيه» و«جورج صاند». وهذا الأديب الإيطالي «دانونتسيو» الذي باح بحبه للممثلة المعروفة إليانوره ذوز. وهذا بخلاف ما يحصل في الأمم الشمالية؛ حيث الطبائع أميل إلى الكتم، وأقدر على حفظ السر، وأكره ما تكون للفضائح، يظهر عليها الجمهور وتقف عليها العامة؛ فقد مات «بارتل» أسى وكمدًا عندما ذاعت عنه قصة غرامه بإحدى السيدات. ومات «أوسكار وايلد» غمًّا وجزعًا عندما اشتهرت عنه قضية فسق.

ولو كان سانت بوف إنجليزيًّا ووضع مثل هذا الكتاب، لما لقي من الجمهور سوى البصق في وجهه، ومن المحاكم سوى الحبس السريع.

فلما تلطخت مدام هيجو بهذا العار سقطت من عين زوجها. ولم يكن هناك ما يدل على أن القصة التي ذكرها سانت بوف صادقة، ولكن الجمهور صدقها، وكان هذا كافيًا لأن يغض من كرامة فيكتور هيجو ويقرح في صدره. وقد كظم غيرته، وأغمض عينه على القذى، وعاش مع زوجته محافظًا على جميع الظواهر. والحقيقة أن تيهه وغروره منعاه من أن يعترف بوقوع هذه الإهانة أمام الجمهور.

وحدث في سنة ١٨٣٣، بعد هذه الحادثة، أن زارته في أحد الأيام فتاة من المشتغلات بالتمثيل تُدعى «مدام درويه» وطلبت إليه أن يخصها بتمثيل أحد أشخاص درامته، التي كان على وشك أن يقدمها لأحد التياترات، وكانت هذه الفتاة حاصلة على نصيب كبير من الجمال. رآها تيوفيل جوتيه الكاتب المعروف، فوصفها وصف المدله بجمالها، في قطعة نثرية كأنها مقطوعة من الشعر. وكانت في بدء أمرها فقيرة، فعاشت مدة مع برادييه المثَّال، ثم أعرض عنها وجفاها، فلجأت إلى نبيل روسي، وعاشت معه دهرًا. ثم دخلت التمثيل، وعرفت عن سبيله فيكتور هيجو.

ولما تركته، وحصلت منه على وعد بتخصيص جزء من الدراما لها كانت قد وقعت في نفسه، فما هو أن برحته، حتى قام يرد إليها الزيارة، وصارا بعد ذلك يتزاوران، وانبسط كل منهما إلى الآخر وأقبل عليه. وكانت مدام هيجو ترى ذلك فلا تبدي تذمرًا أو انتقادًا، لما تعلم من ذيوع قصتها مع سانت بوف. وكان هيجو نفسه يستغل هذه القصة، لكي يسوِّغ لنفسه خيانة الأمانة الزوجية وعشق مدام درويه.

وتمادى العشق بينهما، حتى أهملت مدام درويه صناعتها في التمثيل، وعندما نُفِيَ هيجو من فرنسا بأمر نابليون الثالث ذهبت معه إلى جزيرة جرنزي. وكانت مدام هيجو تزورها، وتدعوها إلى بيتها، وتتجاهل أمام الناس كل ما بينها وبين زوجها، ولا بد أنها كانت تعاني آلامًا عظيمة من هذه الإحساسات المحتشدة في صدرها؛ حبها لزوجها، وغيرتها من هذه المرأة، وهوان نفسها أمام ما ذاع عنها عن علاقتها بسانت بوف.

ويُحكى أن بعضهم زار دار هيجو في مساء أحد الأيام في جرنزي، فلما دخل إلى منظرته وجد زوجته مضطجعة وهي تعاني أشد الآلام، فسألها: أين زوجها وأولاده؟ فقالت: ذهبوا كلهم إلى دار مدام درويه لكي يقضوا المساء هناك في انبساط وتمتع. اذهب أنت أيضًا؛ لأنك لن تجد هنا ما يسرك.

وهكذا عاشت مدام هيجو ٣٣ عامًا، وهي تعرف أن المكان الأول ليس لها في قلب زوجها، وكانت في خلالها مكسورة الخاطر مقهورة العواطف، فلو كان ما ذكره سانت بوف عن حبها حقيقيًّا، فقد لاقت جزاء خيانتها، بل أكثر مما تستحق. وإن كان ما ذكره كاذبًا، فهو جدير باللعنة في كل زمان، وهي جديرة بالشفقة من كل إنسان.

أما مدام درويه، فقد عاشت حتى بلغت الثمانين. وماتت قبيل وفاة فيكتور هيجو بمدة قصيرة. ودُفنت في باريس، بعد أن حملت جنازتها في مشهد فخم لا يدري الإنسان أية لطائف كان يتفاكه بها المشيعون لجنازتها، وهم يسيرون وراء هيجو وكلهم يعرف قصة عشقهما.

ولكن هذا هو المزاج اللاتيني، يتغاضى عن مثل هذه الخطيئات، بل يذكرها كأنها شيء مألوف لا غبار عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤