الفصل الرابع عشر

إن ما زاد مِن غضب العمة لين أن روبرت كان عليه تناولُ الفطور صباحَ اليوم التالي في تمام الساعة السابعة وخمسٍ وأربعين دقيقةً حتى يستطيع الذَّهاب باكرًا إلى المكتب. كانت علامةً أخرى على الانحلال الذي تتحمَّل مسئوليته قضية فرنتشايز. أن يفطر باكرًا لعلَّه يلحق بالقطار، أو يسافر لمقابلةٍ على مسافةٍ بعيدة، أو يحضر جنازةَ موكل، فهذا سببٌ معقول. لكن أن يُفطر باكرًا فقط حتى يمكنه الوصولُ إلى العمل في ساعةِ وصول ساعي المكتب كان ذلك تصرفًا غريبًا بشدة، ولا يليق بشخصٍ من عائلة بلير.

ابتسم روبرت، وهو يسير في هاي ستريت المشمِس الذي لا يزال مغلقًا وهادئًا. لقد أحبَّ دائمًا الساعات الباكرة من الصباح، فكانت هذه الساعة التي تتجلَّى فيها ميلفورد بأبهى صورِها؛ بألوانها الورديَّة والبُنية والكريميَّة التي تبدو رقيقةً في ضوء شمسٍ مثلَما تبدو في رسمةٍ ملوَّنة. كان فصل الربيع يتداخلُ في فصل الصيف، ودفء الأرصفة ينضح في الهواء البارد، وأشجار الليمون الأخضر المقلَّمة صارت كثيفة. فتذكَّر ممتنًّا أن ذلك ربما يعني أن اللياليَ ستصير أقصرَ على السيدتَين الوحيدتَين في منزل فرنتشايز. لكن ربما — إن كان الحظُّ حليفًا لهما — بحلول فصل الصيف فعليًّا، يتحقَّق إثبات براءتهما، ولا يعود منزلهما حصنًا تحاصره المتاعب.

كان مستندًا إلى باب المكتب الذي ظلَّ إلى ذلك الحينِ مغلقًا رجلٌ نحيف طويل شائب، يبدو أن جسده كلَّه عبارةٌ عن عظام وليس له أيُّ بطن على الإطلاق.

قال روبرت: «صباح الخير.» ثم سأل: «هل أردتَ مقابلتي؟»

قال الرجل الشائب: «لا. أردتَ أنت مقابلتي.»

«أنا؟»

«على الأقل برقيَّتك قالت ذلك. أعتقد أنك السيد بلير، أليس كذلك؟»

قال روبرت: «لكن لا يمكن أنك وصلتَ إلى هنا بهذه السرعة!»

قال الرجل باقتضاب: «المسافة ليست بعيدة.»

قال روبرت محاولًا أن يرقى إلى مستوى الاقتصاد في التعليقات الذي ينتهجه السيد رامسدن: «تعال.»

سأله في المكتب بينما كان يفتح غرفته: «هل أفطرت؟»

«أجل، تناولتُ شرائح لحم خنزير وبيضًا في مطعم ذا وايت هارت.»

«أشعر براحةٍ مُذهلة أنك تمكَّنت من المجيء بنفسك.»

«لقد انتهيتُ لتوِّي من إحدى القضايا. والسيد كيفين ماكديرموت قد أسدى لي الكثير.»

أجل؛ كيفين، رغم كلِّ خُبثه الظاهري وحياته المزدحمة، وجَد الرغبة والوقت لمساعدة هؤلاء المستحِقِّين للمساعدة. وذلك ما يُميزه تمييزًا ملحوظًا عن أسقف لاربورو، الذي آثر غير المستحقِّين للمساعدة.

قال، مناولًا رامسدن نسخةً من الإفادة التي أدْلَت بها بيتي كين إلى الشرطة: «ربما أفضل طريقة لك أن تقرأ هذه الأقوال، ثم بإمكاننا استكمالُ القصة من عند تلك النقطة.»

أخذ رامسدن الأوراق، وجلس على مقعد الزائرين — مَثنيًّا، ربما يكون التوصيف الدقيق لحركته — وعزل نفسه عن حضور روبرت مثلما كان كيفين قد فعَل في منزله. وروبرت، بينما يُتابع عملَه الشخصي، كان يحسدهما على قُدرتهما على التركيز.

قال بعد مدة: «حسنًا، يا سيد بلير، ماذا بعد؟»؛ فسرَد له روبرت ما تبقَّى من القصة: تعرُّف الفتاة على المنزل والمقيمتَين فيه، ودخول روبرت في القضية، وقرار الشرطة بأنها لن تستكملَ الإجراءاتِ بناءً على الأدلة المتوفرة، واستياء ليزلي وين وما ترتب عليه من نشر القصة في صحيفة «أك-إيما»، ومقابلته الشخصية مع أقارب الفتاة وما كشَفوا عنه، واكتشاف ذَهابها في جولةٍ بالحافلة وأن حافلةً ذاتَ طابقَين كانت تسير على مسار حافلات ميلفورد أثناء تلك الأسابيع ذات الصلة، واكتشافه لوجود الشخص «س».

«مهمَّتك هي اكتشاف تفاصيلَ أكثر عن الشخص «س»، يا سيد رامسدن. إن نادل ردهة فندق ميدلاند، ألبرت، يعرف هيئته، وإليك قائمةً بالمقيمين خلال تلك المدَّة محلِّ النظر. سنُصبح محظوظين إذا كان ممَّن أقاموا في هذا الفندق، لكن مَنْ يدري. بعد ذلك ستتولَّى وحدك التحرِّيات من دون مساعدة. أخبِرْ ألبرت أني أرسلتُكَ إليه، على أي حال. لقد عرَفتُه منذ وقتٍ طويل.»

«حسنًا. سأتوجَّه إلى لاربورو الآن. وسأحصل على صورة للفتاة غدًا، لكن لعلك تُعطيني نسختك من صحيفة «أك-إيما» لليوم.»

«بالتأكيد. كيف ستحصل على صورةٍ دقيقة لها؟»

«أوه، لديَّ طرقي الخاصة.»

استنتج روبرت أن سكوتلاند يارد كانت قد حصلَت على صورةٍ عندما أُبلِغ عن تغيُّب الفتاة، وأن زملاءه القدامى في مقرِّ الإدارة لن يتردَّدوا كثيرًا حتى يُعطوه نسخة، فاستند في الأمر إلى ذلك.

قال أثناء انصراف رامسدن: «ثمة احتمال قائم أن يتذكَّرها مُحصلُ إحدى تلك الحافلات ذات الطابقَين.» ثم أضاف قائلًا: «إنها الحافلات التابعة لشركة لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز. المرأب في فيكتوريا ستريت.»

في تمام الساعة التاسعة والنصف وصل الموظفون — كان من بين أوائل الحاضرين نيفيل؛ وهو تغييرٌ في نظامه المعتاد اندهش له روبرت؛ إذ إن نيفيل عادةً كان آخِرَ مَن يصِل وآخرَ مَن يستقرُّ في مكتبه. كان من الممكن أن يتجوَّل في الداخل، ويخلعَ ما يتدثَّرُ به في غرفته الخاصة الصغيرة في الخلف، ويتجولَ في «المكتب» ليُلقي تحية الصباح على الموجودين به، ويتجول في «غرفة الانتظار» في الخلف ليُحيِّي الآنسة تاف، وفي النهاية يتجول في غرفة روبرت ويقف هناك ليفتح اللفةَ المربوطة لإحدى المنشورات الدورية الخاصة التي جاءته بالبريد، ثم يعلق على الحالة البائسة دائمًا للأحداث في إنجلترا. كان روبرت قد ازداد اعتيادُه على تصفُّح بريده سريعًا حتى لا يتعارضَ مع عادة نيفيل التي لا بد منها. لكن نيفيل اليوم حضر في الموعد المقرر، ثم دخل إلى غرفته الخاصة، وأغلق الباب بإحكامٍ وراءه، ثم، إن كان فتحُ الأدراج وغلقُها هو الدليلَ، استقرَّ على مكتبه لبدء العمل في الحال.

جاءت الآنسة تاف بدفترها وبياقة بيتر بان البيضاء المذهلة، ومن ثَم بدأ اليوم العاديُّ لروبرت. كانت الآنسة تاف قد اعتادت ارتداءَ ياقة بيتر بان على فستانٍ داكن طيلةَ العِشرين سنة، من الممكن أنها كانت ستبدو عارية، غيرَ محتشمة في الأغلب، من دونها في تلك اللحظة. ترتدي ياقةً نظيفة في كلِّ صباح؛ بعد أن تكون قد غسَلَتها في ليلة اليوم السابق وجهزتها حتى ترتديَها في الغد. المظهر الوحيد لكسر النظام المعتاد كان في أيام الأحد. كان روبرت قد قابل الآنسة تاف ذاتَ مرة في يومٍ من أيام الأحد وعجز تمامًا أن يتعرَّف عليها؛ لأنها كانت ترتدي رِباطًا مكشكشًا حول الرقبة.

عمل روبرت حتى الساعة العاشرة والنصف، ثم تبيَّن له أنه قد تناول فطورَه في ساعةٍ باكرة غير معهودة، وفي تلك اللحظة صار في حاجةٍ إلى أكثرَ من مجرد فنجان شاي. كان سيذهب ويتناول فنجانَ قهوة وشطيرةً في فندق روز آند كراون. بإمكانك الاستمتاع بأفضلِ قهوة في ميلفورد في مقهى آن بولين، لكنه مزدحمٌ دائمًا بالنساء المتسوِّقات («كم أسعدني لقاؤك يا عزيزتي! افتقدناكِ حقًّا في حفلة رونيز! وهل سمعتِ عن …»)، كانت تلك هي الأجواءَ التي لم يكن مُستعدًّا لمواجهتها مقابلَ كل ما في البرازيل من قهوة. كان سيذهب إلى فندق روز آند كراون، وبعد ذلك سيتسوَّق قليلًا بالنيابة عن سيدتَي فرنتشايز، ثم بعد الغداء سيذهب ويعرض عليهما بلطفٍ الأنباءَ السيئة بشأن مجلة «ذا ووتشمان». لم يكن بوُسعه أن يفعل ذلك عبر الهاتف؛ إذ لم يكن لدَيهما هاتفٌ في تلك اللحظة. كانت شركة لاربورو قد وصلت بالسلالم والمعجون وألواحٍ من الزجاج المقسَّى وكانت قد استبدلَت النوافذ من دون صخبٍ أو فوضى. لكنهم، بالطبع، كانوا شركة خاصة. أما مكتب البريد العام، لكونه إدارة حكومية، فقد أحالَ مشكلة الهاتف لعرضها على المحكمة وستتحرَّك في الوقت الذي يحلو لها بسرعة الأفيال. لهذا خطَّط روبرت قضاء جزءٍ من وقت ما بعد الظهر لإخبار السيدتَين شارب بالأنباء التي تعذَّر عليه أن يُخبرهما بها على الهاتف.

كان الوقت لا يزال مبكرًا على وجبات منتصفِ الصباح الخفيفة، وكانت المقاعد المكسوَّة بقماشٍ قُطني مطبوع والموائد المصنوعة من خشب البلوط العتيق لردهة فندق روز آند كراون مهجورةً من الناس عدا بِن كارلي، الذي كان جالسًا بجانب مائدةٍ قابلة للطيِّ عند النافذة يقرأ صحيفة «أك-إيما». لم يكن كارلي الشخصَ المفضل لروبرت — أكثر مما كان هو بالنسبة إلى كارلي، حسب ظنِّه — لكن كانت تجمعهما رابطتُهما المِهنية (إحدى أقوى الروابط في الطبيعة الإنسانية)، وفي مكانٍ صغير مثل ميلفورد فقد صارا صديقَين مقرَّبَين إلى أبعدِ ما يكون. لهذا جلس روبرت كأمرٍ مُتوقَّع إلى مائدة كارلي، مُتذكرًا بينما يفعل ذلك أنه لا يزال مَدينًا إلى كارلي بتنبيهِه الذي لم يُلتفَت إليه عن الشعور العام في الريف.

أنزل كارلي صحيفةَ «أك-إيما» ونظر إليه بعينَين داكنتَين تشتعلان حيويةً كانتا غريبتَين كثيرًا وسط هذا الهدوء السائدِ في منطقة ميدلاند الإنجليزية. وقال: «يبدو أن الأمر يخبو ضجيجُه.» وتابع: «لم ينشروا إلا رسالة واحدة اليوم؛ لمجرد أن يحافظوا على اهتمام الناس.»

«بالنسبة إلى صحيفة «أك-إيما»، فهذا صحيح. لكن مجلة «ذا ووتشمان» ستشنُّ حملةً خاصةً بها يوم الجمعة.»

««ذا ووتشمان»! وما لها بالتدنِّي إلى قاع «أك-إيما»؟»

قال روبرت: «إنها ربما ليست المرة الأولى.»

قال كارلي، ممعِنًا في الأمر: «أجل، أظن ذلك.» وأضاف: «عندما تُفكر في الأمر، فهما وجهان لعملةٍ واحدة. حسنًا. لا ينبغي أن يُقلقك ذلك. إن إجماليَّ مبيعات «ذا ووتشمان» تصل إلى عشرين ألفًا تقريبًا. إن كان الأمر كذلك.»

«ربما. لكن عمليًّا كلُّ واحد من أولئك العشرين ألفًا لدَيهم ابنُ عمٍ من الدرجة الثانية في الخدمة المدنية الدائمة في هذا البلد.»

«فماذا إذن؟ هل عرَف أحدٌ من قبل أن الخدمة المدنية الدائمة تدخَّلت في أي حدثٍ مهما كان خارجَ إطار نظامها النمطي المعتاد؟»

«لا، لكنهم سيزيحون المسئولية عنهم. وعاجلًا أم آجلًا ستسقط المسئولية في … في …»

اقترح كارلي، وهو يدمج الاستعارة بتأنٍّ: «في بُقعة خصبة.»

«أجل. عاجلًا أم آجلًا سيظن بعضُ الفضوليِّين أو العاطفيين أو الأنانيين، ممن ليس لديهم شيء لِيَشغلهم، أن شيئًا ما لا بد من فعله حيال هذا الأمر ثم يبدَءون في تحريك الحبال. وتحريك الحبال في الخدمة المدنية يُعطي النتيجة نفسَها كما في عرضٍ لصندوق الدنيا. فتُشد سلسلة كاملة من الصور لعرضها، عشوائيًّا. جيرالد يُلبي طلب توني، وريجي يُلبي طلب جيرالد، وهكذا، إلى نهايات غير معلومة.»

التزم كارلي الصمتَ لحظة. ثم قال: «أمرٌ مُثير للشفقة.» وتابع: «تحديدًا عندما أخفقَت «أك-إيما» في طريقها. يومان آخران وسوف يكونون قد أسقطوا الأمر نهائيًّا. وفي الواقع هناك يومان إضافيَّان على بَرنامجهم المعتاد، كما هو عليه الحال. لم أعهدهم أبدًا يُواصلون طرح موضوعٍ لأطولَ من ثلاثة إصدارات. لا بد أن الاستجابة كانت هائلةً حتى تُبرر هذا الحجم من المساحة.»

قال روبرت، في حزنٍ: «أجل.»

«بالتأكيد، القضية كانت هديةً لهم. إن السبق الصحفي عن الفتيات المختطَفات خبرٌ نادر للغاية. نظرًا إلى التغيير في العرض فكان الأمر لا يُقدَّر بثمن. عندما لا يُصبح لدَيك سوى ثلاثةِ أو أربعة أطباق، مثل «أك-إيما»، من الصعب أن تُرضي أذواقَ الزبائن كما ينبغي. ونبأ مثيرٌ مثل قضية فرنتشايز لا بد أنه ضاعَف مَبيعاتهم بالآلاف في ضاحية لاربورو وحدها.»

«مبيعاتهم سوف تتراجع. إن الأمر ليس إلا موجةَ مدٍّ فحسب. لكن ما عليَّ التعامُل معه هو ما خُلِّف على الشاطئ.»

علَّق كارلي: «شاطئ تنبعث منه رائحة كريهة على وجه التحديد، في رأيي.» ثم تابع قائلًا: «هل تعرف السيدة الشقراء البدينة ذات مسحوقِ التجميل البنفسَجي الزاهي والصدرية التي تُدير متجر الملابس الرياضية بجانب مقهى آن بولين؟ إنها واحدةٌ من تلك المخلفات على شاطئك.»

«كيف ذلك؟»

«لقد عاشت في نفس البنسيون في لندن الذي عاشت فيه السيدتان شارب، على ما يبدو، وعندها قصةٌ لطيفة بخصوص كيف ضرَبَت ماريون شارب كلبًا ذات مرة وهي غاضبة حتى صار بين الحياة والموت. أحبَّ زبائنها تلك القصة. وكذلك زبائنُ آن بولين. فهي تذهب إلى هناك لتشرب قهوتها الصباحية.» نظر باستهزاءٍ إلى الاحمرار الذي بدا على وجه روبرت من الغضب. وأضاف: «لا أحتاج إلى أن أخبرك أن لدَيها كلبًا خاصًّا بها. لم يُعاقب قط في حياته المدلَّلة، لكنه كان يخطو خطواتٍ سريعة إلى حافة الموت من تَحلُّل الدهون بسبب إطعامه عشوائيًّا من الفُتات وقتما تشعر السيدة البدينة الشقراء بشفقة شديدة.»

مرَّت لحظات، كما ظنَّ روبرت، كان فيها على وشك أن يحتضنَ بِن كارلي، والبدلة المقلمة وكل شيء.

قال كارلي، بفلسفةِ الإذعان لشعبٍ اعتاد مدةً طويلة على الانحناء والسماح للعاصفة بأن تتجاوزَهم: «حسنًا، سيُنسى الأمر.»

نظَر روبرت في دهشة. أربعون جيلًا من الأسلاف المحتجِّين اندهشوا متجسِّدين في شخصه. قال: «لا أعتقد أن نسيان الأمر هو ميزةٌ بأي حالٍ من الأحوال. هذا لن يُجْديَ نفعًا مع موكلتَيَّ على الإطلاق.»

«ماذا بيدك أن تفعل؟»

«المقاومة، بكل تأكيد.»

«مقاومةُ ماذا؟ لن تحصل على حكم بالتشهير، إن كان ذلك ما تفكر فيه.»

«لا، لم أكن قد فكَّرتُ في التشهير. لكني أنوي اكتشافَ ما كانت تفعله الفتاة خلال تلك الأسابيع.»

نظر كارلي مستمتعًا. ثم قال، معلقًا على هذا التعبير البسيط عن مهمة صعبة: «هكذا فقط.»

«لن يكون الأمر سهلًا وربما سيُكلفهما كلَّ ما لدَيهما، لكن ليس هناك بديل.»

«بإمكانهما أن يرحلا من هنا. بإمكانهما بيعُ المنزل والاستقرار في مكانٍ آخر. وخلال سنةٍ من الآن لن يتذكَّر أحدٌ خارجَ ميلفورد أيَّ شيءٍ عن هذه القضية.»

«لن تفعلا ذلك أبدًا، وليس من المفترض أن أنصحَهما بذلك، حتى لو كانتا ستفعلانه. لا يمكن أن يكون لدَيك عُلبة صفيح معقودة في ذيلك وتُمضي حياتك مدَّعيًا أنها غيرُ موجودة. إضافةً إلى أنه من المحال تمامًا أن يُسمَح للفتاة بأن تُفلت بقصتها الخيالية. إنها مسألة مبدأ.»

«ستدفع الثمن غاليًا على مبادئك اللعينة. لكني أتمنَّى لك حظًّا موفقًا، على أي حال. هل تُفكر في الاستعانة بمحقِّق خاص؟ لأنك إذا كنت تُفكر فأنا أعرف محققًا بارعًا …»

قال روبرت إنه قد اتفق مع مُحقق وإنه قد بدأ العمل بالفعل.

أوحى وجه كارلي المعبِّر بمباركته المبتهجة على هذه الخطوة السريعة من جانب مكتب بلير وهيوارد وبينيت المحافظ.

قال: «كان من الأفضل أن تحتفظ سكوتلاند يارد بمكانتها.» ثم شرَدَت عيناه إلى الشارع مِن خلف ألواح الزجاج المزخرف بالنافذة، واختفَت البهجة فيهما حتى صارت نظرةً ثابتة. حدَّق لحظةً أو لحظتَين ثم قال بلطفٍ: «عجبًا! ما هذه الجُرأة؟!»

كانت عبارة تنمُّ عن الإعجاب، وليس عن الغضب، فالتفت روبرت حتى يرى ما الذي استدعى إعجابه.

فوجد على الجهة المقابلة من الشارع السيارة القديمة المتهالكة لأسرة شارب، وعجَلتها الأمامية المختلفة هي خيرُ دليل. وفي الخلف، متوَّجةً في مكانها المعتاد بهيئتها المعتادة التي تعكس اعتراضًا طفيفًا على وسيلة النقل هذه، كانت تجلس السيدة شارب. كانت السيارة متوقفةً خارج متجر البقالة، وماريون على ما يبدو تتسوَّق في الداخل. ربما دخلَت هناك منذ دقائقَ معدودة وإلا كان سيُلاحظها بِن كارلي قبل ذلك، لكنَّ اثنَين من عمَّال التوصيل كانا بالفعل قد توقَّفا ليُحدقا، متَّكئَين على درَّاجتَيهما برغبةٍ شهوانية في مشاهَدة مُستباحة. وبعد مدة وجيزة لاحظ روبرت أن الناس جاءت إلى أبواب المتاجر المجاورة عندما جرَت الأخبار على الألسن.

قال روبرت بغضب: «يا لها من حماقة لا يُصدقها عقل!»

قال كارلي وقد تركَّزَت عيناه على المشهد: «إنها ليست حماقة.» وأضاف: «أتمنى لو أنهما مُوكلتان لديَّ.»

فتش في جيبه عن نقودٍ لدفع حساب قهوته، ثم ولَّى مسرعًا من المكان. ووصل إلى الجانب القريب من السيارة، في الوقت نفسِه الذي خرجَت فيه ماريون إلى الرصيف على الجهة الأخرى. فقال بصرامة: «سيدة شارب، ما يُفعل هو حماقة غير عادية. أنتما تَزيدان الأمر تعقيدًا …»

قالت، بنبرة رسمية مهذبة: «أوه، صباح الخير يا سيد بلير.» وتابعَت: «هل انتهيتَ من تناول قهوتك الصباحية، أم أنك تودُّ مرافقتنا إلى آن بولين؟»

قال مُناشدًا ماريون، التي كانت تضع حقائبها على المقعد: «آنسة شارب!» وتابع: «لا بد أن تعرفي أن ما تفعلانه هو حماقة.»

قالت: «صراحةً لا أعلم إن كان الأمر هكذا أم لا، لكن يبدو أنها خطوةٌ لا بد أن نفعَلها. ربما كنا حمقاوتَين ونحن نعيش مُنعزلتَين على أنفسنا، لكننا وجَدنا أن لا أحدَ منَّا بإمكانه نسيانُ تلك الإهانة التي كانت في آن بولين. تلك الإدانة التي من دون محاكمة.»

«نحن نُعاني من ضيقٍ نفسي شديد يا سيد بلير. ودواؤنا الوحيد هو شعرة من الكلب الذي عضَّنا. أقصد فِنجان القهوة الرائع الذي تُعده الآنسة ترولاف.»

«لكن هذا غير ضروري تمامًا! لهذا …»

قالت السيدة شارب بلهجةٍ لاذعة: «شعرنا بأنه عند الساعة العاشرة والنصف صباحًا لا بد أن يتوفَّر عددٌ كبير من الموائد الشاغرة في آن بولين.»

قالت ماريون: «لا داعيَ للقلق يا سيد بلير.» وتابعَت: «إنها ليست إلا لفتة. بمجرد أن نكون قد شربنا فنجانَ قهوتِنا الرمزيَّ في آن بولين، فلن نطَأ عتبتها أبدًا مرةً أخرى.» حاكت العبارة بأسلوبٍ مميز.

«لكن هذا فقط سيُقدِّم للناس في ميلفورد على نحوٍ مجاني ما يمكن أن نُسمِّيَه …»

سبَقَته السيدة شارب قبل أن يتمكن من نطق الكلمة. فقالت بنبرةٍ جافة: «لا بد أن تعتاد ميلفورد علينا بوصفنا فُرجة؛ إذ إننا قد توصَّلنا إلى أن الحياة بين أربعة جدران هو أمرٌ لا يمكننا التفكير فيه.»

«لكن …»

«سيَزيد اعتيادهم قريبًا على رؤيتنا ثم يعتبروننا أمرًا مسلَّمًا به مرةً أخرى. إذا رأيت زرافة مرةً واحدة في السنة فستظل فُرجة؛ أما إذا رأيتها يوميًّا فستصبح جزءًا من المشهد. ونحن ننوي أن نكون جزءًا من المشهد في ميلفورد.»

«حسنًا، أنتما تُخططان لأن تُصبحا جزءًا من المشهد. لكن افعَلا شيئًا واحدًا من أجلي الآن.» كانت ستائرُ نوافذ الطابق الأول تُزاح جانبًا والوجوهُ تظهر. فأضاف: «تنازَلا عن خطة آن بولين — تنازلا عنها اليوم على الأقل — وتناولا قهوتكما معي في فندق روز آند كراون.»

«سيد بلير، إنَّ تناول القهوة معك في فندق روز آند كراون هو أمرٌ باعث على البهجة، لكنه لن يفعل شيئًا ليُريح الضيق النفسيَّ الذي أشعر به، والذي، كما يُقال، «يقتلني».»

«آنسة شارب، أترجَّاكِ. لقد قلتِ إنك تشعرين أن تصرفاتك ربما صارت حمقاء، و… حسَنًا، كالتزامٍ شخصي بصفتي وكيلًا لكِ، أُناشدك ألَّا تستمري في تنفيذ خطة آن بولين.»

علَّقَت السيدة شارب: «هذا ابتزاز.»

قالت ماريون، مُبتسمةً إليه ابتسامةً خافتة: «هذا مفحِم، على أي حال.» فتنهَّدَت قائلة: «يبدو أننا سنتناول القهوة في فندق روز آند كراون.» ثم أضافت: «في الوقت الذي كنتُ متحمِّسة فيه للغاية لهذه اللفتة!»

جاء صوتٌ من الأعلى: «يا للجُرأة!» كانت عبارة كارلي تتردَّد مرةً أخرى لكنها لم تحمل أيَّ إعجابٍ مثل كارلي، كانت مثقَلة بالغضب.

قال روبرت: «لا يمكنكِ تركُ السيارة هنا. بعيدًا عن قوانين المرور فإنَّ له دلالةً سلبية.»

قالت ماريون: «أوه، لم نقصد ذلك.» ثم تابعَت قائلة: «كنَّا سنأخذها إلى المرأب حتى يتسنَّى لستانلي أن يُصلح شيئًا بداخلها بأداةٍ ما لدَيه هناك. إنه يستهين بسيارتنا استهانةً مبالغًا فيها، أقصد ستانلي.»

«أعتقد ذلك. حسنًا، سآتي معكما؛ من الأفضل أن تُسرعي قبل أن يُلقى القبضُ علينا لإثارة انتباه الحشود.»

قالت ماريون، وهي تدير مفتاح التشغيل: «مسكينٌ يا سيد بلير.» ثم أردفَت قائلة: «لا بد أنه لأمر بشع ألَّا تَعُود جزءًا من المشهد أكثرَ من ذلك، بعد كل تلك السنوات من الاندماج الباعث على الراحة.»

قالت ما قالته من دون نية خبيثة — لُمِس في صوتها بالفعل تعاطفٌ حقيقي — لكن الجملة التصقَت في عقله وخلقَت حيزًا صغيرًا من الألم بينما كانوا يتَّجهون إلى مرأب سين لين، ويتفادون خمسَ أحصنة ومُهرًا، كانت تخرج متعاقبة على نحوٍ مزعج من إسطبل الخيول، ثم يتوقَّفون في عتمة المرأب.

خرج بيل لمقابلتهم، وهو يمسح يدَيه بخِرقةٍ مُزيَّتة. وقال: «صباح الخير، يا سيدة شارب. تسرُّني رؤيتك في الخارج. صباح الخير، يا آنسة شارب. معالجتك لجبهة ستانلي كانت عملًا متقَنًا. اندملَت الحدود بالقدر نفسِه من الإتقان كما لو كانت قد خِيطَت. من المفترض أن تُصبحي ممرضة.»

«لستُ أنا. لا أُطيق صبرًا على جزع الناس. لكن ربما أودُّ أن أصبح جرَّاحة. فهم ليسوا واعِين كي يَجزعوا عند وضعهم على منضدة العمليات.»

ظهر ستانلي من الخلف، متجاهلًا السيدتَين اللتين أصبحتا الآن بمنزلة الأصدقاء المقرَّبين، ثم تسلَّم السيارة. سأل: «متى تريدين استلامَ هذه السيارة الخربة؟»

سألت ماريون: «أساعةٌ تكفي؟»

«ولا حتى عامٌ يكفي، لكني سأنجز كلَّ ما يمكن إنجازه في ساعة.» ثم انتقلَت عيناه إلى روبرت. وسأله: «هل لدَيك أي معلومة من أجل سباق جينيس؟»

«لديَّ معلومة جيدة لصالح الحصان بالي بوجي.»

قالت السيدة شارب: «كلامٌ فارغ. لم يُجْدِ نفعًا أيٌّ من تلك السُّلالة عندما وصل الأمر إلى سباقٍ عنيف. دعك منه فحسب.»

وقف الرجال الثلاثة يحدقون فيها، في ذهول.

قال روبرت، غيرَ مُصدقٍ: «هل أنت مهتمة بسباقات الخيول؟»

«لا، بالخيول بصفة عامة. ربَّى أخي أحصنة أصيلة.» ما إن رأت وجوهَهم حتى قهقهَت بضحكةٍ جافة، مثل نقيق دجاجة. وقالت: «هل تظن أني آخُذ قسطًا من الراحة كلَّ عصرٍ مع إنجيلي يا سيد بلير؟ أو ربما مع كتابٍ عن السحر الأسود. لا، بالتأكيد؛ أُطالع صفحة السباق في الصحيفة اليومية. ويجب أن أنصحَ ستانلي بتوفير ماله وعدم المراهنة على بالي بوجي؛ كما أن اسم هذا الحصان مُقزِّز.»

سأل ستانلي، باقتضابه المعتاد: «وما البديل؟»

«يقولون إن إحساس الخيول هو الغريزة التي تمنع الخيولَ من المراهنة على البشر. لكن إن كان لا بد أن تفعل شيئًا سخيفًا مثل المراهنة، فمن الأفضل لك أن تستثمرَ مالك في كومينسكي.»

قال ستانلي: «كومينسكي! لكن المراهنة عليه بستِّين ضِعفَ مبلغ المراهنة!»

قالت بنبرة جافة: «يمكنك بكل تأكيد أن تخسَر مالك بدفع مقابل أقلَّ إن شئت.» وأضافت: «هل لنا أن نذهب، يا سيد بلير؟»

قال ستانلي: «حسنًا، فليكن كومينسكي؛ وسيكون لكِ عُشر نصيبي.»

ساروا عائدين إلى فندق روز آند كراون؛ عند خروجهم من أجواء الخصوصية النسبيَّة التي يتمتع بها سين لين إلى الشارع المفتوح كان روبرت قد انتابَه إحساسٌ واضح اعتاد الشعورَ به وهو أنه خرَج في غارةٍ جوية مقبضة. بدا أن كلَّ الانتباه والغلِّ في الليلة المضطربة انصبَّ على شخصه المفزوع. لهذا في تلك اللحظة في ضوء الشمس الساطع لأوائل فصل الصيف، عبر الشارع وهو يشعر بأنه يسير عاريًا ومعرَّضًا للخطر. كان خَجِلًا أن يرى كيف أن ماريون مسترخيةٌ وغير مباليةٍ وهي تسير إلى جانبه، وأمل ألَّا يكون إحساسُه بخجله واضحًا. تكلَّم بأسلوبٍ طبيعي بقدر المستطاع، لكنه تذكَّر كيف كان عقلها يقرأ بسهولةٍ ما يدور في ذهنه، وشعر أنه لا يُبلي بلاءً حسنًا في ذلك.

كان النادل الوحيد يلتقط الشلن الذي تركه بِن كارلي على المائدة، لكن بخلافه كانت الردهة شاغرة. وبينما يجلسون حول وعاء زهر المنثور الموضوع على المنضدة التي من البلُّوط الأسود قالت ماريون: «هل علمتَ أن نوافذنا رُكِّبت مرة أخرى؟»

«أجل؛ زارني رجل الشرطة نيوسام في طريق عودته إلى المنزل الليلة الماضية ليُخبرني. كان ذلك عملًا متقنًا.»

سألت السيدة شارب: «هل دفعتَ لهم رشوة؟»

«لا. ليس سوى أنْ ذكرتُ أن هذا من فعل المخرِّبين. لو كانت نوافذك المحطمةُ هي نتيجةَ انفجارٍ لكان عليكِ بلا شكٍّ التعايشُ مع الأمر. يُصنَّف الانفجار على أنه سوء حظ؛ ولهذا فهو أمرٌ يمكن احتماله. لكن التخريب هو أحدُ الأمور التي «لا بد حتمًا أن يُفعل شيءٍ حيالها». ومن هنا جاءت نوافذُك الجديدة. أتمنى لو أن كلَّ شيءٍ على قدر سهولة استبدال النوافذ.»

لم يكن مدركًا بأنه قد طرأ على صوته أيُّ تغيير، لكن ماريون تفحَّصَت وجهه وسألت: «أهناك أي تطورات جديدة؟»

«أخشى أنه هناك. كنتُ سآتي عصر اليوم لأُخبركما بالأمر. يبدو أنه في الوقت الذي توقَّفَت صحيفة «أك-إيما» عن الحديث عن القضية — لم تنشر اليوم إلا رسالة واحدة وذلك أمرٌ هيِّن — تحديدًا عندما ازداد سأمها من قضية بيتي كين، ما لبثَت مجلة «ذا ووتشمان» أنْ بدأت في تناولها.»

قالت ماريون: «ممتاز!» ثم تابعَت قائلة: «إنها صورةٌ مبهجة أن تخطفَ «ذا ووتشمان» المشعل من أيادي «أك-إيما» المتراخية.»

«تتدنَّى إلى قاع «أك-إيما»» كما كان بِن كارلي قد وصَفها؛ لكن المعنى واحد.

سألت السيدة شارب: «هل لك أعيُنٌ في مكتب تلك المجلة، يا سيد بلير؟»

«لا، لكن نيفيل هو مَن بلغه الخبر. سينشرون رسالةً من حَميه المستقبلي، أسقف لاربورو.»

قالت السيدة شارب: «هاه! توبي بيرن.»

سأل روبرت، وهو يظن أن قوةَ صوتها ربما ستكشط الطِّلاء من الخشب إذا انهال عليه: «هل تعرفينه؟»

«كان يذهب إلى المدرسة مع ابن أخي. ابن أخي الطبيب البيطري. توبي بيرن، هو بعَينه. طبعُه لا يتغير.»

«أستشفُّ من كلامكِ أنه لا يروق لكِ.»

«لم أتعرَّف عليه أبدًا. جاء مع ابن أخي إلى المنزل ذاتَ مرة في الإجازة، لكنه لم يُدْعَ إلى تَكرار الزيارة أبدًا.»

«حقًّا؟»

«اكتشف لأول مرة أن عمَّال الإسطبل يستيقظون مع طلوع الفجر، فأفزعَه ذلك. قال إنه استعباد، ثم التفَّ حول العمال يحثُّهم على المطالبة بحقوقهم. فإذا اتحدوا، وَفْق قوله، فلن يخرج حصانٌ من الإسطبل قبل التاسعة صباحًا. فاعتاد العمَّال أن يُقلدوه في سخريةٍ سنواتٍ بعد ذلك، لكنه لم يُدعَ إلى تَكرار الزيارة.»

وافقَها روبرت الرأي: «أجل، طبعُه لا يتغير.» وأضاف: «ظل يتبعُ الأسلوب نفسَه منذ ذلك الحين، في كل شيء؛ بدءًا من الزنوج وحتى مآوي اللقطاء. القضايا التي لا يفقه عنها شيئًا هي أكثر القضايا التي يُناصرها. كان رأيُ نيفيل أنه من غير الممكن فعلُ شيء بشأن الرسالة المقترحة؛ إذ إن الأسقف قد كتبَها بالفعل، وما كتبه الأسقف لا يُنظر إليه على أنه كلام فارغ غيرُ مأخوذٍ به. لكن لم يكن ممكنًا أن أقف مكتوفَ اليدَين ولا أفعل شيئًا؛ لهذا اتصلتُ به بعد العشاء وأوعزتُ إليه بأسلوبٍ لبق قدْرَ المستطاع أنه يتبنَّى قضيةً تحوم الشكوكُ حولها بشدة، وأنه في الوقت نفسِه يضرُّ بسيدتَين من المحتمل أنهما بريئتان. ليتني وفَّرتُ على نفسي الكلام. فقد أشار إلى أنَّ مجلة «ذا ووتشمان» خُلِقت من أجل حرية التعبير عن الرأي، واستشفَّ أني كنتُ أحاول كبْتَ مثلِ هذه الحرية. انتهى بي المطافُ إلى سؤاله إذا كان يؤيد الإعدام من دونِ محاكمة؛ لأنه كان يبذل أقصى ما في وُسعه حتى يأتيَ بهذا الحكم. كان ذلك بعد أن تبيَّن لي أن النقاش ميئوس منه وبعد أن كنتُ قد توقفت عن الحديث بلباقة.» تناول فنجان القهوة الذي كانت السيدة شارب قد صبَّته له. وتابع: «لقد شهد تدنِّيًا مؤسفًا بعد من سبقه في منصبه بالكاتدرائية، الذي كان مصدرَ رعبٍ لكلِّ من تُسوِّل له نفسه بالشر في خمس مقاطعات، وكان عالمًا فقيهًا إلى جانب ذلك.»

تساءلَت السيدة شارب: «كيف وصل توبي بيرن إلى هذا المنصب؟»

«أفترضُ أن متجر كوان كرانبيري صوص له دورٌ لا يُستهان به في هذا التحول.»

«آه، أجل. زوجته. نسيت. أتريد إضافة السكَّر يا سيد بلير؟»

«بالمناسبة، هاتان نسختان من مفتاح بوابة فرنتشايز. أعتقد أن بإمكاني الاحتفاظُ بنسخةٍ منهما. أما النسخة الأخرى فأظن أنَّ من الأفضل لكما أن تُعطياها للشرطة، حتى يتفقَّدوا المكانَ متى شاءوا. عليَّ أيضًا أن أُخبركما أنه صار يعمل لحسابكما محققٌ خاص.» ثم أخبرهما عن أليك رامسدن، الذي حضر عند عتبة باب مكتبه في تمام الساعة الثامنة والنصف صباحًا.

سألت ماريون: «ألا تُوجَد أخبارٌ عن تعرُّفِ أحدٍ على صاحبة الصورة المنشورة على غلاف «أك-إيما» ومراسلته لسكوتلاند يارد؟» ثم أضافت قائلةً: «كنتُ قد علقتُ آمالي على ذلك.»

«لم يحدث ذلك حتى الآن. لكن لا يزال الأملُ باقيًا.»

«مرَّت خمسة أيام على نشر صحيفة «أك-إيما» لها. إن كان أيُّ أحدٍ سيتعرف عليها لكان تعرَّف عليها الآن.»

«ضعي بقايا الجرائد في الحسبان. هكذا تسير الأمور تقريبًا. شخصٌ ما يفتح لُفافةً من رقائق البطاطس ويقول: «عجبًا، أين رأيت ذلك الوجه؟» أو أن أحدًا يستخدم حزمة جرائد لتبطين أدراجٍ في أحد الفنادق. أو شيء من هذا القبيل. لا تفقِدي الأمل يا آنسة شارب. بعون الله وبمساعدة أليك رامسدن، سننتصرُ في النهاية.»

نظرَت إليه في جدِّية. وقالت وكأنها تشهدُ ظاهرةً فريدة: «أنت تؤمن بذلك حقًّا، أليس كذلك؟»

قال: «أومن بذلك حقًّا.»

«تؤمن بأن الخير ينتصرُ في النهاية.»

«أجل.»

«لمَ؟»

«لا أعرف. أظن أن الاحتمال الآخَر هو ضربٌ من المحال. فلا شيءَ مُرضٍ ومقبول أكثرَ من ذلك.»

قالت السيدة شارب: «من المفترض أن أكون أشدَّ إيمانًا بإلهٍ لم يهَب توبي بيرن منصبَ الأسقفية. بالمناسبة، متى ستُنشَر رسالة توبي بيرن؟»

«صباح يوم الجمعة.»

قالت السيدة شارب: «لا أطيق انتظاره.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤