الفصل السادس

لكن بحلول يوم الجمعة كان الوقت قد تأخَّر كثيرًا على اتخاذ إجراءاتٍ لضمان سلامة ساكنتَي منزل فرنتشايز.

كان روبرت قد أخذ بعين الاعتبار عملَ الشرطة بجِدٍّ واجتهاد، والانتشار البطيء للإشاعات، لكنه لم يكن قد أخذ في حُسبانه صحيفة «أك-إيما».

كانت صحيفة «أك-إيما» أحدثَ نموذج من الصحف الصفراء يدخل الصحافةَ البريطانية من الغرب. كانت تعمل بمبدأ أن دفع ألفَي جنيه كتعويض هو ثمنٌ زهيد مقابلَ تحقيق مبيعات قيمتُها نصف مليون جنيه. عناوينها الرئيسية كانت أكثرَ سوادًا، وصورها أكثر إثارةً، وفحواها أكثر حماقةً عن أي جريدةٍ مطبوعة حتى الآن في الصحافة البريطانية. وقد أطلقَ عليها مجتمعُ الصحافة في فليت ستريت اسمًا خاصًّا به — وهو من لفظٍ واحد لا يصلح للنشر — لكنه لم يتمكَّن من إيقافها عن الصدور. كانت الصحافة دائمًا هي الرقيبَ على نفسها، فتُقرِّر المسموحَ به وغيرَ المسموح به وفقًا لمبادئَ من تقديرها الحكيم وذَوقها الرفيع. إذا قرَّرت مطبوعة «وضيعة» ألَّا تنصاع لتلك المبادئ، فليس هناك قوةٌ قد تُجبِرها على الانصياع لها. في غضون عشر سنوات كانت صحيفة «أك-إيما» قد تجاوزَت بنصف مليون جنيه صافيَ المبيعات اليومية لأفضل الصحف مبيعًا في الريف إلى الآن. في أي عربة سككٍ حديدية داخل إحدى الضواحي تجد سبعةً من بين عشَرةِ أشخاص يقصدون عملَهم في الصباح يقرَءون صحيفة «أك-إيما».

وكانت هي صحيفةَ «أك-إيما» التي فجَّرَت قضية فرنتشايز.

كان روبرت قد خرج مبكرًا إلى الريف في تلك الجمعة صباحًا ليلتقيَ بسيدةٍ عجوز على فِراش الموت أرادت أن تُغيِّر وصيَّتها. كان هذا إجراءً تُكرِّره بمعدلِ مرة كلَّ ثلاثة أشهر وطبيبها لم يُخْفِ حقيقةَ أنها في رأيه «سوف تعيش حتى تبلُغ من العمر مائة عام». لكن بكل تأكيد لا يسَعُ مُحاميًا أن يُخبِر موكلًا استدعاه على وجه العجَلة في الساعة الثامنة والنصف صباحًا أن يتوقَّفَ عن التصرُّف بحماقة. لهذا كان روبرت قد أخذ بعضَ نماذج الوصية الجديدة، وأحضر سيارته من مَرأب السيارات، وقادها إلى الريف. ورغم صراعه المعتاد مع الطاغية العجوز الراقدة بين الوسادات — التي لم يكن ممكنًا أبدًا إفهامُها حقيقةً بسيطة، وهي أنها لا يمكن أن تهَب أربعةَ أنصِبة يُساوي نصيبُ الواحد منهم الثُّلث — فإنه استمتع بأجواء الريف المنعِشة. ودندن لنفسه في طريق العودة، مُتطلعًا إلى رؤية ماريون شارب في غضون أقلَّ من ساعة.

كان قد قرَّر أن يغفرَ لها إعجابَها بنيفيل. ففي نهاية الأمر، لم يكن نيفيل قد حاول قطُّ دفعها إلى كارلي. فلا بدَّ للإنسان أن يكون منصفًا.

أسرع بالسيارة داخل المرأب، وركَنها بالقُرب من مجموعة الخيول الصباحية التي تُغادر إسطبل الخيول، وعندئذٍ، مُتذكرًا أن اليوم قد تجاوز أولَ يومٍ في الشهر، سار نحو المكتب لدفع فاتورته إلى برو، الذي يُدير العمل المكتبي. لكن ستانلي هو مَنْ كان داخل المكتب؛ يُقلب في حافظات الأوراق والفواتير بيدَيه القويتَين في طرَف ساعدَيه النحيلَين على نحوٍ مُثير للدهشة.

قال ستانلي، وهو يرمقه بنظرةٍ شاردة: «لمَّا كنتُ في سلاح الإشارة الملكي، اعتدتُ الظنَّ بأن ضابط الإمداد والتموين كان محتالًا، لكني لستُ واثقًا للغاية من ذلك الآن.»

قال روبرت: «هل هناك شيء ضائع؟» ثم تابع قائلًا: «جئتُ لدفع فاتورتي. عادة ما تكون جاهزةً لدى بيل.»

قال ستانلي، وهو يقلب بإبهامه: «أتوقَّع أنها في مكانٍ ما هنا أو هناك. ألقِ نظرة.»

أمسك روبرت، الذي اعتاد على أوضاع المكتب، بأوراقٍ غير مرتَّبة ألقاها ستانلي، حتى تعتليَ الطبقات المعتادة المنظَّمة التي نسَّقها بيل في الأسفل. وعندما أزال الكومةَ غيرَ المرتبة كشف عن وجهِ فتاة؛ صورةٍ لوجه فتاة في إحدى الصحف. لم يتعرَّف عليها في الحال لكنها ذكَّرَته بشخصٍ ما ثُم توقفَ ليتطلعَ إليها.

قال ستانلي في انتصار، مُستخرجًا ورقةً من أحد المشابك: «وجدتُها!» كوَّم ما تبقَّى من أوراقٍ غير مرتَّبة على المكتب، وبهذا انكشفت أمام نظَر روبرت الصفحةُ الأولى كاملةً من تلك الصحيفة الصباحية «أك-إيما».

متجمدًا في مكانه من الصدمة، حدَّق روبرت فيها.

لاحظَ ستانلي، عند التفاتِه ليأخذَ من قبضة روبرت الورقَ الذي كان يحمله، استغراقَه في التركيز فأثنى على ذلك.

قال: «عددٌ لطيف نوعًا ما.» ثم أردف قائلًا: «تُذكرني بفتاةٍ كنتُ أعرفُها في مصر. لها العينان المتباعِدتان نفسُهما. كانت فتاة لطيفة. أدْلَت بأكاذيبَ مختلَقةٍ لا مثيل لها.»

عاد مرةً أخرى إلى ترتيب أوراقه، لكن روبرت ظلَّ مُحدقًا.

هذه هي الفتاة.

كتبت الصحيفة ذلك بحروفٍ سوداء كبيرة في أعلى الصفحة، ثم شغل ثُلثَي الصفحة، أسفل منها، صورة الفتاة. ويَليهما، بخطٍّ أصغرَ حجمًا لكنه لا يزال واضحًا، كتبت:

أهذا هو المنزل؟

وأسفل منها صورةٌ فوتوغرافية لمنزل فرنتشايز.

وبعرض الجزء السُّفلي من الصفحة كُتب تعليق على الصورة:

الفتاة تقول نعم: فماذا تقول الشرطة؟

انظر القصة في الداخل.

مد يده وقلَبَ الصفحة.

حسنًا، كل التفاصيل كانت مذكورة، فيما عدا اسم السيدتَين شارب.

أنزلَ الصفحة، ثم نظر مجددًا إلى الصورة الصادمة في الصفحة الأولى. في البارحة كان فرنتشايز منزلًا مُحصَّنًا بأربعة أسوارٍ عالية، مُتواريًا عن الأنظار، مُتفردًا في ذاته، حتى إن ميلفورد لم تعرف كيف كان يبدو. أما الآن، فقد أصبح مَحطًّا للنظر عند كل كشكٍ لبيع الكتب، وعند كل منضدةٍ لبائع صحفٍ من مدينة بينزانس إلى بينتلاند. فواجِهتُه المستوية المنفِّرةُ أبرزَت براءةَ هذا الوجه الذي ظهر فوقه.

كانت صورةُ الفتاة تُبرز رأسها وكتفَيها، فبدَت أنها صورة مأخوذة في استديو تصوير فوتوغرافي. شعرها كان يبدو أنه مُصفَّف ليليقَ بمناسبةٍ ما، وكانت ترتدي ما يبدو أنه فستانُ حفلٍ. كانت تبدو من دون معطفها المدرسي ليست أقلَّ براءةً، ولا أكبرَ عُمرًا؛ لم تكن هكذا. بحث عن الكلمة التي قد تُعبر عما يُفكر فيه. كانت تبدو أقلَّ … حشمة، ألم تكن كذلك؟ فمعطفُ المدرسة قد منَع المرء من التفكير فيها بوصفِها امرأةً، مثلما تفعل ثيابُ الراهبات تمامًا. خطر ببالِه حينها، أنه قد يُكتَب بحثٌ كامل، عن الصفة الواقية التي تُضْفيها معاطفُ المدرسة. واقٍ بالمَعنيَين: درع واقٍ وزيٌّ تمويهي. والآن نظرًا إلى أن معطف المدرسة غيرُ موجود، فقد صارت أُنثى بدلًا من مجرد فتاة.

لكنها لا تزال ذاتَ الوجه الصغير، الطفولي، الجذَّاب على نحوٍ مُثير للشفقة. إن تعابيرَ الوجه العفوية، مع العينَين المُتباعِدتَين، والشفاهِ المُحمرَّة المُكتنزة التي تُضفي على فمِها انطباعًا بطفلٍ مُحبَط جعل شكلَها بأكملِه مُثيرًا للإعجاب. ليس أسقف لاربورو وحده الذي سيُصدق الروايةَ التي ستُدْلي بها صاحبةُ ذلك الوجه.

وجَّه سؤالًا إلى ستانلي: «هل لي أن أستعيرَ هذه الصحيفة؟»

قال ستانلي: «خُذها.» ثم تابع قائلًا: «حصَلنا عليها لتُسلِّيَنا في استراحتنا الصباحية. لا شيء بها.»

اندهش روبرت. وسأل، مشيرًا إلى الصفحة الأولى: «ألا تجدُ في هذا شيئًا مثيرًا للاهتمام؟»

ألقى ستانلي نظرةً على الوجه المصوَّر. «ليس إلا أنها ذكَّرَتني بتلك الفتاة في مصر، وأكاذيبها وكل شيء بشأنها.»

«لهذا لم تُصدِّق تلك القصةَ التي أدْلَت بها؟»

قال ستانلي، بازدراء: «ما رأيُك أنت؟!»

«أين كانت الفتاة في ظنِّك، إذن، طوال هذا الوقت؟»

قال ستانلي: «إن كنتُ أتذكَّر ما أظن أني أتذكُّره عن فتاة البحر الأحمر، فسأقول بالتأكيد — أوه، لكن بكل تأكيد — إنها قضَت تلك الآوِنة في العربدة»، ثم انصرف لمُباشرة أحد الزبائن.

حمل روبرت الصحيفة، وانصرف في وقار. على الأقلِّ رجلٌ واحد في الشارع لم يكن قد صدَّق القصة؛ لكن ذلك بدا راجعًا لذكرى قديمة بقدْر ما كان راجعًا لحالة تشكُّك حاليَّة.

رغم أن ستانلي قد قرأ القصةَ بوضوحٍ جليٍّ من دون قراءة أسماء الشخصيات المَعنيَّة، أو حتى أسماء الأماكن، فليس إلا عشَرة بالمائة من القُرَّاء فعلوا الشيء نفسَه (طبقًا لما توصَّل إليه مشروع ماس أوبزرفيشن)، أما التسعون بالمائة الآخَرون فسيكونون قد قرَءوا كل كلمة، وسيُناقشون القضية في تلك اللحظة بدرجاتٍ متفاوتة من الاستمتاع.

عند وصوله إلى مكتبه وجَد أن هالم كان يُحاول الوصولَ إليه عبر الهاتف.

قال روبرت للسيد هيزيلتاين العجوز، الذي كان قد أطلَعه على آخر المُستجِدَّات لدى وصوله، وكان واقفًا في تلك اللحظة عند باب غرفته: «ادخل وأغلِق الباب من فضلك.» ثم أضاف قائلًا: «وألقِ نظرةً على هذا.»

أخذ روبرت سماعةَ الهاتف بيدٍ واحدة، ووضع الصحيفة أمام السيد هيزيلتاين مباشرةً باليد الأخرى.

لمسَها العجوز بيده الصغيرة الدقيقة، وكأنه يرى وثيقةً غريبة لأول مرة. ثم قال: «هذه هي الصحيفة التي أسمع عنها كثيرًا.» ثم أوْلى تركيزه إليها، كما كان سيفعل مع أيِّ وثيقة غيرِ مألوفة.

قال هالم، عندما اتصل به: «صار كِلانا في موقفٍ حَرِج، أليس كذلك؟!» ونقَّب في مفرَداته عن أوصافٍ تتناسَبُ مع صحيفة «أك-إيما». أنهى حديثه، منشغلًا بطبيعة الحال بوجهة نظر الشرطة: «وكأنَّ الشرطة لم يكن لدَيها ما يكفيها من عمل دون وجود هذه الصحيفةِ الصفراء في أعقابها!»

«هل علمتَ أيَّ أخبار جديدة من سكوتلاند يارد؟»

«لم يتوقف جرانت عن المكالمات منذ الساعة التاسعة صباحَ اليوم. لكن ليس بوُسعهم أن يفعلوا شيئًا. ليس أمامك سوى أن تبتسِمَ ابتسامةً عريضة وتتقبَّلَ الأمر. دائمًا ما تكون الشرطة مَحطَّ نقدٍ. لا شيء بوُسعك أن تفعله، حتى، إذا وصلَت الأمور إلى ذلك.»

علَّق روبرت: «هذا صحيح. لدَينا صحافة حرة راقية.»

ذكر هالم بضعةَ أمور أخرى عن الصحافة. وسأل: «هل علمَت السيدتان بالأمر؟»

«لا أظن ذلك. أثقُ تمامًا أنهما ربما لا يطَّلِعان في العادة على صحيفة «أك-إيما»، ولم يسنح الوقتُ لأصحاب النفوس الطيبة أن يُرسلوها إليهما. لكنْ لديهما موعدٌ هنا في غضون عشر دقائق، وسأعرض عليهما الصحيفة حينها.»

«إن كان لي أن أشعر بالأسف على تلك المرأة المُتسلِّطة العجوز، فستكون هي تلك اللحظة.»

«كيف حصلت «أك-إيما» على القصة؟ أظن أن الوالدَين — أقصد الوصيَّين على الفتاة — كانا مُعارضَين بشدةٍ لمثل هذا النشر.»

«يقول جرانت إن أخا الفتاة استشاط غضبًا من امتناع الشرطة عن اتخاذِ أي إجراءٍ، فذهب إلى صحيفة «أك-إيما» من تِلقاء نفسه. فهُم بارعون في الحملات الدفاعية. ««أك-إيما» ستتأكَّد من فعل الشيء المناسب!» عرَفت ذات مرة أن إحدى تلك الحملات قد دخلَت في يومها الثالث.»

عندما أنهى المُكالمةَ ظن روبرت أنه إذا كان هناك ضررٌ لكِلا الطرفَين، فهو على أقلِّ تقدير ضررٌ متكافئ. فالشرطة بلا شكٍّ ستُضاعف جهودها من أجل العثور على دليلٍ مؤكد؛ وعلى الجانب الآخَر فإن نشر صورة الفتاة يعني للسيدتَين شارب أن ثمة أملًا ضعيفًا أن يُقر شخصٌ ما، في مكانٍ ما، ويقول: «ليس مُمكنًا لهذه الفتاة أنها كانت في منزل فرنتشايز في ذلك التاريخ المُعلَن؛ لأنها كانت في المكان الفلاني».

قال السيد هيزيلتاين: «قصة صادمة يا سيد روبرت. وإن جاز لي القول فإن المقال صادم تمامًا. هجومي إلى أقصى درجة.»

قال روبرت: «ذلك المنزل هو منزل فرنتشايز، حيث تعيش السيدة شارب العجوز وابنتها؛ وهو المكان الذي ذهبتُ إليه منذ بضعة أيام، إن كنتَ تتذكَّر؛ لأُقدِّم لهما استشارة قانونية.»

«أتقصد أن هاتَين مُوكِّلتان لدَينا؟»

«أجل.»

«لكن يا سيد روبرت، هذا بعيدٌ عن مجال اختصاصنا.» جفل روبرت من الخوف الذي لمسَه في صوته. «هذا بعيدٌ تمامًا عمَّا نعتاد عليه — في الواقع خارج عملِنا المعتاد تمامًا — فنحن لسنا مُختصِّين …»

قال روبرت، بفُتور: «أعتقد أننا مُختصُّون في الدفاع عن أي موكلٍ ضد صحيفةٍ مثل «أك-إيما».»

نظر السيد هيزيلتاين إلى الصحيفة الصفراء الصادمة على المنضدة. كان يُواجِه بكلِّ وضوحٍ الاختيارَ المُعضِل بين مُوكِّل جانٍ وصحيفةٍ مُخزية.

سأل روبرت: «هل صدَّقتَ قصة الفتاة عندما قرأتَها؟»

قال السيد هيزيلتاين ببساطة: «لا أفهم كيف لها أن تَختلِقَها.» ثم أضاف قائلًا: «إنها قصةٌ مفصَّلة تمامًا، أليس كذلك؟»

أضاف روبرت قائلًا: «هي كذلك، حقًّا. لكني رأيتُ الفتاة في الأسبوع الماضي عندما استُدعِيَت إلى منزل فرنتشايز لتتعرف عليه — كان ذلك هو اليومَ الذي انصرفتُ فيه على عجالة بعد الشاي مباشرةً — ولا أُصدق كلمةً مما تقولها الفتاة. ولا كلمة واحدة»، وسرَّه أنه تمكَّن من قولها لنفسه بصوتٍ عالٍ وبوضوح، وأنه تأكَّد أخيرًا أنه صدَّق ذلك.

«لكن كيف من الممكن لها أن تتصوَّر منزلَ فرنتشايز بأيِّ شكلٍ من الأشكال، أو تعرف كل تلك التفاصيل، إن لم تكن قد ذهبَت إلى هناك؟»

«لا أعرف. ليس لديَّ أدنى فكرة.»

«أكثرُ مكانٍ اختياره مُستبعَد، بكل تأكيد؛ منزلٌ ناءٍ، مُتوارٍ عن النظر، على طريق مهجور، في بلدةٍ ريفية لا يزورها الناس كثيرًا.»

«أعرف ذلك. لا أعلم كيف تمَّ هذا، لكن أثِق أن القصة كلها مُختلَقة. إن الاختيار ليس بين روايتَين، إنما بين طرفَين. أثق تمامًا أن السيدتَين شارب عاجزتان عن ارتكابِ تصرُّف أحمقَ مثل ذلك. وفي الوقت نفسِه لا أُصدِّق أن الفتاة عاجزةٌ عن اختلاق روايةٍ مثل تلك. هذا ما قد يحتمله الأمر.» ثم توقف برهةً. وأضاف مُستخدِمًا مع الموظف العجوز كنيتَه في الطفولة: «ليس عليك سوى أن تثقَ في حُكمي على هذا الأمر، يا تيمي.»

سواءٌ أكان بسبب مُناداته باسم «تيمي» أو بسبب الجدال، بدا واضحًا أن السيد هيزيلتاين لم يعد لدَيه اعتراضٌ آخرُ ليُبديَه.

قال روبرت: «سترى المجرمتَين بنفسك؛ لأني أسمع صوتيهما في الردهة الآن. بإمكانك أن تُحضرهنَّ إلى هنا، إذا تكرَّمَت.»

انصرف السيد هيزيلتاين صامتًا إلى مُهمته، وقلب روبرت الصحيفة على وجهها حتى يُصبح الخبرُ المؤذي نسبيًّا بشأن «هروب فتاةٍ إلى الخارج» هو كلَّ ما تقع عليه أعيُن الزائرتَين.

كانت السيدة شارب، مدفوعةً بحماسةٍ جاءتها متأخرًا من أجل اللقاء، قد ارتدَتْ قبعةً على شرف المناسبة. كانت شيئًا مسطحًا من الساتان الأسود، وأوحى الانطباعُ العام بشخصٍ حاصل على درجة الدكتوراه. ذلك الانطباع الذي لم يكن قد ذهب هَباءً كان واضحًا من نظرة الارتياح التي اعتلَت وجْهَ السيد هيزيلتاين. بدا واضحًا تمامًا أنها لم تكن من المُوكِّلين الذين قد توقَّعَهم؛ بل، على الجانب الآخر، كانت من المُوكِّلين الذين اعتاد عليهم.

قال روبرت إليه، عندما رحَّب بالزائرتَين: «لا تنصرف»، ثم قال للسيدتَين: «أودُّ أن أُقدِّم لكما أَقْدَمَ فردٍ في المكتب؛ السيد هيزيلتاين.»

كان مناسبًا أن تتحلَّى السيدة شارب باللُّطف؛ فكانت وهي لطيفةٌ تُشبه فيكتوريا ريجينا إلى أقصى درجة. بدا السيد هيزيلتاين أكثرَ ارتياحًا؛ فأعلن استسلامَه. وبهذا انتهت المعركة الأولى لروبرت.

عندما صاروا على انفرادٍ لاحظ روبرت أن ماريون كانت تنتظر حتى تقولَ شيئًا.

قالت: «شيءٌ عجيب حدث صباح اليوم». وتابعَت: «فقد ذهبنا إلى مقهى آن بولين لنشرب قهوة — نفعل ذلك بصفة مُتكررة — وكانت هناك منضدتان شاغرتان، لكن ما إن رأتنا الآنسة ترولاف حتى أمالت الكراسيَّ سريعًا على المنضدتَين وقالت إنهما محجوزتان. كنت سأُصدِّقها لو لم تَبدُ مرتبكةً للغاية. أنت لا تظن أن الشائعات بدأَت تُحدِث أثرًا، أليس كذلك؟ وأنها فعلَت ذلك لأنها سمِعَت بعض الشائعات؟»

قال روبرت، بأسفٍ: «لا، لأنها قرأت إصدارَ هذا الصباحِ من صحيفة «أك-إيما».» ثم قَلَبَ الصحيفة لتظهرَ الصفحةُ الأولى منها. «أعتذر كثيرًا لكما على تلك الأخبار السيئة. ليس عليكما سوى أن تُطْبِقا فمَكما وتتقبَّلاه، كما يقول الصِّبية الصغار. لا أظن أنكما قد رأيتما من قبلُ هذه الصحيفةَ الصفراء المؤذية عن قرب. من المُثير للشفقة أن تبدأ معرفة الأمر على نطاق شخصي هكذا.»

قالت ماريون في استنكارٍ مؤثِّر عندما وقعَت عيناها على صورة منزل فرنتشايز: «يا إلهي، غير معقول!»

ثم ساد صمتٌ تامٌّ بينما كانتا تَستوعِبان محتويات الصفحة الداخلية.

قالت السيدة شارب أخيرًا: «أعتقد أنه لا يحقُّ لنا الحصولُ على تعويضٍ مُقابل أخبار على هذه الشاكلة؟»

قالت روبرت: «بتاتًا.» ثم أردف قائلًا: «جميع الإفادات صحيحةٌ تمامًا. والأمر كلُّه متعلقٌ بالإفادات ولا يُوجَد تعليقٌ عليها. حتى وإن كان هناك تعليق — ولا أشكُّ أن التعليق سيأتي لا محالة — لم تُوجَّه أيُّ تُهَم وبذلك فالقضية ليست أمامَ القضاء. فلهم مطلقُ الحرية أن يُعلقوا إذا شاءوا.»

قالت ماريون: «الأمر برُمته يتلخَّص في تعليق ضمني خطير.» ثم أضافت قائلةً: «إن الشرطة أخفقَت في أن تؤدِّيَ واجبها. ماذا يظنُّون أننا فعلنا؟ قدَّمنا رِشوة إليهم؟»

«أظن أن الاقتراح المطروح هو أن الضحية الضعيفة لها تأثيرٌ أقلُّ على الشرطة من الغني الخبيث.»

كرَّرَت ماريون، وصوتُها يختنِق من الاستياء: «غني.»

«أي شخص لديه أكثرُ من ست مِدفَآت يُعَدُّ غنيًّا. دعونا من هذا. إن لم تكن أصابتكما صدمةٌ شديدة تمنعكما عن التفكير، فلتُفكِّرا. نحن متأكدون من أن الفتاة لم تذهب قطُّ إلى منزل فرنتشايز، وأنه لم يكن بوسعها …» لكن ماريون قاطعَته.

سألته: «هل أنت متأكد من ذلك؟»

قال روبرت: «أجل.»

تبدَّد من عينَيها المُتحدِّيتَين نظرة التحدي، فغضَّت بصرها.

وقالت بهدوء: «شكرًا لك.»

«إذا لم تكن الفتاةُ قد ذهبت إلى هناك مطلقًا، فكيف تمكَّنَت من رؤية المنزل؟! لقد رأتْه بالفعل بطريقةٍ ما. ومن المُستبعَد تمامًا الاعتقادُ بأنها كانت تُكرر فحسبُ وصفًا أعطاه لها شخصٌ آخر … كيف تمكَّنَت من رؤيته؟ أقصد، بشكلٍ طبيعي.»

قالت ماريون: «بإمكانك رؤيته، حسَب ظني، من الطابق العُلوي لإحدى الحافلات.» ثم تابعَت قائلة: «لكن لا تُوجَد حافلات ذاتُ طابقَين على طريق ميلفورد. أو من أعلى شحنة قشٍّ. لكنه توقيتٌ غير مناسِب من السنة للقش.»

علَّقَت السيدة شارب بصوتٍ مُحشرَج: «ربما كان توقيتًا غيرَ مناسب للقش، لكن لا يُوجَد موسم مُحدَّد لبقية حمولات الشاحنات. كنتُ أرى شاحناتٍ مُحمَّلة ببضائعَ مثلها كمثل القش.»

قالت ماريون: «أجل.» ثم أضافت قائلة: «لنفرض أنَّ ما وصَّل الفتاةَ لم تكن سيارةً، وإنما شاحنة.»

«هناك أمرٌ واحد يُعارض هذا الافتراض. إن كانت الفتاة أوصَلَتها شاحنةٌ فعلى الأرجح ستجلس في المقصورة، حتى لو وصل الأمر أن تجلس على رُكبة أحدهم. فلم يكونوا ليُجلِسوها أعلى الحمولة. لا سيما أن الجو كان مُمطرًا في المساء، كما لعلكِ تتذكَّرين … ألم يأتِ أحدٌ قطُّ إلى منزل فرنتشايز ليسألَ عن الطريق، أو ليبيعَ شيئًا، أو ليُصلح شيئًا — شخصٌ من المُرجَّح أن الفتاة كانت معه، حتى ولو في الخلف؟»

لكن لم يحدُث ذلك؛ فهما واثِقتان أنه لم يكن قد أتى أحدٌ، في المدة التي كانت تقضي فيها الفتاةُ إجازتها.

«سنعتبِر من البديهيِّ إذن أنَّ ما عرَفته عن منزل فرنتشايز كان بسبب وقوفها على ارتفاعٍ عالٍ بما يكفي في ظرفٍ ما لترى مِن فوق السور. ربما لن نعرِف أبدًا متى أو كيف، وربما لن نتمكَّن من إثباته إذا عرَفنا بالفعل. ولهذا لا بدَّ أن تُكرَّس جُلُّ جهودنا، ليس في إثبات أنها لم تكن في منزل فرنتشايز، وإنما في إثبات أنها كانت في مكانٍ آخَر.»

سألت السيدة شارب: «وما فرصة حدوث ذلك؟»

قال روبرت، مشيرًا إلى الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما»: «لدَينا فرصة أفضل مما كانت قبل أن يُنشَر هذا.» ثم تابع قائلًا: «في الواقع هذه النقطةُ المضيئة الوحيدة في هذا العمل الشائن. كان من غير المُمكن لنا أن ننشُرَ صورة الفتاة على أمل أن نحصُل على معلوماتٍ عن الأماكن التي تردَّدَت عليها أثناء ذلك الشهر. لكن الآن بعد أن قاموا بنشرها — أقصد أهلها — فستعود إلينا الفائدة نفسُها. نشروا القصة — وهذا من سوء حظِّنا؛ لكنهم كذلك نشروا الصورة — وإن حالَفَنا الحظ بأي حالٍ من الأحوال فسيُلاحظ شخصٌ ما، في مكانٍ ما، أن القصة والصورة لا تتوافقان. وأن في هذا التوقيت المُحدَّد، كما ورد في القصة، لا يمكن لصاحبة الصورة أن تكون في ذلك المكان المذكور؛ لأنهم يعرفون، بصفةٍ شخصية، أنها كانت في مكانٍ آخر.»

تبدَّد قليلًا الحزنُ الذي ظهر على وجه ماريون، وكذلك الظهر النحيل للسيدة شارب صار أقلَّ تيبُّسًا. الأمر الذي قد بدا أنه كارثةً ربما يُصبح، رغم كل هذا، سبيلَ النجاة لهما.

سألت السيدة شارب: «وماذا في وُسعنا أن نفعله بخصوص التحرِّيات الخاصة؟» ثم تابعت قائلةً: «أنت تُدرك، كما أتوقع، أن نقودنا قليلة، وأعتقد أن التحريات الخاصةَ هي مهمة تستنزف أموالًا طائلة.»

«يتجاوز المبلغ عادةً المبلغ الذي قد اتُّفق عليه، لأن من الصعب تحديدَ ميزانية لها. لكن حتى نبدأ سأذهب، شخصيًّا، لمقابلة عدة أشخاص من أهلها ممَّن لهم صلةٌ بالأمر، وسأكتشف، إن أمكن، إلى أي اتجاهٍ يجب أن تستند التحريات. وأكتشفُ ما المُحتمل أنها كانت تفعله.»

«هل سيُخبرونك بهذا؟»

«بالطبع، لا. هم على الأرجح لا يعلمون توجُّهاتِها. لكن إن تحدثوا عنها بأي حالٍ من الأحوال فلا بدَّ لتصوُّرٍ ما أن يتشكَّل. أتمنَّى ذلك على أقل تقدير.»

سادت لحظاتٌ من الصمت.

«أنت طيب بدرجةٍ غير عادية، يا سيد بلير.»

كانت فيكتوريا ريجينا قد عادت إلى طريقة السيدة شارب، لكن ثمَّة إشارة خفية إلى شيء آخر. يكاد يكون التفاجؤ، وكأنَّ الطيبة لم تكن أحدَ الأمور التي قد تعرَّضَت لها عادةً في الحياة، ولا توقَّعَت أن تتعرَّض لها. فكان إقرارها اللطيف المُتكلَّف مُعبرًا كما لو أنها قد قالت: «أنت تعرف أننا فقراء، وربما لا نَقدِر على دفع أتعابك كما ينبغي، ولسْنا على الإطلاق من الناس الذين قد تختار أن تُمثِّلهم، لكنك ستَحيد عن مجال تخصُّصِك لكي تُقدم لنا أفضلَ خدمةٍ في مَقدرتك؛ ولهذا نحن مُمتنُّون لك.»

سألَت ماريون: «متي تنوي الذهاب؟»

«بعد الغداء مباشرة.»

«اليوم!»

«كلَّما أسرعْنا كان ذلك أفضل.»

قالت السيدة شارب، وهي تنهض: «لن نؤخِّرك إذن.» ثم وقفَت برهةً تنظر لأسفل إلى الصحيفة حيث كانت مفتوحةً على المنضدة. وقالت: «استمتعنا بالخصوصية في منزل فرنتشايز مدةً طويلة.»

عندما رأى أنهما انصرَفَتا خارجَ الباب واستقلَّتا سيارتهما، استدعى نيفيل إلى غرفته وأخذ سماعة الهاتف ليتحدَّث إلى العمة لين بشأن حَزْم حقيبةٍ له.

وجَّه سؤالًا إلى نيفيل: «أظنُّك لا تطَّلع أبدًا على صحيفة «أك-إيما»؟»

أجاب نيفيل: «أظن أن هذا السؤال هو سؤال بلاغي.»

«انظر إلى عدد هذا الصباح. مرحبًا عمة لين.»

«هل يُريد أحدٌ أن يُقاضِيَهم بسبب شيء؟ سيدفع إلينا بمبلغ لا بأس به من المال، إنْ حدث ذلك. فهم عادةً يتوصَّلون إلى اتفاقٍ بعيدًا عن المحكمة. ويُخصِّصون مبالغَ من أجل …» تلاشى صوتُ نيفيل. فقد رأى الصفحةَ الأولى التي كانت تُحدِّق إليه من المنضدة.

اختلسَ روبرت نظرةً إليه من فوق الهاتف، ولاحظ بسعادةٍ الصدمةَ الواضحة على الملامح الشابَّة الواعدة لابن عمه. فشباب اليوم، كما فهم، يظنُّون بأنفسهم أنهم لا يهتزُّون لصدمة، وكان من الجيد معرفةُ أنهم يستجيبون، مثلهم كمثل أي إنسان آخر، أمام صفعةٍ عادية من الحياة الواقعية.

«كوني لطيفة عمة لين، واحزمي حقيبةً من أجلي، هل من الممكن ذلك؟ لليلةٍ واحدة …»

كان نيفيل قد فتَح الصحيفة على عجلٍ وأخذ يقرأ القصة في تلك اللحظة.

«إلى لندن وسأعود، هكذا أتوقَّع، لكني لستُ واثقًا. على أي حال، تكفي الحقيبة الصغيرة، وأقلُّ كَميةٍ من الأغراض. وليس كل شيءٍ ربما أحتاج إليه، إن كنتِ تُحبينني. المرةَ السابقة كانت هناك زجاجةٌ من مسحوق الهضم يصِل وزنُها إلى قرابة رطل، عجبًا متى كنتُ في حاجةٍ إلى مسحوقِ هضم … حسنًا، ستُصيبني قروحٌ إذن … أجل، سأحضر على الغداء في غضون نحو عشر دقائق.»

قال الشاعر والمفكر، مُتراجعًا عن رغبته في استخدام اللهجة العامية: ««الخنزيرة» اللعينة!»

«حسنًا، ما رأيك؟»

«رأيي! عن أي شيء؟»

«قصة الفتاة.»

«وهل على الواحد منَّا أن يُكوِّن أيَّ رأيٍ من هذه؟ قصة مُثيرة بكلِّ وضوح ترويها مراهقةٌ مختلَّة؟»

«وماذا إن أخبرتُك بأن تلك المُراهِقةَ هي طالبةٌ هادئة للغاية، عادية، سيرتُها طيبة ولا يمكن أن تصفَها بأي شيءٍ سوى أنها رائعة.»

«هل رأيتها؟»

«أجل. كان ذلك سببَ ذَهابي إلى منزل فرنتشايز الأسبوعَ الماضي، لأحضر المواجهةَ عندما أحضرَت سكوتلاند يارد الفتاةَ لتُواجههما.» وقال في نفسه: عليك أن تتقبل ذلك، أيها الشاب نيفيل. وأضاف: إنها ربما تتحدَّث معك عن الدجاج أو عن موباسان، لكنها تلجأ إليَّ أنا عندما تقع في مأزق.

«لتحضر المواجهة مُحاميًا لهما.»

«بكل تأكيد.»

شعَر نيفيل بالارتياح فجأة. «يا إلهي، حسنًا؛ هذا جيد. ظننتُك لوهلةٍ ضدَّها. أقصد ضدَّهما. لكن هذا جيد. بإمكاننا الانضمامُ إلى قوات الشرطة لنُحبط مسعى هذه … — فحرَّك الصحيفة — هذه الدمية الصغيرة.» ضحك روبرت على اختيار نيفيل لهذا الوصف كما هو متوقَّعٌ منه. «ماذا تنوي فعله حيال الأمر يا روبرت؟»

فأخبره روبرت. «وأنت ستتولَّى مُباشَرةَ العمل نيابةً عنِّي أثناء غيابي.» لاحظَ أن انتباه نيفيل قد انصرف مرةً أخرى إلى «الدمية الصغيرة». فتحرَّك نحوه لينضمَّ إليه وارْتأَيا معًا أن ذلك الوجه الصغير ينظر في هدوءٍ شديد إليهما في الأعلى.

قال روبرت: «وجه جذَّاب، على العموم.» ثم أضاف قائلًا: «ما انطباعُك عنه؟»

قال المُولَع بالجمال، بحقدٍ دفين: «الشيء الذي أحب أن أستشفَّه منه هو أنه وجه خبيث.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤