يزيد وحبابة

كان يزيد بن عبد الملك من خلفاء الدولة الأموية، وكان يعشق جارية تُدعى حبابة، عرفها مغنية جميلة فاشتهاها، ثم أحبها وأخلص في حبه حتى بلغ من جزعه على فقدها أن مات بعد موتها بخمسة عشر يومًا.

ولا يُعرف هل كانت حبابة تحبه بمقدار ما أحبها؛ فقد نشأت نشأة القيان، ولابست تلك الظروف التي تلابس تربية القيان وعشرتهن، وما فيهما من سرف في الشهوات والملذات. ومثل هذه المعيشة تبلِّد الحواس، وتزيل منها رقتها، وقلما يجد المحب المخلص مجازًا إليها في هذه الظروف.

فقد كانت حبابة تُسمى العالية، وهي من مولَّدات المدينة، وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة، حسنة الغناء طيبة الصوت ضاربة بالعود، واشتراها يزيد بألف دينار قبل أن يرقى عرش الخلافة، وبلغ ذلك سليمان خليفة الأمويين، فهم بالحجر عليه لسفهه وإنفاقه هذا المبلغ الكبير ثمنًا للجارية، فردها يزيد إلى مولاها. ثم مات سليمان بعد ذلك وصار يزيد خليفة، وكانت زوجته سعدة تعرف مكانة هذه الجارية في قلبه، وتعلم أنه لا بد طالبها، فاشترتها، فلما حصلت عندها قالت ليزيد: هل بقي عليك من الدنيا شيء لم تنله؟ فقال: نعم العالية. فقالت: هذه هي، وهي لك. فسماها حبابة، وعظم قدر سعدة عنده. وقيل إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له، أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد، وتُحضرها بما تحب.

وبقيت حبابة أثيرة عند يزيد، فكان كلفًا بها يلازمها في طعام وشراب وغناء، وكان رجالات بني أمية يلومونه على استهتاره وتعلقه بهذه الجارية، فيردهم ولا يسمع لهم، وكان هي من ناحية أخرى لا تدرك شيئًا من مصالح الأمة أو مصالح الخلافة، فكانت تستخدم جميع الأساليب النسائية في جذبه، وتعلقه بها.

فقد ذُكر أن مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناء والشرب، وقال له: إنك وُلِّيت بعقب عمر بين عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم. فقال يزيد: صدقت والله، وهمَّ بترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أيامًا، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول أبياتًا في ذلك، وقالت له: إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار. فألَّف الأحوص جملة أبيات، ودخل على يزيد وأنشده:

ألا لا تلمه اليوم أن يتلبدا
فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي، فمن شاء لامني
ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
وإني وإن فندت في طلب الغنى
لأعلم أني لست في الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق، ولم تدرِ ما الهوى
فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

فلم يتحرك يزيد إلى حبابة بهذا الإغراء وبقي أسبوعًا لا يطلبها، فلما كان أحد الأيام قالت حبابة لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني. فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها فغنت البيت الأول، فغطى يزيد وجهه وقال: صهٍ لا تتغني. ثم غنت: فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي، فعدل إليها وقال: صدقت والله، فقبح الله مَن لامني فيك. يا غلام، مُر مسلمة أن يصلي بالناس، وأقام معها يشرب وتغنيه.

وكان عند يزيد جارية أخرى تُحكِم الضرب والغناء أكثر من حبابة، وكانت تُدعى سلامة، وكان يزيد يؤثر حبابة عليها لمكانها في قلبه، ويشهد كذبًا بفضلها عليها. والحكاية التالية التي ذكرها الأغاني تمثل بعض خلال يزيد، ومبلغ استهتاره وطربه:

اختلفت حبابة وسلامة في غناء هذا البيت:

وترى لها دلًّا إذا نطقت به
تركت بنات فؤاده صعرا

فقال يزيد: من أين جاء اختلافكما والصوت لمعبد ومنه أخذتماه؟ فقالت هذه: هكذا أخذته. وقالت الأخرى: هكذا أخذته. فقال يزيد: قد اختلفتما ومعبد حي بعدُ. فكتب إلى عامله بالمدينة يأمره بحمله إليه، فلما دخل معبد إليه لم يسأله عن الصوت، ولكنه أمره أن يغني، فغناه:

فيا عَزُّ إنْ واشٍ وشى بي عندكم
فلا تكرميه أن تقولي له مهلا

فاستحسنه وطرب. ثم قال: إن هاتين اختلفتا في صوت لك فاقضِ بينهما.

فقال لحبابة: غني. فغنت. وقال لسلامة: غني. فغنت. فقال: الصواب ما قالت حبابة. فقالت سلامة: والله يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أن الصواب ما قلت، ولكنك سألت أيتهما آثر عند أمير المؤمنين، فقيل لك حبابة فاتبعت رضاه وهواه. فضحك يزيد وطرب، وأخذ وسادة فصيرها على رأسه، وقام يدور في الدار ويرقص ويصيح: السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان، حتى دار الدار كلها، ثم رجع فجلس في مجلسه، وأنشأ هذين البيتين:

أبلغ حبابة أسقى رَبعها المطر
ما للفؤاد سوى ذكراكمو وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكركم
أو عرسوا فهموم النفس والسهر

فغناها معبد، وطرب يزيد.

وقيل في وفاة حبابة إن يزيد بن عبد الملك نزل ببيت رأس بالشام ومعه حبابة، فقال يزيد: زعموا أنه لا تصفو لأحد عيشةٌ يومًا إلى الليل إلا يكدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك. ثم قال لمن معه: إذا كان غد فلا تخبروني بشيء، ولا تأتوني بكتاب. وخلا هو وحبابة فأُتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة، فشرقت بحبة منها فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثًا، حتى تغيرت وأنتنت وهو يشمها ويرشفها. فعاتبه على ذلك ذوو قرابته، وهابوا عليه ما يصنع وقالوا: لقد صارت جيفة بين يديك، فأذن لهم في غسلها ودفنها. فأُخرجت في نطع، وخرج معها لا يتكلم، حتى جلس على قبرها، فلما دُفنت قال: أصبحت والله كما قال كثير:

فإن يسلُ عنك القلب أو يدع الصبا
فباليأس يسلو عنك لا بالتجلد

فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دُفن إلى جنبها.

وقيل في حكاية أخرى إنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لا بد من أن تُنبش، فنُبشت، وكُشف له عن وجهها، وقد تغير تغيرًا قبيحًا. فقيل له: يا أمير المؤمنين اتقِ الله ألا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها. وانصرف، فكمد كمدًا شديدًا، حتى مات فدُفن إلى جانبها.

وقد روى الأغاني أنه لما ماتت حبابة لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحُمل على منبر على رقاب الرجال. فلما دُفنت قال: لم أصلِّ عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أَمَة من الإماء، وقد واراها الثرى. فلم يأذن يزيد للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة، ولم ينشب أن مات كمدًا.

فليس يشك من هذه الروايات في أن يزيدًا كان مخلصًا في حبه لهذه الجارية، ولكن ليس هناك ما يدل على إخلاصها. ولو أخلصت لما تركته يستهتر كل هذا الاستهتار، ويهمل شئون الدولة، وربما لو طالت مدتهما معًا، لكان يؤدي كلفه بها، ولزومه إياها، إلى خلعه. وليس يقوم الجهل عذرًا لحبابة؛ لأنها لم تكن مثل سائر النساء؛ فإن القيان كن يعلمن من الأدب ما ينير أذهانهن في مستوى الرجال معرفة بالتاريخ والأشعار، وكن يتقلبن في مختلف المعايش، فيكسبن بذلك تجارب قد لا يكسبها الرجال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤