موجومو

جيمس نجوجي
كينيا

توقفت «موكامي» أمام الباب، ثم أدارت رأسها ببطءٍ وأسى، وتوجهت ببصرها صوب دخان الموقد الكثيف وذلك المقعد الصغير بجانب البيت؛ فترددت قليلًا لكنها قالت لنفسها: لا، لقد قررت ولا بد أن أرحل.

اندفعَتْ في الظلام الموحش بثوبها الرقيق الملطَّخ بالزيت، والمشدود بإحكام فوق رأسها العاري .. كان الثوب متدلِيًا فوق كتفيها الرقيقتين الناعمتين، وكان الهواء مشبعًا بالسحر والهدوء، وما هي إلا لحظات حتى أصابها الفزع من ذلك الظلام؛ فلم تعد تبصر شيئًا؛ وفقدَتْ قُدرتها على الإحساس بأي شيء، وعندئذٍ راحت تتحرك بحذر نحو الفِناء الذي تعرفه جيدًا؛ خشية أن يسمعها أحد.

الفِناء وأربعة أكواخ وظلال كوخ زوجها، شعرَتْ أن كل شيء يدينها إدانة صامتة، ويتوسل لها في هدوء ممتزج بالازدراء والشفقة: أتغادرين زوجك؟ ارجعي!

عبرَتِ الفناء بجرأة وبدون تردُّد، ثم اتجهَت يسارًا نحو الطريق المؤدية إلى البوابة، فتحَتِ البوابة وسرعان ما أغلقَتْها ببطء، ثم توقفتْ لحظة، أدركتْ «موكامي» خلالها أن إغلاق البوابة إنما يعني إغلاق جزء من وجودها؛ فأوشكت على البكاء، لكنها أدارت ظهرها بقلب مثقل، وبدأت في التحرك.

لم تكن تعرف أية طريق ستسلك، ولم يكن يهمها ذلك الأمر كثيرًا؛ فهي تريد فقط أن تهرب وتمضي إلى أي مكان، «ماسيلاند» مثلًا أو «أوكامباني» .. إنها تريد أن تبتعد عن المدفأة، والفناء، والأكواخ، والناس، وتمضي بعيدًا عن كل شيء يجعلها تتذكر جبل «موهورويني» وسُكَّانه .. لقد قررت ألا تعود أبدًا، ولكن زوجها! لا، إنه ليس زوجها وإنما هو الرجل الذي كاد يقتلها ويسحق روحها .. لا لم يَعُد ممكنًا أن يظل زوجها رغم أنه الشخص نفسه الذي أُعجبت به كثيرًا ذات يوم، فكيف إذن تكرهه الآن؟!

فكَّرَت كثيرًا في حياتها معه، زوجها «موثوجا» الرجل العصامي المتزوج من أربع سيدات يعرف الجميع أنه يعاملهنَّ بقسوة .. تذكرت عدم ثقة والدها بذلك الرجل، وعدم ارتياحه لفكرة أن تعيش ابنته معه وبين زوجاته الأخريات، غير أنها — في ذلك الوقت — لم تُبدِ اهتمامًا بكلام أبيها؛ فقد فتنها «موثوجا» حتى إنها كثيرًا ما رغبت في الزواج منه والانضمام إلى حاشية زوجاته وأولاده .. لقد أثار «موثوجا» اهتمامها، ومشاعرها، وإعجابها بطريقته في المشي والرقص، بالإضافة إلى صوته الجهير، وأصابعه الرياضية، وذلك الغموض وتلك القوة التي كان يتمتع بها.

تذكَّرَت «موكامي» أيضًا كيف كان يغازل كلاهما الآخر بطريقة غريبة، كما أنها ما تزال تذكر نبضات قلبها، وابتسامته العريضة، وذلك العقد الصدفي الذي قبِلَته بعد تردُّد كتذكار للزواج، واحتساء البيرة، ومهر العروس المعتاد .. عادت بذاكرتها للوراء، وفكَّرَت في أولئك الناس الذين لم يُصدِّقوا قبولها الزواج من «موثوجا» خاصة بعد أن رفضت كثيرًا من الشباب، وكانوا ينظرون إليها باستياءٍ مردِّدِين: آه! أيحظى رجل عجوز بمثل ذلك الشباب والجمال؟!

كانوا يتهامسون فيما بينهم أنها لا بد قد وقعت تحت تأثير السحر، ويبدو أن ذلك ما حدث بالفعل فلقد أحبته كثيرًا، وفي يوم زفافها أصابتها الدهشة وهي في طريقها إلى «شامبا» حين اقترب منها ثلاثة رجال فجأة، وحملوها إلى كوخ الرجل الذي تمَّ تشييده خصوصًا لها .. ها هي الآن تتذكر كل شيء .. لقد شدَّها الرجال الثلاثة بقوة من الأرض؛ فانتابها الخوف لحظة قصيرة، وحاولت بكل قوَّتها أن تتخلَّص من أياديهم الرقيقة وهي فوق أكتافهم، لكنهم لم يهتَمُّوا بمقاومتها، وقام أحدهم بقرصها في وجنتيها حتى تَكُفَّ عن محاولة الخلاص وتلتزم الهدوء؛ فما كان منها إلا الاستسلام لتلك المداعبة الغريبة والجميلة جدًّا، والتوقف عن المقاومة، وحينئذٍ شعرت بأن أصابع الرجال المشبعة ببذور الذرة الناعمة تداعب قدميها وجانبيها؛ فانتابتها سعادة حقيقية لم تستطع معها أن تتوقف عن البكاء طوال الطريق إلى بيت زوجها.

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى تلاشى حُبُّها الكبير، وفقدَتِ اهتمامها بكل شيء؛ فلقد كان شبابها وجمالها سببًا في اشتعال غيرة الزوجات الأخريات اللَّاتي كن يفعلن كل ما في وُسعِهن للوقوف دون استمتاعها بحب الرجل كما حدث معهن طوال سنوات .. تذكرَتْ ذلك اليوم الذي نالت فيه الزوجة الكبرى عقابًا بالضرب عندما رفضَتْ تقديم الوقود لها من كوخها، وأشياء أخرى كثيرة جعلتها تكْرَه الزوجات الأخريات اللَّاتي لم يتوقفْن عن محاولة كسب تعاطُف القرية كلها، غير أنها لم تَعُد تهتم بغطرستهنَّ وعدم اهتمامهنَّ بها، وقالت لنفسها: لماذا ينبغي أن أهتم؟ ألم يتحقق حلمي وطموحي وكل شيء في هذا الرجل؟

مضت أيام كثيرة وحين أوشك العام الثالث على الانتهاء بدأ العالم الذي تعرفه «موكامي» يتغير، خاصة وأنها لم تنجب أطفالًا .. امرأة عاقر!

ليس من طفل يؤكِّد الرابطة بينه وبينها!

ليس من طفل يُكرِّس العناق واللَّوم!

ليس من طفل يخلِّد أرواح أجداد زوجها ودم أبيها!

كانوا يبتسمون ويتهامسون؛ فشعرت بالهزيمة .. أوه، كيف تسللت إليها ابتسامات الناس الغريبة الوقحة؟!

همست لنفسها: أنا لا أملك شيئًا يدعوني للخوف، فليشعروا بالانتصار والبهجة كما يشاءون؛ لأنني ما زلت أملك زوجي.

لقد استطاعت «موكامي» أن تَشفي قلبه المتحجر بعض الوقت، لكنه بدأ يضربها، وبدأت هي بدورها تتغير وتشعر بالاستياء .. «موثوجا» المجاهد والفلاح والراقص لم يكن يجد مَخرجًا لكل غضبه المتراكم، وضِيقه، وإحباطاته إلا في ضربها مثلما حدث عندما شاهدها تتشاجر مع الزوجة الكبرى؛ فراح يضربها أمام الجميع دون أن يتحرك أحد للمساعدة؛ وهكذا بدأتْ رحلة العذاب والشقاء .. كان يطلبها في الصباح الباكر ليضربها بشِدة دون أي تحذير أو تفسير، لكنها لم تكن تصرخ مثل الزوجات الأخريات اللاتي كُنَّ يتوسَّلْن ويَطلبْن الرحمة .. كانت «موكامي» ترفض بشِدة أن يَقهر ذلك الضرب إرادتها، وقرَّرت أن تتفوق على كل آلامها؛ إذ لم يكن لها مكان آخر تلجأ إليه، كما لم يَعُد ممكنًا أن تعود إلى بيت أبيها العجوز؛ فلن تقدر على مواجهته، بالإضافة إلى الخجل الذي ستشعر به في حالة عودتها.

كان نسيم الليل باردًا؛ فتدفقت الدموع من عينيها إلى خدَّيها، وانتابها إحساس بالقَمع وهي تشق طريقها إلى أسفل الوادي حيث الشجرة الكثيفة ذات الأشواك .. جلسَت بجوار جدول الماء، وكانت الأشجار الهادئة تذكِّرها بالقرية، وبَدا كل شيء كأنه متعاطف معها غير أن إحساسًا ما لم يفارقها بأن كل شيء كان يستنكر في هدوء محاولتها في الهرب.

ظلَّت تمشي بمحاذاة جدول الماء حتى عبَرَته من مكانٍ منخفضٍ بأن وضعت قدميها فوق الأحجار الثلاثة المتراصَّة، وكانت ما تزال غاضبة وحزينة جدًّا حتى إنها لم تشعر بالأخطار التي تُحيط بها وهي تفكر: هل هذا هو المكان الذي يُلقُون فيه بالموتى؟ وهل هذا هو المكان الذي تُرفرف فيه أرواح الموتى مع الهواء والأشجار لتضايق الغرباء والمتطفلِين؟ كانت غاضبة من العالم ومن زوجها، لكن غضبها من نفسِها كان أكثر حدَّة؛ فراحت تسأل نفسها: هل أنا دائمًا مخطئة؟ وهل لا بد أن أدفع ثمنًا باهظًا لانتزاع نفسي من ذلك الرجل الذي ضحَّيْت بشبابي وجمالي من أجْلِه؟

شعرت بضيقٍ شديدٍ وأصبحت الدموع المتدفقة من عينيها أكثر غزارة.

أوه، يا أرواح الموتى .. تعالي من أجْلي!

أوه، مورونجو، يا إله جيكوبو وإله مومبي.

يا من يَقطُن مرتفعات كيرينياجا ولا يزال في كل مكان.

لماذا لا تخلِّصني من ذلك الشقاء؟

أمي، الأرض الغالية .. لماذا لا تنفتحين وتبتلعينني

كما ابتلعني جومبا الذي اختفى تحت جذور ميكونجو؟

هكذا كانت تتوسَّل، وتبْتَهل إلى أرواح الموتى والأحياء؛ كي تأتي وتنقلها بالقوة إلى حيث يصبح من المتعذَّر رؤيتها مرة أخرى، ثم فجأة — وكأنها استجابة لتوسلاتها — سمعت من بعيد صوتًا حزينًا وشجيًّا .. هبَّت الرياح بقوة، وتلاشت النجمة الوحيدة في السماء؛ فأصبحت وحيدة وسط غموض الغابة؛ وعندئذٍ شعرت بشيء ما يلمسها، شيء ما بارد ولا حياة فيه فقفزت من مكانها وراحت تصرخ بقوة، وكان صدى صرخاتها يتردَّد عَبْر الغابة كلها.

تملَّكها خوفٌ جارفٌ وظلَّ كل جسدها يرتجف، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى أدركت بأنها ليست وحيدة، فها هي آلاف الأعين تتوهج وتتلألأ مع صرخاتها وبعض أيادٍ كثيرة لا يمكن رؤيتها كانت تدفعها للأمام وللخلف؛ فأيقنت على الفور بأنها موجودة الآن في أرض الأشباح وحيدة وبعيدة عن الوطن؛ فتسلَّلت القشعريرة إلى جسدها، ولم تستطع أن تحس شيئًا أو تفكِّر في شيء، كما فقدَتْ قدرتها على الصراخ .. لا بد أنه القدَر، إنها إرادة مورونجو .. فقدت مقاومتها المتبقية وشعرت بالنهاية تقترب، نهاية أحلامها وطموحاتها .. إن ذلك يدعو فعلًا للسخرية، فهي لم تَشأ أن تموت، وإنما كانت فقط تتطلَّع إلى فرصة أخرى تبدأ معها حياة جديدة مليئة بالعطاء، ولا تتسِم بالأخْذ فقط.

رقدت فوق الأرض دون أن يفارقها إحساسها بالبؤس والشقاء، وكانت تسمع من بعيد صرخات الضبع، ونَعيق البومة مع استمرار هبوب الرياح، كما بدأت الأمطار تتساقط؛ فشعرت وكأن الأرض تتشقَّق من تحتها، ثم أبصرَت فجأة — من خلال البرق والرعد — شجرة بعيدة وضخمة ذات أوراق كثيفة تتمايل حول جذعها .. عرفت «موكامي» أنها شجرة موجومو المقدسة، فقالت: ها هو المكان المقدَّس، ها هو الملاذ!

بدأت تجري دون أي اكتراث بالأمطار أو الرعد أو الأشباح، وقد تلاشى زوجها من ذاكرتها، وكذلك جبال موهورويني، وذلك العبء الذي تحمله في قلبها .. ظلَّت تجري عَبْر الدغل الشائك وهي تتخبط في الأشجار ثم تسقط على الأرض وتُسارِع بالنهوض .. لم تَعُد عاجزة أو قلقة، ولم يكن يشغلها شيء سوى الوصول إلى الشجرة فقط، إنها مسألة حياة أو موت، هي معركة من أجل البقاء، فقد تجد هناك تحت شجرة موجومو المقدَّسة الحماية والملجأ والسلام .. هناك قد تُقابل ربها وإله شعبها مورونجو .. كانت تجري برغم جسدها الهزيل، ثم شعرت فجأة بسخونة داخل رحمها.

أصبحت قريبة من المكان المقدس، قريبة من الهيكل، قريبة من الخلاص؛ فسارعت بالهرولة نحو الهيكل وكأنها تطير، أو كأن رُوحها تحلِّق؛ فشعرت بأنها خفيفة، وحين وصلت كانت تلهث بقوة ولا تقدر على التنفس.

لم تتوقف الأمطار عن السقوط، لكن «موكامي» لم تكن تشعر بشيء وكانت نائمة تحت شجرة الإله ذات الأوراق الباعثة على الحماية، وقد انتابتها نوبة أخرى من السحر.

استيقظت وقد اعتراها إحساسٌ جديدٌ .. ماذا؟ لا شيء، لا أحد! لا بد أنها مومبي الواقفة إلى جوار زوجها جيكويا هي التي لمسَتْها برفق لمسة حانية تسلَّلت إلى جسدها، أو أنها كانت تحلُم .. قالت مومبي: إنني أم الشعب .. يا له من حلم غريب وجميل!

نظرت «موكامي» حولها فعرفت أن المكان لا يزال غارقًا في الظلام، لكنها أبصرَت الشجرة القديمة الصامدة القوية والتي لا يمكن التنبؤ بعمرها فهمسَتْ لنفسها: كم من الأسرار تختزنها تلك الشجرة؟

شعرت بأنها إنسانة جديدة وراضية مفعمة بالأمل، فقالت: يجب أن أعود إلى بيتي وزوجي وأهلي.

ثم راحت تنام من جديد .. إنها نوبة السحر!

بدأت الشمس، ترسل خطوطها الصفراء المتلألئة عَبْر الغابة من اتجاه الشرق بينما كانت «موكامي» مستنِدة إلى الشجرة، وحين لامست جسدها خطوط الضوء الشاردة شعرت بجسدها كله يهتز وبالدم يذوب في عروقها .. أوه، لقد شعرَت بدفء شديد، وسعادة غامرة، كما أحسَّت بأنها تحلِّق وأن روحها ترقص، بينما كان رحِمها يتحدث لغة جديدة فعرفت بأنها حامل.

نهضت من رقدَتِها؛ استعدادًا للذهاب وراحت تحلِّق في الفضاء بعيون دامعة دون أن ترى شيئًا، إنها دموع العرفان بالجميل واليأس هي التي تتدفق فوق وجْهها، وهناك فيما وراء الغابة، وفيما وراء جدول الماء بدَت عيناها وكأنهما تبصران شيئًا، شيئًا غامضًا ومختفيًا في المستقبل البعيد .. أبصرت شعب موهورويني، ولاح أمامها زوجها قويًّا لا تبدو عليه ملامح الكبَر وهو واقف بين شعبه؛ فهمسَت لنفسها قائلة: ذلك هو مكاني العادل، هناك إلى جوار زوجي وبين الزوجات الأخريات .. يجب أن نتوَحَّد لنخلقَ حياةً جديدةً.

ثَمَّة بقرة كانت تخور هناك بعيدًا استيقظت «موكامي» على إثرها من حلم يقظتها، وبدأت تتحرك قائلة: لا بد أن أذهب!

بينما كانت شجرة موجومو الضخمة لا تزال سامقة وصامتة ومليئة بالأسرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤