الفصل الأول

نشأته والعصر الذي ظهر فيه

وُلِد جمال الدين الأفغاني سنة ١٨٣٨م/١٢٥٤ هجرية في «سعد آباد» إحدى القرى التابعة لخطة «كنر» من أعمال «كابل» عاصمة الأفغان، ووالده السيد صغتر من سادات «كنر» الحسينية، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدِّث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه؛ فالمترجَم من السلالة النبوية الطاهرة ويجري في عروقه الدم العربي الأصيل؛ ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني.

وقد زعم بعض المتشككين أو المغرضين أن جمال الدين إيراني لا أفغاني، وهو زعم مختلق يُراد منه التشكيك في أفغانية السيد العظيم، ويدحضه ما اتفق عليه رواة من معاصريه بأنه أفغاني الموطن وتسميته طيلة حياته «جمال الدين الأفغاني»، وما قاله رحمه الله عن نسبه، فقد قرر أنه أفغاني صميم، قال مرة: «لقد جمعت ما تفرَّق من الفكر، ولممت شعث التصور، ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتني الأفغان، وهي أول أرض مس جسمي ترابها.» وقال مرة أخرى: «إني اضطررت لترك بلادي الأفغان مضطربة تتلاعب بها الأهواء والأغراض.»

هذا إلى ما عرفه أقرب الناس إليه، مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والأمير شكيب أرسلان، والشيخ عبد القادر المغربي، وما سمعوه منه من أنه أفغاني بحت عربي بالسلالة النبوية التي ينتسب إليها.

ولعل هذا الشك الذي أثاره بعض الإيرانيين راجع إلى التفاخر بالعظماء والتنازع بين الناس على نسبته إليهم.

ولأسرة جمال الدين منزلة عالية في بلاد الأفغان، لنسبها الشريف ولمقامها الاجتماعي والسياسي؛ إذ كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية تستقل بالحُكم فيه إلى أن نزع الإمارة منها «دوست محمد خان» أمير الأفغان وقتئذٍ، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة «كابل»، وانتقل المترجَم بانتقال أبيه إليها وهو بعدُ في الثامنة من عمره، فعُني أبوه بتربيته وتعليمه على ما جرت به عادة الأمراء والعلماء في بلاده.

وكانت مخايل الذكاء، وقوة الفطرة، وتوقُّد القريحة تبدو عليه منذ صباه، فتعلَّم اللغة العربية، والأفغانية، والفارسية، وتلقَّى علوم الدين، والتاريخ، والمنطق، والفلسفة، والرياضيات، فاستوفى حظه من هذه العلوم، على أيدي أساتذة من أهل تلك البلاد، على الطريقة المألوفة في الكتب الإسلامية المشهورة، واستكمل الغاية من دروسه وهو بعدُ في الثامنة عشرة من عمره.

ثم سافر إلى الهند، وأقام بها سنة وبضعة أشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوروبية، فنضج فكره، واتسعت مداركه، وكان بطبعه ميالًا إلى الرحلات، واستطلاع أحوال الأمم والجماعات، فعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج، فاغتنم هذه الفرصة وقضى سنة يتنقل في البلاد ويتعرف أحوالها وعادات أهلها، حتى وافى مكة المكرمة سنة ١٢٧٣ﻫ/١٨٥٧م وأدى الفريضة.

(١) بدء حياته العملية

ثم عاد إلى بلاد الأفغان، وانتظم في خدمة الحكومة على عهد الأمير «دوست محمد خان» المتقدم ذكره؛ وكان أول عمل له مرافقته إياه في حملة حربية جرَّدها لفتح «هراة» إحدى مدن الأفغان، وليس يخفى أن النشأة الحربية تعوِّد صاحبها الشجاعة واقتحام المخاطر؛ ومن هنا تبدو صفة من الصفات العالية التي امتاز بها جمال الدين وهي الشجاعة، فإن من يخوض غمار القتال في بدء حياته تألف نفسه الجرأة والإقدام، وخاصةً إذا كان بفطرته شجاعًا.

ففي نشأة المترجَم الأولى، وفي الدور الأول من حياته، تستطيع أن تتعرف أخلاقه والعناصر التي تكوَّنت منها شخصيته، فقد نشأ كما رأيت من بيت مجيد، ازدان بشرف النسب واعتزَّ بالإمارة والسيادة والحكم زمنًا ما، وتربى في مهاد العز في كنف أبيه ورعايته، فكان للوراثة والنشأة الأولى أثرهما فيما طُبع عليه من عزة النفس التي كانت من أخص صفاته ولازمته طول حياته، وكان للحرب التي خاضها أثرها أيضًا فيما اكتسبه من الأخلاق الحربية.

فالوراثة، والنشأة، والتربية، والمرحلة الأولى في الحياة العملية، ترسم لنا جانبًا من شخصية جمال الدين الأفغاني.

سار المترجَم إذن في جيش «دوست محمد خان» لفتح «هراة»، ولازمه مدة الحصار إلى أن توفي الأمير، وفُتحت المدينة بعد حصار طويل، وتقلَّد الإمارة من بعده ولي عهده «شير علي خان» سنة ١٨٦٤م/١٢٨٠ﻫ.

ثم وقع الخلف بين الأمير الجديد وإخوته إذ أراد أن يكيد لهم ويعتقلهم، فانضم السيد جمال الدين إلى «محمد أعظم» أحد الإخوة الثلاثة لِما توسمه فيه من الخير، واستعرت نار الحرب الداخلية، فكانت الغلبة لمحمد أعظم، وانتهت إليه إمارة الأفغان، فعظمت منزلة المترجَم عنده وأحله محل الوزير الأول، وكاد بحسن تدبيره يستتب الأمر للأمير، ولكن الحرب الداخلية ما لبثت أن تجددت؛ إذ كان «شير علي» لا يفتأ يسعى لاسترجاع سلطته، وكان الإنكليز يعضدونه بأموالهم ودسائسهم، فأيدوه وناصروه ليجعلوه من أوليائهم وصنائعهم، وأغدق «شير علي» الأموال على الرؤساء الذين كانوا يناصرون الأمير محمد أعظم، «فبيعت أمانات ونُقضت عهود وجُددت خيانات»، كما يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وانتهت الحرب بهزيمة محمد أعظم وغلبة شير علي، وخلص له الملك.

بقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسَّه الأمير بسوء «احترامًا لعشيرته وخوف انتقاض العامة عليه حميةً لآل البيت النبوي»، وهنا أيضًا تبدو لك مكانة المترجَم، ومنزلته بين قومه وهو بعدُ في المرحلة الأولى من حياته العامة، ويتجلى استعداده للاضطلاع بعظائم المهام والتطلع إلى جلائل الأعمال، فهو يناصر أميرًا يتوسَّم فيه الخير ويعمل على تثبيته في الإمارة، ويشيد دولة يكون له فيها مقام الوزير الأول، ثم لا تلبث أعاصير السياسة والدسائس الإنكليزية أن تعصف بالعرش الذي أقامه، فيدال من أميره، ويُغلب على أمره، ويلوذ بإيران لكي لا يقع في قبضة عدوه، ثم يموت بها. أما المترجَم فيبقى في عاصمة الإمارة، ولا يهاب بطش الأمير المنتصر، ولا يتملقه أو يسعى إلى نيل رضاه، ولا ينقلب على عقبيه كما يفعل الكثيرون من طلاب المنافع، بل بقي عظيمًا في محنته، ثابتًا في هزيمته، وتلك لعَمري ظواهر عظمة النفس، ورباطة الجأش، وقوة الجنان.

وهذه المرحلة كان لها أثرها في الاتجاه السياسي للسيد جمال الدين، فقد رأيت ما بذلته السياسة الإنكليزية لتفريق الكلمة، ودس الدسائس في بلاد الأفغان، وإشعال نار الفتن الداخلية بها، واصطناعها الأولياء من بين أمرائها. ولا مراء في أن هذه الأحداث قد كشفت للمترجم عن مطامع الإنكليز وأساليبهم في الدس والتفريق، وغرست في فؤاده روح العداء للسياسة البريطانية خاصة والمطامع الاستعمارية الأوروبية عامة. وقد لازمه هذا الكُره طول حياته، وكان له مبدأً راسخًا يصدر عنه في أعماله وآرائه وحركاته السياسية.

(٢) رحيله إلى الهند

لم ينفك الأمير «شير علي» يدبِّر المكايد للسيد جمال الدين ويحتال للغدر به، فرأى السيد أن يُفارق بلاد الأفغان ليجد جوًّا صالحًا للعمل، فاستأذنه في الحج، فأذن له، فسار إلى الهند سنة ١٨٦٩م /١٢٨٥ﻫ، وكانت شهرته قد سبقته إلى تلك الديار، لِما عُرِف عنه من العلم والحكمة، وما ناله من المنزلة العالية بين قومه، ولم يكن يخفى على الحكومة الإنكليزية عداؤه لسياستها، وما يُحدثه مجيئه إلى الهند من إثارة روح الهياج في النفوس، وخاصةً لأن الهند كانت لا تزال تضطرم بالفتن على الرغم من إخماد ثورة سنة ١٨٥٧، فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته الحكومة بالحفاوة والإكرام ولكنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، وجاء أهل العلم والفضل يهرعون إليه، يقتبسون من نور علمه وحكمته، ويستمعون إلى أحاديثه وما فيها من غذاء للعقل والروح والحث على الأنفة وعزة النفس، فنقمت الحكومة منه اتصاله بهم، ولم تأذن له بالاجتماع بالعلماء وغيرهم من مريديه وقصَّاده إلا على عين من رجالها، فلم يُقم هناك طويلًا، ثم أنزلته الحكومة إحدى سفنها فأقلَّته إلى السويس.

(٣) مجيئه مصر لأول مرة

جاء مصر لأول مرة أوائل سنة ١٨٧٠م/أواخر سنة ١٢٨٦ﻫ، ولم يكن يقصد طول الإقامة بها؛ لأنه إنما جاء ووِجهته الحجاز، فما إن سمع الناس بمقدمه حتى اتجهت إليه أنظار النابهين من أهل العلم، وتردد هو على الأزهر، واتصل به كثير من الطلبة، فآنسوا فيه روحًا تفيض معرفةً وحكمةً، فأقبلوا عليه يتلقَّون بعض العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية، وقرأ لهم شرح «الإظهار»١ في البيت الذي نزل به بخان الخليلي، وأقام بمصر أربعين يومًا، ثم تحوَّل عزمه عن الحجاز، وسافر إلى الآستانة (إستنبول).
قال الشيخ محمد عبده عن تتلمذه لجمال الدين: «وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة ١٢٨٧ وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك، وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقوَّلون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقِّي تلك العلوم قد يُفضي إلى زعزعة العقائد الصميمة وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة، فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش٢ فكان يقول لي: إن الله هو العليم الحكيم ولا علم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه، وما تقرَّب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، ولا شيء من الجهل بمحمود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علمًا وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.»٣

(٤) العصر الذي ظهر فيه

أخذ النضج السياسي لجمال الدين الأفغاني يتكوَّن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وكان لحالة الشرق وقتئذٍ أثرها في هذا التكوين؛ فالاستعمار الأوروبي في عنفوانه وجبروته، والأمم الشرقية إما خاضعة لهذا الاستعمار أو كانت هدفه ومقصده، ففرنسا تحتل الجزائر منذ سنة ١٨٣٠ وترنو ببصرها إلى البلدان العربية المجاورة.

وفي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تغزو أفريقيا، كانت بريطانيا تعمل على أن تطأ أقدامها جنوب جزيرة العرب فاحتلت «عدن» سنة ١٨٣٩، ثم أخذت تبسط نفوذها وشرورها على مرِّ السنين في المناطق القريبة منها والبعيدة عنها بحيث لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى مدت شِراكها إلى الكثير من الأصقاع الجنوبية من شبه الجزيرة العربية.

وكانت تحتل الهند وتضطهد الأهلين فيها، وقد ثاروا عليها سنة ١٨٥٧ للتحرر من استعمارها، ولكنها أخمدت ثورتهم بالحديد والنار سنة ١٨٥٩.

وكانت تدبِّر المكايد لبلاد الأفغان — موطن جمال الدين — وتعمل على غزوها وضمها إلى مستعمراتها، وباءت بالفشل المرة تلو الأخرى، ولكنها كانت ماضية في تحقيق أطماعها واصطناع الأعوان والعملاء فيها.

وهولندة تحتل معظم جزائر الهند الشرقية (إندونيسيا) وتبسط على أهلها سلطانها الغاشم.

ومصر تكتنفها المطامع الاستعمارية وتلاحقها؛ فمنذ أن أخفقت بريطانيا في حملة فريزر عليها سنة ١٨٠٧ في مطلع القرن التاسع عشر وفشلت وقتئذٍ في احتلالها، أخذت تترقب الفرص لتعاود تحقيق أطماعها الاستعمارية فيها، وتنافست هي وفرنسا في بسط نفوذها السياسي والاقتصادي عليها، وانتزعت فرنسا من مصر سنة ١٨٥٤ امتياز حفر قناة السويس، فكان ذلك غزوًا اقتصاديًّا لها، واشتد التنافس بينها وبين بريطانيا على التدخل في شئونها.

فالعصر الذي ظهر فيه جمال الدين كان عصر طغيان الاستعمار الأوروبي في بلاد الشرق عامة، وكان من شأنه أن يؤجج في النفوس الحساسة مشاعر بغضه وكراهيته والسخط على المستعمرين والدعوة إلى محاربتهم ومقاومتهم.

وكانت الحالة الداخلية لبلاد الشرق بالغة منتهى السوء، فملوكها وأمراؤها يحكمونها حكمًا استبداديًّا، ولا يعترفون لشعوبهم بحقوقهم السياسية والمدنية، ولا يريدون أن يتخلوا عن سلطانهم المطلق القائم على الأهواء والشهوات، والنظم الداخلية للحكم قد استشرى فيها الفساد، والجهالة متفشية بين المواطنين والأمية غالبة عليهم، والعقائد الدينية قد شابتها الأباطيل والخرافات، والجمود مستحوذ على العلماء والخواص، والأفكار مغلقة لا تنفذ إليها دعوة الحق أو التحرر من قيود التقاليد والأوهام.

فالاستعمار الخارجي، والاستبداد الداخلي، والتأخر والجمود الفكري، والغفلة الشاملة، تلك هي العناصر الجوهرية لحالة الشرق في منتصف القرن التاسع عشر.

هذه هي حالة الشرق عامة في العصر الذي ظهر فيه جمال الدين الأفغاني، وكان لها ولا ريب دخْل أيما دخل في تكوين شخصيته واتجاهاته والتمهيد لكفاحه.

ولكن من الحق أن نقول إن هذه الحالة لم تحرك في نفوس معاصريه ما حركت في نفسه، فلماذا كانت العامل المؤثر في تكوين شخصيته؟ لقد شعر بهذه الحالة كثير من معاصريه ولكنها لم تصل في نفوسهم إلى درجة الثورة على الأوضاع القائمة مثل ما وصلت في نفس جمال الدين، فما هو السر في هذا الفارق؟ إن الجواب على هذا السؤال يبدو واضحًا جليًّا إذا علمنا أن الأمم يظهر فيها حينًا بعد حين زعماء يحملون لواء التحرير أو الإصلاح والتجديد، ويمتازون بناحية من نواحي العبقرية تؤهلهم للاضطلاع بأعباء هذه الرسالة، ولا شك أن جمال الدين الأفغاني قد امتاز على معاصريه بعبقريته ومواهبه، فكان واحدًا من هؤلاء العباقرة الذين حملوا رسالة النهضة والحرية وغرسوها في نفوس معاصريهم.

فالعصر الذي ظهر فيه جمال الدين الأفغاني، وظروفه وملابساته، وعبقريته ومواهبه، كان لها كلها الأثر المشترك في تكوين شخصيته والتمهيد لكفاحه ودعوته.

(٥) سفره إلى الآستانة وأثره فيها ثم رحيله عنها

وصل السيد جمال الدين إلى الآستانة، فلقي من حكومة السلطان عبد العزيز حفاوة وإكرامًا؛ إذ عرف له الصدر الأعظم «عالي باشا» مكانته، وكان هذا الصدر من ساسة التُّرك الأفذاذ العارفين بأقدار الرجال، فأقبل على السيد يحفه بالاحترام والرعاية، ونزل من الأمراء والوزراء والعلماء منزلة عالية وتناقلوا الثناء عليه، ورغبت الحكومة أن تستفيد من علمه وفضله، فلم تمضِ ستة أشهر حتى جعلته عضوًا في «مجلس المعارف»، فاضطلع بواجبه، وأشار بإصلاح مناهج التعليم.

ولكن آراءه لم تلقَ تأييدًا من زملائه، واستهدف لسخط شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي؛ إذ رأى في تلك الآراء ما يمس شيئًا من رزقه، فأضمر له السوء، وأرصد له العنت. حتى كان رمضان ١٢٨٧ﻫ/ديسمبر سنة ١٨٧٠م، فرغب إليه مدير دار الفنون أن يُلقي فيها خطابًا للحث على الصناعات، فاعتذر بادئ بدء بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه، فأنشأ خطابًا طويلًا كتبه قبل إلقائه، وعرضه على نخبة من أصحاب المناصب العالية فأقرُّوه واستحسنوه.

وألقى السيد خطابه بدار الفنون، في جمع حاشد من ذوي العلم والمكانة، فنال استحسانهم، ولكن شيخ الإسلام اتخذ من بعض آرائه مغمزًا للنيل منه بغير حق ورميه بالزيغ في عقيدته، واغتنمها فرصة للإيقاع به، وألَّب عليه الوعاظ في المساجد وأوعز إليهم أن يذكروا كلامه محفوفًا بالتفنيد والتنديد، فغضب السيد لمكيدة شيخ الإسلام وطلب محاكمته، ولكن الحكومة انحازت إلى شيخها وأصدرت أمرها إلى المترجَم بالرحيل عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إليها إن شاء، ففارقها مهضومًا حقه، ورغَّب إليه بعض مريديه أن يتحول إلى الديار المصرية فعمل برأيهم وقصد إليها.

على أن جهاده في تركيا قد ظهر أثره على مر السنين، فليس يخفى أن «مدحت باشا» المُلقَّب بأبي الأحرار في تركيا قد وضع مشروع الدستور، وأعلن القانون الأساسي (الدستور) سنة ١٨٧٦. حقًّا إن البرلمان العثماني الذي انتُخب على أساسه لم يكد يجتمع حتى أُلغي اجتماعه في أوائل سنة ١٨٧٨ بأمر السلطان عبد الحميد، ونُفي واضع الدستور مدحت باشا وعاد الحكم المطلق في تركيا. على أن البذرة التي وضعها جمال الدين سنة ١٨٧٠ قد أثمرت على مدى السنين، حتى حدث الانقلاب العثماني وعاد الدستور سنة ١٩٠٨.

١  متن مختصر في علم النحو لمؤلفه البركوي.
٢  خال والد الأستاذ الإمام، وكان يدارسه القرآن والعلم.
٣  تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، للسيد محمد رشيد رضا، ج١، ص٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤