حول أصول النشر

كتاب «قوانين الدواوين» للأسعد بن مَمَّاتِي

منذ سنين اعتدت أن أسمع من الدكتور عزيز سوريال عطية — أستاذ تاريخ العصور الوسطى الأوروبية بجامعة الإسكندرية — وعدًا بأنه سينشر كتابًا عربيًّا يأخذ فيه بأصول النشر العلمية — كما وضعها الألمان أنفسهم — أخذًا دقيقًا يجب أن يحتذى؛ ولهذا نشطت همتي إلى الاطلاع على كتاب «قوانين الدواوين» للأسعد بن مَمَّاتِي الوزير الأيوبي المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ/١٢٠٥م، وقد نشره أخيرًا الأستاذ الفاضل، وطبعته الجمعية الزراعية بإشارة المغفور له الأمير عمر طوسون.

وإنه وإن كان يحلو لي أن أمتدح كل جهد، وبخاصة جهدًا يبدو في النشر الذي أعلم ما فيه من مشقة لا يقدرها جمهور المثقفين قدرها الحق، إلا أنني لا أستطيع أن أقر الدكتور سوريال على المبادئ التي صدر عنها، وكنت أتوقع منه أكثر مما يعرض علينا اليوم. ولما كانت قواعد النشر من المسائل الجوهرية في حياتنا العلمية الراهنة، ونحن على أبواب نهضة، إحدى دعائمها الأساسية نشر تراثنا العربي القديم، فإنني لا أرى بُدًّا من مناقشة هذه المبادئ على نحو مفصل، حتى نستقر على ما يجب أن نأخذ به فيما نريد نشره.

اعتمد الدكتور سوريال في نشر الكتاب على أمرين: (١) المصادر المباشرة، وهي مخطوطات الكتاب، وقد أخبرنا في مقدمته بما جمع منها. (٢) المصادر غير المباشرة، وهي الفقرات التي أخذها المؤلفون اللاحقون عن ابن مَمَّاتِي وأوردوها في كتبهم في معرض الاستشهاد أو الاستدلال، هذه المصادر لم يدرسها الناشر في مقدمته ولا حدد قيمتها، ولكنه انتفع بها فعلًا في بعض هوامشه، وإن يكن انتفاعًا ناقصًا كما سنرى.

إلى هنا نقر الناشر؛ إذ من البديهي أننا لا نملك غير هذين المصدرين للنشر، وذلك مع التحفظ الذي أوردناه عن عدم دراسته للمصادر غير المباشرة دراسة عامة في مقدمته، ولكننا نخالفه في طريقة انتفاعه بهذين المصدرين، ومن ثم نخالفه في كل شيء. ولتوضيح الخلاف نتحدث عن كل مصدر.

المصادر المباشرة وأنواعها

ليس من شك في أن أول عمل للناشر هو جمع المخطوطات المختلفة، وهذه عملية مادية تنتهي بحيازة تلك المخطوطات أو استنساخها أو تصويرها، وبعد ذلك تبدأ عملية «تسلسل المخطوطات» filiation des textes، وهذه العملية هي الأساس الأول لكل نشر علمي صحيح؛ وذلك لأن واجب الناشر أن يميز بين ثلاثة أنواع من المخطوطات:
  • (١)
    تحريرات الكتاب المختلفة versions، وذلك لما هو معروف من أن كثيرًا من المؤلفين يعودون إلى كتبهم بالتعديل والتنقيح، والزيادة والنقص، فمن واجب الناشر أن يميز بين التحريرات المختلفة للكتاب الواحد، وأن يسلسلها سلسلة زمنية ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وفي اللغة الفرنسية مثل رائع لمثل هذا العمل الجليل، وهو ما فعله الأستاذ فيلي Villey في نشره لمقالات الفيلسوف مونتين Montaigne.
  • (٢)
    مجموعات الكتاب المختلفة recensins، ونعني بها تلك الحالات التي لا يصل إلينا فيها الكتاب كما حرره مؤلفه؛ إما لأنه لم يكتبه هو بنفسه، بل ألفه شفويًّا، وهذه حالة الملاحم القديمة: كملاحم هوميروس التي لم تدون إلا بعد موت الشاعر بقرون، وحالة الشعر العربي القديم كالمعلقات وغيرها. وإما لأن الكتاب لم تصلنا منه إلا مختصرات يتفاوت بعضها عن بعض طولًا وقصرًا، وفي هذه الحالات من واجب الناشر أن يميز بين كل مجموعة.
  • (٣)
    النسخ المختلفة copies، وهذه من الواجب أن نميز بين ما هو منها بخط المؤلف وما هو بخط الناسخ، ونسخ النساخ نميز بين ما هو منها نسخ التحريرات والمجموعات المختلفة وما هو نسخ عن نسخ واحد، ثم نسلسلها تاريخيًّا ما استطعنا.

والدكتور سوريال قد كانت لديه كل الوسائل ليقيم «تسلسل المخطوطات» على أصح نحو، ولقد فطن إلى شيء يشبه هذا التسلسل، ولكنه استخدمه استخدامًا غريبًا، فهو يقسم مخطوطاته إلى ثلاثة أقسام: يضع في القسم الأول منها مخطوطات مكاتب غوطة، واستانبول، والقاهرة، وفي الثاني مخطوطي باريس ولندرة، وفي الثالث مخطوطي الأزهر ومعهد دمياط، وهو ينبهنا إلى أن نسخ القسم الأول ترجع إلى أصل أقدم من الأصل الذي أخذ عنه ناسخو المجموعة الثانية, بدليل ما ورد في مقدمة نصوص القسم الأول من الإشارة إلى الدولة الملكية الناصرية السلطانية الصلاحية، بينما يشير الكاتب في نسخة لندرة إلى الدولة العزيزية، وإذن فأصل القسم الأول من عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي (٥٦٤–٥٨٩ﻫ/١١٦٩–١١٩٣م)، وأصل القسم الثاني جاء في عهد خليفته الملك العزيز عماد الدين (٥٨٩–٥٩٥ﻫ/١١٩٣–١١٩٨م).

وهذه النصوص قاطعة في أن ابن مَمَّاتِي قد حرر كتابه مرتين: مرة لصلاح الدين، ومرة للعز عماد الدين، ونستطيع أن نضيف إليها نصوصًا أخرى تقطع بنفس الحقيقة، منها أن المؤلف في طبعة الدكتور سوريال يقول (ص٣٤٥) متحدثًا عن صلاح الدين: «ورد كتاب كريم ناصري بأن … افعل كذا وكذا.» بينما يقول في نفس الصدد في طبعة الوطن: «فإنه كان ورد عليَّ كتاب كريم من السلطان رضي الله عنه، وسقى عهده، وروض لحده بأن افعل كذا وكذا.» وهذا يدل كما هو واضح على أن ابن مَمَّاتِي قد حرر كتابه كما قلنا مرتين: مرة وصلاح الدين حي، ومرة بعد موته، كما يدل على أن طبعة الوطن مأخوذة عن نسخة من القسم الثاني أو ما يماثلها.

وإذن من المؤكد أن كتاب «قوانين الدواوين» قد حرر مرتين، وفي هذه الحالة ما هو التحرير الذي يجب على الناشر أن يعتمد عليه أولًا؟ أليس من البدهي أن يكون اعتماده على التحرير الأخير الذي نقحه المؤلف كما يرى، أو على الأقل أما يجب على الناشر ألا يغفل هذا التحرير إذا فضَّل التحرير الأول وبصَّرنا بأسباب هذا التفضيل؟! ومع ذلك يخبرنا الدكتور سوريال أنه قد اعتمد بنوع خاص على نسخة من مكتبة غوطة؛ لأنها فيما يرجح «أقدم عهدًا من بقية المخطوطات الأخرى»، وهذا سبب عجيب للتفضيل، فالقدم في النسخ يأخذ به العلماء عندما تكون تلك النسخ عن تحرير واحد للكتاب، وأما عندما تكون لدينا نسخ عن تحريرين مختلفين، فمن الواجب كما يجمع العلماء أن نأخذ بالنسخ المخطوطة عن التحرير الأخير، أو على الأقل أن نجمع بينهما كما قلنا.

ولقد كان لتصرفات الناشر على هذا النحو غير المقبول نتائج خطيرة على النص، ولو أنه اهتم بمخطوطات القسم الثاني اهتمامه بمخطوط غوطة لتجنب تلك النتائج التي يؤسف لها. لقد كان باستطاعته أن يتدارك كل شيء لو أنه لم يحتقر طبعة الوطن المأخوذة عن القسم الثاني كما فعل في مقدمته، وإليك مثالين لما نشير إليه:
  • المستخدمون وعددهم: في الباب الثالث من طبعة الوطن (ص١٠) يتحدث المؤلف عن المستخدمين من حملة الأقلام، فيذكر أن عددهم ثمانية عشر، وأما في طبعة الدكتور سوريال فيقول نفس المؤلف في الباب الثامن (٢٩٨) المقابل للباب الثالث في الطبعة السابقة: إن «المستخدمين من حملة الأقلام لا يتجاوزون سبعة عشر رجلًا»، ومع أن الدكتور سوريال قد أخبرنا في مقدمته أنه قد «أثبت في الحواشي جميع الاختلافات» (ص٤١)، ومع أنه قد أثقل حواشيه بأشياء كثيرة تافهة لا نرى ضرورة لها، إلا أنه لم يثبت هذا الاختلاف الخطير، مع أن طبعة الوطن قد أوردت بالفعل اسم المستخدم الثامن عشر، وهو الضامن، وعرفته في خمسة أسطر بآخر الفصل (ص١٠).
  • حراج البهنسة: يستطيع القارئ أن يراجع ما ورد في طبعة الوطن (ص١٧) عن هذا الحراج وما ورد عنه في طبعة الدكتور سوريال (ص٢٥٤)؛ ليرى أن نص الطبعة الأولى أطول بعدة أسطر من نص الطبعة الثانية، ومع ذلك لم يثبت الناشر حديث هذا الاختلاف الجوهري في حواشيه، مع أنه أثبت ما لا يحصى مما يسميه العلماء «محار النسخ» coquilles des copistes ويهملونه بالإجماع.

ونحن بعد لا نريد أن نسهب في التفاصيل، مكتفين بأن نتخذ مما فعله الدكتور سوريال مثلًا نضعه أمام الناشرين، معتقدين أنهم سيقروننا جميعًا على أهمية ما سميناه، كما يسميه علماء الغرب «تسلسل المخطوطات»، ووضعها في مواضعها تبعًا للنظام الذي بسطناه، فهذا العمل هو مفتاح النشر، وهو السبيل الوحيد لتجنب ما أشرنا إليه من خطر على ما ننشر.

المصادر غير المباشرة

قلنا: إن الدكتور سوريال قد استخدم المصادر غير المباشرة في بعض حواشيه، وإن لم يدرسها في مقدمته كما كنا نتوقع، ومع ذلك فقد كان من واجبه أن يستخدم تلك المصادر في تصحيح النص استخدامًا أوسع وأكمل مما فعل. فمن المعروف أن المقريزي والقلقشندي قد أخذا الكثير عن كتاب «قوانين الدواوين» لابن مَمَّاتِي، ولما كانت مخطوطات ابن مَمَّاتِي مضطربة في غير موضع كما يقول الناشر، فقد كان حتمًا عليه أن يجهد نفسه في البحث عن جميع ما نقله هذان المؤلفان عن ابن مَمَّاتِي ليكون عمله عملًا علميًّا بمعنى الكلمة، وله في علماء الغرب بل والشرق أسوة حسنة. ولو أنه فعل لما رأيناه يكتفي بنسخ بعض الفقرات في طبعته وتركها كما هي غير مفهومة ولا قابلة للفهم، مع أن عمل النشر الأول هو أن يقدم إلينا نصًّا يمكن فهمه، وبهذا فقط يتميز الناشر عن الناسخ، خذ لذلك مثلًا في (ص٨٢): «وقال: وأمرت غلامًا لي، أحضر لي من فكاهين (كذا) القاهرة الورد، والنرجس، والبنفسج، والياسمين، والحرير (كذا) الذي يسمى المنثور، والمرسين، والريحان، والسوسان، والطلع، والبلح، والجمار، والخيار، والبطيخ الأخضر، والباقلا، والتفاح، والفقوس، والأترنج، والنارنج، والأسيا، والليمون … إلخ»، ولو أنه رجع إلى «صبح الأعشى» (ج٣، ص٣٠٩) لاستغنى عن «كذا» أو اثنتين مما يورد هنا.

والكتاب كله مليء ﺑ «كذا» والحمد لله كما سنرى، فقد قال صاحب «الصبح»: «قال المهذب ابن مَمَّاتِي في «قوانين الدواوين»: بعثت غلامًا لي ليحضر من فكاهي القاهرة ما وجد بها من أنواع الفاكهة والرياحين، فأحضر لي منها الورد، والنرجس، والبنفسج، والياسمين، والمنثور، والمارسين … إلخ.» ومع ذلك لم يشر الناشر إلى هذا النص لا في المتن ولا في الهوامش.

من هنا نرى أن الناشر الفاضل لم يبذل ما كنا ننتظره من جهد في خدمة النص بفضل المصادر غير المباشرة، وإذا أضفنا هذا التقصير إلى ما رأينا في حديثنا عن المصادر المباشرة، أدركنا أن طبعة الدكتور سوريال لا تزال في الواقع محتاجة إلى نشر أصح من نشرها الحالي.

وكل هذا بفرض أن الناشر قد بذل ما يجب من جهد في قراءة النص قراءة صحيحة، حتى يعتبر عمله نشرًا لا نسخًا، ولكن كيف يكون الحكم إذا لاحظنا أن الناشر الفاضل قد انتهج في نشره خطة لم نسمع أن أحدًا قال بها، فترك النص كما هو، وذلك فيما يقول «محافظة منه على أسلوبه الأثري»، وهذا قول لا نقبله أصلًا، ولا بد لإيضاحه من حديث آخر.

قراءة النص

تحدثنا فيما سبق عن مصادر النشر مباشرة وغير مباشرة، واليوم نخطو إلى المرحلة التالية وهي قراءة النص، ثم نختم المقال بالحديث عن الروح العلمية التي يجب أن تسود فيما ننشر أو نؤلف.

لا شك أن الهدف الأخير لكل ناشر هو أن يُقرأ النص قراءة تمكن القارئ من فهمه، ومن المعلوم أن الواجب العلمي يقضي بألا يتصرف الناشر في النص على نحو يحيله عن أصله ويجعله مماشيًا لما قد يظنه هو فهمًا صحيحًا، ومع ذلك فالعلماء لا يجمعون على وجوب احترام النص احترامًا مقدسًا، إلا في حالة واحدة هي حالة وصوله إلينا بخط المؤلف؛ إذ إنه لا يجوز لنا عندئذٍ أن نتناول النص بأي إصلاح؛ لأن الأخطاء ذاتها تكون عندئذٍ عظيمة الدلالة على درجة ثقافة المؤلف في اللغة أو في موضوع الكتاب، وأما فيما عدا هذه الحالة فنحن إزاء نسخ يتحمل ناسخوها عادة جزءًا كبيرًا مما فيها من أخطاء، ويكون من واجب الناشر حتى يكون عمله نشرًا لا نسخًا جديدًا، أن يصلح من أخطاء هؤلاء النساخ، وسبيله إلى ذلك ألا يكتفي كما فعل الدكتور سوريال بالاعتماد على نسخة أو مجموعة من النسخ مهملًا إلى حد كبير ما عداها، بل يقابل بين كل المخطوطات التي لديه، بعد أن يقيم تسلسلها كما وضحنا في المقال السابق، وبعد أن يحصي القراءات المختلفة لكل جملة أو جزء من الجملة، يكون من واجبه أن يفاضل بين تلك القراءات، وهنا لا بد أن نشير إلى نوعين من القراءات Variantes، وهما اللذان يسميهما العلماء بالقراءة السهلة Lection facilis «باللاتينية» والقراءة الصعبة Lection difficilis، ويجب على الناشر ألا يسارع إلى قبول القراءة السهلة، فكثيرًا ما تكون من تحريف الناسخ الذي عجز عن فهم ما ينسخ فأحاله إلى شيء يفهمه هو، وكل هذا على فرض وجود قراءتين كلتاهما فهمها ممكن، فإذا استعصى الفهم وجب على الناشر أن نلجأ إلى ما يسميه العلماء بالتخمينات Conjectures وله عندئذٍ أن يثبت تخميناته في المتن بين قوسين أو أن يودعها في الهوامش. ونحن نكرر أن هذه التخمينات لا نلجأ إليها إلا بعد استقصاء كل القراءات والعجز عن فهمها كلها. وكثيرًا ما لجأ العلماء إلى تخمينات أثبتت صحتها مخطوطات اكتشفت بعد النشر. وحق التخمين بل واجبه لم نرَ أحدًا من ناشري النصوص، وبخاصة النصوص القديمة — كالنصوص اليونانية والعربية — يماري فيه؛ إذ لا مفر للناشر من أن يعطينا كما قلنا نصًّا يمكن فهمه.

هذه هي الأصول العلمية للنشر كما عرفناها من أساتذتنا، وأما ما يزعمه الدكتور سوريال من نشره للنص بأخطائه «محافظة على أسلوبه الأثري» فهذا شيء لم نسمع به، والذي نعلمه أن التماثيل الأثرية ذاتها لا يحجم علماء الآثار عن ترميمها الضروري حتى لا تنهار، ولإصلاح النص في الحدود التي بيناها فيما سبق، لا بد للناشر من نوعين من المعلومات: (١) معرفة لغة الكتاب معرفة فقهية عميقة. (٢) معرفة مادة الكتاب معرفة تخصص. ونحن على تمام الثقة من أنه إذا امتلك هذين النوعين من المعرفة لن يحتاج إلى نشر الكتاب بأخطائه محافظة على أسلوبه الأثري.

ونحن مع احترامنا للأستاذ سوريال ومع اعترافنا بما أدى من خدمات لتاريخ العصور الوسطى في الغرب، نلاحظ لسوء الحظ أنه لا يمتلك نوعي المعرفة اللذين أشرنا إليهما فيما سبق، ولا أدل على عدم تمكنه من اللغة العربية من أنه حتى في نسخه لترجمة ابن مَمَّاتِي عن «معجم ياقوت» قد أخطأ في عشرات المواضع، ولنضرب لذلك أمثلة: قوله (ص٩): قد تتوق فيها وأجيد، وصوابها: تُفُوِّق فيها وأجيد، و(ص١٤): إحدى عشر مرة، وصوابها إحدى عشرة مرة، و(ص١٦): حُباب الحميا، وصوابها حَباب الحميا. ثم كل تلك الأخطاء الواردة فيما ينقل من أشعار ابن مَمَّاتِي، والتي لا يستقيم الوزن دون إصلاحها، كقوله (ص١٧):

ورأى أن يرسل الأسهم بالبَردَ فراشا

وصوابه بالبرْد. وقوله (ص١٧) أيضًا:

وأنست الصبي الصبا وأذكرت جهنما

وصوابه: وأنست الصبا الصبَا.

وقوله (ص١٨):

قل لي: أنهاك
عن مجيئك نهاك

وصوابه عن مجيك. وأمثال ذلك كثير.

وأما عن عدم إلمامه بموضوع الكتاب إلمام تخصص، فذلك ما يقوله الأستاذ الفاضل نفسه في مقدمته؛ حيث تقرأ (ص٤٣): «ولكننا لم نتعرض للشرح والتعليق على الموضوعات الفنية التي تصدى لها المؤلف، معتمدين على الأخصائيين في إصدار مباحثهم في صدد مختلف الموضوعات في ملاحق خاصة.»

ولعمري إذا كان المؤلف لا يجيد اللغة العربية، ولا هو متخصص في تاريخ العصور الوسطى في الشرق، فلماذا إذن يحرص على نشر هذا الكتاب؟! وقد كانت النتيجة أنه لم يستطع أن يعطينا نصًّا يمكن فهمه، ومن الواضح أننا لا نطالبه بأن يضع التعليقات الفنية في هوامش طبعته، فمن العلماء من يفضلون نشر تلك التعليقات في ملحقات خاصة، ولعله يرى هذا الرأي، ولكننا نجزم بأن نشر أي كتاب نشرًا صحيحًا لا يمكن بغير البحث عما يعالج من موضوعات فنية، وفهم هذه الموضوعات فهمًا صحيحًا، ومن الثابت أن العلماء الذين ينشرون تعليقاتهم الفنية في ملحقات خاصة يضعون تلك التعليقات أثناء نشرهم الكتاب، حتى إذا فرغوا من النشر، فرغوا من التعليقات في نفس الوقت، وما إصدارها في ملاحق أو إيداعها الهوامش إلا مسألة شكلية، للعلماء أن يتخيروا منها ما يشاءون.

ونحن لا نريد أن نتتبع ما في الكتاب من جمل وعبارات غير مفهومة، فهذا أمر يطول، كما لا نريد أن نجادل فيما يعتبر أخطاء لغوية قد يرى الناشر أنها ترجع إلى المؤلف، وقد نرى نحن أنها ترجع إلى الناسخ، وفي الواقع لا سبيل إلى الترجيح إلا بعد جهد، وقلَّما نتفق، وإنما نقف عند بعض الأمثلة التي لا تقبل جدلًا، فمن ذلك مثلًا كلمة «مركوش» (ص٣٣٩-٣٤٠) التي وردت في نسخة غواطة على هذا النحو، وفي طبعة الوطن بالرسم «بركوش»، ولقد لاحظ الناشر نفسه في (ص٣٤٠) هامش١٠ أن نقط شين الكلمة ساقطة من نسخة غواطة، ولو أنه كان ملمًّا بموضعه، وقد كان درس أسماء السفن التي كانت تستخدم في الحروب الصليبية لاستنتج في سهولة أن صحة اللفظ هي «بركوس» (انظر: «الفتح القدسي» للعماد الأصفهاني، القاهرة ١٣٢١ﻫ، ص٢٣٨)؛ إذ ورد هذا اللفظ في صيغة الجمع براكيس، ومفردها كما هو واضح بركوس، كما ذكرها أبو شامة صاحب «الروضتين في أخبار الدولتين»، القاهرة ١٢٨٧ﻫ، ج٢، ص١٨٧)، ولقد كان من السهل على الدكتور سوريال الذي كتب في تاريخ الحروب الصليبية أن يفطن إلى أن الكثير من الأسماء التي أطلقها العرب على السفن في تلك الحروب أسماء أوروبية الأصل مثل الجلاسة (من الإيطالية Galeazza)، والشلندي (من الفرنسية Chaland)، والغليون (من الإيطالية Galeone)، وبركوس (من الإيطالية Barque والفرنسية … وغير ذلك كثير).

ومن الأمثلة الأخرى على عدم الإلمام بالموضوع، أن الناشر الفاضل قد نقل عن دوزي في «فهرست الألفاظ والمصطلحات المستعصية» (ص٥٤)، تحت كلمة خزانة البنود قوله: «ويعني بها أيضًا سجن»، وليس هذا صحيحًا، وكان من واجب الناشر أن يصلح خطأ دوزي، فخزانة البنود بمعناها اللغوي لا تؤدي هذا المعنى إطلاقًا، ولكنه حدث تاريخيًّا أن وُجد مكان بهذا الاسم، غير استعماله وأصبح سجنًا. (راجع: «خطط المقريزي» الطبعة الأهلية، ج٣، ص٣١٥؛ حيث يقول عن خزانة البنود: وكانت أولًا في الدولة الفاطمية خزانة من جملة خزائن القصر يُعمل فيها السلاح، ثم إنها احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، فعُملت بعد حريقها سجنًا يسجن فيه الأمراء والأعيان إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية، فأقرها ملوك بني أيوب سجنًا.)

ونكتفي بهذين المثلين الواضحين للتدليل على ما يستهدف له الناشر من أخطاء، عندما يكون غير مختص بموضوع الكتاب الذي ينشر، كما رأيناه يستهدف للأخطاء اللغوية التي لا شك فيها ولا مفر من إصلاحها، عندما يكون إلمامه باللغة قاصرًا.

الآن ننتقل إلى المسألة الأخيرة التي نريد أن نتحدث عنها، وهي الروح العلمية، وأكبر ظننا أن جميع القُرَّاء سيقروننا على مبدأين كبيرين يجب أن يتصف بهما العالم؛ أولهما: التواضع، وثانيهما: إعطاء كل ذي حق حقه من الزملاء المعاصرين والعلماء السابقين على السواء.

فأما عن التواضع فإنه لمما يؤسفنا أن نلاحظ أن الدكتور سوريال كان أحرص مما يجب على إظهار مجهوده وقيادة القارئ إليه قسرًا، وفي الكتاب أدلة يلمسها القارئ في يسر، فالناشر مثلًا يقول في مقدمته عن حياة المؤلف: «وأول شيء يدهش الباحث في أمرها هو خلو أغلب كتب التاريخ الأدبي من الكلام فيها والعلم بها، حتى إن «دائرة المعارف الإسلامية» المنشورة بمدينة ليدن نفسها — وهي أعظم الموسوعات في تاريخ الدراسات الإسلامية — لم تحوِ شيئًا عن ابن مَمَّاتِي؛ لهذا توجهنا إلى التنقيب في المراجع القديمة من كتب الطبقات، ووفقنا في النهاية إلى العثور على شذرات عن حياته في «وفيات الأعيان» لابن خلكان، وفي «عقد الجمان» للعيني وفي «المواعظ والاعتبارات» للمقريزي، ولكن كل هذا لا يقارن بما ورد عن سيرته في كتاب «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب»، من تصنيف ياقوت الرومي لناشره المرحوم الأستاذ س. مرجوليوث. ومن الغريب حقًّا أن يشير الناشر إلى «التنقيب»، وإلى «التوفيق إلى العثور في النهاية» على ترجمة لابن مَمَّاتِي، مع أنه وارد في «معجم» ياقوت، وهذا المعجم في متناول الأيدي، وخصوصًا بعد طبعة الدكتور فريد رفاعي، وهي أول ما يتجه إليه كل باحث عن التراجم! ثم نرى الناشر ينقل ترجمة ابن مَمَّاتِي عن ياقوت وعن ابن خلكان إحداهما في إثر الأخرى، ونتساءل عما يدعوه إلى ذلك، وكتابا ياقوت وابن خلكان يملآن المكاتب؟ وهلا يرى الناشر الفاضل أننا نطمع في خير مما فعل؟ نطمع في دراسة نقدية تحليلية لهذه النصوص، واستنباط ما تجمع عليه من حقائق، مع الاكتفاء بالإشارة إلى المكان أو إيراد ما يستدل به من النصوص.

وكما يبتدئ الكتاب بهذه الروح المسرفة في إظهار الجهد حيث لا جهد، كذلك ينتهي الكتاب لسوء الحظ، فقد أورد في نهايته ثبتًا سماه فهرس الاصطلاحات والألفاظ المستعصية … وننظر في هذا الفهرس فنجد إما ألفاظًا أساء الناشر قراءتها مثل كلمة «مركوش» السابقة الذكر، التي يثبتها الناشر مردفًا إياها بقوله: نوع من المراكب. وإما ألفاظًا أوضح معناها الدكتور محمد مصطفى زيادة، في فهرس الاصطلاحات الذي أثبته في الجزء الثالث من «السلوك» للمقريزي. وإما ألفاظًا نقل الناشر معناها عن دوزي أولين، فما الذي يدعوه إذن إلى تسميتها بالمستعصية وما هو جهده في تفسيرها؟ ولقد كنا ننتظر منه على الأقل أن يصحح دوزي أو يكمله ولو بالنص الذي ينشره اليوم. ولنضرب لذلك مثلًا كلمة شلندي، فقد نقل عن دوزي أنه «نوع من المراكب لنقل البضائع والأمتعة»، مع أن ابن مَمَّاتِي نفسه في (ص٣٤٠) يعرفه بقوله: «وأما الشلندي فإنه مركب مسقف تقاتل الغزاة على ظهر»، معنى هذا أنه مركب حربي، ولقد كان من واجب الناشر أن يشير إلى مناقضة ابن مَمَّاتِي لدوزي، وأن يفسر هذا التناقض على وجه من الوجهين الممكنين.

فالشلندي، إما أن يكون مركبًا مسقفًا يستخدم للبضائع أو في الحرب لرمي الرماة على السواء، وفي هذه الحالة يوفق بين دوزي وابن مَمَّاتِي، وإما أن يكون استخدامه مقصورًا على البضائع أو الحرب، وفي هذه الحالة يكون من واجبه أن يرجح بين زعمي الرجلين، وأن يورد أسباب ترجيحه، ولكنه لسوء الحظ لم يفعل هذا ولا ذاك، ومع ذلك يسمى فهرسه بفهرس الألفاظ المستعصية!

وأخيرًا يبقى المبدأ الثاني وهو مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه، وإنما نثير هذا لأن الناشر ينبئنا هو نفسه في ألفاظ — أحيانًا واضحة وأحيانًا غير واضحة — أنه قد استعان بالأستاذ محمد بك رمزي المعروف باشتغاله بجغرافية مصر التاريخية، ولقد كان اعتماده على رمزي بك فيما يظهر كبيرًا، وبخاصة في الباب الثالث من الكتاب «في ذكر جملة أعمال مصر وتفصيل نواحيها»، وهذا الجزء يشغل مائة وعشرين صفحة تقريبًا من متن الكتاب الذي يقع في ٣٨٠ص؛ أي ثلث الكتاب تقريبًا. ودليل اعتماده عليه قوله إنه قد اعتمد على نشر هذا الباب بنوع خاص على مخطوطتي الأزهر ومعهد دمياط، وأنه قد استخدم هذين المخطوطين عن نسختين نقلهما رمزي بك بيده؛ إذ الأصول مودعة الآن خزائن لا يسهل الوصول إليها. وإذا كان الأستاذ رمزي بك قد نقل هذين المخطوطين فهو لم يكتفِ بمجرد النقل، بل أعمل في قراءتهما قراءة صحيحة كل جهده، وقد ظهر هذا الجهد في تصحيح هذا الجزء من الكتاب بنوع خاص تصحيحًا لم يتوافر للأجزاء الأخرى. وإنه ليحلو لنا أن نثبت أن الأمير عمر طوسون قد اعترف لرمزي بك بجهده المشكور، فقال في تقديمه للكتاب: «وقد راجع الباب الثالث وهو الخاص بتقويم البلدان وصوب تحريفه، حضرة الأستاذ محمد بك رمزي، وبذل في ذلك جهدًا يستحق عليه الشكر والتقدير.» وأما الدكتور سوريال فقد قال: «ولما كان الباب الثالث يحتاج إلى عناية خاصة في تحقيق الأسماء الصحيحة لنواحي القطر المصري وإثباتها في النص دون غيرها، فقد راجعناه مع حضرة محمد رمزي بك مراجعة دقيقة، واستفدنا منه في الوصول إلى ضبط الكثير من الأسماء الغامضة أو المحرفة في مختلف الأصول.» ومن الواضح أن عبارة الناشر الفاضل لا تطابق تمامًا عبارة عمر طوسون ولقد صرنا نطمع من الناشر الفاضل لا أن يعترف بجهد رمزي بك اعترافًا صريحًا كاملًا فحسب، بل أن يضع اسمه على غلاف الكتاب مع اسمه هو؛ وذلك لا لأن الجزء الخاص بتقويم البلدان يشغل ثلث الكتاب فحسب، بل لأنه أصح أجزاء الكتاب نشرًا، بدليل أن الناشر قد اعترف هو نفسه بأنه قد استطاع أن يثبت في متنه الأسماء الصحيحة دون غيرها، وهذا شيء لم يوفق إليه في أجزاء الكتاب الأخرى، مع أن من بين تلك الأجزاء ما هو مجرد سرد لأنواع من الزراعات والمكاييل والمقاييس والأشهر وما إلى ذلك. وفي استطاعة القارئ أن يراجع هوامش هذا الجزء ليرى إلى أي حد قد استفاد الناشر من مجهودات رمزي بك، مستدلًّا على كفاية هذا العالم الفاضل بما أثبته الناشر أخذًا عن بحث رمزي بك المنشور في:
  • Mémoires de L’institut Francais T. LXVIII Mélanges.
  • Maspero. Vol. III. PP. 273–321 Le Caire, 1935.
  • Rectifications a’ l’ouvrage e d E. Amelineau: Geographie de l’Egypte à l’Epoque Copte).

أي «تصويبات في كتاب المسيو أميلينو عن جغرافية مصر في العصر القبطي.» ثم بحوالي سبعة وعشرين هامشًا ذكر الدكتور سوريال أنها من تحقيقات رمزي بك.

ونجمل ملاحظتنا على طبعة الدكتور سوريال بأن روحها العلمية ليست سليمة.

وأن أصول النشر فيها لم تراعَ، وبخاصة في إقامة تسلسل المخطوطات، وفي الأخذ بالمبادئ الصحيحة في قراءة النص، وبذل ما تتطلبه هذه القراءة من جهود. وأما ما أوردنا من أمثلة وتفاصيل فنرجو القارئ ألا يعتبرها على أي نحو استقصاء لما في الكتاب من أخطاء، وإنما سقناها تأييدًا للقواعد العامة التي أوردناها، وهي بيت القصيد فيما كتبنا.١
١  يسرني أن أشير إلى أنني قد رجعت إلى زميلي المحقق الأستاذ جمال الدين الشيال مدرس التاريخ بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، لتحقيق بعض مصطلحات العصر الأيوبي الواردة في الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤