بلزاك وإفيلينا هانسكا

ليس في القرن التاسع عشر مَن يفوق بلزاك في فرنسا في الفن القصصي. وهذه الحقيقة لا يعترف بها إلا القليل من الفرنسيين، ولكن أدباء العالم الأوروبي الذين يقرنون الأدب الفرنسي إلى غيره من الآداب، يعرفون هذه الحقيقة، ويقرون لبلزاك بالتفوق والتبريز.

ونظن أن هناك معيارًا نستطيع أن نعاير به الفن القصصي في الوقت الحاضر، وهو القصص الروسية، فما اقترب منها من القصص عند سائر الأمم، وما أشبهها في معالجة الموضوع أو تخطيط الخلق، وما نزعتها في استكناه النفس والبعد عن البهرجة اللفظية، كان أحرى بأن يكون في الطراز الأول.

وبلزاك من هذه الوجهات، وبخاصة من حيث درس نوازع النفس، أقرب المؤلفين في المزاج الروسي، فهو لذلك أفضلهم وأبقاهم على مر الأزمان. وربما يمتاز بلزاك أيضًا على كثير من أدباء روسيا، بتنوع أسباب العيش التي يعيش بها أشخاص قصصه؛ فقد قال تين عنه: «نجد في بلزاك سمسارًا وعالمًا أثريًّا ومهندسًا معماريًّا، ومنجدًا وخياطًا وتاجر أهدام ووكيل تجارة وطالب صناعة وطبيبًا ومحاميًّا.»

وهناك وجه آخر للشبه بين بلزاك والقصصيين الروس، وهو تلك الصوفية التي كثيرًا ما كانت تدفعه إلى الاعتماد على غرائزه وبصيرة نفسه، أكثر من الاعتماد على عقله.

ولد بلزاك سنة ١٧٩٩، وعُني أبواه بتربيته. وعندما بلغ الرابعة عشرة جيء به من المدرسة إلى البيت، وهو خائر القوى لا يدري أحد من الأطباء علته. وكان أكثر أوقاته منطرحًا على الفراش، وبقي مدة طويلة وهو على هذه الحال. ولعله من هذه العلة اكتسب ذلك الذوق إلى إدمان القراءة، وانغرز في مزاجه الميل إلى الكتابة والتأليف. وكثيرًا ما تكون العلة، وما تقتضيه من سكون الحركة وعدم النشاط، داعية إلى تقوية النزعة الأدبية في بعض الأشخاص، ممن تميل طبائعهم إلى الأدب.

وأخذ في درس القانون، ولكنه لم يزاول المحاماة؛ فقد قام في ذهنه أن يحترف الأدب، وبقي أمينًا لهذه الحرفة، لا يبغي بها بديلًا، على ما عانى منها من الفاقة، حتى أُوتي في آخر أيامه النصر والشهرة.

ومما يدل على بعض ما لقيه من الشدائد في بدء حياته الأدبية، هذه القطعة من خطاب أرسله إلى أخته لورا يقول فيها: «إني شاب، وبي جوع، وليس على طبقي طعام. آه يا لورا! لي رغبتان عظيمتان: أن أنال الشهرة وأن أحب، فهل أحققهما؟»

وأخذ بلزاك في مزاولة فنه، يكادح من الصنعة صعابها، ويضع الترسيمات العظيمة للكوميديا الإنسانية التي أخذ على عاتقه أن يصف فيها مختلف معاشات الناس وأحوالهم وآمالهم وأحزانهم وأتراحهم. ومما يدل على أن هذه الترسيمات كانت في ذهنه، وقت محاولاته الأولى لكي يكون أديبًا معروفًا، قوله في إحدى قصصه التي ألَّفها أيام خموله:

عليك أيها القارئ أن تتفهم أخلاق هؤلاء الأشخاص الذين أقدمهم لك، وأن تقفو حظوظهم في ثلاثين قصة ستأتيك بعد.

وحدث في سنة ١٨٢٩ أن جاء البريد إلى بلزاك يحمل خطابًا من قلم سيدة، فما إن جاء على آخره حتى شعر كأن نفسه قد غمرها نوع من الوحي؛ فقد كان الخطاب ينبض فهمًا وعطفًا، وكان فيه شيء من النقد الذي يبعث إليه الإخلاص والحب؛ إذ أومأت الكاتبة إلى بعض عاداته التي ألفها في أسلوبه، وصار يكررها على غير وعي منه، حتى باتت تُمج من القراء.

وأخذ بلزاك يتلو الخطاب، ويعيد تلاوته وهو في سرور يشبه اللذة، ويسائل نفسه عن هذه الكاتبة التي تفيض حبًّا وعطفًا وحكمة، ثم تواترت عليه الخطابات من هذه الكاتبة، وعرف منها أن كاتبتها سيدة بولندية تُدعى إفيلينا هانسكا، وكانت متزوجة من أحد الأشراف البولنديين، وكان متمرضًا بزمانة لا يبرأ منها، وكان كلاهما في نيوشاتل في سويسرا.

ولم تمضِ مدة طويلة على تبادل المكالمات بينهما، حتى سافر إليها بلزاك، والتقى بها في نيوشاتل. ويُقال إنها عند أول لقائها به أُغمي عليها، من فرط التأثر. ولم تكن هذه السيدة البولندية جميلة، ولكن كان على وجهها مسحة جذابة من روحانية نفسها، جعلت بلزاك يعلق بها.

وعندما فارقها وعاد إلى باريس، لم يكد يمضي عليه يوم واحد حتى كتب لها يخبرها عن أتفه الأشياء وأقلها خطرًا، وكان طول هذا الوقت تتوالى خسارته في مؤلفاته، بحيث باتت ديونه أربعة آلاف جنيه وهو في الأربعين من عمره، وكانت أكبر خسارته ناشئة عن شدة عنايته بتحرير مؤلفاته، حتى كان يتفق أحيانًا مع أحد الناشرين على مقدار من المال لطبع كتابه، فإذا جاءته التجارب الأولى للطبع، أعمل فيها قلمه تحريرًا وتغييرًا، حتى تزيد كلفة الطبع عن مبلغ الإنفاق الذي بينه وبين الناشر، فكان يخرج من كتابه بعد تأليفه بخسارة غير قليلة. ومثل هذه الشدائد كانت جديرة بأن ينكسر أمامها قلب أي مؤلف آخر، فيتثبط بها عن المضي في إتمام عمله. ولكن بلزاك في ذلك الوقت كانت نفسه تتأجج بنار الحب التي أشعلتها في نفسه إفيلينا هانسكا؛ فقد كان يقضي في عمله نحو ١٨ ساعة، فإذا أعيا وانطرح على فراشه، يبغي النوم، تذكر إفيلينا، فيهب نشيطًا مسرعًا، ويكتب لها خطابًا يشع بالحب والرجاء.

ومما يُؤثر عن بلزاك قوله لها: «ليس يُرضي الرجل في أول حبه سوى المرأة في آخر حبها.» وقوله: «الحب عندي هو الحياة، وما شعرت بالحياة قط كما أشعر بها الآن.»

وفي سنة ١٨٤٢ مات زوج إفيلينا، وكان بلزاك ينتظر أن يتزوج حبيبته، ولكن ما أشد دهشته إذ لم تقبل حبيبته الزواج به على شدة حبها له وتعلقها به، وكانت تتعلل بالعلل، للرفض أو الإرجاء، فساعة تحتج بأولادها، وأخرى تحتج بأملاكها في بولندا، وما إلى ذلك.

وحقيقة الحال أن بلزاك كان يحبها ويشتهيها، أما هي فكان حبها إعجابًا وعطفًا في الأصل ليس غير، فلما عرض عليها الزواج لم تجد في نفسها تلك الدوافع التي تبعث في المحبين الرغبة في العيشة معًا، ودوام قرب أحدهما من الآخر.

وأخيرًا تزوج الاثنان في سنة ١٨٥٠. وكان من حسن حظ بلزاك، أو حظهما معًا، أن هذا الزواج لم يدم أكثر من خمسة أشهر، مات في نهايتها بلزاك بضعف القلب؛ لأنهما لو عاشا أكثر من ذلك، لما أطاقا العشرة؛ فإن إفيلينا هانسكا إنما أحبت من بلزاك روحه وعبقريته، وهذا الخيال الذي تكوَّن في رأسها من إدمان قراءة كتبه.

وقد وصف بلزاك علاقته معها في قصة صغيرة له تُدعى «سيرافيتا» ليست من أجود قصصه، ولكنها تظهر القارئ على سر من أسرار النفس في الحب والقلى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤