ستة أقدام من البلاد

نادين جورديمر
جنوب أفريقيا
نادين جورديمر الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩١م، من مواليد ١٩٢٣م في مدينة سبرنجز بجنوب أفريقيا، وتعيش الآن في جوهانسبرج .. كتبت عشر روايات وسبع مجموعات قصصية، وقد تمت ترجمة أعمالها إلى تسع عشرة لغة .. منعت حكومة جنوب أفريقيا بعض أعمالها بسبب وجهات نظرها السياسية الجريئة، ومقاومتها لسياسية التمييز العنصري .. هذه القصة مأخوذة من إحدى مجموعاتها القصصية بعنوان: Some Monday For Sure.

لم أكن أنا وزوجتي ممن يجيدون أعمال الحقْل والفِلاحة، لكننا قمنا بشراء مزرعة بأحد الشوارع الرئيسية على بُعد عشرة أميال من جوهانسبرج؛ لكي نفعل شيئًا مغايرًا ونضيف جديدًا إلى حياتنا، وها أنا ذا أراكم مشتاقين لسماع بعض الحكايات عن الهدوء والرضا اللذين تفرضهما حياة المزرعة، لكننا لم نحقق ما كنا نهدف إليه؛ نظرًا لحدوث أشياء أخرى في المرزعة غير معقولة أو متوقعة.

كنت أعتقد أن زوجتي «ليريس» سوف تأتي إلى مكاننا الجديد في حزن تشيكوفي وتبقى لمدة شهر أو شهرين على الأكثر، ثم تسارع بترك المكان للخدم من أجل تحقيق رغبتها في أن تكون ممثلة، لكنها على العكس مما تصورتُ، فقد غرقتْ في عمل المزرعة وراحت تُديرها بجدية جعلتني أحتفظ بها حتى الآن.

لم أكن أذهب إلى هناك إلَّا في المساء ونهايات الأسبوع؛ فقد كنت مشغولًا بعملي كشريك بأحد المكاتب السياحية الكبيرة، وكنت دائمًا أتجنب الاقتراب من الدجاج الذي تقوم «ليريس» بتربيته؛ لأن رائحته كانت تصيبني بالمرض .. كانت المزرعة جميلة. وفي صباح أيام الأحد كنت أستيقظ وأتوجه للحقل الصغير ليس فقط من أجل رؤية أشجار النخيل والبرك والحمام الطائر باتجاه الضواحي، وإنما للاستمتاع بمشاهدة بط الخزان، والبرسيم الرائع الذي يبدو كأعشاب النافذة المشذبة.

كانت «ليريس» تخرج بشعرها المنكوش ثم تمسك العصا وتقود الماشية وهي تنظر بطريقة حالمة كما تفعل الممثلات، وأثناء اللحظات التي كنا نتمتع فيها بقدر من الهدوء وإعمال العقل، كنت أخبرها بحماسها وانفعالها حتى قلت لها — ذات مرة — إنني شاهدتها وهي تعمل بطريقة مسرحية؛ فأحالت ذلك إلى غيرتي من قدرتها على الحماس، واتَّهمَتني أنني لست رفيقًا مناسبًا.

كنا ننعم بالأمان بعيدًا عن تلك التوترات الغريبة، وذلك القلق الذي يعانون منه في المدينة والذي كان يحدثنا عنه كل من يقوم بزيارتنا .. لم يكن أهالي جوهانسبرج يقصدون في حديثهم عن التوتر أولئك الناس الذين يهرولون في الشوارع ويتقاتلون من أجل المال، وإنما تلك البنادق المخبأة تحت وسادات الرجل الأبيض، وتلك الاستحكامات في النوافذ، كانوا يقصدون أيضًا عدم قدرة الرجل الأسود على الوقوف إلى جانب الرجل الأبيض فوق أرصفة المدينة.

إن الحياة خارج المدينة أفضل بكثير؛ إذ لا توجد هنا تلك الاستحكامات في النوافذ، كما أننا لا نحمل البنادق، ويعيش السود مع زوجاتهم في أرض المزرعة، ويصنعون البيرة لأنفسهم دون خوف من هجمات الشرطة؛ مما يجعلنا نفتخر حقًّا أن أولئك البؤساء المساكين لا يسببون لنا الخوف، كما أن «ليريس» ترعى أطفالهم وتعالجهم إذا مرضوا. وهكذا فإن الخوف لم يتملكْنا في تلك الليلة من الشتاء الماضي حين كنا نائمين، وسمعنا «ألبرت» وهو يطرق النافذة .. لم أكن في تلك الليلة نائمًا بجوار «ليريس»، وإنما في حجرة الملابس بسبب مضايقتها لي؛ فقد وضعت فوق جسدها بودرة التلك ذات الرائحة الجذابة بعد الانتهاء من الحمام؛ مما جعلني أذهب لأنام في حجرة الملابس؛ تجنبًا لضعفي المؤكد حيال مقاومة رغبتي .. توالت طرَقات «ألبرت» فوق النافذة، فجاءت «ليريس» وأيقظتني قائلة: يقول «ألبرت»: إن أحدهم مريض جدًّا، ومن الأفضل أن تذهب لترى بنفسك؛ فلا بد أن الأمر خطير وإلا لما أيقظنا في مثل هذا الوقت.

– كم الساعة الآن؟

أجابت «ليريس»: وماذا يهم؟

استيقظتُ مرتبكًا وهي تنظر لي، ثم شعرتُ بالحماقة كما أشعر دائمًا كلما غادرت سريرها .. كان إحساسي بالحماقة يتضاعف حين كانت تنظر لي في الصباح بطريقة غريبة أثناء تناول الإفطار، وتخبرني أنها تألمت وشعرت بالامتهان؛ لأنني لم أكن راغبًا إياها، ولأنني نمت بعيدًا عنها.

سألت «ألبرت» ونحن نمشي على ضوء البطارية الراقص: أي واحد من الأولاد؟

أجاب «ألبرت»: إنه مريض جدًّا.

تذكرت أن «فرانز» كان يعاني من سعالٍ شديدٍ طوال الأسبوع الماضي فقلت: ولكن مَن يكون؟ أهو «فرانز»؟

ظلَّ «ألبرت» صامتًا ولم يُجِب على سؤالي، وكان يفسح لي الطريق وهو يسير بجانبي فوق الأعشاب الميتة، وحين اقترب ضوء البطارية من وجهه عرفت أنه مرتبك بشدة فقلت: لِمَ كل هذا؟

انحنى برأسه بعيدًا عن الضوء، وقال: أنا لا أعرف، لكن «بطرس» هو الذي أرسلني.

هرعت معه إلى الأكواخ منفعلًا وفوق سرير «بطرس» ذي الأرجل الخشبية المحمولة بالطوب كان أحد الشباب راقدًا، لا، لقد كان ميتًا ووجهه مليئًا بالعروق وجسده دافئًا .. وقف الأولاد حوله كما يفعلون في المطبخ عندما يكسر أحدهم طبقًا، وكان الهدوء غريبًا لا يساعد على معرفة شيء، وزوجة شخص ما تتسكع في الظلال المعتمة ويداها ملفوفتان تحت مريلتها.

كنت قد رأيت رجالًا ميتين أثناء الحرب، لكن هذا مختلف، وعندما شعرت أنني دخيل ولا فائدة من وجودي سألت: ماذا حدث؟

ربتت المرأة فوق صدرها وهزَّت رأسَها مشيرة إلى صعوبة التنفس، وقالت: لا بد أنه مات من التهاب الرئة.

قلت لبطرس: مَن كان هذا الولد؟ وماذا كان يفعل هنا؟ كشف ضوء الشمعة عن بكاء «بطرس» الذي تبعني إلى الخارج، وعندما أصبحنا في الظلام انتظرت أن يتكلم لكنه لم يفعل؛ فقلت: أخبرني يا «بطرس» عن هذا الولد، هل كان صديقك؟

– إنه أخي، وقد جاء من روديسيا؛ لكي يبحث عن عمل.

أصابتني القصة بقليل من الفزع، كما تأثرَت «ليريس» بسماعها .. لقد جاء الولد الصغير من روديسيا؛ ليبحث عن عمل في جوهانسبرج فأصابه البرد من النوم في العراء طوال الطريق، وأصبح مريضًا في كوخ أخيه «بطرس» منذ وصوله دون أن يتجرأ أحدهم ويطلب مساعدتنا؛ خوفًا من أن نعرف بوجوده.

كان الشاب قد دخل البلاد بطريقة غير شرعية؛ إذ لم يكن مسموحًا لمواطني روديسيا بدخول الاتحاد إلَّا بتصريح، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتكبدون فيها صعوبة السير على الأقدام لمسافة تعادل سبعمائة أو ثمانمائة ميل للخروج من دائرة الفقر، وتجنب هجمات الشرطة في المناطق القذرة التي يتجمع فيها السود .. كان عليه أن يبقى مختبئًا في مزرعتنا حتى يخاطر شخص ما بتوظيفه .. لقد كان واحدًا من الذين لن يستيقظوا مرة ثانية.

قالت «ليريس» في الصباح التالي: أتعتقد أنهم نادمون لعدم إخبارنا؟

وعندما شاهدَت «بطرس» في المطبخ في ذلك الوقت المبكر شعرَت بالضيق، ثم وقفَت — كعادتها حين تكون منفعلة — في وسط الحجرة كما يفعل الناس عندما يوشكون على القيام برحلة، وراحت تتفحص الأشياء المألوفة وكأنها تراها لأول مرة .. إنني أعرفها حين تمتلئ عيناها بالرعب، وتنتابها رغبة في الجدل، لكنني لم أكن أملك الوقت الكافي أو حتى الرغبة في مناقشتها؛ فقلت: أعتقد أنه أنا الذي يجب أن يقوم بكل الأعمال البغيضة!

ظلَّت تحدِّق في وجهي وأدركتُ من عينيها أنها تريدني أن أخرج؛ وعندئذٍ قلت بهدوءٍ: سوف أخبر السلطات الصحية .. إنهم لا يستطيعون نقله ودفنه، كما أننا لا نعرف سبب وفاته.

بدَت يائسة وغير راغبة في رؤيتي، فقلت بانفعال: ربما كانت أحد الأمراض المعدِية، والله وحده يعلم.

لم تقل «ليريس» شيئًا فخرجت واستدعيت أحد الأولاد؛ ليفتح الجراج ويجهز السيارة كي أتوجه للمدينة كما يحدث كل صباح.

قمت بإبلاغ الشرطة والسلطات الصحية، وهناك أجبتُ على كثيرٍ من الأسئلة المملة .. كيف كنت تجهل وجود الولد؟ كيف لا تُشرف وتُسيطر على الذين يعملون عندك؟ وكيف نعرف أن ذلك لا يحدث كثيرًا؟

انفجرت غاضبًا وقلت لهم: طالما أنهم يقومون بعملهم على أكمل وجه فإنني أعتقد أنه ليس من حقي أن أتدخل في حياتهم الخاصة.

نهضت من عند رقيب الشرطة الفَظ ذي الوجه الطافح بالغباء بعد أن كشَّر في وجهي بازدراء دون أن يستطيع إخفاء فرحته لتورطي، ثم شرحتُ لبطرس ضرورة أن تقوم السلطات الصحية بفحص الجثة رغم أنني لم أكن أعرف ما يعنيه فحص الجثة! وعندما اتصلت بالإرادة الصحية بعد بضعة أيام لمعرفة النتيجة أخبروني أنه مات بالتهاب الرئة كما توقعنا، وأنهم سيتخلصون من الجثة بطريقةٍ ملائمةٍ.

كان «بطرس» يقوم بإعداد الهريسة للدجاج، فتوجهت إليه وأخبرته أن كل شيء على ما يرام، وأن أخاه مات بسبب ذلك الألم في صدره، فوضع العلبة فوق الأرض وقال: ومتى نستطيع الذهاب لإحضاره؟

– إحضاره!

– أرجوك أن تسألهم عن الموعد الذي نستطيع الذهاب فيه لإحضاره.

عدت للداخل ورحت أنادي على «ليريس» في أرجاء المنزل حتى أبصرتها تنزل السلالم قادمة من حجرة النوم، فقلت لها: والآن ماذا أفعل؟ لقد أخبرت «بطرس» بما حدث، لكنه سألني عن الموعد الذي يستطيع فيه الذهاب لإحضار الجثة .. إنهم يريدون أن يدفنوه بأنفسهم.

أجابتني «ليريس» قائلة: حسنًا، عُد إليه وأخبره، لا بد أن تخبره .. كان يجب أن تقول له في حينها.

قلت لبطرس وهو يتطلع نحوي بأدب: اسمعني يا «بطرس»، أنت لن تستطيع الذهاب لإحضار أخيك؛ لأنهم قاموا بعمل كل شيء، لقد دفنوه .. هل تفهم؟

أجاب ببطءٍ وفتورٍ: أين؟

– أنت تعرف أنه كان غريبًا وهم يعرفون ذلك أيضًا، كما لا يعرفون أن له أقرباء هنا؛ وهكذا دفنوه.

– أرجوك يجب أن تسألهم.

لم يكن «بطرس» يعني معرفة مكان الدفن، وإنما كان يريد عودة أخيه؛ لأنه ببساطة يجهل ذلك النظام الغريب الذي شرحتُه له؛ وعندئذٍ قلت له: ولكن كيف يا «بطرس» وقد دفنوه بالفعل، أنا لا أستطيع أن أسألهم الآن!

كانت يداه ملطختين بالنخالة؛ فوقف وقال بفم مرتعش: أوه!

– لن يستمعوا لي يا «بطرس» .. إنهم لا يستطيعون بأية طريقة، وأنا أيضًا لا أستطيع .. إنني آسف، هل فهمت؟

ظلَّ ينظر إلى وجهي، ولم يكن مدركًا أن الرجال البِيض يملكون كل شيء، ويستطيعون فعل أي شيء، وإذا لم يفعلوا؛ فلأنهم فقط لا يريدون.

قالت «ليريس» أثناء تناول الطعام: كان بمقدورك على الأقل أن تتصل بالتليفون.

– يا للمسيح! مَنْ أكون في اعتقادك؟ أيجب أن أعيد الحياة إلى الميت؟

انتهت من تناول القهوة، ثم اختفت في المطبخ، وعادت بعد قليل، وقالت: سوف يحصل الأب الكبير على تصريح، ويأتي من روديسيا لحضور الجنازة، وأعتقد أنه الآن في الطريق.

وافقت السلطات على خروج الجثة من القبر، فقال «بطرس» بصوت هادئ وكأنه يتحدث عن شيء مستحيل، ولا يحتمل التفكير فيه: يجب أن ندفع عشرين جنيهًا للحانوتي.

قلت له: وهو كذلك يا «بطرس».

ثم عدت إلى حجرة المعيشة.

في الصباح التالي، وقبل ذهابي للمدينة طلب «بطرس» مقابلتي وقال بارتباك: أرجوك، ها هي العشرون جنيهًا.

إنهم حقًّا بؤساء ومساكين، ولا يعرفون كيف يقدمون النقود إلى الرجل الأبيض .. كانت العشرون جنيهًا تتكون من جنيهات وأنصاف جنيهات بعضها متجعد وقذر وبعضها الآخر جديد وناعم، كان قد جمعها من «فرانز» و«ألبرت» و«دورا» الطاهية و«يعقوب» البستاني وكثيرين غيرهم ممن يعملون في المزرعة والأرض الصغيرة حولنا.

لم تصبني الدهشة كثيرًا، لكنني غضبت بشدة وتعجبت لتلك التضحية العقيمة التي لا فائدة منها من قِبَل أولئك الفقراء، والتي لم يكن بمقدورنا نحن أن نفهمها؛ حيث إن أمثالي وأمثال «ليريس» يرون أن الحياة شيء يجب أن نعيشه ببذخٍ، وإذا ما فكرنا في الموت فإننا ننظر إليه كأنه الإفلاس الأخير.

لم يكن الخدم يعملون بعد ظهر يوم السبت؛ فكان ذلك مناسبًا للجنازة .. استأذن «بطرس» ووالده لاستعارة عربتنا الكارو من أجل إحضار التابوت من المدينة، وقال «بطرس» مخاطبًا «ليريس»: كل شيء سيكون على ما يرام عندما نعود.

أحكَموا إغلاق التابوت خوفًا من رؤية ما يُثير أحزانهم، وظلَّ التابوت في كوخ «بطرس» طوال الصباح في انتظار نقله إلى المقبرة خارج حدود مزرعتنا الشرقية.

نسيت «ليريس» وعْدَها بنظافة المنزل بعد ظهر يوم السبت، وكانت ما تزال منكوشة الشعر، كما أنها لم تَقم بتنظيف أرضية الحجرة الملطخة بالورنيش؛ فلم أستطع البقاء، ثم تناولتُ مضرب الجولف وسارعتُ بالخروج .. كنت واقفًا بمحاذاة السور عندما مرَّ الموكب، وكانت الشمس ساطعة كأنها قطع صغيرة من الخزف؛ فاستطعت أن أرى المقابر بوضوح لكنني ارتبكت قليلًا، وشعرت بضرورة إخفاء كرة الجولف حتى ينتهي مرور الموكب الموقَّر من أمامي .. أبصرت الحمارين وهما يقودان عربة الكارو ورءوسهما غارقة بين عريش العربة، وأُذنا كليهما منبسطة للخلف، وقد بدَا أنهما خاضعان ذليلان مما ذكَّرَني بمجموعة الرجال والنساء الذين يسيرون خلفهما ببطء.

توقف الموكب بالقرب مني فسارعت بإخفاء مضربي .. كان التابوت مصنوعًا من الخشب المدهون بالورنيش الأصفر مثل الأثاث الرخيص؛ فبدا متلألئًا، وكان الحماران يهزان أذنيهما حين كانوا ينتشلون التابوت من فوق العربة الكارو، حيث رفعه «بطرس» و«فرانز» و«ألبرت» والأب العجوز فوق أكتافهم، وبدأ الموكب يتحرك على الأقدام .. وقفت عند السور هادئًا ومندهشًا، وعرفت أنهم جميعًا من الخدم العاملين عندنا أو من خدم الجيران الذين أعرفهم، وأقابلهم مصادفة، وأسمعهم أحيانًا وهم يثرثرون بهدوء عن أرضنا، أو مطبخنا .. كان الرجال الأربعة ينحنون تحت الصندوق الخشبي المتلألئ دون أن يرفعوا أبصارهم، ومن بعيد استطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز الذي راح يتمتم بشيء ما؛ فتوقف الناس وأصابهم الارتباك حتى إن الولد الصغير الذي بقى لمراقبة الحمارين عاد مسرعًا لرؤية ما يحدث .. رفع «بطرس» بصره نحوي، ثم نظر إلى الجميع بفزع، وكان العجوز القادم من روديسيا قد تخلَّى تمامًا عن التابوت؛ فلم يَعُد بمقدور الثلاثة الآخرين حمله فوضعوه على الأرض في عرض الطريق .. كان التراب يغطي جوانب التابوت ولم أستطع أن أفهم ما يقوله الرجل العجوز الذي بسط يديه المفتوحتين والمرتعشتين نحوي.

توسَّلتُ إلى «بطرس» قائلًا: ماذا يا «بطرس»؟ ماذا يقول؟

ساد الهدوء لحظة؛ فاستطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز مرة أخرى، وكان فمه مفتوحًا كما يفعل كبار السن، وذا شارب أشيب مهذب، وأسنان قليلة مائلة للاصفرار .. راح يحرك غطاء التابوت بمساعدة ثلاثة من الرجال ثم ارتمى على الأرض خائر القوى، ورفع يده المرتعشة بصعوبة في اتجاه التابوت من الداخل، وقد فقد القدرة على الكلام، لكنه تحدَّث أخيرًا بالإنجليزية وقال بصعوبةٍ شديدةٍ: إن ابني صغير ونحيل.

تجمعوا حوله وكذلك فعلت أنا لإلقاء نظرة على ما بداخل التابوت؛ فغرق الجميع في دهشة غريبة وراحوا يلهثون ويتحدَّثون بغضب، بينما ظلَّ الولد الصغير يبكي؛ لأن الكبار كانوا يقفون أمامه ويمنعونه من الرؤية.

كان الراقد في التابوت شخصًا آخر لم يتعرف عليه أحد؛ فهو بدين وذو بشرة مضيئة، كما تعلو جبهته ندبة ما ربما كانت من أثر ضربة في شجار.

ظللت طوال أسبوع في مشاحنات مع السلطات بسبب تلك الجثة، وأخيرًا قالوا لي: نحن ما نزال نقوم بتحرياتنا.

ثم ذهبوا معي إلى مكان الجثث، وقالوا: ارفع الملاءة وانظر إليه إذا كنت تعرفه .. يوجد هنا الكثير من الوجوه السوداء فهل تعتقد أننا نستطيع أن نتعرف عليه؟

كل مساء كان «بطرس» ينتظرني في المطبخ عند عودتي فأقول له: إنهم يحاولون وما زالوا يبحثون.

لكن «بطرس» و«ليريس» كانا يحدِّقان في وجهي وأنا أتكلم بطريقة غريبة؛ فبدا أنهما شبيهان تمامًا رغم استحالة ذلك، فزوجتي بيضاء وذات جسد إنجليزي رقيق، أما الولد بائع الدجاج فإن قدميه عاريتان، وبنطلونه الكاكي مربوط عند ركبتيه بحبل، كما تنبعث من جسده رائحة عرق شاذة.

قالت «ليريس» فجأة: لماذا أنت ساخط إلى هذا الحد؟

حدَّقتُ فيها وأجبتُ: إنها مسألة مبدأ .. لماذا يجب أن يكونوا مظلومين؟

شعر «بطرس» أن المناقشة أخذت شكلًا ليس له بها شأن؛ ففتح باب المطبخ بهدوء وخرج، ثم تبعته «ليريس» وهي تقول: أوه!

كنت أكرر عهدي لبطرس كل مساء، وأقول له الكلام نفسه، نغمة الصوت نفسها، لكنه بدا أخيرًا أكثر ضعفًا وفقَد الأمل في الوفاء بعهدي .. لقد كان واضحًا أن أخاه لن يعود أبدًا فلا أحد يعرف مكانه الحقيقي سوى الله والسلطات، بالإضافة إلى أنه كان بلا هوية في هذا العالم.

سألني «بطرس» بصوت مليء بالخجل أن أحاول رد النقود، فحاولت أنا و«ليريس» كثيرًا دون جدوى .. كانت العشرون جنيهًا للحانوتي الذي قام فعلًا بمهمته، فأصبحَتْ كل المحاولات من أجل أولئك البؤساء المساكين ليست سوى مضيعة للوقت.

كان الرجل العجوز القادم من روديسيا في حجم والد «ليريس» تقريبًا، فبادرتْ بإهدائه إحدى بِدَل أبيها القديمة؛ وهكذا عاد العجوز إلى موطنه في حال أفضل مما كان عليه، خاصة وأن الشتاء كان على الأبواب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤