الفصل الخامس

(عين المنظر الثالث … السجن … «براكسا جورا» … و«الفيلسوف» و«هيرونيموس» جالسون مطرقين.)

هيرونيموس : أف! … الشهور تمضي ونحن في هذا المكان!
الفيلسوف : تمضي سراعًا كالأحلام!
هيرونيموس : أترى هذا؟!
الفيلسوف : كل شيء يمرُّ هنا سريعًا.
هيرونيموس : إنك عجيب! … إني أشعر كأني لبثت هنا دهورًا!
الفيلسوف : لأنك لست معتادًا حياة السجون!
هيرونيموس : وأنت؟
الفيلسوف : أنسيت أنك شرفتني بزيارتك يومًا ها هنا؟
هيرونيموس : نعم أذكر ذلك … ولكن … ماذا كانت تهمتك التي أدخلَتْكَ هذا السجن في ذلك الوقت؟
الفيلسوف : أنت أدرى بها.
هيرونيموس : لا أذكر!
الفيلسوف : ربما استطاعت «براكسا جورا» أن تذكِّرك.
هيرونيموس : دعها الآن فيما هي فيه … إنها كما ترى محطمة الأعصاب … ولها كل العذر … أكانت تتصور أن تلك المرأة تُقْدِم على صنع هذا الذي حدث!
الفيلسوف : هذا لا يدهشني!
براكسا (منفجرة) : كفى! … كفى! … هذا لا يدهشك … لأنه ما من شيء يدهشك … أما أنا فعقلي الضيق لا يستطيع أن يتصور مثل هذه الدناءة من امرأة كانت صديقتي وكاتمة سري.
الفيلسوف : لقد لمحتُ بصيصًا من نفاقها.
هيرونيموس : أغرب ما في الأمر هو تسلطها على «بلبروس» في مثل هذا الزمن القصير!
براكسا : ما عهدتُها يومًا أذكى مني!
الفيلسوف : و«كريميس»، مستشاره الآن! … أكان يومًا أعقل مني؟!
هيرونيموس : وذلك الحارس الواقف ببابه! … أكان يومًا أقدر مني؟!
براكسا : نحن الثلاثة الذين جعلوا منه ملكًا! … هذا هو مصيرنا!
الفيلسوف : أنتِ التي علَّمتِه أن عمله هو أن يعرف كيف يبتسم … فعرَف حقًّا كيف يبتسم سخريةً بنا!
هيرونيموس (لأبقراط) : وأنت الذي قلت عندما رأيته: وجدتها! … وجدتها! … تلك اليد السحرية التي سترقص عليها التفاحات الثلاث!
براكسا : التفاحات الثلاث! … يا لها من مهزلة! … ها هو ذا قد ألقى في السجن القذر بالتفاحات الثلاث الذهبية، واستعاض بها تفاحات ثلاثًا عفنة!
الفيلسوف : لقد اختار على قدر ذوقه.
هيرونيموس : كان ينبغي أن تتنبأ بذلك أيها الفيلسوف!
الفيلسوف : أعترف أني أخطأت!
براكسا : كان عليك أنت يا «أبقراط» أن تنبهنا … لقد عرفنا بعد فوات الأوان أن الأحمق لا يحلو له أن يعيش إلا مع الحمقى!
الفيلسوف : أذكر أني قلت أكثر من هذا، ونحن في هذا السجن أول مرة … قلت: إن الكف التي نرقص عليها نحن الثلاثة، يجب أن تكون كفَّ حاوٍ يفهمنا ويفهم أسرار صفاتنا!
هيرونيموس : لقد وضعتنا في كفِّ غبي!
براكسا : أجاد «أبقراط» في الكلام، وأخْفَقَ في التطبيق!
الفيلسوف : وأين لي بكفِّ الحاوي في كلِّ وقت؟… ألم أقل: إنها لحظات نادرة جدًّا تلك التي يظهر فيها حواة الإنسانية؟
هيرونيموس : دعنا الآن من الإنسانية! … حدثنا عن موقفنا الآن!
براكسا : موقفنا واضح … لقد وضعونا في السجن، من دون أن ندري لماذا دخلنا، وتركونا ولا نعلم متى سنخرج؟
هيرونيموس : هذا فظيع!
الفيلسوف : أليس كذلك؟
براكسا : كل ما أعلم هو أن تلك المرأة ترى أن من مصلحتها الآن إبعادَنا!
هيرونيموس : ومن مصلحة زميليها أيضًا.
براكسا : بالتأكيد … إنها مؤامرة دبَّرها الثلاثة ليخلو لهم الجو، ويستأثروا بتوجيه «بلبروس» إلى حيث يشاءون وتشاء أغراضهم.
هيرونيموس : إذن لا بد أن هناك تهمة رمَوْنا بها.
براكسا : بلا شك.
هيرونيموس : تهمة صدَّقها «بلبروس» من دون أن يواجهنا بها.
براكسا : بالطبع!
هيرونيموس : لا أذكر أني صنعت شيئًا يعارض مصالح «بلبروس» خلال المدة التي صاحبناه فيها. لقد نظمت له شئون الصلح العسكري الذي هادن به المقدونيين، كما أشرتما بذلك أنتِ و«أبقراط»، ثم نظمت له أمر الجزية التي سيدفعها لأعدائه كما اشترطوا!
براكسا : وأنا لا أذكر إلا أني عاونته دائمًا، وكنت أوصيه بسعة الصدر تجاه الشعب، حتى يحبه الشعب!
الفيلسوف : وأنا طبعًا لست بالذي يُغْضِب مثله بكلامي، لأنه لا يفهم مرمى كلامي!
هيرونيموس : ليس من الضروري أن تكون هناك جريمة معينة بالذات، حتى نوضع في السجن!
براكسا : ولكن لا بد أن يكون هناك دافع.
هيرونيموس : يكفي أن يكون الدافع وجود شبهة خطر على سلامة الدولة.
الفيلسوف : حقًّا … حقًّا … كنت قد نسيت هذا الدافع.
براكسا : هو الذي أدخلك وأدخلني ها هنا أول مرة!
الفيلسوف : وأدخل «هيرونيموس» نفسه معنا هذه المرة.
هيرونيموس : ولِمَ لا؟ … إنَّ المسئول عن الدولة يفعل كل شيء من أجل سلامتها!

(يُفتَح باب السجن، ويظهر السجَّان يحمل جرة ماء!)

السجَّان (وهو يضع الجرَّة على الأرض) : كنتم تتكلمون؟

(الجميع لا يجيبون.)

السجَّان : لماذا هذا الصمت؟… كنتم تتكلمون قبل أن أفتح هذا الباب؟!
براكسا : أسمعت ما كنا نقول؟
السجَّان : لم أسمع شيئًا … لماذا تلزمون دائمًا الصمت عندما أدخل؟
براكسا : لم نقصد ذلك!
السجَّان : ما من مرة حادثتموني في شيء، حتى ولا سؤال واحد ألقيتموه عليَّ … أغلب ظني أن القائد «هيرونيموس» هو الذي أوصى بالسكوت!
هيرونيموس : ماذا تعني؟
السجَّان : ربما حسبتَ أن الأمر يسيرُ الآن كما كان يسير في عهدك … إن الناس بدأت تتكلم … وما من أحد يلتفت إلى كلام الناس!
هيرونيموس : هذا عجيب … وماذا يقول الناس؟
السجَّان : كل ما يهمهم الآن.
هيرونيموس : وماذا يهمُّهم الآن؟
السجَّان : أن يقلدوا حاشية الملك «بلبروس» … أن يتسابقوا في الثراء السريع، على حساب الدولة؛ كما يفعل «كريميس» الآن!
هيرونيموس : على حساب الدولة؟
السجَّان : نعم … هذا عمل الملك «بلبروس» الآن، هو وحاشيته وأعوانهم والمقربين إليهم … الكل يسرق من مال الدولة … والشعب يسرق بعضه بعضًا، والثراء من أي طريق هو هدف الجميع!
براكسا : وكاتمة السر؟
السجَّان : جمعت كنزًا من الجواهر واللآلئ.
براكسا (من بين أسنانها) : المجرمة!
هيرونيموس : والشعب؟ … أهو راضٍ عن هذه الحالة؟
السجَّان : بالطبع لا.
براكسا : ولماذا لا يثور؟
السجَّان : لأنهم أفسدوه … أفسدوا قادته الذين في أيديهم زمامه … أفسدوهم بالرشوة!
الفيلسوف : والفلاسفة؟… ألا يتكلمون؟
السجَّان : ما من أحد يستمع الآن إلا إلى رنين الذهب.
هيرونيموس : ومصلحة الدولة؟… مجد الدولة؟
السجَّان : ما من أحد مسئول الآن عن مصلحة الدولة؟… الدولة تسير بمفردها … متروكة إلى مصيرها … كل ما فيها نَهْبٌ لمن يستطيع أن يسبق غيره إلى نهبها … بالحيلة، أو البراعة، أو التدليس.
هيرونيموس : يا للعجب! … أما من أحد مسئول الآن عن سلامة الدولة؟
السجَّان : من يكون؟… أهو «بلبروس»؟… وكلنا يعرفه؟! … غارقًا في عبثه ولهوه وحماقاته … أم أفراد الحاشية اللصوص؟… أم قادة الشعب المرتشون؟… أم الشعب الذي ركن إلى الاهتمام بسفاسف الأمور، وسخافات الملاهي العامة التي يشغلونه بها من حين إلى حين؟
هيرونيموس : أما من أحد يفكِّر الآن في سلامة الدولة؟
السجَّان : سلامتها؟… أبدًا!
هيرونيموس : ولماذا نحن هنا إذن؟
براكسا : نعم … لماذا وضعونا إذن في السجن؟
الفيلسوف : ما هو الدافع النبيل؟!
السجَّان : لا أدري بعدُ، ولكني سمعت أخيرًا أن هناك محكمة علنية ستحاكمكم أمام الشعب.
هيرونيموس : سيحاكموننا؟
السجَّان : والآن دعوني أذهب … وإذا علمت شيئًا جديدًا خاصًّا بكم، فإني سأبادر بإخباركم.
الجميع : شكرًا!

(السجان يخرج، ويغلق الباب.)

براكسا : يا للأنذال! … سيحاكموننا أمام الشعب؟!
الفيلسوف : لا ريب في أنها تهمة وطنية خطيرة!
هيرونيموس : أصبح الأمر الآن واضحًا، والتهمة معروفة!
براكسا : ماذا تعني؟
هيرونيموس : سيثيرون قضيةَ الهزيمة.
براكسا : بعد مرور كل هذا الوقت؟!
هيرونيموس : وما الذي يمنعهم؟!
براكسا : لقد نَسِيَ الناسُ أمرَها.
هيرونيموس : إنهم يريدون أن ينسى الناسُ أمرَهم هم، وأمرَ فضائحهم، فلا بدَّ من أن يشغلوا ذاكرة الناس بأخطاء الغير.
براكسا : إنك لم تخطئ يا «هيرونيموس»، ولكن الحظ هو الذي أخطأك … لقد أردت لبلدك نصرًا ومجدًا!
الفيلسوف : القائد مسئول عن حظه!
هيرونيموس : هذا صحيح … وكان يجب أن أدفع ثمن الخطأ الذي أوقعني فيه حظي … كان يجب أن أفعل ذلك في الوقت المناسب … ولكنكما حُلتما دون قيامي بواجبي!
براكسا : واجبك هو قيامك بمعاونة «بلبروس» في أول أمره … وليس ذنبك أنه كافأك على ذلك بالجحود!
هيرونيموس : هذا لا يغيِّر من الأمر شيئًا … سلوكه جدير به … وسلوكي يجب أن يكون جديرًا بي.
براكسا : لا أرى غبارًا على ما اخترنا لك من سبيل.
هيرونيموس : هذه هي نهاية السبيل قد بَدَتْ لأعيننا … محاكمة علنية سنساق إليها كما يُساق الخونة واللصوص!
براكسا : أهذا ذنبنا؟
هيرونيموس : نعم … ذنبي أني أصغيت إلى حُججِكِ وحجج فيلسوفك … ولم أصغِ إلى صوت واجبي … كان يجب أن أُنهي حياتي بحدِّ السيف … كان ذلك أكرم وأنبل!
الفيلسوف : إنك تفكِّر في نُبل مواقفك … ولا تفكر في موقف رجل مثلي، سينساق معك إلى تلك المحكمة … من دون أن يدرس ماذا أدخله في كل هذا؟!
هيرونيموس : اسكت! … لعنة الآلهة على سفسطتك! … أضعت عليَّ الفرصة … أين لي الآن بسيف؟!
براكسا : سيف؟!
هيرونيموس : نعم … لن أسمح لهؤلاء الأوغاد بأن يحاكموا مثلي، وأن يصوروني للشعب حاكمًا مجرمًا في حق وطنه، عاملًا عامدًا على اندحاره ودماره.
براكسا : الشعب يعرف نواياك الطيبة!
هيرونيموس : ولكنه سيسأل: لماذا لم يَمُتْ بموتِ آماله؟! … لماذا لم يدفع بحياته ثمن هزيمته؟!
براكسا : أتريد أن تثير موضوعًا فات أوانه؟
هيرونيموس : لا … لم يَفُتِ الأوان!
براكسا : ماذا تعني؟
هيرونيموس : يجب أن أواجه مصيري كما رسمته لنفسي، لا كما رسمتماه لي.
براكسا : أتريد أن تنتحر الآن؟
هيرونيموس : يجب!
براكسا : لا تستسلم للأوهام يا «هيرونيموس»!
هيرونيموس : لقد استسلمت لأوهامكما طويلًا … آن لي الآن أن أُفيق … (يلتفت حوله) بماذا أستطيع هنا أن أقتل نفسي؟!
براكسا : «هيرونيموس»! … لن تجد هنا سلاحًا؟
هيرونيموس (ينظر حوله) : إن الموت له ألف طريق غير السلاح.
براكسا : اهدأ يا «هيرونيموس»! … واطرد هذه الأفكار العتيقة … وواجه أعداءك بشجاعة!
هيرونيموس : أعرف ما سوف يصنع لي أعدائي … ولن أتيح لهم الظفر بي حيًّا.

(يرى «هيرونيموس» جرة الماء … فيقفز نحوها ليمسك بها.)

براكسا (تفطن إلى غرضه وتنهض نحوه) : «هيرونيموس»! … ماذا تريد أن تصنع بهذه الجرة!
الفيلسوف (في مكانه هادئًا) : يريد أن يحطمها ويستخدم عنقها نصلًا لعنقه!
براكسا : ويلاه! … لا تمَسَّ هذه الجرة! … لا تمسَّ هذه الجرة!
هيرونيموس (يدفعها عنه) : ابعدي عني أيتها المرأة! … إليكِ عنِّي … إليكِ عنِّي!
براكسا : لن أمكِّنك من الموت! … لن تفعل ذلك! … لن تفعل ذلك!

(تتعلَّق بذراعه تعلُّقًا شديدًا.)

هيرونيموس (يُبعدها عنه بعنف، فتقع على الأرض) : إليكِ عنِّي!

(يسرع إلى الجرة ويحاول أن يتناولها بينما تشده «براكسا» بكل قوَّتها وهي تزحف على الأرض.)

براكسا (صائحة) : إليَّ يا «أبقراط»! … انهض … ألا تفعل شيئًا؟! … امنعه! … ساعدني … امنعه!
الفيلسوف : أما كفاكما حشري فيما لا يعنيني!
براكسا (تشدُّ «هيرونيموس» وتتعلق به وتصيح) : إليَّ … النجدة … النجدة … أيها السجَّان! … أيها السجَّان!

(السجان يأتي مسرعًا ويفتح الباب ويمسك ﺑ «هيرونيموس» قبل أن يصل إلى الجرة.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤