الفصل الثاني

عمَله في مصر

جاء السيد جمال الدين إلى مصر للمرة الثانية في أوائل المحرم سنة ١٢٨٨ﻫ/مارس سنة ١٨٧١م، لا على نية الإقامة بها، بل على قصد مشاهدة مناظرها واستطلاع أحوالها، ولكن «رياض باشا» وزير إسماعيل في ذلك الحين رغَّب إليه البقاء في مصر، وأجرت عليه الحكومة راتبًا مقداره ألف قرش كل شهر، نزلًا أكرمته به، لا في مقابل عمل، واهتدى إلى المترجَم كثير من طلبة العلم، يستَوْرون زنده، ويقتبسون الحكمة من بحر علمه، فقرأ لهم الكتب العالية في فنون الكلام، والحكمة النظرية، من طبيعية وعقلية، وعلوم الفلك، والتصوف، وأصول الفقه، بأسلوب طريف، وطريقة مبتكرة، وكانت مدرسته بيته، ولم يذهب يومًا إلى الأزهر مُدرِّسًا، وإنما ذهب إليه زائرًا، وأغلب ما يزوره يوم الجمعة، وكان أسلوبه في التدريس مخاطبة العقل، وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلى البحث والتفكير، وبث روح الحكمة والفلسفة في نفوسهم، وتوجيه أذهانهم إلى الأدب والإنشاء والخطابة وكتابة المقالات الأدبية والاجتماعية والسياسية، فظهرت على يده نهضة في العلوم والأفكار أنتجت أطيب الثمرات.

وهنا موضع للتساؤل عما حمل الخديو إسماعيل إلى استمالة الحكيم الأفغاني للإقامة في مصر وإكرام مثواه، فقد يبدو هذا العمل غريبًا؛ لأن لجمال الدين ماضيًا سياسيًّا، ومجموعة أخلاق ومبادئ، لا ترغِّب فيه الملوك المستبدين، ولم يكن السيد من أهل الملق والدهان فينال عطفهم ورعايتهم ويُجرون عليه الأرزاق بلا مقابل، ولكن الأمر لا يعسر فهمه إذا عرفنا أن في إسماعيل جانبًا ممدوحًا وهو حبه للعلم ورغبته في نشره ورعايته، وكانت شخصية جمال الدين العلمية وشهرته في الفلسفة أقوى ظهورًا، وخاصةً في ذلك الحين، من شخصيته السياسية، فلا غرو أن يُكرم فيه إسماعيلُ العالِمَ المحقق الذي يفيض على مصر من بحر علمه وفضله، فترغيبه إياه في البقاء بمصر يشبه أن يكون فتحًا علميًّا، كتأسيس معهد من معاهد العلم العالية التي أُنشئت على يده.

أما آراء الحكيم السياسية، وكراهيته للاستبداد، ونزعته الحرة، فلم يكن مثلُ إسماعيل يخشاها أو يحسب لها حسابًا كبيرًا؛ لأنه في ذلك الحين (سنة ١٨٧١) كان قد بلغ أوج سلطته، فكان يحكم البلاد حكمًا مطلقًا، يأمر وينهى ويتصرف في أقدار البلاد ومصاير أهلها دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس شورى النواب آلة مطواعة في يده، والصحافة في بدء عهدها تكيل له عبارات المديح وتصوغ له عقود الثناء، ولم يكن سلطانه قد استُهدف بعدُ للتدخل الأجنبي؛ لأن هذا التدخل لم يقع إلا في سنة ١٨٧٥، فليس ثمة ما يخشى منه إسماعيل على سلطته المطلقة من الناحية الداخلية أو الخارجية حين رغَّب إلى حكيم الشرق الإقامة والتدريس في مصر، وقد بدأت النهضة التي ظهرت على يد السيد علمية وأدبية، ولم تتطور إلى الناحية السياسية إلا حوالي سنة ١٨٧٦.

وثمة اعتبار آخر لا يفوتنا الإلماع إليه، ذلك أن جمال الدين قد بارح الآستانة إذ لم يجد فيها جوًّا صالحًا للنهضة العلمية والفكرية، وقصد إلى مصر وقد سبقته إليها أنباؤه وما لقيه في «دار الخلافة» من العنت والاضطهاد، وكان إسماعيل ينافس حكومة الآستانة في المكانة والنفوذ السياسي، وينظر إليها بعين الزراية، ولا يرضى لمصر أن تكون تابعة لتركيا ولا أن يكون هو تابعًا للسلطان العثماني، وليس خافيًا ما كان يبذله من المساعي للانفصال عن تركيا في ذلك الحين، وظهوره بمظهر العاهل المستقل في معرض باريس العام سنة ١٨٦٧، وفي إغفاله دعوة السلطان إلى حضور حفلات افتتاح قناة السويس سنة ١٨٦٩، وعزمه على إعلان استقلال مصر التام في تلك الحفلات لولا العقبات السياسية التي اعترضته، ولا يعزب عن الذهن ما كان بين الخديو والسلطان من مظاهر الفتور والجفاء التي كادت تقطع الروابط بينهما، وأخصها فرمان نوفمبر سنة ١٨٦٩ الذي أصدره السلطان منتقصًا سلطة الخديو.

ففي هذا الجو هبط جمال الدين مصر مبعدًا من الآستانة، فلم يفُت إسماعيل أن يغتنم الفرصة ليحمي العلم في شخص الفيلسوف الأفغاني، ولا يخفى ما لهذا العمل من حُسن الأثر وجميل الأحدوثة؛ إذ يرى الناس فيه أن مصر تُئوي العلماء والحكماء حين تضيق عنهم «دار الخلافة»، وأن عاهل مصر أحق من السلطان العثماني بالثناء والتقدير لأنه يُفسح للعلم رحابه، ويوطئ له في وادي النيل أكنافه.

وقد يكون لرياض باشا يد في إكرام وفادة المترجَم، ولكن إذا علمنا أن وزراء إسماعيل لم يكونوا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، أدركنا أن رياض باشا لم يكن الرجل الذي ينفرد بهذا الصنيع نحو المترجَم، ومهما يكن من واقع الأمر فإن لرياض فضل المشاركة في عمل كان له الأثر البالغ في نهضة مصر العلمية والفكرية والسياسية.

(١) أثره العلمي والأدبي في مصر

أقام جمال الدين في مصر، وأخذ يبث تعاليمه في نفوس تلاميذه، فظهرت على يده بيئة استضاءت بأنوار العلم والعرفان، وارتوت من ينابيع الأدب والحكمة، وتحرَّرت عقولها من قيود الجمود والأوهام، وبفضله خطا فن الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة، ولم تقتصر حلقات دروسه ومجالسه على طلبة العلم، بل كان يؤمها كثير من العلماء والموظفين والأعيان وغيرهم، وهو في كل أحاديثه «لا يسأم — كما يقول عنه تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده — من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهِّر العقيدة أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصًا في القاهرة.»

وقال الأستاذ الإمام في موطن آخر يصف تطور الكتابة على يد المترجَم: «كان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري، وخيري باشا، ومحمد باشا سيد أحمد على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها، ومن عشر سنوات ترى كتبةً في القطر المصري، لا يُشق غبارهم، ولا يُوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلاميذه، أو قلَّد المتصلين به.» انتهى كلام الإمام.

فروح جمال الدين كان لها الأثر البالغ في نهضة العلوم والآداب في مصر، ولا يفوتنا القول بأن البيئة التي نهض بها كانت مستعدة للرقي، صالحة لغرس بذور هذه النهضة وظهور ثمارها، أو بعبارة أخرى إن مصر بما فيها من الأزهر، والمعاهد العلمية الحديثة، والتقدم العلمي، كانت على استعداد لتقبل دعوة الحكيم الأفغاني، ولولا هذا الاستعداد لقُضي على هذه الدعوة في مهدها، ولأخفق هو في مصر كما أخفق في الآستانة حيث وجد أبواب العمل موصدة أمامه، وهذا يُبيِّن لنا جانبًا من مكانة مصر وسبقها الأقطار الشرقية في التقدم العلمي والفكري والسياسي، ويزيد هذه الحقيقة وضوحًا أنك إذا استعرضت حياة جمال الدين العامة، وما تركه من الأثر في مختلف الأقطار الشرقية التي بث فيها دعوته، وجدت أثره في مصر أقوى وأعظم منه في أيِّ بلد من البلدان الأخرى، وفي هذا ما يدلك على مبلغ استعداد مصر للنهضة والتقدم إذا تهيأت لها أسباب العمل ووجدت القادة الحكماء.

(٢) أثره الأخلاقي والسياسي

جاء المترجَم مصر يحمل بين جنبيه عبقرية وروحًا كبيرة، ونفسًا قوية، تزينها صفات وأخلاق عالية، أنبتتها الوراثة والتربية الأولى، وهذبتها الحكمة والمعرفة، ومحَّصتها الحياة الحربية التي خاض غمارها في بلاد الأفغان، والتجارب التي مارسها، والشدائد التي عاناها، جاء وفيه من الشمم والإباء ما صدفه عن أن يطأطئ الرأس أو يقيم على الضيم، وفيه من الثبات ومضاء العزيمة ما جعله يتغلَّب على العقبات التي اعترضته في أدوار حياته، فقد رأيت كيف بقي على ولائه للأمير محمد أعظم رغم ما أصابه من الهزيمة ولم يخضع لخصمه «شير علي»، ورحل إلى الهند فلم تُطق السياسة الاستعمارية بقاءه فيها وأقصته عنها، وذهب إلى الآستانة فلم يعرف الملق والدهان، وجهر بالحق، واستهدف لعداوة شيخ الإسلام، فلم يتراجع ولم ينكص على عقبيه، وانتهى الخلاف بإقصائه عن الآستانة.

فهذه الأخلاق التي جاء بها جمال الدين إلى مصر كانت بلا مراء أقوى مما عُرِف عن المجتمع المصري، في ذلك العهد، من خفض الجناح والصبر على الضيم، وليس يخفى ما للشخصيات الكبيرة من سلطان أدبي على النفوس، وما تؤثر فيها من طريق القدوة؛ فالسيد جمال الدين بما اتصف به من الأخلاق العالية، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه، ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية، رفعت من مستوى النفوس في مصر، وكانت على الزمن من العوامل الفعالة للتحول الذي بدا على الأمة، وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم في عهد إسماعيل ومساوئه، والسخط على تدخُّل الدول الأجنبية في شئون البلاد.

(٣) الحالة السياسية والمالية في مصر كما شهدها جمال الدين الأفغاني

قضى جمال الدين الأفغاني في مصر ثماني سنوات وبضعة أشهر من عام ١٨٧١ إلى أن نُفي منها سنة ١٨٧٩، وقد شهدت هذه الفترة أحداثًا كبيرة في تاريخ مصر وكانت مرحلة هامة من مراحل كفاح جمال الدين، ويقع معظمها في عهد الخديو إسماعيل، وقد نُفي جمال الدين في أوائل عهد توفيق.

كان إسماعيل يحكم البلاد حكمًا مطلقًا يتولاه بنفسه، وظلت كل صغيرة وكبيرة من شئون الحكومة رهن إشارته بحيث كان يحق له أن يُحاكي لويس الرابع عشر ملك فرنسا في قوله: «إنما الدولة أنا.» إلى أن حدث التدخل الأجنبي بواسطة «صندوق الدين» سنة ١٨٧٦، ثم الرقابة الثنائية البريطانية والفرنسية، ثم الوزارة المختلطة، فغُلَّت سلطته بما كسبه الأجانب من التدخل في شئون الحكومة المالية والسياسية، ولم يكن الوزراء (أو النظار كما كان اسمهم) سوى موظفين لدى الخديو، يعيِّنهم لإدارة النظارات المعروفة في ذلك العصر، وكانت تُسمَّى «دواوين»، ولم يكن للنظار من السلطة إلا ما يتلقونه عن الخديو، وتضاءلت سلطتهم حتى أمام «المفتشَين العموميَّين» وهما مفتش الوجه البحري ومفتش الوجه القبلي اللذين استحوذا على السلطة الإدارية والمالية في الحكومة بأمر الخديو. وليس معروفًا على وجه التحقيق ما هي الحكمة في إيجاد هذا النظام الذي يجعل سلطة المُفتشين مساوية لسلطة النظار، ويجعلهم أعظم شأنًا من هؤلاء، ويظهر أن السبب في ذلك هو رغبة إسماعيل في أن تتعارض السلطتان حتى تكون كل منهما رقيبة على الأخرى فيطمئن على سلوك كلتيهما، وهي قاعدة مألوفة في حكومات الاستبداد.

كان الحكم إذن حكمًا استبداديًّا لا مجال فيه للحرية. حقًّا إن إسماعيل أنشأ سنة ١٨٦٦ مجلسًا سُمِّي «مجلس شورى النواب» ولكنه مجلس استشاري لا يملك سلطة قطعية في أي أمر من الأمور، وقراراته كانت أشبه برغبات تُرفع إلى الخديو وله فيها القول الفصل، فلم يكن ممكنًا أن مثل هذا المجلس يؤثر تأثيرًا عمليًّا في سياسة الحكومة ولا أن يضع حدًّا للحكم المطلق، وتدل الظروف والملابسات على أن إسماعيل حين أنشأه لم يعتزم التخلي عن سلطته المطلقة، بل أراد أن يجعل منه هيئة استشارية تزيد من رونق الحكم وبهائه.١

هذا من الوجهة السياسية. أما من الوجهة المالية فقد كانت أسوأ منها حالًا. لقد كان أكبر آفات إسماعيل الإسراف والاقتراض من البيوت المالية والمرابين الأجانب من غير حساب أو نظر في العواقب، حتى كبَّل البلاد حكومة وشعبًا بالقروض الفاحشة.

وفي الجدول الآتي بيان الديون التي اقترضها إسماعيل أو اقترضتها الحكومة في عهده:

قروض مصر في عهد إسماعيل.
تاريخ القرض قيمة القرض
سنة ١٨٦٤ ٥٧٠٤٢٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٦٥ ٣٣٨٧٣٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٦٦ ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٦٧ ٢٠٨٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٦٨ ١١٨٩٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٧٠ ٧١٤٢٨٦٠ جنيه إنكليزي
الديون السائرة ٢٥٠٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٧٨ ٣٢٠٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
سنة ١٨٧٨ ٨٥٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي

ويضاف إلى ذلك المبالغ الآتية التي تُلحق بالقروض وترِد في سياقها، وهي:

المتحصل من المقابلة ١٣٥٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
دين الرزنامة ٣٣٣٧٠٠٠ جنيه إنكليزي
ثمن أسهم مصر في قناة السويس ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي
ما أُخذ من الأوقاف الخيرية وبيت المال ٥٣٧٠٠٠ جنيه إنكليزي
مطلوبات من الحكومة لم تدخل في تسوية الدين العام سنة ١٨٧٦ ٦٢٧٦٠٠٠ جنيه إنكليزي
المجموع ١٢٦٣٥٤٣٦٠ جنيه انكليزي

(٤) نظرة عامة في هذه القروض

كان على البلاد من الدين العام عند وفاة سعيد باشا نحو أحد عشر مليون جنيه، وهو في الواقع مبلغ جسيم إذا قورن بميزانية مصر في ذلك العصر.

وقد ندد إسماعيل حينما تبوأ عرش مصر سنة ١٨٦٣ بإسراف سلفه سعيد، واعتزم أن يسير طبقًا لقواعد الاقتصاد والتدبير،٢ ونوَّه بذلك في خُطبة ألقاها بحضور وكلاء الدول، وضح فيها برنامجه الذي اعتزم اتباعه في الحكم، فهي بمثابة (خطبة العرش) تفيض بالآمال الكبار والأماني الحسان.

قال فيها: «إن أساس الإدارة هو النظام والاقتصاد في المالية، وسأبذل كل جهدي في اتباع قواعد النظام والاقتصاد، وقد عزمت أن أرتب لنفسي مخصصات محدودة لا أتجاوزها أبدًا، وسأعمل على إبطال السُّخرة التي اعتمدت عليها الحكومة في أعمالها، وآمل أن تؤدي حرية التجارة إلى نشر الرفاهية والرخاء بين جميع طبقات الشعب، وسأُعنى كل العناية بتوطيد دعائم العدالة.»

تلك عهود الخديو إسماعيل في خطبة العرش وأولها اتباع قواعد النظام والاقتصاد.

ولكن لم تكد تمضي عدة أشهر على هذه الدعوة حتى أخذ ينقضها، ففتح باب القروض متلاحقة بعضها إثر بعض، واتخذها عادة تكاد تكون سنوية.

ولم تكن حالة البلاد المالية تستدعي الاقتراض؛ لأن مصر تُعد من أغنى بلاد العالم، وكانت تستطيع إذا هي وجدت إدارة حكيمة أن تسلك سبيل التقدم والعمران دون أن تحتاج إلى القروض، وعلاوة على ذلك فإن ما نشأ عن الحرب الأمريكية الأهلية من ارتفاع أسعار القطن في أوائل حكم إسماعيل قد جعل البلاد في حالة يُسر ورخاء.

واشتملت ميزانية سنة ١٨٦٤ على زيادة في الدخل على الخرج، فلم يكن ثمة حاجة إلى قرض جديد كما يقول مؤلف «تاريخ مصر المالي» الذي عاش في ذلك العصر وألَّف فيه كتابه القيِّم.٣

ولكن إسماعيل اقترض أول قروضه سنة ١٨٦٤، وتذرَّع لتسويغه بحاجة الحكومة إلى المال لمقاومة الطاعون البقري الذي انتاب البلاد في ذلك العهد ولسداد أقساط ديون سعيد باشا، ويقول مؤلف «تاريخ مصر المالي»: إن مقاومة الطاعون البقري كانت حجة واهية؛ لأن الفلاحين والملَّاك هم الذين احتملوا وحدهم الخسائر الناشئة عن هذا الطاعون، ولم يرِد بميزانية سنة ١٨٦٤ مما أنفقته الحكومة في هذا الصدد سوى ١٢٥٠٠٠ جنيه؛ ولذلك أبدى دهشته من أن الحكومة تلجأ إلى الاقتراض على ما في ميزانية سنة ١٨٦٤ من زيادة الدخل على الخرج.

وقال إن السبب الحقيقي لقرض سنة ١٨٦٤ أن إسماعيل لم يحقق وعود الاقتصاد التي قطعها على نفسه، بل سار سيرة بذخ وهوى وإسراف، واستكثر من شراء الأطيان والأملاك لنفسه والإنفاق عليها، فهذه الأسباب هي التي جعلته يعقد القرض الأول، وما كان سداد ديون سعيد ولا الإنفاق على مقاومة الطاعون البقري إلا ذريعة شكلية لذر الرماد في العيون.

هذا ما يقوله مؤلف تاريخ مصر المالي، وهو كاتب مشهود له بتحري الحقائق والاعتدال في الرأي، وليس في كلامه مبالغة. لأن المعروف عن إسماعيل أنه كان بطبعه ميالًا إلى الاستكثار من المال والعقار، وظهرت عليه هذه الميول منذ ولايته الحكم، فقد كان نظار أملاكه ومفتشوها يفتنُّون في حمل الفلاحين على بيع أطيانهم أو التنازل عنها للخديو حتى صار مالكًا لخُمس أطيان القُطر المصري.

كتبت «مدام أولمب إدوار» Mme Olympe Edward في كتابها عن مصر تقول عن الخديو إسماعيل: إنه لم يكن يهتم إلا بجمع الملايين، وكان يقتني الأطيان في كلِّ ناحية قدر ما يستطاع، ويلجأ إلى السخرة لزرعها واستصلاحها، ويعقد القرض تلو القرض لآجال طويلة، تاركًا لمن يخلفه في الحُكم أن يُسدد ديونه، حتى كأنه يقصد أن يعقِّد مهمة الحُكم لمن يأتي من بعده.٤

كُتِب هذا الكلام في ديسمبر سنة ١٨٦٤ ولم يكن مضى عامان على اعتلاء إسماعيل العرش، فهذا الوصف يعطيك صورة عن ميوله الأولى، فهو قد بدأ يستدين في الوقت الذي لم تكن البلاد في حاجة ما إلى الاستدانة، واستدان ليقتني الأطيان والعقار.

لم يُنفق إسماعيل شيئًا يُذكر من قرض سنة ١٨٦٤ على مرافق البلاد العامة، بل أنفق معظمه على توسيع دائرة أطيانه وأملاكه، واشترى في ذلك الحين قصر «ميركون» على ضفاف البسفور ليتخذه مقرًّا له عندما ينزل الآستانة، ولم يكن لولاة مصر قصور خاصة بهذه المدينة ينزلون بها من قبل، ولكن إسماعيل رأى من استكمال مظاهر البذخ أن يكون له قصر فخم لا يقل بهاء ورواء عن قصور السلاطين، فابتاع ذلك القصر وأنفق المبالغ الطائلة في توسيعه وزخرفته.

وفي ذلك العهد بدأ ينشئ القصور الفخمة في مصر، فشرع في إقامة سراي الجيزة المشهورة، وتعددت المباني حولها، ومُدت الطرق الجميلة بين الجيزة والجزيرة، وأُنفقت الأموال جزافًا في سبيل إنشائها.

فهذه النفقات الباهظة جعلت إسماعيل يُفكر في قرض آخر سنة ١٨٦٥ ولما تمضِ ثمانية أشهر على القرض الأول.

وقد جدَّ سبب آخر دعا إسماعيل إلى عقد القرض الثاني، وهو الأزمة المالية التي عقبت هبوط أسعار القطن؛ ذلك أن انتهاء الحرب الأمريكية الأهلية في أوائل سنة ١٨٦٥ فتح الأسواق أمام القطن الأمريكي، فتراجعت أسعار القطن المصري إلى مستواها القديم، وقد حلَّ الضيق بالأهالي من الفلاحين والملَّاك لأنهم اعتادوا أثناء ارتفاع أسعار القطن أن ينفقوا عن سعة ويستدينوا المال بفوائد فاحشة من المرابين على أمل سداده من ثمن القطن في الموسم المقبل (كما حدث سنة ١٩١٩، والتاريخ يعيد نفسه)، فلما هبطت أسعار القطن وقعوا في أزمة شديدة عُرِفت بأزمة سنة ١٨٦٥، ولم يدروا كيف يُوفون ديونهم، فاعتزم إسماعيل أن تتدخل الحكومة في هذه الأزمة، فحصرت ديون الأهلين وسددتها عنهم للدائنين والمرابين على أن ترجع بها على المدينين مقسطة على سبع سنوات بفائدة ٧٪، وخُصص لهذه العملية ١٤٠٠٠٠٠ جنيه.

ولا شك في أن إسماعيل لو اتَّبع التدبير والاقتصاد، لما كانت الحكومة في حاجة إلى هذا القرض الجديد، ولا الذي سبقه، فضلًا عن الديون السائرة التي لم يكن يُعرف مقدارها، وهي الديون التي كان الخديو يقترضها بسندات على الخزانة.

اقترض إسماعيل قرض سنة ١٨٦٥ من بنك الأنجلو، وقدره ٣٣٨٧٣٠٠ جنيه، ولم يقبض منه سوى ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه، ورهن في مقابله ٣٦٥٠٠٠ فدان من أملاكه، ويُسمى هذا الدين قرض «الدائرة السنية الأول».

واستدان قرضًا جديدًا من بنك أوبنهايم في ٥ يناير سنة ١٨٦٦، وقدره ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه، ورهن في مقابله إيرادات السكك الحديدية.

وقد جرت المفاوضات بشأن هذا القرض أثناء مفاوضات القرض السابق، وهذا من أغرب ما سُمِع في معرض التبذير وقِصر النظر، وكان قرض أوبنهايم هو الأسبق، لكن المفاوضات بشأنه طالت، فلم يطق إسماعيل صبرًا واستدان من بنك الأنجلو القرض السابق، ثم تمت المفاوضات الخاصة بقرض أوبنهايم، فأتم صفقته أيضًا.

واستدان إسماعيل في تلك السنة أيضًا دينين آخرين من الديون السائرة، ولم يكن في حاجة إلى هذه القروض، ولكنه أنفقها على بناء قصوره، ودفع منها ثمن أملاك أخيه مصطفى فاضل وعمه محمد عبد الحليم، فقد كان ميالًا إلى الاستكثار من الأملاك بكل الوسائل كما أسلفنا، وامتدت أطماعه إلى تجريد الأميرين المذكورين من أملاكهما بالقطر المصري، وكان يحقد عليهما لمنافستهما إياه على العرش، واشتد عداؤه لهما لمقاومتهما إياه في تغيير نظام التوارث، وقد حصل إسماعيل على فرمان مايو سنة ١٨٦٦ الذي جعل وراثة العرش في بكْر أبنائه.

ومن قرض سنة ١٨٦٦ والديون السائرة أدى الرشوة التي بذلها لسلطان تركيا ولحكام الآستانة للحصول على هذا الفرمان، وقد بلغت هذه الرشوة ثلاثة ملايين جنيه تقريبًا، ودفع ثمن أملاك الأميرين مصطفى فاضل ومحمد عبد الحليم.

فترى مما تقدَّم أن هذه القروض ضاعت فيما لا ينفع البلاد؛ لأن تغيير نظام توارث العرش كان مسألة شخصية لإسماعيل، وكذلك شراء أملاك أخيه وعمه، فكأن إسماعيل اقترض هذه الديون لكي تتسع أملاكه، وتحقيقًا لأطماع شخصية، وإرضاءً لحزازات عائلية لا شأن للبلاد فيها.

واقترض سنة ١٨٦٧ قرضًا جديدًا قيمته ٢٨٠٠٠٠٠ جنيه، ولم يُعرف سبب ظاهر لهذا القرض، واختلفت الآراء في تعليله، ولكن التعليل الصحيح أن الخديو علاوة على القروض السابقة كان لا يفتأ يستدين ديونًا سائرة من المرابين الأجانب المقيمين في مصر، ولم يكن لهذه الديون حساب ظاهر ولا حد معلوم، وكل ما عُرِف عنها أنها كانت ذات فوائد فاحشة جدًّا، وكان العمل في ذلك الحين قائمًا على قدم وساق لتجديد حديقة الأزبكية، وبناء دار التمثيل، ومضمار لسباق الخيل، وبناء قصور عابدين والقبة والزعفران والجيزة والقصر العالي وسراي مصطفى باشا فاضل برمل الإسكندرية، فكل هذه المباني كان يُنفق عليها من الديون ثابتة كانت أو سائرة لأن ميزانية الحكومة ما كانت تسمح بإقامتها.

وقد بلغت الديون السائرة إلى ذلك الحين نحو عشرة ملايين جنيه، وهو مبلغ باهظ يُثقل كاهل الخزانة، وفوائده تبتلع جزءًا كبيرًا من الإيراد، فتذرع الخديو إلى عقد قرض سنة ١٨٦٧ برغبته في سداد فوائد هذه الديون وفي تحويل الديون السائرة جميعها إلى دين ثابت. على أن الديون وفوائدها بقيت كما كانت، فلا هي سُددت، ولا فوائدها سُددت، ولا تم تحويلها.

واشترك الخديو في المعرض العام الذي أقيم بباريس سنة ١٨٦٧، وظهر فيه بمظهر فخم يأخذ بالألباب، فأنفق في هذا السبيل وفي رحلته بباريس ملايين الجنيهات، وكان غرضه من هذا الإسراف هو الظهور بمظهر العظمة واجتذاب ثقة البيوت المالية الأجنبية لتُقرضه من جديد، وضاع من قبلُ جانب من هذه الملايين في الرشاوى والهدايا التي بذلها في الآستانة ليحصل على لقب «خديو»، وقد نال الفرمان الذي منحه هذا اللقب في ٨ يونيو سنة ١٨٦٧.

فلهذه الأسباب خلت خزانة الحكومة من المال، ولجأ الخديو إلى الاستدانة من جديد.

واقترض فعلًا سنة ١٨٦٨ قرضًا جديدًا قدره ١١٨٩٠٠٠٠ جنيه من بنك أوبنهايم، وكان من شروط هذا القرض أن يكف الخديو عن الاستدانة مدة خمس سنوات.

أنفق إسماعيل من القرض نحو مليوني جنيه في الآستانة على حفلات وولائم ورشاوى للسلطان ولرجال حكومته.

وأنفق جزءًا منه في إتمام بناء قصوره في عابدين والقبة والعباسية والجيزة وسراي مصطفى باشا بالإسكندرية، وتأثيثها بفاخر الأثاث والرياش، ومن هذا القرض أيضًا أنفق النفقات الباهظة على حفلات افتتاح قناة السويس سنة ١٨٦٩، وقد بلغت مليونًا ونصف مليون جنيه تقريبًا.

ولم تكد تنتهي حفلات القناة حتى أخذ معين المال ينضب من الخزانة، وكان إسماعيل مقيدًا بما اشترطه في القرض السابق وهو عدم الاقتراض لمدة خمس سنوات، فضلًا عن أنه خرج من حفلات القناة وقد ألقى في روع ضيوفه الأوروبيين أن خزائن مصر تفيض بالمال، وفي الواقع أن مظاهر هذه الحفلات وما أُنفق عليها من الملايين لا تدع مجالًا للشك في ذلك، فلم يجد من اللائق ولا من السائغ أن يمد يده إلى البيوت المالية ويطلب قرضًا جديدًا.

ولكنه كان في حاجة إلى المال، فابتكر له وزيره إسماعيل صدِّيق (المفتش) طريقة خطرة اتبعها في صيف سنة ١٨٦٩، وهي أنه باع إلى التجار الإفرنج مقادير كبيرة من بذرة القطن تُرْبي على خمسمائة ألف أردب، قبض ثمنها نقدًا، ووعد بتسليمها بعد خمسة أشهر أي بعد جني محصول القطن الجديد.

ولما انقضى الميعاد اتضح أن الحكومة باعت ما لديها من محصول القطن مرة ثانية وقبضت ثمنه، وقد سُويت هذه الفضيحة بأن طلبت الحكومة من التجار أن يبيعوها بسعر ٧٨ قرشًا ما اشتروه منها بسعر ٧١ قرشًا، واتفقوا على أن تدفع لهم القيمة إفادات مالية تسري عليها فوائد ١٢٪ سنويًّا؛ أي إن ربحهم بلغ ١٠٪ سنويًّا.

وتكررت هذه العملية غير مرة في سنوات عدة، فقد كانت الحكومة تبيع للتجار الأجانب غلالًا ليست في حوزتها ولا يُنتظر أن تحوزها وتتسلم الثمن فورًا، فإذا جاء موعد تسليم الغلال اشترتها من ذات التاجر الذي باعته إياها ودفعت ثمنها أوراقًا وسندات على الخزانة مع فوائد لا تقل عن ١٨٪ أو ٢٠ في المائة، ولا تُحتسب الفوائد على المبلغ الأصلي الذي أخذته من التاجر بل على المبلغ التالي المقدر ثمنًا لغلاله، وناهيك بما يُصيب الحكومة من جراء هذه العمليات من الخسائر الفادحة.

وإذ كان إسماعيل مقيدًا بعدم الاقتراض طبقًا لشروط سلفة سنة ١٨٦٨، ومن جهة أخرى فقد لفتت القروض وضخامتها أنظار الحكومة التركية، فحاولت وضع حد لها، وحظرت على الخديو بمقتضى فرمان سنة ١٨٦٩ أن يقترض إلا بإذنها، ولكن إسماعيل كان يريد الاقتراض بأية وسيلة، فلم يرَ بدًّا من أن يعقد قرضًا لحسابه الخاص.

فاستدان في أبريل سنة ١٨٧٠ من البنك الفرنساوي المصري ٧١٤٢٨٦٠ جنيهًا بفائدة ٧٪ بضمان أطيانه الخاصة، عدا الأطيان التي رهنها سابقًا؛ ولذلك سُمِّي هذا القرض «قرض الدائرة السنية الثاني»، وصدر بواقع ٦٧ في المائة، فكانت النتيجة أنه لم يدخل منه إلى خزائن الخديو سوى ٥٠٠٠٠٠٠ جنيه، ولكنه يسدد على القيمة الاسمية وهي ٧١٤٢٨٦٠ جنيهًا في عشرين سنة، وبلغ العبء الذي احتملته الدائرة السنية سنويًّا لأداء هذا الدين ٦٦٨٩٦٠ جنيهًا؛ أي ١٣ في المائة تقريبًا من رأس المال المدفوع.

وبلغت الديون السائرة نحو خمسة وعشرين مليون جنيه.

أما فوائد هذه الديون السائرة، فلم يكن لها حساب معلوم؛ فالمسيو جليون دنجلار  Gellion Danglar يقول في رسائله:٥ إن الدائرة الخاصة وهي دائرة الخديو إسماعيل كانت تقترض بفائدة ٢٠٪ و٢٤٪ في السنة، وأن الحالة المالية في السنة التي كتب فيها رسائله (عام ١٨٦٧) كانت سيئة لدرجة أن الموظفين لم تُدفع لهم رواتبهم مدة ثمانية أشهر.

(٥) الحالة المالية سنة ١٨٧٠

يتضح مما تقدَّم مبلغ ما بهظ كاهل الخزانة العامة من القروض المتتابعة التي عقدها إسماعيل، ومقدار الارتباك الذي وقعت فيه الحكومة وأوصلها إلى حالة سيئة من فقدان التوازن.

على أن هذه الحالة لو عولجت بالحكمة وحُسن التدبير، لأمكن إنقاذ البلاد من الكوارث المالية التي وقعت من بعد، فلو وضع إسماعيل حدًّا لإسرافه وأهوائه، لسار بالبلاد في طريق مأمون وأمكنه مع الزمن إعادة التوازن إلى مالية الحكومة، ولكنه على العكس استمر في خطته، وتلت القروض قروض، حتى فقدت البلاد استقلالها المالي.

ومما جعل إسماعيل يتمادى في الإسراف والاستدانة أنه لم تكن في البلاد هيئات نيابية تراقب تصرفات الحكومة وتحاسبها على الأموال التي تبددها. أما مجلس شورى النواب فكان يكتفي بالبيانات الملفقة أو المبهمة التي يقدِّمها وزير المالية إسماعيل صديق في كل انعقاد، ولم يكن بالمجلس شعور بالمسئولية يدفع أعضاءه إلى الاعتراض على سياسة الحكومة المالية وما جرته من الخراب على البلاد، وكذلك لم يوجد من بين بطانة إسماعيل من كان يعترض اعتراضًا جديًّا على تلك السياسة أو يبصِّر الخديو بعواقبها الوخيمة، ولو وُجدت حكومة مسئولة أمام هيئة نيابية صحيحة لمَا استمر الخديو وحاشيته على هذه السياسة المحزنة.

وفي سنة ١٨٧٠ نشبت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وهي الحرب المشهورة بالحرب السبعينية، فاضطربت الأسواق في أوروبا، وقبضت البيوت المالية يدها عن الإقراض، وكان الخديو في حاجة إلى المال، فعمد وزير ماليته إلى زيادة الضرائب، ولكن هذا المعين لم يفِ بطلباته؛ فابتدع طريقة تُعد بمنزلة قرض إجباري يُجبى من الأهالي أو ضريبة جديدة تُفرض على أطيانهم، وصدر بها القانون المشهور بلائحة المقابلة في ٣٠ أغسطس سنة ١٨٧١.

يقضي هذا القانون بأنه إذا دفع ملَّاك الأطيان الضرائب المربوطة على أطيانهم لمدة ست سنوات مقدمًا تعفي الحكومة أطيانهم على الدوام من نصف المربوط عليها، ولكي يحصلوا على هذه الميزة يدفعون ضرائب السنوات الست دفعة واحدة أو على أقساط متتابعة لا تزيد مدتها عن ست سنوات علاوة على الضريبة السنوية، وتُحسب لهم فوائد عما يدفعونه مقدمًا بواقع ٪.

وقد جعل هذا القانون دفع المقابلة اختياريًّا، ولكن الحكومة لجأت في تنفيذه إلى التوريط بالنسبة للباشوات وكبار الأعيان، وإلى الضغط والإكراه والضرب بالكرباج بالنسبة لسائر الأهلين، ولولا الإكراه لمَا ارتضى الناس المخاطرة بأموالهم لأنهم يعلمون مبلغ عهود الحكومة وخاصةً في المسائل المالية، فهم لم يدفعوا المقابلة إلا مكرهين، فكانت ضريبة جديدة أو سلفة إجبارية زادتهم إرهاقًا وضنكًا.

وقد استطاعت الحكومة أن تجبي من هذه الضريبة خمسة ملايين من الجنيهات لغاية آخر سنة ١٨٧١، وبلغ مجموع ما جبته منها نيفًا وثلاثة عشر مليون جنيه ونصفًا لغاية سنة ١٨٧٧.

وانتظر إسماعيل بفارغ الصبر انتهاء السنوات الخمس التي حظر فيها على نفسه عقد قروض جديدة تنفيذًا لشروط سلفة سنة ١٨٦٨، وسعى جهده في الآستانة وبذل فيها الأموال الطائلة من الرشاوى والهدايا ليلغي فرمان سنة ١٨٦٩ ويحصل على الفرمان الذي يبيح له الاقتراض من غير حاجة إلى إذن الحكومة التركية، فناله في سنة ١٨٧٢.

فلم تكد تنتهي هذه المدة ويشعر إسماعيل بفك اعتقاله من هذا القيد، حتى عقد قرضًا جديدًا من بيت أوبنهايم المالي قدره ٣٢٠٠٠٠٠٠ جنيه، وهو أكبر القروض من جهة القيمة وأسوءُها من جهة الشروط، وقد دعاه الماليون «القرض الكبير»، وهو حقيق بأن يُسمى «القرض المشئوم».

وكانت حجته في هذا القرض أنه اعتزم سداد الديون السائرة، ولكنه في الواقع لم يخصص شيئًا منه لهذه الغاية، وبقيت الديون السائرة كما كانت.

عُقِد هذا القرض بفائدة ٧٪ وقيمة سنداته في المائة، وبلغ ما دخل الخزانة منه بعد استبعاد النفقات والخصم والسمسرة ٢٠٧٤٠٠٧٧ جنيه، أي بنقص ٣٧٪ من قيمة الدَّين الاسمية، فخسرت الحكومة من أصل القرض نيفًا وأحد عشر مليون جنيه، في حين أنها التزمت بقسط سنوي لسداده يبلغ ٢٢٦٥٦٧١ جنيه، ثم إنها لم تقبض المبلغ نقدًا، بل تسلمت منه فقط أحد عشر مليون جنيه، والباقي وقدره تسعة ملايين جُعلت سندات للخزانة المصرية.

ومن هذا يتبين أن قرضًا ألقى على عاتق البلاد عبئًا جسيمًا مقداره اثنان وثلاثون مليون جنيه، بلغ صافي ما تسلمته الحكومة منه نقدًا أحد عشر مليون جنيه فقط، وليس في تاريخ القروض في العالم قاطبةً قرض يُعقد بمثل هذه الشروط الجائرة بل هذه السرقة العلنية، كما أنه لا يمكن أن توجد حكومة عندها قليل من الشعور بالمسئولية تقبل التعاقد على مثل هذه الشروط.

ومن تهكُّم الأقدار أن السنة التي عقد فيها إسماعيل هذا القرض المنحوس هي ذات السنة التي نال فيها فرمان سنة ١٨٧٣ الجامع الذي خوَّله أقصى ما حصل عليه من المزايا، أو بعبارة أخرى إن إسماعيل قد بلغ أوج نفوذه الرسمي في علاقته مع تركيا في الوقت الذي أشرفت فيه البلاد على حالة من الإفلاس أفقدتها استقلالها المالي ثم السياسي.

واحتاج إسماعيل إلى قرض آخر سنة ١٨٧٤، فابتدع له وزير ماليته إسماعيل صدِّيق (المفتش) وسيلة جديدة يقترض بها من الأهالي دينًا سُمِّي (دين الرزنامة).

كانت مصلحة «الرزنامة» تودع فيها رءوس أموال للمستحقين مقابل دفع معاشات لهم، فابتكر إسماعيل صديق فكرة جديدة وهي أن يستثمر الأهالي أموالهم في مصلحة الرزنامة بأن يدعوا فيها المدخر من هذه الأموال على أن تستثمرها المصلحة في مشروعات صناعية وتجارية، وتُصدر الرزنامة سندات إيراد دائم بما لا يزيد عن خمسة ملايين من الجنيهات، على أن تكون المائة فيها مائة، ويكون ثمن هذه السندات متراوحًا بين جنيهين ونصف وخمسة جنيهات، وتدفع المصلحة فوائد عنها بحساب ٩٪.

وقد أوجس الأهلون شرًّا من هذه الطريقة في ابتزاز أموالهم لأنهم عالمون بمصيرها، لكن الحكومة لجأت إلى الطريقة التي اتبعتها في تحصيل المقابلة، فبلغ ما ساهم فيه الأهالي من سندات هذا القرض الإجباري ٣٣٣٧٠٠٠ جنيه، لم يدخل الخزانة منها سوى ١٨٧٨٠٠٠ جنيه، ولم تدفع من فوائدها سوى جزء من فوائد السنة الأولى.

ولم تكفِ هذه القروض طلبات الخديو وبطانته، بل استولوا أيضًا على ما في خزائن بيت المال والأوقاف الخيرية من الأموال المودعة على ذمة الخيرات أو لحساب القُصَّر والأيتام.

وبلغ ما أُخذ من هذا الباب ٥٣٧٠٠٠ جنيه.

واستمر إسماعيل صديق يستدين بواسطة المالية من المرابين الأجانب، فيزداد الدين السائر تضخمًا.

وثمة مطلوبات من الحكومة لتجار ومقاولين ودوائر، أو رصيد حسابات جارية للبنوك ورواتب متأخرة للموظفين وأرباب المعاشات، وقد بلغت هذه المطلوبات ٦٢٧٦٠٠٠ جنيه أضيفت إلى الدَّين السائر.

(٦) التدخل الأجنبي في شئون مصر المالية

لم يكن ممكنًا أن يبقى استقلال البلاد سليمًا مع بلوغ القروض الحد الذي أوجزناه؛ لأن هذه القروض هي أموال أجنبية دفعها ماليون ومرابون ينتمون إلى دول أوروبية تطمح من قديم الزمن إلى التدخل في شئون مصر، وهذه الملايين من الجنيهات المقترضة من شأنها أن تُفقد البلاد استقلالها المالي، كما يفقد الفرد استقلاله وكيانه الذاتي إذا ركبته الديون فيصبح أسير دائنيه، والقروض التي استدانها الخديو صار لها من الفوائد ما يبتلع معظم ميزانية الحكومة، وهذا وحده يعطيك فكرة عن فداحتها، فلا عجب أن تكون النتيجة فتح أبواب التدخل الأجنبي في شئون مصر على مصراعيه، وقد بدأ هذا التدخل ماليًّا، ولكنه كان يطوي في ثناياه عوامل التدخل السياسي، فكان تدخلًا مزدوجًا.

وقد أخذ هذا التدخل شكلًا خطيرًا لافتًا للأنظار سنة ١٨٧٥ حين اشترت بريطانيا أسهم مصر في قناة السويس، وهي صفقة خاسرة لأن شراء الحكومة البريطانية أسهم مصر في القناة كان كارثة على مصر؛ إذ كانت أول خطوة خطتها إنكلترا نحو الاحتلال الذي وقع سنة ١٨٨٢.

ولما ساءت حالة الخزانة، ورأى إسماعيل أن البيوت المالية الأوروبية قد تزعزعت ثقتها في كفاءة الحكومة المصرية ومقدرتها على الوفاء، أراد أن يقدِّم لها برهانًا على أن مصر مازالت رغم الديون الباهظة قادرة على السداد، فابتكر وسيلة ظن أنها تصل به إلى هذه الغاية، وذلك أنه عرض سنة ١٨٧٥ على بريطانيا إيفاد موظف مالي كفء يدرس حالة الحكومة المالية، ويعاون وزير المالية المصرية على إصلاح الخلل الذي يعترف به في هذه الوزارة.

وكان تقدير إسماعيل أن هذه البعثة تحت تأثير إرشاده ونفوذه، وما يحيطها به من الحفاوة والإكرام، وما يلوِّح به أمامها من مظاهر البذخ والإسراف، لا تلبث أن تقدِّم تقريرًا بأن حالة الخزانة المصرية حسنة تسمح بالثقة بها، فيرتكن على هذا التقرير لكي يقنع البيوت المالية الأوروبية باقتراضه من جديد؛ فالغاية كما ترى لم تكن متفقة مع مصلحة البلاد؛ لأنه على فرض أن هذه البعثة تنساق إلى إرشاداته، فإن اقتراضه من جديد لم يكن علاجًا ناجعًا لحالة البلاد المالية بل هو مضاعفة للداء الذي أصابها من القروض.

وقد اتجه إسماعيل صوب إنكلترا في طلب هذه البعثة؛ لأن فرنسا كانت قد خرجت مضعضعة من الحرب السبعينية، ومع أنها كانت قِبلة أنظاره من قبل فإن هزيمتها في تلك الحرب جعلته يُدير شراعه نحو بريطانيا، فطلب إليها إيفاد تلك البعثة.

لبَّت الحكومة الإنكليزية نداء إسماعيل لأنها وجدت في طلبه فرصة جديدة للتدخل في شئون مصر، وأوفدت إليه بعثة مؤلفة من أربعة من موظفيها برياسة المستر «استفن كيف» Cave أحد الماليين المعدودين من الإنكليز؛ ومن هنا جاءت تسميتها «بعثة كيف».

كانت هذه البعثة وما خوَّلها إسماعيل من حق معاونة وزير المالية على إصلاح الخلل الذي أصاب وزارته، مظهرًا من مظاهر التدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية، وقد وقع هذا التدخل بعد أن أبرم إسماعيل بيع الأسهم المصرية في القناة، فكانتا ضربتين قاصمتين أصابتا مصر في استقلالها المالي وكيانها القومي.

جاءت البعثة إلى مصر وفحصت حالة مصر المالية، وقدَّمت تقريرها. أشارت فيه إلى سوء حالة المالية المصرية، واقترحت كشرط ضروري لإصلاحها أن تخضع للمشورة الأوروبية، بأن تنشئ الحكومة مصلحة للرقابة على ماليتها برياسة شخص ذي ثقة أشارت تلميحًا بأن يكون بريطانيًّا، واشترطت أن يحترم الخديو قرارات هذه المصلحة ولا يعقد قرضًا إلا بموافقتها.

وسارت الضائقة المالية في طريقها، وأعوز الخزانة المصرية المال اللازم لأداء أقساط الديون، وأخيرًا عجزت عن الوفاء، فأصدر الخديو مرسومًا في ٦ أبريل سنة ١٨٧٦ بتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة على الحكومة في أبريل ومايو ثلاثة أشهر، ولم يكن تحديد هذه الثلاثة الأشهر إلا للمحافظة على الظواهر، وكان الغرض هو التأجيل إلى ما شاء الله، وأُعلن هذا المرسوم في بورصة الإسكندرية يوم ٨ أبريل، فكان هذا إيذانًا بالتوقف عن الدفع، أو بعبارة أخرى بالإفلاس، ولما ذاع هذا المرسوم سرى السخط والذعر إلى الأسواق المالية الأوروبية، واستهدف إسماعيل لمطاعن الماليين والمرابين الأجانب، وانقلبوا يتهددون ويتوعدون، بعد أن كانوا حتى الأمس يداهنون ويتملقون.

شعر الخديو بارتباك الحالة المالية، وما تنطوي عليه من الأخطار، وما يجر إليه سخط الماليين الأوروبيين من العواقب، فأراد استرضاء الدائنين بوضع نظام يكفل لهم استيفاء ديونهم، فطلب إلى وكلاء الدائنين بمصر وضع النظام الذي يرتضونه، فقدَّم وكلاء الماليين الفرنسيين مشروعًا بإنشاء (صندوق الدين) وتوحيد الديون.

واستجاب إسماعيل لمطالب وكلاء الدائنين الفرنسيين، وأصدر مرسومًا في ٢ مايو سنة ١٨٧٦ بإنشاء (صندوق الدَّين)، ومهمته أن يكون خزانة فرعية للخزانة العامة تتولى تسلُّم المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، وخُصص له إيراد مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط، وعوايد الدخولية في القاهرة والإسكندرية، وإيراد جمارك الإسكندرية والسويس وبورسعيد ورشيد ودمياط والعريش، وإيراد السكك الحديدية، ورسوم الدخان، وإيراد المصلح «ضريبة الملح» ومصايد المطرية «دقهلية»، ورسوم الكباري، وعوائد الملاحة في النيل، وإيراد كوبري قصر النيل، وإيراد أطيان الدائرة السنية؛ أي أنه خُصص لسداد الديون معظم موارد الخزانة المصرية.

ولا نزاع في أنه، من جهة الحق والقانون، لم يكن للدائنين الأجانب أن يطلبوا إنشاء هيئة مالية رسمية داخل الحكومة بتلك السلطة، ولكن فكرة الطمع والاستعمار، وغلبة القوي على الضعيف، هي التي أملت مشروع صندوق الدين لاستغلال موارد البلاد وفرض الوصاية الأوروبية على ماليتها.

وفي ٧ مايو سنة ١٨٧٦ أصدر الخديو مرسومًا ثانيًا بتحويل ديون الحكومة ودين الدائرة السنية والديون السائرة إلى دين واحد، سُمِّي (الدين الموحد) قدره ٩١٠٠٠٠٠٠ جنيه إنكليزي، بفائدة سبعة في المائة، يسدد في ٦٥ سنة، والغرض من هذا المرسوم توحيد الديون وتأمين الدائنين على استيفاء ديونهم.

ولكي يطمئن الدائنون على حُسن إدارة وزارة المالية، أصدر الخديو في ١١ مايو سنة ١٨٧٦ مرسومًا ثالثًا بإنشاء (مجلس أعلى للمالية)، مؤلف من عشرة أعضاء: خمسة أجانب، وخمسة وطنيين، ومن رئيس يعيِّنه الخديو، ويتألف هذا المجلس من ثلاثة أقسام: القسم الأول يختص بمراقبة خزائن الحكومة، والثاني بمراقبة الإيرادات والمصروفات (وهي غير المراقبة الثنائية التي سيرِد الكلام عنها)، والثالث بتحقيق الحسابات، ويبدي المجلس رأيه في ميزانية الحكومة السنوية التي يضعها وزير المالية قبل نهاية كل سنة بثلاثة أشهر، وعُيِّن أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالي رئيسًا لهذا المجلس!

(٧) الرقابة الثنائية البريطانية الفرنسية على شئون مصر المالية

إن إنشاء صندوق الدين، وإنشاء مجلس أعلى مختلط للمالية، وتوحيد الديون، كل هذه الوسائل، على ما فيها من افتيات على سلطة الحكومة، لم تقنع الحكومة الإنكليزية ولم ترَ فيها الكفاية لضمان مصالح الدائنين، فامتنعت عن تعيين مندوب عنها في صندوق الدين، وجاهدت بأن من الواجب وضع تسوية أخرى لكفالة مصالح الدائنين.

والواقع أن هذا لم يكن غرضها الحقيقي، بل كانت ترمي إلى وضع نظام جديد يمكِّنها من التدخل الفعلي في إدارة الحكومة المصرية، ويجعل مصر أكثر خضوعًا للدول الأجنبية في سياستها وتصرفاتها الداخلية، واتفقت مع فرنسا على خطة موحدة لإكراه إسماعيل على قبول الأوضاع التي يقترحانها، وأهمها فرض الرقابة الأوروبية على المالية المصرية، ووضع السكك الحديدية وميناء الإسكندرية تحت إدارة لجنة مختلطة.

وتدخَّل قنصلا إنكلترا وفرنسا للضغط على الخديو وإكراهه على الإذعان، فتردد إسماعيل في قبول هذه المطالب الجائرة، وقامت في البلاد حركة استياء شديدة من جورها، ولكن الخديو خشي على مركزه أن تزعزعه مقاومة الدولتين البريطانية والفرنسية، فنزل أخيرًا على إرادتهما ورضي بالرقابة الثنائية سنة ١٨٧٦.

(٨) الوزارة المختلطة

وأعقب فرض الرقابة الثنائية تأليف «لجنة تحقيق عليا» أوروبية سنة ١٨٧٨ لفحص شئون الحكومة المالية، ثم تعيين وزارة مختلطة في نفس السنة برياسة نوبار وفيها وزيران أوروبيان: أحدهما بريطاني وهو ريفرس ويلسن Rivvers Wilson وقد تولى وزارة المالية، والثاني فرنسي وهو دي بلينيير De Bligniéres وقد تولى وزارة الأشغال، فكان تعيين هذه الوزارة إهانة للبلاد وصدمة لشعور الأهلين الذين سمَّوها الوزارة الأوروبية.

(٩) النهضة الوطنية والسياسية

فهذا التدخل الأجنبي في شئون البلاد المالية والسياسية والعدوان على استقلالها وكرامتها، كان من الأسباب الجوهرية التي حفزت النفوس إلى التبرم بنظام الحكم والتخلص من مساوئه؛ لأن سياسة الحكومة هي التي أفضت إلى هذا العدوان الصارخ.

ومن هنا جاءت النهضة الوطنية والسياسية في مصر، ووجدت مبادئ جمال الدين الأفغاني وتعاليمه سبيلًا إلى النفوس، فكانت من العوامل الهامة في ظهور هذه النهضة التي شغلت السنوات الأخيرة من عهد إسماعيل وكانت من أدوار الحركة القومية.

كان من مظاهر هذه النهضة نشاط الصحف السياسية وإقبال الناس عليها، فمن الصحف التي كان لجمال الدين يد في إنشائها أو تحريرها جريدة «مصر» التي ظهرت سنة ١٨٧٧، وهي جريدة أسبوعية لمحررها أديب إسحاق ومديرها سليم نقاش، وقد أنشأ الاثنان أيضًا سنة ١٨٧٨ صحيفة يومية بالإسكندرية باسم جريدة «التجارة»، وسياسة الصحيفتين وطنية حماسية تجلت فيها تعاليم جمال الدين وروحه، وكانت له في الصحيفتين بعض المقالات يكتبها أو يمليها على تلاميذه، وكانت صحيفة «مصر» تنشر له بعض المقالات تارةً باسمه ومرة باسم «المزهر بن وضاح».

وجريدة «مرآة الشرق» وقد تولاها سليم عنحوري ثم إبراهيم اللقاني بإيعاز من جمال الدين.

وجريدة «أبو نضارة» ليعقوب صنوع الذي كان على صلة به.

وكان لهذه الصحف وغيرها فضل كبير في إنارة البصائر والأفكار وتوجيه الأنظار إلى العناية بشئون البلاد عامة وتبرُّم المواطنين بحالتها السياسية والمالية، فكانت من عوامل النهضة السياسية والأدبية في البلاد.

ومن مآثر جمال الدين الأفغاني ظهور روح اليقظة والمعارضة في مجلس شورى النواب على يد نواب نفخ فيهم من روحه، وعلى رأسهم النائب عبد السلام المويلحي الذي يُعد من تلاميذه الأفذاذ، وإنك لتلمس الصلة الروحية بينهما من الكلمات والعبارات الرائعة التي كان المويلحي يجهر بها في جلسات مجلس شورى النواب، فإن هذه العبارات هي قبس من روح الحكيم الأفغاني.

وقد جاء ذكر النائب المويلحي ضمن تلاميذ جمال الدين ومريديه على لسان سليم بك العنحوري الأديب السوري حين زار مصر ووصف مكانة جمال الدين بقوله: «وفي خلال سنة ١٨٧٨ زاد مركزه خطرًا وسما مقامه؛ لأنه تداخل في السياسات وتولى رئاسة جمعية «الماسون» العربية، وصار له أصدقاء وأولياء من أصحاب المناصب العالية، مثل: محمود باشا سامي البارودي الذي نُفي أخيرًا مع عرابي إلى جزيرة سيلان، وعبد السلام بك المويلحي النائب المصري في دار الندوة، وأخيه إبراهيم «المويلحي» كاتب الضابطة، وكثر سواد الذين يخدمون أفكاره، ويُعلون بين الناس مناره، من أرباب الأقلام، مثل: الشيخ محمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وعلي بك مظهر، والشاعر الزرقاني، وأبي الوفاء القوني في مصر «القاهرة»، وسليم النقاش، وأديب إسحاق، وعبد الله نديم في الإسكندرية.»

•••

دخلت الحياة النيابية منذ سنة ١٨٧٦ دورًا جديدًا امتاز بظهور روح النهضة والمعارضة في نفوس أعضاء مجلس شورى النواب، وبدت هذه الروح في مناقشاتهم وأعمالهم ومواقفهم، وأخذت مظاهر الحياة والنشاط ترتسم في أفق المجلس بعد أن كان يخيم عليه الخمول والجمود في الأدوار السابقة.

فلما اجتمع المجلس في نوفمبر سنة ١٨٧٦ كان جوابه على خطبة العرش مكتوبًا بأسلوب جديد وروح جديدة تختلفان عن عبارات التملق البالغ التي كانت ترِد في الأجوبة السابقة، وتضاءلت فيه أساليب العبودية للخديو، مما دل على تطور روح المجلس واستشعار النواب بكرامتهم وحقوقهم، ويمتاز الجواب أيضًا بإيجاز عباراته وارتقاء أسلوبه بالنسبة لأسلوب الأجوبة السابقة، وهذا ينبئ بتطور الأفكار وتقدُّم لغة الكتابة والإنشاء.

وبرز في ميدان النقاش أعضاء أكفاء برهنوا على حصافة في الرأي، وقدرة في المنطق، وسداد في المقصد، نذكر منهم على سبيل المثال (لا على سبيل الحصر): محمود العطار، وعبد السلام المويلحي، ومحمد راضي، وعثمان الهرميل، ومحمود سالم، وبديني الشريعي، وإبراهيم الجيار، وغيرهم.

وقد أصدرت الحكومة مرسومًا في يناير سنة ١٨٧٩ قضى بأن القوانين المتعلقة بالشئون المالية تصدر بعد تقريرها في مجلس الوزراء والتصديق عليها من الخديو، وأغفل مجلس شورى النواب، ففي جلسة تالية لصدور هذا المرسوم اعترض النائبان محمود العطار وعبد السلام المويلحي على إغفال المجلس، ومطالبًا بعرض القوانين المالية عليه ووجوب إقراره لها، ووافق النواب على هذا الاعتراض، فحدثت أزمة بين المجلس والحكومة، وازداد نفور الأمة من وزارة «نوبار» واتسعت حركة المعارضة ضدها داخل المجلس وخارجه.

وعطلت الوزارة جريدة «التجارة» لأديب إسحاق وجريدة «الوطن» لميخائيل عبد السيد خمسة عشر يومًا لإثارتهما الخواطر في كتاباتهما.

(١٠) ثورة ضباط الجيش؛ ١٨ فبراير سنة ١٨٧٩

وفي خلال مدة التعطيل وقعت ثورة ضباط الجيش على وزارة نوبار (١٨ فبراير سنة ١٨٧٩)، وكانت هذه الثورة صدًى لشعور المواطنين ضد هذه الوزارة، فقد أسرفت في ممالأة الدائنين الأجانب وعينت كثيرًا من الأوروبيين في المناصب الهامة للحكومة، وأهدرت حقوق الموظفين الوطنيين وعزلت طائفة منهم، وأحالت إلى الاستيداع ٢٥٠٠ من ضباط الجيش بحجة الحاجة إلى ضغط المصروفات.

فثار الضباط واحتشدوا يوم ١٨ فبراير سنة ١٨٧٩ واتجهوا إلى وزارة المالية، واتصلوا بطائفة من أعضاء مجلس شورى النواب ليشاركوهم في مظاهرتهم؛ واكتفى بعضهم بالسير في موكب المظاهرة راكبين حميرهم فكان هذا العمل اشتراكًا من هيئة المجلس في المظاهرة، واعتدى الثائرون على «نوبار» بالضرب وطرحوه أرضًا، كما اعتدوا على «ريفرس ويلسن» وزير المالية، واقتحموا وزارة المالية وحبسوا بإحدى غرفها نوبار وريفرس ويلسن ورياض، وصار الموظفون الأجانب الذين بالوزارة تحت رحمة الثوار.

زلزلت هذه الثورة مركز وزارة نوبار فاستقالت في اليوم التالي، وتألفت وزارة جديدة برئاسة توفيق بن إسماعيل وفيها الوزيران الأوروبيان ريفرس ويلسن ودي بلينيير، وخُولا حق «الفيتو» أي وقف أي قرار لمجلس الوزراء لا يرضيان به، فاستمرت الخواطر ثائرة.

وسلكت وزارة توفيق إزاء مجلس شورى النواب مسلك العنت والإرهاق فاستصدرت من إسماعيل مرسومًا بانفضاضه بحجة انتهاء مدته، ولم تكن قد انتهت، فرفض المجلس الإذعان لهذا القرار وكتب النواب عريضة بذلك إلى الخديو إسماعيل.

(١١) الجمعية الوطنية؛ أبريل سنة ١٨٧٩

ولم يكتفوا بذلك بل تشاوروا فيما يجب عمله تجاه هذه الأزمة، وأشركوا معهم في التشاور العلماء وأصحاب الرأي والأعيان والتجار، واجتمعوا جميعًا بدار السيد علي البكري نقيب الأشراف، ثم في منزل إسماعيل راغب وزير المالية السابق ورئيس مجلس شورى النواب في أول إنشائه، وعقدوا بداره «جمعية وطنية»، واتفقوا على وضع بيان بما استقر عليه رأيهم، ويتضمن مشروع تسوية مالية يعارضون به المشروع الذي وضعه ريفرس ويلسن وزير المالية والذي كان أساسه جعل مصر في حالة عجز عن سداد ديونها، أي في حالة إفلاس، وجعلوا أساس مشروعهم اعتبار إيرادات الحكومة كافية للوفاء بمصروفاتها بما فيها أقساط الديون وذلك بكفالتهم، وتأليف وزارة وطنية، وتعديل نظام مجلس شورى النواب وتخويله السلطة المعترف بها للمجالس النيابية في أوروبا وتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمامه.

وقد وقَّع على بيان الجمعية الوطنية ستون من أعضاء مجلس شورى النواب، وستون من العلماء والهيئات الدينية، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام الإسرائيليين، و٤٢ من الأعيان، و٧٢ من الموظفين العاملين والمتقاعدين، و٩٣ من ضباط الجيش.

وقدَّم وفد من الأحرار «اللائحة الوطنية» كما سمَّوها إلى الخديو إسماعيل، فلم يرَ بدًّا من الاستجابة لمطالبهم، وعهد إلى محمد شريف تأليف الوزارة الجديدة، فألَّفها خالية من الوزيرين الأجنبيين، وبدا من خطاب إسماعيل إلى شريف أنه يقر اللائحة الوطنية، وقرر فيه مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس شورى النواب، وبذلك اكتملت سلطة هذا المجلس بتقرير هذا المبدأ الذي هو حجر الزاوية في النظام الدستوري.

ولكن الدول الأوروبية وقفت للوزارة الوطنية بالمرصاد وسعت جهدها في خلع إسماعيل، ووافقتها حكومة الآستانة على مؤامرتها وأعلنت خلعه في ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩.

وتولى توفيق مسند الخديوية، وكان أبرز عمل له أن أقصى شريف عن الوزارة وعطَّل الحياة النيابية زهاء سنتين حتى قامت الثورة العرابية.

١  عصر إسماعيل، ج٢، ص٩٦.
٢  تاريخ مصر المالي من عهد سعيد إلى سنة ١٨٧٦، لبابونو Paronot، ص١٨، ١٩.
٣  تاريخ مصر المالي من عهد سعيد إلى سنة ١٨٧٦، لبابونو Paronot، ص١٨، ١٩.
٤  كشف الستار عن أسرار مصر، لمدام أولمب إدوار Mme Olympe Edward، ص٤٩.
٥  رسائل عن مصر الحديثة، ص٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤