المقدمة

منذ عودتي من أوروبا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن نُدخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية؛ وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومنهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج وأفعلها في النفس، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه «تفسير النصوص»، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكُتَّاب وتفسيرها والتعليق عليها، وفي أثناء ذلك يتناول الأساتذة النظريات العامة والمبادئ الأدبية واللغوية بالعرض، عرضًا تطبيقيًّا تؤيده النصوص التي يشرحونها. والجامعات الفرنسية لا تُلقى بها محاضرات ولا دروس عن العلوم النظرية التي تتصل بالأدب، فلا نحو ولا بلاغة ولا نقد، بل ولا تاريخ أدب فرنسي، وإنما يعالج كل ذلك أثناء شرح النصوص، ومن هنا قلَّما نجد في اللغة الفرنسية كُتَّابًا في النقد الأدبي النظري على نحو ما نجد في اللغة الإنجليزية مثلًا.

هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي، وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة، فحرصت على بسط النظريات العامة خلال التطبيق، كما اعتمدت على الموازنات لإيضاح الفروق التي لا تزال قائمة بين أدبنا وأدب الغرب. وهذا ما أرجو أن يجده القارئ في الجزء الخاص بالأدب المصري المعاصر من هذا الكتاب؛ حيث لم أكتفِ بنقد روايات أو دواوين الحكيم وبشر فارس وعلي محمود طه ومحمود تيمور وطه حسين، بل عالجت في كل حديثٍ مسألةً عامةً كالأساطير واتخاذها مادةً للشعر أو القصص، وفن الأسلوب والأدب الواقعي ومشاكلة الواقع في القصة … وما إلى ذلك. وفي كل حديث قدَّرت ما نفعله وما يفعله الأوروبيون في غير مجاملة ولا تحامل.

ولقد أثارت تلك المقالات ردودًا وأحاديث، وأحسست أننا سننزلق إلى المناقشات العامة التي يصعب تحديدها في مجال الأدب، فلم أرَ بُدًّا من أن أوضح اتجاهي العام بنقد بعض النصوص نقدًا موضعيًّا أحاول أن أضع فيه يد القارئ على ما أحس من مواضع الجمال والقبح. ووقع اختياري على بعضٍ من قصائد وكتابات لأدباء المهجر، وأحسست في أدبهم من الصدق والألفة ما وقع في نفسي موقع الأسرار التي يتهامس بها الناس. وأكبر الظن أن الكذب في التهامس أقل بكثير منه في الجهر؛ ولربما كانت هذه الحقيقة النفسية هي السبب الأول في تسميتي لهذا الأدب بالمهموس. ولقد تساءل نفر من الأدباء عن سر إعجابي بهذا الأدب وافترضوا الفروض التي قد يقبل الذوق الأخلاقي السليم بعضها، بينما يأبى البعضَ الآخر. ولقد سجلت بعضًا من أصداء هذه المناقشات في ذلك الجزء من الكتاب؛ وذلك لما نفثت فيها من حرارة الإيمان، ثم لأنها تتمم آرائي وتوضحها بما تعالج من مسائل عامة.

وفي أثناء دراستي لتلك النصوص التي تحدثت عنها وعن غيرها مما تناولت — بحكم عملي في الجامعة كمدرس للأدب — أخذ يتكون في نفسي منهج عام للنقد. ولقد ركزت هذا المنهج في جزأين من هذا الكتاب يجدهما القارئ في الفهرست تحت عنواني: «مناهج النقد: تطبيقها على أبي العلاء»، «المعرفة والنقد: المنهج الفقهي». وباستطاعة القارئ أن يلاحظ أنه منهج ذوقي تأثري، وذلك على تحديدٍ لمعاني تلك الألفاظ، فالذوق ليس معناه النزوات التحكمية، وجانب كبير منه، كما وضحت في مقالي عن الأدب ومناهج النقد، ما هو إلا رواسب عقلية وشعورية نستطيع إبرازها إلى الضوء وتعليلها، وبذلك يصبح الذوق وسيلة مشروعة من وسائل المعرفة التي تصح لدى الغير، وإن كنت لا أنكر أنه سبقني إلى تقرير ذلك كبار نُقَّاد العرب أنفسهم كالآمدي والجرجاني على نحو ما يرى القارئ في مقالاتي عن المعرفة والنقد. ثم إنني وإن كنت أومن بأنه ليست هناك معرفة تغني عن الذوق التأثري، إلا أنني مع ذلك أحرص على أن يكون الذوق مستنيرًا. وفي هذا المجال — مجال الاستنارة — أميز بين نوعين من المعرفة: فهناك المعرفة الأدبية اللغوية وهذه هي الأساس، فقراءة مؤلفات كبار الشعراء والكُتَّاب هي السبيل إلى تكوين ملكة الأدب في النفوس، وليست هناك سبيل غيرها، وذلك على أن تكون قراءة درس وفهم وتذوق، وأما ما دون ذلك من أنواع المعرفة كالدراسات النفسية والاجتماعية والأخلاقية والتاريخية وما إليها، فهي وإن كانت عظيمة الفائدة في تثقيف الأديب ثقافةً عامة وتوسيع آفاقه، إلا أنني لا أريد أن تطغى على دراستنا للأدب كفن لغوي.

وأنا مؤمن بأنه من الواجب أن يستقل الأدب بمنهجه عن غيره من العلوم، وأنه من الخطر أن يطبق عليه منهج أي علم آخر، أو أن يأخذ بالنظريات الشكلية التي يقول بها العلماء في الميادين الأخرى.

ولقد حرصت على أن أورد في الجزأين الآخرين من الكتاب أمثلةً لنوعين دقيقين من المعرفة التي تسبق النقد؛ وهما: «أصول النشر» و«أوزان الشعر»، فمن واجب المشتغل بالآداب أن يحيط علمًا بأمثال هذه المسائل؛ وذلك لأنه إذا كانت دراسة الأدب في نهاية الأمر هي تذوق النصوص فإنه لا غنى لمن يريد ذلك التذوق من أن يتأكد أولًا من صحة النص الذي أمامه ومن استقامة وزنه وكيفية تلك الاستقامة إن كان شعرًا.

ولقد نظرت في هذا الكتاب عندما انتهيت منه فأحسست أن فيه ما يكفي القارئ الذي يمعن النظر ليخرج منه بالأصول العامة للأدب ودراسته، ولقد كان في هذا ما شجعني على أن أعود إلى هذه المقالات أعيد قراءتها وتنقيحها والإضافة إليها، وفقًا لما تمخضت عنه تجاربي أثناء السنوات الخمس التي قضيتها بمصر، ولقد كانت تلك التغيرات أكثر ما تكون في أقدم المقالات.

ثم إن هناك مسألةً نفسية دفعتني أيضًا إلى نشر هذا الكتاب، وهي أن قارئ المجلة غير قارئ الكتاب، فما أظن الأول يتناول ما يقرأ بالجِد والصبر الذي يصطنعهما الثاني. ولقد كنت مضطرًّا عندما نشرت معظم هذه الأحاديث ﺑ «الثقافة» و«الرسالة» إلى أن أركز ما أريد قوله حتى أفرغ منه في حدود المقال.

ولهذا سيرى القارئ مشاكل كثيرة عرضت لها جامعًا أطرافها في جملة أو بعض جمل، ولي كبير الأمل في أن يقف عندها.

محمد مندور

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤