الحفلة

جيمس ماثيوز
جنوب أفريقيا

ولد «جيمس ماثيوز» عام ١٩٢٩م في جنوب أفريقيا .. عمل في الصحافة مدة طويلة .. وتُرجِمت أشعاره وقصصه إلى عدة لغات، وقد نشرت أولى مجموعاته في السويد .. صدرت أولى مجموعاته الشعرية «صحية الغضب» في أمريكا وهولندا وفرنسا وألمانيا عام ١٩٧٣م، لكن ديوانه «صيحة الأصوات السوداء» تعرض للرقابة، وفي عام ١٩٧٦م تم اعتقاله لمدة أربعة أشهر كتب خلالها مجموعة من القصائد جمعها في ديوان بعنوان «أعطنى كرات اللحم يا جون».

حجرة كبيرة وفسيحة، يتجاوز اتساعها كل البيوت التي شاهدها من قبل، وحين راح يعقد مقارنة بينها وبين منزله المُكوَّن من حجرتين صغيرتين للنوم وحجرة للمعيشة والطعام؛ عرف أن منزله يعادل نصف هذه الحجرة الكبيرة ذات الطلاء والقماش المزركش والحوائط المزينة بمرايا ذات إطارات من الذهب .. عند أحد أركان الحجرة الكبيرة كان من اليسير رؤية تلك التماثيل المنحوتة من العاج، أما السجادة فكانت ناعمة ومزدهرة كالمروج الخضراء.

الحجرة الكبيرة والناس كثيرون حتى إن الحجرة لم تكن كافية لاحتوائهم فكانوا يتخبطون ويندفعون نحو الصالة المؤدية إلى حجرات أخرى.

ضغطت المرأة بيديها فوق المقعد في محاولة للنهوض فبادرها بابتسامة رقيقة مهذبة، وحين شعر بفخذها يلامس فخذه حاول أن يبتعد بقَدَمه قليلًا غير أن محاولته لم تكن جادة؛ فراح يُغيِّر وضع أردافه كي ينهض لكنها عاجلته بنظرةٍ خاطفةٍ، ثم ابتسمت، وقالت: لا تنهض من فضلك .. إنه الزحام .. زحام بعض الشيء، وعلينا أن نعتاد ذلك؛ إذ يجب أن نملك القدرة على الاعتياد.

تحرك بجسده قليلًا حتى أصبحت المسافة بينهما أكبر مما كانت عليه ثم قال: لقد أخطأت حين شغلت مساحةً كبيرةً.

– كرم ولطف منك أن تقول ذلك، لكنني أخشى أن أكون أنا التي أخطأت .. نعم أنا التي أخطأت.

ثم ضحكَتْ وهي تُربِّت فوق أردافها مستطردة: لقد شغلت أكثر من مساحتي المفروضة.

أومأ برأسه مشيرًا إلى أن لديه أيضًا متاعبه مع الجسد الذي لم يكن دائمًا كما يرغب أن يكون؛ وهكذا فهو متعاطِف معها.

قالت: زحام .. زحام بعض الشيء.

أجاب: نعم.

– ماذا حدث؟ أين الشراب؟ هل شربت شيئًا؟

– لا.

– انتبه لمقعدي .. سأرى ماذا يمكنني أن أفعل.

وسرعان ما اختفت بين الأجساد في الزحام.

غيَّر من جلسته ومدَّد كلتا يديه فوق ذراع المقعد، ثم مال بظهره للوراء فاردًا قدميه، ولم يَعُد قادرًا على رؤية الناس من حوله .. تطلَّع إلى جمهور الحاضرين المحتشدين في الحجرة فأبصره كثيرًا من النساء اللاتي يفوق عددهن عدد الرجال .. كانت النساء من ذوات البشرة البيضاء، وأربعة فقط من الرجال السود، هو وثلاثة آخرون من الملونين يعرفهم معرفة جيدة، ولا يعرف أحدًا من الرجال البِيض.

كان غريبًا وسط حشد من الغرباء رغم أنهم جميعًا يتحدثون لغةً واحدةً .. تذكَّر لون بشرته؛ فأحس أنه في أرضٍ غريبةٍ فراح يُحدِّق في أرجاء الحجرة، ويتطلَّع بشغفٍ إلى أصدقائه الثلاثة؛ كي يقهر هذا الإحساس ويستعيد ثقته بنفسه، ثم انتصب واقفًا إلى جوار ذلك الحشد من الأجساد الملتصقة بعضها بالبعض حتى كاد أن ينخرط بينهم .. ظل يرمقهم بنظرات سريعة حتى توقفت عيناه عند تلك المجموعة في نهاية الحجرة؛ حيث كانوا يتحدَّثون بصوتٍ عالٍ، بينما كانت امرأة ما تُشير بيدها، وتتلوى في طريقها عبر الحجرة مثل راقصي الكونجا .. حاول أن يشق طريقه نحوهم فأبصر «رون» ممسكًا بالكأس في يده، وملوحًا في الهواء باليد الأخرى، وحين تجمعوا في حلقة مقفلة لم يستطع أن يرى سوى ظهورهم، غير أن تلك المجموعة قد أثارت انتباهه دون أن يعرف السبب، غير أن «رون» كان يُدير النقاش.

كان يحسد «رون» على هدوئه وقدرته على الاختلاط بأولئك الناس محطِّمًا حاجز اللون؛ مما جعل الأمر يبدو بالنسبة له طبيعيًّا وكأن شيئًا لا يعنيه .. كيف استطاع أن يعبُر تلك الفجوة؟ ظل يحسده دون حقد، وتمنى لو استطاع بمرور الوقت أن يكتسب هذه النعومة في التصرف، والقدرة على التخلص نهائيًّا من القلق الذي يساوره الآن.

امتلأت الحجرة بأصوات كثيرة متداخلة، ولم يكن من اليسير التمييز بين تلك الأصوات .. امتزجت أصوات الرجال الخشنة مع ملاحظات النساء الحادة اللاذعة، وكانت الضحكات مدوية، وكذا صخب الآلات الموسيقية الرنانة .. تقافزت إلى أذنه كلماتهم المتناثرة مثل موجات الراديو المتداخلة، وكانوا جميعًا يثرثرون.

ضحك أحدهم قائلًا: «جاك» فعلها مرة ثانية! قد يعتقد شخص ما أن لديه إحساسًا.

تساءل عن هوية «جاك»، وما الذي فعله لإثارة اهتمام المُتحدِّث وفرحة المستمعين!

– هل ستذهب إلى حفلة «مارجوت» يوم الجمعة مساء؟

– نعم يا عزيزتي.

– من سيجذب انتباهها هذه المرة؟

– لا أحد يعلم، وإذا شئت أن أخمن — من خلال دعوتها السابقة — فإنه عبقري آخر تستطيع «مارجوت» إدراك موهبته .. هل أنتِ ذاهبة؟

– لا .. لست في حاجة شديدة لتناول وجبة.

عاودته الشكوك، فهل كان في غير حاجة لذلك؟ وكيف يتوق للتعامل معهم؟ تمنى لو كان طبيعيًّا وسط ذلك الحشد من الناس ذوي السلوكيات المختلفة والألسنة الحادة، وألا يكون في حاجة للدفاع عن نفسه.

أصرَّ «رون» على ذهاب «وليام» معهم، وكانت الحفلة من أجل نشر الكتاب الثالث لمؤلفه؛ حيث للنقد أهميته .. كان «رون» شديد الإعجاب به عندما نشر كتابه الأول، ثم أصبح مؤيدًا له بعد قراءته لبقية أعماله .. كان «رون» قد أخبره أن اللقاء سيكون منظمًا، لكنه تراجع في البداية غير أن الدعوة و«رون» جعلاه يعدل عن رأيه.

قال «رون»: اسمع يا «وليام» .. لقد عانيت كثيرًا من أجل دعوتك للحفلة؛ إذ يمكنك هناك مقابلة «كولن آشورت»، فلقد حان الوقت لمقابلة الناس؛ ولا بد من أن تتلمس طريقك.

ذهب قبل موعده بقليل وانتابه الخجل من فكرة المقابلة فسارع «رون» بتقديمه إلى «كولن»: إنه «وليام أبوللوس» .. إنه يقسم بك كاتبًا.

حرَّك يده في غير مودة لتحية ذلك الرجل الأبيض، وقال وهو يرفع رأسه: كيف حالك؟ .. ثم ما لبث أن احتقر نفسه لتفوهه بتلك البداية التقليدية التافهة.

قال «كولن» مخاطبًا «رون»: أوه .. إنه «وليام» الذي أخبرتني عنه.

ثم قال ل «وليام»: أعرف يا «وليام» أنك أيضًا تكتب، فهل لي أن أرى بعض أعمالك الآن؟

نظر بعينين متسائلتين وأحسَّ حرارة ساخنة تتدفق في عروقه، ثم قال متلعثمًا: نعم .. نعم.

انصرفت ربة البيت لاستقبال ضيفين آخرين، وكان الضيوف يملئون الحجرة بينما يُلوح «رون» بالتحية لهم ويتوقف قليلًا للحديث مع بعضهم ثم يواصل السير .. عندئذٍ انفصل «وليام» عن الآخرين واختار لنفسه مقعدًا.

امرأة جذابة ذات شعر أحمر كانت تتنقل بالصينية من مكان لآخر، وحين توقفت أمام «وليام» قدمت له كأسًا من الشيري؛ فابتسم لها.

كانوا جميعًا ظرفاء ومهذبين، وبهدوء انتقلت المرأة إلى شخص آخر في المقعد التالي، فراح «وليام» يخترق بنظراته صوب المرأة ذات الملابس الضيقة حتى تملكه — مرة أخرى — إحساس بأنهم يلعبون دورًا في السينما، وكان يرى حركاتهم ذات أبعاد ثلاثة، كما كانت ثرثراتهم تُضفي على المشهد مزيدًا من الإثارة.

غرق في أفكاره الخاصة متجاهلًا الجالسِين إلى جواره، وربما كان قد نسيهم .. كانت عيناه مصوبتين نحو شخصٍ معينٍ افتقده لحظة، ثم أبصره مرة ثانية.

استهوته المرأة التي لم تكن صغيرة وشابة، لكن طريقتها في الوقوف والجلوس والمشي كانت تُوحي بشبابها الرائع الذي انقضى .. كانت كمن تقوم بدور الأميرة أو الملكة .. رغب في متابعتها، وبشغف كان يطلع إليها وهو يُحصي عدد المرات التي فكَّر فيها جيدًا قبل أن يفقدها في النهاية.

لم يتوقفوا عن النظر إليه ومراقبته؛ فراح يتوخَّى الحذر في تصرفاته، وكَمَن يشعر بالذنب، كان يرفع رأسه مثل ولد صغير أمسكوه وهو يختلس النظر إلى أشياء ممنوعة، وحين اقتربت منه المرأة التي قدمت له الشراب — وكانت تحمل صينية تحوي أطباقًا من الوجبات الخفيفة، وطاسة من خليط الجوز والبندق، وكوبين من الشراب المسكر وعصير الليمون — قفز واقفًا على قدميه، لكنها جلستْ، وقالت: تفضل بالجلوس.

تحركت بجسدها لتفسح له مكانًا فغرق بجوارها في المقعد، ثم أضافت: أحضرت لك طعامًا؛ لأنك — كما يبدو — لم تتناول شيئًا منذ جئت، غير أنني رأيتك أخيرًا تشرب كأسًا.

– لا .. شكرًا.

لكنه أمام إصرارها شرب كأسًا أخرى، ثم وضع الكأس الفارغة بعناية في جانب الصينية، وكانت ابتسامتها الغريبة قد بدَّدت كثيرًا من حرصه وحذره.

– ماذا تعمل؟

– إنني أكتب أو على الأقل أحاول أن أكتب.

– هل لك كتابات مطبوعة؟

– خمس مطبوعات.

توقف عن الحديث وبدا خائفًا كتلميذ في مدرسة، فقالت بسرعةٍ واستفزازٍ: أين طبعت أعمالك هذه؟

– كل أعمالي تم طبعها ما عدا عمل وحيد نُشِر في لندن هو «بائعة الزهور».

– انتظر دقيقة .. أعتقد أنني قرأتها، أليست هي الرواية التي تقع أحداثها في سفينة تجارية كبيرة؟ لقد استمتعت بها؛ إذن أنت «وليام أبوللوس»؟

ابتهج وانتابه وهج الدفء عندما تذكرت اسم الكاتب.

ثم أضافت: أنت أيضًا الذي كتب «أمنية عيد الميلاد الساخن» و«العملة الذهبية» .. أوه .. لقد كنت على صواب حين قلت لنفسي: إن تلك القصص ليست من إبداع كاتب أبيض؛ فهي قصص واقعية جدًّا، كما أنها أكثر اقترابًا من الحياة.

تحسست كتفه بنعومة واستطردت: هل تعرف ماذا أعني؟ أرغب في القول إنني سعيدة بلقائك بعد أن استمتعت بقصصك .. حقًّا لقد استمتعت بها جدًّا.

ثم أشارت بيدها إلى صدرها: أنا «مارجوت بيرس».

لفَّ يده بحذرٍ شديدٍ حول يدها الناعمة، ثم تساءل بينه وبين نفسه عمَّا إذا كانت هي «مارجوت» نفسها التي قامت بدعوة أقبح الناس إلى مائدتها!

قالت وكأنها تؤكد له: يجب أن تأتي إلى مائدتي حيث الطعام والشراب؛ نستطيع أن نتبادل الحديث؛ فثمة أشخاص أودُّ لو تقابلهم.

حدثته عن بعض أسماء الكُتَّاب الفنانين والنحاتين الذين سمع عنهم من «رون» ولم يكونوا معروفين تمامًا، لكنهم في طريقهم نحو الشُّهرة؛ فانفجر ضاحكًا ولم يستطع أن يتمالك نفسه.

نظرت إليه بارتباك قائلة: هل دعوتي لك مضحكة إلى هذا الحد؟

– لا .. كنت أفكر في شيء آخر حدثني به شخص ما.

ثم قال لنفسه: شيء يبعث على المرح .. كيف يكون تناول الغذاء أو العشاء في بيت كبير وفوق مائدة طويلة مغطاة بقماش مُطرَّز بالذهب ومفارش بيضاء وصفوف من الملاعق والسكاكين .. إنَّ أُمَّه دائمًا تجهز الطعام ويتناولانه في المطبخ، ولا يستخدمون حجرة الطعام إلا في الإجازات والأعياد الدينية فقط.

– متى ترغب في الحضور؟ ومتى تستطيع؟ الجمعة القادمة؟ استطيع أن أكلف أحدًا بإحضارك أو أنك تفضل الحضور بالأتوبيس؟ أنا أقيم في «٣ شارع آنشور باي – طريق جون»، لن تخطئ في العنوان، فهو مبنى صغير مُكوَّن من شقق كثيرة في كل جانب.

رغب في الاعتذار وراح يفكر في عذر يتقدم به؛ إذ إن الفرق كبير بين حفلة كهذه ودعوة على المائدة، فهنا يوجد كثير من الناس يمكن الاحتماء بهم، كما يمكنه الانسحاب داخل نفسه أو وسط الزحام، لكن دعوة السيدة «مارجوت» سوف تتميز بمحبة أكثر وعدد أقل من الناس، وربما لا أحد على الإطلاق، فهل سيعرف كيف يتصرف؟ وماذا لو أساء التعامل مع الشوكة أو الملعقة؟ هل سيضحكون لخطئه الفادح، أو أنهم سيتجاهلون ذلك يتظاهرون بتبادل الحديث؟

أيًّا كان الأمر فإن كِلا الأمرَين مؤلم بالنسبة له؛ فيَجدُر به إذن أن يرفض الدعوة، لكنه كان راغبًا في صحبة أولئك الذين سمع عنهم؛ فهو في حاجة للاختلاط بهم، كما أنهم — بلا شكٍّ — يتوقون لذلك، لكنه لم يقرر بعد.

كان «رون» يتحرك عبر الحجرة هنا وهناك، وما كاد أن يقترب منه حتى انخرط وسط مجموعة أخرى .. خامره شعور مؤكد أن «رون» سيكون أول الحاضرين عند «مارجوت».

– لو جئت بالأتوبيس فلن أضايقك كثيرًا.

– ليست هناك أية مضايقات يا «وليام».

– أنا متأكد بأنني سأعرف المكان بطريقتي يا ماما.

– سأغضب جدًّا إذا لم تدعني «مارجوت» .. إن الجميع ينادونني هكذا.

ظل يردد اسمها مرات قليلة؛ فأحس طعمًا خاصًّا يتفجر فوق لسانه قبل أن يتفوَّه قائلًا: «مارجوت».

– عزيزتي «مارجوت» .. لم أتعرف بصديقك هذا فهو يبدو شابًّا رقيقًا .. إنه طويل، وذو شعر أسود كثيف، ووجه شاحب، وعينين متلائمتين مع شعره تغطيهما حواجب مخططة بالسواد، إنه يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق سوداء رقيقة.

تطلعت «مارجوت» حولها قائلة: أوه .. أهو أنت؟ إنه «وليام أبوللوس» .. سيصير كاتبًا كبيرًا، وتذكر أنني من قال لك هذا.

ثم مالت نحو «وليام» وخاطبته قائلة: «وليام» .. إنه «إدوارد بلاكلي» اسم «بلاكلي» ووجهه كانا مألوفين .. لقد تذكر .. كان «بلاكلي» عضوًا في الحزب الليبرالي أو الكونجرس الديمقراطي، لم يكن متأكدًا في أي منهما .. شعر بالارتباك مرة أخرى وهو يمد يده للتحية.

– سيأتي «وليام» الجمعة القادمة وأنت بالطبع .. أليس كذلك؟

– بالطبع «مارجوت».

ثم قال ل «وليام»: هل تسمح لنا لحظة؟ .. إن بعض الناس يرغبون في لقاء «مارجوت».

أجاب «وليام»: بالتأكيد.

وشعر بشجاعة كافية حين أضاف: «مارجوت» .. سأراك يوم الجمعة.

– نعم، وأرجو أن تأتي ببعض أعمالك.

انحنى وهو يتنفس بعمق، فهل كان باستطاعته أن يتصرف بحرية دون ذلك الشعور الداخلي بالفزغ، والذي ربما لم يكن يخصه؟

عاودته أفكاره المزعجة .. هل كانت ستدعوه إذا لم يكن هو ذلك الكاتب الذي قرأت قصصه وأعجبت بها كثيرًا؟ وماذا ستكون ردود أفعالها إذا أخبرها بأفكاره هذه؟ قد تعتقد أنه جاء نزولًا على رغبة «رون»؛ أدى به هذا الهاجس إلى شكوك أخرى كثيرًا ما حاول أن يدفنها داخل نفسه.

قال «رون» هؤلاء الناس لا يهتمون بلون البشرة، وإنما يقبلون الشخص لذاته وليس طبقًا للونه.

– هل هم حقًّا كذلك أو أن ذلك ما يتظاهرون به؟

– وهل ستجلس فوق هذا المقعد بقية المساء؟

ثم وقف «رون» أمامه مستطردًا: ماذا حدث لمارجوت؟ .. لقد رأيتها تتحدث معك قليلًا منذ لحظة مضت.

– ذهبت مع شخص يُدعى «إدوارد بلاكلي»؛ حيث أخبرني أن بعض الناس يريدون مقابلتها.

– أوه .. «إدوارد» إنه يبدو عادة كالجثة بوجهه الشاحب وعينيه السوداوين .. وماذا عن «مارجوت»؟

– كانت هائلة وجميلة .. إنها.

– نعم أعرف لقد قامت بدعوتك؛ إذ إنها تعتبر نفسها راعية الفن ولو أنها كانت تعيش في القرن الثامن عشر؛ لتحول منزلها إلى صالون .. أوه، «وليام» أنت في تقدم، إنه الوقت الذي خرجت فيه من عزلتك، ففي مثل هذه الحفلات تلتقي بالناس ذوي الأهمية الذين يستطيعون مساعدتك إذا أحسنت التصرف.

لم يُجِب «وليام» بشيء، لكنه ظل يتساءل عن كيفية أن يحسن التصرف .. تذكر موقف «رون» منذ شهور تسعة عندما نشر أول قصة له فلم يتناولها «رون» بأكثر من اثنتي عشرة كلمة، ولم يطلب منه حينذاك مقابلة الأصدقاء البِيض الذين تحدَّث عنهم بحبٍّ كبيرٍ، أو لقاء أولئك الذين يراهم الناس غالبًا على صفحات الصحف المحلية؛ عندئذٍ شعر «وليام» بأنه ليس ممتنًا.

في المرات القليلة التي التقَيَا فيها وتبادَلَا الحديث كان «رون» يُعاود الإشارة إلى النقص الذي يعاني منه «وليام» نحو شعوره بالفن في كل أشكاله، غير أنه علَّق قائلًا: قصته أحدثت تغييرًا.

وقال له: لقد قرأت قصتك .. مجهود طيب ولا بأس به، فهل هي قصتك الأولى؟

أجاب «وليام»: لا، ليست الأولى فقد كتبت كثيرًا من القصص لكنها أول قصة يتم نشرها.

– ولِمَ كل هذا الكتمان والتحفظ؟ لماذا لم تخبرني أن لك اهتمامات إبداعية؟ هناك بعض الكُتَّاب من الشباب كان بمقدوري أن أقدمك لهم.

بعد نشر القصة الثانية والثالثة أصبح عضوًا بين النخبة المفضلة لدى «رون».

– تعالَ معنا غدًا مساء .. إن «توم هوبكيرك» يقيم حفلًا عند قمة «ديفيل».

أجاب «وليام»: لا.

مضت شهور عديدة و«رون» لا يكفُّ عن محاولاته في اصطحاب «وليام» الذي كان يجيب دائمًا بالرفض؛ حيث إن فكرة وجوده مع البِيض كانت وحدها كافية لإصابته بالرهبة؛ فقد كانوا يبتسمون له في العمل ويتبادلون معه الحديث، وسرعان ما يتجاهلونه بعد انتهاء العمل، ولا يبتسمون مرة أخرى إلَّا إذا أرادوا عمل شيءٍ آخر.

لكن مقاومة «وليام» انهارت أمام أحاديث «رون» الكثيرة عن الحفلات التي يرتادها، والناس الذين يقابلهم؛ فشعر بشوق للقائهم، وليصبح إذن واحدًا من مجموعة «رون» التي وصفها.

أخبره «رون» عن دعوة «كولن آشورت» فقبل الدعوة دون مقاومة كبيرة، وهناك قال له «كولن»: فلنندمج مع الآخرين.

أجاب «وليام»: لا، سأبقى هنا قليلًا فقد تأتي «مارجوت» لنستأنف حديثنا.

لم يستطع «كولن آشورت» أن يفهم شيئًا؛ فقد كانت «مارجوت» هناك وحيدة وكان وجه «وليام» ممتزجًا بفرح مليء بالشجن .. نظر إليه «رون» وهو يرفع حاجبيه، ثم تركه ومضى بينما امرأة أخرى كانت جالسة إلى جواره في استرخاء وهي تحدِّق فيه وكأنه تحفة غريبة، فقال لنفسه: يجب أن ترتدي نظارة.

ثم بادرت بسؤاله: أخبرني .. ماذا تعمل؟

سمع صوتها البارد وتابع طريقتها في الكلام؛ فأحس بقشعريرة تسري في جسده، وداهمه شعور سريع بالكراهية، فقال: أعمال .. أية أعمال؟

– نعم.

– أعمال في مكتب .. أنا.

فكَّر في القول إنه يعمل كاتبًا في محل تجاري، أو إنه يعمل ساعيًا، لكنها سارعت بالقول: أنا لا أعني وظيفتك أو نوعية عملك فلنترك ذلك جانبًا فهو شيء بغيض، وإنما أعني هل أنت ترسم أو تكتب؟ .. إذا راقني ما تفعل فسوف أساعدك كثيرًا.

– لا.

– تعالَ إذن .. أراهن أنك لا تقول الحقيقة؛ فإن الآخرين إما يرسمون وإما يكتبون.

لم يكن في حاجة للسؤال عن الآخرين الذين تقصدهم ولا حتى راغبًا في معرفة ما إذا كانت هي واحدة من أولئك المهمين الذين سمع عنهم من «رون».

– لقد أخبرتك بالحقيقة .. أنا لا أفعل شيئًا.

ولم يساوره أدنى قلق من جراء خداعها، لكنها لو سألت «رون» فإن الأمر سيكون سيئًا، ولن تجعله ينضم لمجموعتها.

حدَّقت فيه، وقالت بصوتٍ مرتفعٍ: أنت لا تكتب أو ترسم .. إنك مجرد ساعٍ!

أجاب بهدوء: هو كذلك بالضبط.

صاحت في وجهه: وإذن فماذا تفعل هنا؟

كانت كراهيته لها قد زوَّدَتْه بالقوة؛ فقاوم رجفته قائلًا: الشيء نفسه الذي تفعلينه أنت! إنني هنا لأنني مدعو.

ارتفع صوتها وكررت عدة مرات: أنا لا أريد هذا الوقح اللعين.

نهض الناس من مقاعدهم وهم يُحدِّقون وكان أنفها متأججًا، وصوت أنفاسها كالشخير بينما اندفع «رون» تجاههم فزعًا، ثم قال هاتفًا: سيدتي «ميريديث» .. ماذا حدث؟ .. ماذا جرى؟

قالت مشيرة بإصبع الاتهام إلى «وليام»: لقد أهانني هذا الساعي سليط اللسان.

وقف «رون» في مواجهته تمامًا وقال بصوت غليظ مليء باللوم والعتاب: انهض واعتذر لها في الحال.

نظر «وليام» إلى «رون» وقد فقد هدوءه ورصانته، وشعر بألم شديد يملأ كيانه، كما استشاط غضبًا؛ لأنه اعتبر ذلك خيانة من جانب «رون».

لو أخبرها أنه أيضًا كاتب كانت ستقبله وترضى عنه، وها هو «رون» يخبرها دون أن تسأله، وهنا ازداد إعجابه ب «رون» إلى حد الاحتقار وعرف عندئذٍ سبب تعاطف «رون» الشديد .. إن موهبته هو وأمثاله ضعيفة، وتجربتهم ضحلة .. إنهم كالعذراء يعرضون موهبتهم للبيع لمثل هذه المرأة، أو لمن شابهها.

إن «رون» قوَّاد كبير! إنه ضئيل أمام نفسه، ويحتمي بظلال السيدة «ميريديث».

ظل «وليام» يحسد «رون» ويتعجب لقدرته الهائلة على الحركة بينهم بسهولة ونعومة .. كان «رون» يمدُّهم بعذراء أخرى، فتدفق إلى رأسه فيضان من الدم، واجتاحه الغضب حتى أصبح عاجزًا عن الكلام.

نهض من مقعده واندفع في طريقه متجاوزًا ذلك الزحام الكبير دون أن يرى أحدًا، ودون أن ينتبه لنظرات الرضا والاستحسان في عيني «مارجوت بيرس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤