الفصل السادس

(عين المنظر الأول … الساحة … وقد تجمَّع فيها الشعب على هيئة محكمة … وقد وقف «هيرونيموس» و«براكسا جورا» و«الفيلسوف» بين الحراس … بينما جلست في الصدر حاشية الملك «بلبروس».)

كريميس (ينهض) : يا أهل «أثينا»! … أنتم الآن أمام جريمة من أحط الجرائم، ارتكبها أشخاص كان لهم في النفوس كثير من الاحترام في يوم من الأيام! … أشخاص ظهروا أمامكم بمظهر الطهارة والنزاهة والإصلاح والبطولة … وهم في الحقيقة وصمة عار لنا جميعًا! … هؤلاء يجب أن نطهِّرَ أنفسنا منهم، وأن نُنزل بهم العقاب الذي يناسب جرمهم الشنيع.
الشعب (صائحًا) : العقاب للمجرمين! … العقاب للمجرمين!
كريميس : يا أهل «أثينا»! … إنكم لم تعرفوا بعدُ ما جريمتهم، وأنتم بما فُطرتم عليه من طيبة وبساطة وكرم نفس، لا يمكن أن تخطر ببالكم جسامة هذه الجريمة … فأرجو منكم أن تتذرعوا بضبط النفس وكظم الغيظ، قبل أن أُفضيَ إليكم بما اقترفوا من إثم.
الشعب (صائحًا) : العقاب للمجرمين! … العقاب للمجرمين!
كريميس : يا أهل «أثينا»! … إنَّ تعطشكم للعدالة سيُروَى حالًا … سيأخذ العدل مجراه، وسيعاقَب المجرمون؛ لتعرفوا أن كل شيء الآن بخير … وأن في «أثينا» اليوم عدلًا!
الشعب (صائحًا) : فليجرِ العدل! … فلينزل العقاب!
هيرونيموس : يا «كريميس»! … ما دُمْتَ قد ذكرت العدل، فمن العدل قبل أن تثير علينا الشعب، أن تسمح لي بكلمة … إني أعرف الجريمة التي ستتهمني بها.
كريميس : ألم تقترف هذه الجريمة؟
هيرونيموس : لم أقترف أيَّ جريمة ضدَّ وطني.
كريميس : وما شأن الوطن هنا؟!
هيرونيموس : الوطن يشهد بأني ما أردت إلا انتصاره … وما ذهبت قطعة واحدة من الذهب إلا في سبيل مجده … وأقسم ﺑ «زيوس»!
كريميس : لا تخرج عن الموضوع! … ما من أحد يتحدث الآن عن الوطن ومجده … نحن نتحدث عن جريمتك ضد الملك «بلبروس»!
هيرونيموس : ضد الملك «بلبروس»؟!
كريميس : نعم … جريمة الزنا!
هيرونيموس : الزنا؟
كريميس : ألم ترتكب جريمة الزنا مع «براكسا جورا» زوجة الملك «بلبروس»؟!
هيرونيموس : أهذه هي الجريمة التي تحاكمونني من أجلها؟!
كريميس : وهل هناك أفظع من هذه الجريمة؟! … هل هناك أخطر من هذه الجريمة؟! … هل هناك أشنع من هذه الجريمة؟! … ملكنا الطيب «بلبروس» تُصيِّره أضحوكة؟… تُصيِّره مضغةً في الأفواه؟! … انظر إلى هذا الشعب المسكين! … إن كل آلامه وبؤسه وسخطه وشقائه منبعها هذه الفكرة؛ أن ملكه مخدوع؛ خَدَعتْه زوجتُه مع رجل آخر! … إن الشعب يتألم لملكه المخدوع … أنت مصدر آلام الشعب يا «هيرونيموس»! … أليس هذا صحيحًا أيها الشعب؟!
الشعب (صائحًا) : صحيح … صحيح.
كريميس : أرأيت ضخامة الجريمة؟!
هيرونيموس : يا لبراعتك يا «كريميس»! … ويا لنذالتك!
كريميس : أجبْ بنعم أو بلا … هل ارتكبت الجريمة؟
هيرونيموس : لا!
كريميس : الكلام لك يا «براكسا جورا» … ماذا تقولين؟
براكسا : أقول إنك وغد!
كريميس : هذا خارج عن الموضوع … أجيبي بنعم أو بلا؟… هل خدعت زوجك؟
براكسا : لا!
كريميس : الكلام لك أيها الفيلسوف! … ماذا تقول؟
الفيلسوف : أقول أولًا ما دخلي أنا في هذه القضية؟ … المعروف في قضية الزنا أنها تتألف من ثلاثة أشخاص الزوج والزوجة والعشيق … وأنا لست الزوج ولا الزوجة ولا العشيق!
الشعب (يضحك صائحًا) : صحيح! … صحيح!
كريميس : هذا صحيح! … ولكن المعروف أنك كنت صديقًا ومستشارًا للزوجة والعشيق … وكنت مُطَّلِعًا على أسرارهما … وأنت صاحب عقل راجح … وكان في إمكانك إسداء النصيحة لهما … ولكنك سكتَّ! … والسكوت على جريمة مشارَكةٌ فيها.
الشعب (صائحًا) : معقول! … معقول!
كريميس : أرأيت يا «أبقراط»؟… الشعب يعتبرك شريكًا.
الفيلسوف : شريكًا لمن؟… للزوجة أو العشيق؟
كريميس : لكليهما!
الفيلسوف : ولماذا تنسى الطرف الثالث؟… فلنضف الزوج أيضًا بالمرة! … حتى أكون شريك الجميع … شريك الزوجة في خيانتها للزوج، وشريك العشيق في الزنا بالزوجة، وشريك الزوج في غفلته عما يُصنع في الخفاء!
كريميس : لهذا كانت مسئوليتك كبيرة!
الفيلسوف : هذا لا يدهشني … لم يَعُدْ شيء يدهشني.
كريميس : مسئوليتك كبيرة؛ لأنك كنت واقفًا في مفترق طرق ثلاث، وكنت ترى ما يحدث في كل طريق، وكان في قدرتك أن تمنع السير الخطر!
الفيلسوف : حقًّا … للأسف! … أرى دائمًا ما يحدث في كل طريق … ولكن كيف أستطيع أن أمنع السير الخطر؟!
كريميس : نبِّه الغافلين والخاطئين! … هذا عملك أيها الفيلسوف!
الفيلسوف : فعلتُ؛ فوضعوني في السجن!
كريميس : متى فعلت؟
الفيلسوف : دائمًا!
كريميس : هل أخبرت الملك «بلبروس» بأن زوجته تخونه، وأن شرفه في خطر؟
الفيلسوف : تلك مسألة أخرى.
كريميس : هذه هي قضيتنا اليوم … لا تخرج عن الموضوع أنت أيضًا … أجب بنعم أو بلا؟… هل أخبرت «بلبروس»؟
الفيلسوف : شرف «بلبروس» لا يهمني شخصيًّا.
كريميس : ماذا تقول؟… أنت إذن معترف.
الفيلسوف : معترف بماذا؟
كريميس : بأنك كنت تعرف الحقيقة، وأخفيتها عن «بلبروس».
الفيلسوف : لم أقل إني أعرِف الحقيقة، وما قلت يومًا إني عرَفت الحقيقة! … إني أعرِّف الناس بأن الحقيقة لا يمكن أن تُعرف … إن مهمتي هي أن أبحث عن الحقيقة لا أن أجدها!
كريميس : أتنكر أنك كنت تعرف كل الحقيقة عن محنة «بلبروس» الزوجية؟
الفيلسوف : إن مجال بحثي وتفكيري بعيد كل البعد عن «بلبروس» وشئونه الزوجية.
كريميس : نريد إجابة واضحة صريحة … هل تعتقد أن «بلبروس» زوج مخدوع؟
الفيلسوف : وهو نفسه… هل يعتقد ذلك؟
كريميس : بالطبع! … يعتقد ذلك!
الفيلسوف : منذ متى تقريبًا؟
كريميس : لا ندري.
الفيلسوف : اسألوه هذا السؤال!
كريميس : نحن نسألك أنت!
الفيلسوف : أنا لا أدري … إنَّ الجواب يَنْبُت عادةً في رأس الزوج!

(ويشير بإصبعه إلى أعلى جبهته.)

الشعب (يضحك) : معقول! … معقول!
كريميس (صائحًا) : سكوتًا! … سكوتًا! … يا أهل أثينا! … إن هؤلاء المجرمين يكذبون، ولا بد لهم من أن يكذبوا هربًا من جريمتهم الخطيرة، ولكن البراهين الدامغة في أيدينا؛ وهي كفيلة بأن تُظهر إثمهم جليًّا، لا يحتمل الشك! … إليكم الآن قول صديقتها، وموضع ثقتها، والمطَّلعة على دفين إحساسها … انهضي يا كاتمة السر! … يا مَن لَزِمْتِها لزوم ظلها … قولي لنا ما تعرفين عن هذه المرأة!
كاتمة السر (تقف) : إني أعرف «براكسا جورا» منذ كنت جارتها … لم يكن زوجها المسكين مطمئنًّا … كان يأسف لزواجه من شابة مدللة في سنها، وكانت الهواجس والظنون تلعب به، وكانت هي كثيرة التعالي على زوجها، شديدة الاستخفاف به، إلى أن أتاحت لها الظروف أن تصل إلى الحكم، وتعرف القائد الشاب «هيرونيموس»! … منذ ذلك الوقت ظهرت عليها علامات الولع به، فما كانت تسمع بمَقدَمه حتى تبحث عن مرآتها … وما كانت فرصة تسنح حتى تسعى إلى الاختلاء به … إلى أن اتَّضح الأمر لنا جميعًا، ولم يَبْقَ سرًّا ما بينهما من علاقات أبعد ما تكون عن البراءة والطهر.
كريميس : تعتقدين إذن أنها عشيقة «هيرونيموس»؟
كاتمة السر : لا شكَّ عندي في ذلك!
كريميس : وأنها خانت زوجها «بلبروس»؟
كاتمة السر : لا شكَّ عندي في أنها تخونه!
الفيلسوف : منذ متى؟… تقريبًا… أيتها الشاهدة المحترمة!
كاتمة السر : منذ أن عرفَتْه!
الفيلسوف : منذ أن كانت في الحكم وكنتِ كاتمةَ سرها؟
كاتمة السر : بالضبط!
الفيلسوف : هل أسديتِ لها النصح؟
كاتمة السر : لم أرَ فائدةً من نصحها!
الفيلسوف : هل فعلتِ؟… قولي نعم أو لا!
كاتمة السر : لا!
الفيلسوف : ما الذي منعك؟
كاتمة السر : الصداقة!
براكسا (صائحة) : بل النفاق!
كريميس (صائحًا) : صه! … صه! … ما من أحد له حق لومها؛ فليس من شأنها أن تتدخل فيما لا يعنيها!
الفيلسوف : أصبت … هذا من شأني أنا وحدي!
كريميس : اسكت يا «أبقراط»! … نحن الآن في تهمة «براكسا جورا» … لقد سمحنا لك الآن بالكلام تساهلًا وكرمًا، وما كان ينبغي لك أن تقاطع وتفسد مجرى المحاكمة العادلة.
الفيلسوف : حسنًا … سِرْ في المحاكمة العادلة!
كريميس : لا يهمنا الوقت الذي حدثت فيه الجريمة … المهم أن الخيانة حصلت، وأن الشاهدة رأت ذلك بعينيها!
براكسا : رأت ماذا بعينيها؟
كريميس : رأت خيانتَكِ لزوجك.
براكسا : أتستطيع أن تفتري هذه الفرية؟… هذا الإفك … هذا الزور! … هذا البهتان!
كريميس : ليس هذا فرية ولا إفكًا ولا زورًا … تلك حقيقة!
براكسا : أتستطيع أن تقسم أنها رأت شيئًا بعينيها؟
كريميس (لكاتمة السر) : تكلَّمي! … رُدِّي عليها!
كاتمة السر : ليس من الضروري أن نرى الحقائق بالعين … إن من الحقائق ما يُرى بالبداهة!
براكسا : ماذا رأيت بالبداهة؟
كاتمة السر : عندما تختلي امرأة برجل تحبه، ماذا يمكن أن يحدث بينهما في تلك الخلوة؟!
كريميس : حقًّا … لا لزوم للعين هنا … تكفي بصيرة العقل … وما نفع العقل إذن إذا لم يَرَ هنا النتيجة المحتومة؟!
الفيلسوف : لا تحتكم إلى العقل يا «كريميس» فهو قاضٍ خطر!
براكسا : دَعْهُ يا «أبقراط» … إني راضية بحكم العقل!
كريميس : وأنا أيضًا!
براكسا : ما دُمْنا نحتكم إلى العقل، إذن أجب عن هذا السؤال: لماذا سكتت كاتمة سري في الماضي وتكلمت اليوم؟
كريميس : تكلمت في الوقت المناسب!
براكسا : هذا صحيح! … في الوقت المناسب لها ولك!
كريميس : ماذا تقصدين؟
براكسا : الأمر واضح … إنها تكلمت اليوم لتبعدني وتحل محلي عند الملك «بلبروس»! وقد نجحت … نجحت، لأنها استطاعت بمقدرتها في النفاق أن تتملقه، وتعالج إحساسه بانتقاصي … وقد أَنِسَ إليها وأحبَّها أخيرًا بِقَدْرِ ما كرهني؛ لأن وجودي يُشعره بقصوره، أما قُربها فيوقظ فيه غروره … وما دمت يا «كريميس» ترى النتيجة المحتومة للخلوة بين رجل وامرأة هي الخيانة، فأنت تعلم كل العلم كم تختلي الآن كاتمة السر بزوجي؟!
كريميس : ماذا تعنين بهذا؟
براكسا : أعني أن هذه المرأة هي اليوم عشيقة الملك «بلبروس»!
كاتمة السر (صائحة) : كيف تَجسُرين؟
براكسا : كما جَسَرتِ أنتِ!
كريميس (صائحًا) : سكوتًا! … سكوتًا! … إن إلقاء التهم جزافًا ليس من حقكِ يا «براكسا جورا»!
براكسا : ولماذا هو من حقكم أنتم؟!
كريميس : لأن في أيدينا الدليل!
براكسا : أليس هو العقل؟! … البداهة!
كريميس : بلى، بالطبع!
براكسا : في يدي أيضًا نفس الدليل!
كريميس : لا!
براكسا : تكلم يا «أبقراط»! … أيمكن أن يكون للعقل وجهان ولسانان؟!
الفيلسوف : له أكثر من ذلك … وهذا لشقاء الدنيا أو لخيرها … لست أدري!
كريميس : نحن نتَّهمكِ يا «براكسا جورا» بما كان يعلمه الشعب ويتهامس به … أليس كذلك أيها الشعب؟
الشعب (صائحًا) : بلى! … بلى!
كريميس : أرأيتِ يا «براكسا جورا»؟! … هذا هو الشعب قد حكم، ويجب أن تنزلي على حكمه!
براكسا : وأنا أعتقد أن الشعب يعلم أيضًا ويتهامس بالعلاقة التي بين الملك «بلبروس» اليوم وكاتمة سره … أليس هذا صحيحًا أيها الشعب؟!
الشعب (صائحًا) : بلى، إنه صحيح! … صحيح!
براكسا (تبتسم ظافرة) : أرأيت؟!
كريميس (صائحًا) : سكوتًا! … سكوتًا! … إن الشعب لا يعلم إلا ما تنقله إليه الإشاعات … ولكنه لا يحيط أبدًا ببواطن الأمور … ولكني سأكشف له عن الحقيقة، وأجعلها هي التي تتكلم.
الفيلسوف : يا للأحمق الذي يريد أن يفتح فمَ الوحش بيديه القذرتين!
كريميس : أَغْلِقْ أنت فمَك القذر أيها الفيلسوف!
الفيلسوف : حسنًا … فلنصغِ إليك أنت … هاتِ ما عندك!
كريميس : يا «هيرونيموس»! … إنك جندي، تقدِّس شرفَ الجندية … أتستطيع أن تقسم بشرفك العسكري أنك لم تَضُمَّ «براكسا جورا» يومًا بين ذراعيك؟! … وأنك لم تجعل من الملك «بلبروس» زوجًا مخدوعًا!
هيرونيموس : لا حاجة إلى قسم … إني معترف بأن في «أثينا» اليوم شخصًا مخدوعًا؟!
كريميس : هو «بلبروس»؟
هيرونيموس : بل هو الشعب!
كريميس : ماذا تقول؟
هيرونيموس (صائحًا) : أقول إن هذا الشعب هو وحده المخدوع اليوم … يا أهل «أثينا»! … ابحثوا في رءوسكم قليلًا تجدوا الإجابة … فكروا لحظة يتَّضح لكم أنهم يخدعونكم ويسرقونكم … إنهم يريدون أن يشغلوكم بقضية صغيرة تافهة لا تعنيكم حتى لا تفطنوا إلى قضية كبرى تَمَسُّ حقوقَكم ومصالحَكم … آن الأوان كي تتنبهوا … آن الأوان كي تلتفتوا إلى الأيدي التي تعبث بجيوبكم في الظلام!
الشعب (صائحًا) : مَن هم؟… مَن هم؟
كريميس : سكوتًا! … سكوتًا! … لا تُصغوا إلى هذا الهراء! … «هيرونيموس» يريد أن يهرُب من تهمته … ليُفلت من العقاب!
هيرونيموس : بل أنت وعصابتك … تريدون الهرب من عقاب الشعب!
كريميس (للحراس) : اذهبوا به إلى السجن!
هيرونيموس (صائحًا) : أرأيتم يا أهل «أثينا»؟! … إنه خائف … إنه يمنعني من عرض قضيتكم … إنها قضيتكم … إنها قضيتكم.
الشعب (صائحًا) : اتركه يا «كريميس» اتركه … اتركه!
كريميس (يشير إلى الحراس بالوقوف به) : صدقتموه؟… لقد استطاع أن يضللكم!
هيرونيموس : بل استطعت أن أنبِّهَهم إلى القضية الحقيقية!
كريميس : ألا تريد أيها الشعب أن تنظر في قضيته هو؟!
هيرونيموس : بل قضيتكم أنتم أولًا يا أهل «أثينا»!
الشعب (صائحًا) : قضيتنا! … قضيتنا!
هيرونيموس : أحسنت أيها الشعب! … أحسنت!
كريميس (من بين أسنانه) : فليكن! … ما دمت تريد ذلك يا «هيرونيموس» فاسمع إذن … لقد كنت حاكمًا مطلقًا على «أثينا»! … فماذا صنعت لأهلها؟… سَلَبْتَهم حرياتِهم وأموالَهم وأغذيتَهم وأبناءهم، وألقيت بكل هذا في حرب تدعم بها مُلكك وتبني بها — فيما زعمت — مجدك!
هيرونيموس : بل مجد الدولة!
كريميس : على حساب كل فرد منكم أيها الشعب!
براكسا : الشعب أدرَى منك يا «كريميس» بِمَنْ أخذ منه ومن أعطى له!
كريميس : أنتِ يا «براكسا جورا» التي تقول هذا؟… أتظنين أنكِ أعطيتِ الشعب شيئًا؟
براكسا : لم أسلبه شيئًا على الأقل!
كريميس : ولم تعطيه شيئًا؟!
براكسا : أعطيته حرياته، وهذا ليس بالشيء القليل!
كريميس : حرياته في تقديم مطالب يناقض بعضها بعضًا، ومنح وعود يصادم بعضها البعض!
هيرونيموس : و«بلبروس» وحاشيته؟… ماذا صنعوا؟ … حدثنا عما تمَّ في عهد الملك «بلبروس»؟
كريميس : كل خير … لم ندفع به إلى الحروب!
هيرونيموس : ودفعتم به إلى الانحلال!
كريميس (مستمرًّا) : وتركنا له حرياته!
براكسا : وأخذتم منه نقوده!
كريميس : إن الشعب لم يرفع صوته بالشكوى من حكمنا.
هيرونيموس : لأنه غارق في النوم … سائر في طريق الموت.
كريميس : إنك تهينُ الشعبَ … إنَّ الشعب يَقِظ، عارفٌ ما يريد، وهو يحب الملك «بلبروس» وحكمه!
هيرونيموس : يا شعب «أثينا»! … أتسمع ما يقول «كريميس»؟! … إنك تعرف مَن هو «كريميس» وكيف كان فيما مضى … وماذا كان يملك من قبل؟… كلكم رأى في الطرقات «كريميس» الفقير … كما رأيتم «بلبروس» الذي ما كان يملك غير ثوب واحد … والآن انظروا إلى الذهب يُوَشِّي ثوب «كريميس» الفاخر، والقصور التي يقتنيها، والعبيد الذين يخدمونه، والأموال التي يختزنها في سراديبه … وإنكم لتعرفون ثروة الملك «بلبروس» الآن وتشاهدون ترفه ولهوه وولائمه؛ كما تسمعون عن كنوز كاتمة سِرِّه وحليها وجواهرها ولآلئها … ألم تسائلوا أنفسكم يا أهل «أثينا» لماذا تثري هذه العصبة كل هذا الإثراء، والكثيرون منكم فقراء؟… ألم تسألوا أنفسكم من أين خرجت هذه الأموال الهائلة التي اكتنزها الملك «بلبروس» وحاشيته في هذا الزمن القصير؟… ألم تفطنوا إلى أنها من دمكم أنتم من دون أن تشعروا … نعم من دون أن تشعروا؛ لأنهم كانوا مهرة فلم يَصخَبوا أو يَعنُفوا، بل وخزوا جلودكم بإبرة، ثم جعلوا يمتصون دماءكم في صمت، إلى أن خدَّروكم ورَشَوا زعماءكم؛ وغمروكم في هذا الخمول الذي تعيشون فيه الآن … ثم بعد ذلك قالوا إن سكوتكم نتيجة للرضا بحكمهم، وإن زئيرَ شكواكم الخافتة همسُ حبٍّ للملك «بلبروس» … هذا هو حالكم يا أهل «أثينا» … فهل أنتم راضون؟
الشعب (صائحًا) : لا… لا… لا.
هيرونيموس : أسمعت يا «كريميس»؟
كريميس : أحقًّا أيها الشعب هذا الذي يزعم «هيرونيموس»؟!
الشعب (صائحًا) : نعم … نعم … نعم.
كريميس : سكوتًا! … سكوتًا! … إن «هيرونيموس» ثائر ضد ملِكه … وهو يحاول الآن أن يُشعل فيكم الثورة! … أيها الحراس قودوا هذا الرجل إلى السجن!
هيرونيموس : حاذرْ يا «كريميس»! حاذرْ! … إن الشعب قد تيقَّظ، وهو يريد منِّي أن أتكلَّم … أليس كذلك أيها الشعب؟
الشعب (صائحًا) : اترك «هيرونيموس»! … تكلم يا «هيرونيموس»!

(«كريميس» يشير إلى الحراس بالوقوف.)

هيرونيموس : إنهم قد زجُّوا بنا في السجن … أتدرون لماذا يا أهل أثينا؟… لأنهم يعلمون أننا ما كنا نمكِّنهم من سرقتكم أو نقبل أن نشاركهم في هذا الفساد!
براكسا (صائحةً) : إنهم أرادوا أن يلطخوا شرفنا قبل أن نكشف لكم ما هم فيه من أقذار … إنهم يظنون أنكم ستجهلون دائمًا، أو ترضون دائمًا بأن تحكمكم عصابة من اللصوص؟
كريميس (صائحًا) : كفى! … كفى!
الشعب (صائحًا) : دعها! … دعها! … فليسقط اللصوص! … فليسقط اللصوص!
الفيلسوف : اسمح لي أيها الشعب بكلمة، فقد آن لي أن أتكلم … لقد قيل منذ لحظة: إني أقف دائمًا في مفترق طرق، وأرى ما يحدث في كل طريق … هذا صحيح، وإني في إمكاني أن أمنع السير الخطر! … هذا غير صحيح، على الأقل حتى الآن … فأنا لا أستطيع شيئًا غير الكلام، وقد تكلمتُ دائمًا وأبديتُ رأيي وأغضبتُ السائرين في كل طريق، وسأغضبهم الآن مرة أخرى … ذلك أني ما لمحت الشعب يومًا يسير في طريق من هذه الطرق، ولكني رأيت أشخاصًا يتكلمون عنه، ألا تستطيع أيها الشعب أن تمشي في طريق من الطرق بنفسك؟… أين أنت إذن؟… وماذا تفعل إذن؟… تجلس دائمًا هكذا؟… تشاهد وتصغي وتصيح؟… لك العذر أن تفعل ذلك عندما يقوم أمامك حاوٍ من الحواة المهرة … ولكن عندما يُقفِر الميدان من الحواة الذين يلعبون بالتفاحات الذهبية، ولا يبقى غير الدجالين والنشَّالين، فما حكمة جلوسك؟! … ماذا تنتظر؟… وماذا تشاهد؟… لماذا لا تنهض أنت بنفسك، وتنزل إلى الميدان وتعمل؟! … هل فهمت ماذا أريد أن أقول؟
الشعب (صائحًا) : لا!
الفيلسوف : أريد أن أقول: احكم أنت! … لا طائفة منك لمصلحة طائفة، ولا طبقة لمصلحة طبقة، ولا فرد لمصلحة جماعة، ولا جماعة لمصلحة فرد، ولكنك أنت كلك في جسم واحد وروح واحدة … الواحد للكل … والكل للواحد … احكم نفسك بنفسك أيها الشعب: لمصلحة نفسك! … هل فهمت الآن؟
الشعب (صائحًا) : نعم … فليحيَ حكم الشعب!
كريميس (صائحًا) : سكوتًا! … سكوتًا! … إنك تحرض على قلب الحكومة يا «أبقراط»! … وأنت تعرف عقاب هذه الجريمة … لو وقعت فتنة فأنت شريك فيها!
الفيلسوف : هذا على الأقل خير من أكون شريكًا في الجريمة الأخرى!
كريميس (صائحًا) : أيها الحراس!
الفيلسوف : مهلًا! … لا تَعنُف يا «كريميس»! … إذا أردت ألا يكون هذا المكان مقبرتك!
الشعب (صائحًا) : فليسقط «كريميس» اللص! … الحكم للشعب!
الفيلسوف : أحسنتم يا أهل «أثينا»! … الحكم لكم … ولا تخشَوا شيئًا! … فما دام الحكم قد استطاع أن يقع في أيدي الحمقى من أمثال «بلبروس»، فما يَضيركم أن يكون في أيديكم أيضًا! إنكم لن تكونوا أكثر حمقًا منه، وقد يأتي حكمكم بالأعاجيب، وقد لا يأتي بشيء جديد … إن الحكم ليس سهلًا … إنه أعقد مشكلة … جربوا على كل حال … فلنجرب هذا أيضًا … قد لا تحلون مشكلة الحكم نهائيًّا، لكن يكفي هنا أن الحكم في أيدي أصحابه … يكفي أنكم تفعلون بأنفسكم ما تريدون … لا أن تتركوا غيركم يصنع بكم ما يريد … هلموا بنا الآن جميعًا إلى قصر الدولة … إلى حيث يجلس الملك «بلبروس» منتفخًا في ذهبه فوق عرشه … اذهبوا واسألوه: ماذا يصنع هناك؟… اسألوه: فيمَ يفكر؟… اسألوه كيف يقضي يومه؟… اسألوه ماذا سيفعل غدًا؟… لن تجدوا في كل إجاباته ما يدل على أنكم خطرتم على باله لحظة … هلمُّوا إلى قصر الدولة … هيا بنا! … هيا بنا جميعًا ننظر إلى الرجل الذي يحكم باسمكم!
الشعب (صائحًا متحركًا) : إلى قصر الدولة! … إلى «بلبروس» الأحمق! … فليسقط الحمقى واللصوص! … فليحيَ حكم الشعب! … فليحيَ حكم الشعب!

(يندفع الشعب ويجرف الحراس أمامه كأنه البحر الثائر.)

كريميس (صائحًا وسط أفواج الشعب) : النجدة! … النجدة يا «أبقراط»! … أنقذني أيها الفيلسوف!
الفيلسوف : لم أَعُدْ فيلسوفًا … إني في صميم المعمعة!
هيرونيموس (صائحًا) : ونحن يا «أبقراط»؟
براكسا (صائحةً) : فكِّر فينا قليلًا!
الفيلسوف : إني لم أَعُدْ أفكر … إني أعمل … ما أعجب العمل! … حتى ولو بغير تفكير! … (صائحًا): إلى القصر! … فليحيَ الشعب!
الشعب (صائحًا وهو يتحرك) : إلى القصر! … فليحيَ الشعب!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤