فتاة سوداء

سيمبن عثمان
السنغال
كاتب ومخرج سينمائي، وُلد في السنغال عام ١٩٢٣م .. عمل صيادًا، وسمكريًّا، وبَنَّاءً، وميكانيكيًّا قبل أن يصبح عاملًا بأحد الموانئ ثم رئيسًا لاتحاد العُمَّال .. كتب Le Docker Noir عام ١٩٥٦م، ومن أهم أعماله القصصية والروائية God’s Bits of wood، وTribal scars، وThe money order، وThe Last of the empire، وXala، كما قام بإخراج العديد من الأفلام.

في مدينة «أنتيب» عَبَر الريفيرا وعند الطريق المؤدية إلى «يرميتاج» وقفت سيارتان خرج منهما عدد من الرجال اندفعوا إلى أسفل الرمال، واتجهوا صوب منزل يحمل لافتة تقول «فيلا السعادة الخضراء».

كان أحدهم ضابط شرطة والآخر طبيبًا شرعيًّا، ورجلان من مفتِّشي البوليس يرتديان زِيَّ الشرطة، ولم يكن ثمة شيء أخضر حول فيلا السعادة الخضراء سوى اسمها، لكن حديقة كانت مرتبة على الطريقة الفرنسية.

اقترب الضابط من المنزل وظل يتنَقَّل بنظراته في كل اتجاه حتى توقَّفت عيناه عند الشباك الثالث ذي الزجاج المكسور والذي يتدلَّى منه أحد السلالم، بينما دخل مفتش الشرطة، وأحد المصوِّرين إلى داخل المنزل، وظلُّوا يُحدِّقون بانبهار ودهشة إلى التماثيل الأفريقية، والأقنعة، وجلود الحيوانات، وبَيض النعام المتناثر فوق الحائط.

امرأتان كانتا تبكيان، وتُشبِه إحداهما الأخرى إلى حدٍّ كبيرٍ .. الجبهة المستقيمة نفسها، والأنف المنحني، ودوائر سوداء حول العين صار لونها أحمر من البكاء .. قالت ذات الرداء الشاحب: غفوتُ قليلًا ثم مضيتُ إلى الحمَّام؛ فوجدتُ الباب مغلَقًا من الداخل.

استطردَت وهي تُحرِّك أنفها: قلتُ لنفسي لا بد أن الخادمة تأخذ حمامًا .. أوه، لقد قُلت الخادمة رغم أننا دائمًا كنَّا نناديها باسمها «ديوانا» .. انتظرْت ساعة وأكثر لكنها لم تخرج؛ فعدتُ إلى الخلف وظللتُ أنادي ثم طرقتُ الباب دون جدوى؛ فسارعتُ باستدعاء جارنا القبطان البحري.

توقفَت عن الحديث ومسحَت أنفَها، ثم بدأَت تبكي من جديد، بينما كانت أختها الصغرى ذات الشعر القصير جالسة ورأسها مُعلَّق بيدها.

- هل أنتَ الذي اكتشف الجثة؟

– نعم، إنه أنا وذلك حين استدعَتني مدام «بوشيه» وأخبرَتني أن البنت السوداء أغلقت على نفسها الحمام؛ فاعتقدت في البداية أنها نكتة، لكنني أحضرتُ السُّلَّم معي.

– أنتَ إذن الذي أحضرتَ السُّلَّم؟!

– لا، إن الآنسة «دوبوا» أخت المدام هي صاحبة الفكرة، وما إن وصلت إلى الشباك حتى رأيت الفتاة السوداء غارقة في الدم.

– أين مفتاح الباب؟

قال المفتش: ها هو يا سيدي.

– أردت فقط أن أراه.

– قال المفتش الآخر: لقد تفحَّصتُ الشباك.

وقال رجل البحرية المتقاعِد: أنا الذي فتحْتُه بعد أن كسرت الزجاج.

– أي زجاج تقصد؟

أجابت الأخت: الثاني من أعلى.

لَفُّو الجثة في بطانية، ووضعوها فوق النقَّالة، وكانت قطرات من الدم تتساقط من الجثة، وحين رفع الضابط البطانية قليلًا أصابه العبوس؛ لَمَّا شاهد رقبة الفتاة السوداء مقطوعة من أحد أذنيها إلى الأخرى.

قال أحدهم من فوق السلالم: بهذه السكين .. سكين المطبخ.

– هل جاءت معكم من أفريقيا أو أنكم استأجرتموها هنا؟

– جاءت معنا عندما عدنا في أبريل الماضي، لكنها حضرت بطريق البحر؛ لأن زوجي يعمل في البحرية الجوية في داكار والشركة لا تدفع تذاكر الطيران إلا للعائلة .. لقد عملت عندنا في داكار لمدة عامين ونصف وربما ثلاثة أعوام.

– كم عمرها؟

– لا أعرف بالضبط.

– يقول جواز سفرها إنها من مواليد …

– أوه .. إن الأفارقة لا يعرفون متى يولَدون.

تقدَّم الضابط البحري ويداه في جيبه، ثم قال: لا أعرف سببًا لقتل نفسها فقد كنا نعاملها معاملةً حسنةً، وكانت تشاركنا الطعام نفسه، الحجرات نفسها، تمامًا مثل أولادي.

– أين زوجك؟

– ذهب إلى باريس أول أمس.

قال المفتش وهو يتطلَّع إلى الحُلى الصغيرة: ولماذا تعتقدون أنها حالة انتحار؟

أجاب الضابط المتقاعد: لماذا نعتقد؟! .. كيف لأحد أن يحاول قتل فتاة زنجية؟ إنها لا تخرج أبدًا ولا تعرف أحدًا سوى أطفال المدام.

شعروا بأن الأمر لا يستدعي كل ذلك؛ فأصابهم الملل؛ إذ إن انتحار خادمة لا يعادل كومة من الفول.

– لا بُدَّ أنه حنين العودة للوطن؛ فقد أصبحت تصرفاتها في الأيام الأخيرة غريبة جدًّا على غير العادة.

صعد الضابط السلالم بصحبة أحد المفتِّشين، وقامَا بفحص الحمَّام والشباك.

قال المفتش: شيء ما في هذه الحكاية.

كان الآخرون ينتظرون في حجرة المعيشة، وبعد ساعة من الوصول خرج المفتش مع الضابط، وقال: سنخبرك بنتيجة التحقيق.

انطلَقوا بسياراتهم، وفي فيلا السعادة الخضراء ظلت المرأتان، وضابط البحرية المتقاعِد في حالة من الصمت، بينما راحت مدام «بوشيه» تتذكر فيلَّتها الأنيقة في أفريقيا و«ديوانا» وهي تدفع البوابة الحديدية مشيرة إلى راعي الغنم الألماني أن يتوقف عن الصياح .. هناك في أفريقيا حيث بدأ كل شيء حين كانت «ديوانا» تسير ستة كيلو مترات على قدميها ثلاث مرات في الأسبوع، وكانت تفعل ذلك في الشهر الأخير بسعادة وقلبها يدق وكأنها أسيرة حب ما للمرة الأولى حتى إن المسافة أصبحت قصيرة بالنسبة لها حين أعلنت المدام نبأ سفرها إلى فرنسا.

– فرنسا! .. هكذا صاحت «ديوانا» فأصبح كل ما حولها قبيحًا بما في ذلك تلك الفيلات الرائعة التي كانت تُثير إعجابها .. أصبح لزامًا عليها أن تستخرج بطاقة شخصية؛ فجمعت كل مدخراتها الزهيدة لهذا الغرض، وهي تفكر قائلة: إنني في طريقي إلى فرنسا!

كانت المدام واقفة تحمل بين يديها قائمة جَرْد الأمتعة حين قالت: أترغبين في رؤية والديك؟ وهل تعتقدين أنهما سيفرحان؟

– نعم مدام، كل العائلة وافقت .. لقد أخبرْتُ ماما بنفسي، وأيضًا بابا «بوتوبا».

كان وجهها متلألئًا بالسعادة، ومثبتًا باتجاه الحوائط الفارغة، ثم بدا عليها الذُّبول فجأة، واضطربت ضربات قلبها وهي تقول: لو غيرتِ المدام رأيها لأصابني المرض، لكنني سأتوسل إليها كثيرًا.

أصبح وجه «ديوانا» الأسود الأبنوسي كئيبًا وهي تخفض عينيها، فقالت المدام: هل ستغيرين رأيك في اللحظة الأخيرة؟

– لا، مدام إني ذاهبة.

كانت «ديوانا» تحلم برؤية فرنسا ذلك البلد الجميل الغني، ومشاهَدة مُتَع الحياة التي كثيرًا ما سمعَت عنها، ثم العودة إلى بلدها منتصرة ومعها الكثير من النقود والهدايا لكل شخص .. كانت «ديوانا» تحلم بحرية الذهاب إلى حيث تريد دون اضطرار للعمل الشاق؛ ولذلك فإن المرض سيصيبها حتمًا إذا تراجعت المدام عن رأيها، لكن المدام تذكَّرَت الإجازات الثلاثة الماضية التي أنجبت خلالها طفلين حيث راتب الخادمة في فرنسا مرتفع، كما أن الخادمة في فرنسا ترُد على المدام واحد بواحدة، ولا تستطيع البقاء طويلًا؛ مما جعل المدام تقوم بدور الأم؛ ولم تستطع بالتالي أن تقضي إجازة حقيقية؛ فلجأت إلى إغراء زوجها بالعودة إلى أفريقيا؛ حيث نشرت إعلانًا في كل الصحف ووقع اختيارها على «ديوانا» القادمة لتوِّها من بلدها والتي استمرت في عملها ثلاث سنوات أنجبت المدام خلالها طفلين آخرَيْن.

عندما فكَّرَت المدام في إجازتها القادمة راحت تغني، ثم نظرت إلى «ديوانا» وقالت لها: هل قدَّمْت بطاقتك للسيد؟

– نعم، مدام.

– عُودِي إلى عملك وأخبِري الطباخ أن يُقدِّم لكم وجبةً جيدةً.

– شكرًا مدام.

انطلقت «ديوانا» إلى المطبخ بينما ظلَّت المدام تعيد ترتيب، وجَرْد الأشياء.

أثناء وقت الظهيرة أعلن نُبَاح الكلب عن قدوم السيد الذي هبط من سيارته البيجو، فسألَتْه المدام بعصبية: ألم يأتِ رجال العفش بعد؟

– سيأتون في الثانية إلا ربعًا .. ماذا عن «ديوانا»؟

ذهب أكبر الأطفال لاستدعائها فجاءت مسرعة، وقالت: نعم، مدام.

– إن السيد هو الذي يريدك.

– شيء جميل، ها هي تَذكرَتك وبطاقتك.

مَدَّت «ديوانا» يدها لتناوُل التَّذكرة والبطاقة، لكن السيد قال لها: احتفِظي بالبطاقة فقط وسأعتني أنا بالتَّذكرة .. إن الدوبن يعودن في السفينة نفسها وسوف يهتمون بك، فهل أنت سعيدة بالذهاب إلى فرنسا؟

– نعم، سيدي.

– أين حقائبك إذن؟

– في شارع اسكارفيه يا سيدي.

– بعد أن أتناول غذائي سأذهب بالسيارة لإحضار حقائبك.

قالت المدام: أحضرِي الأطفال من الخارج يا «ديوانا» فقد حان وقت راحتهم.

– حاضر، مدام.

لم تكن «ديوانا» جائعة، وكان مساعد الطباخ الذي يصغُرها بعامين حزينًا؛ لأنه سيفقد عمله برحيلهم؛ مما جعله يشعر باستياءٍ شديدٍ نحو الخادمة التي كانت مستنِدة إلى الشباك الكبير المؤدِّي للبحر تراقب الطيور المحلِّقة في المَدى الفسيح من اللون الأزرق.

ظلت «ديوانا» تقلِّب بطاقتها من جهة إلى أخرى وهي تبتسم في هدوءٍ، ولم تكن سعيدة بعدم جمال الصورة، لكنها قالت: لا يهم .. إنني مسافرة.

قال السيد للطباخ: إن الطعام فاخر اليوم، لقد تفوَّقت على نفسك، والمدام مسرورة بك جدًّا.

وقف مساعد الطباخ مشدودًا في انتباه وراح «سامبا» الطباخ يُسوِّي من قبعته البيضاء ويقول وهو يحاول أن يبتسم: أشكرك جدًّا سيدي، وأنا أيضًا مسرور جدًّا ما دام السيد والمدام سعيدين .. أنت سيد لطيف جدًّا، لكن عائلتي كبيرة وغير سعيدة، وعندما ترحل يا سيدي لن أجد عملًا آخر.

– سنعود أيها الرجل الطيب، كما أنك قادر بموهبتك أن تجد عملًا آخر في وقتٍ قصيرٍ.

ذهب السيد والسيدة فسارَع «سامبا» يصفع «ديوانا» التي بادلته بصفعة أخرى وهي غاضبة؛ فقال «سامبا»: ستسافرون اليوم ولن نتشاجر مرة أخرى.

قالت «ديوانا»: لكن ذلك مؤلم.

كان «سامبا» يشك بوجود علاقة سِرِّية بين الخادمة وسيدها، فقال: والسيد! .. ألا يؤلمك أيضًا؟ هيا اذهبي فهم ينادون عليك، كما أنني أسمع محرك السيارة.

غادرت «ديوانا» دون وداعٍ، ثم انطلقت السيارة في الطريق السريع فأثارت نظرات «ديوانا» إعجاب المارة لكنها لم تجرؤ على التلويح بيديها، أو الصياح قائلة: إنني في طريقي إلى فرنسا! نعم، فرنسا!

توقفت السيارة في شارع اسكارفيه أمام مقهى مشبوه مجاور لمنزلها المتواضِع، وكان بعض الزبائن جالسِين يتحدَّثون فوق الرصيف.

قال «تايف كوريا»: هل سترحلين اليوم أيتها الصغيرة؟

كانت ملابسه بالية، وقد حاول أن يتماسك وهو يزحزح قدميه ويمسك بالزجاجة من عنقها، فلم تجد «ديوانا» ما تقوله لذلك المخمور الذي عاد إلى وطنه بعد عشرين عامًا أمضاها في أوروبا .. كان «تايف كوريا» شابًّا متألقًا وطموحًا عندما رحل من بلده، لكنه عاد مُهَزَّمًا وخربًا ولا يملك شيئًا سوى حبِّه للشراب.

عندما سألَتْه «ديوانا» النصيحة أجابها بعدم جدوى سفرها، وتنبأ لها بسوء الحظ وعدم التوفيق، ثم تقدم بضع خطوات ناحية السيد وهو ممسك بالزجاجة بين يديه، وخاطبه قائلًا: هل حقًّا سترحل «ديوانا» معك؟

لم يُجِب السيد وأشعل سيجارة ظل ينفث دخانها من باب السيارة وهو يحدق في «تايف كوريا» من رأسه إلى أصابع قدميه قائلًا لنفسه: يا له من سِكِّير متشرِّد بملابس متَشحِّمة ورائحة نبيذ كريهة.

انحنى «كوريا» ووضع يديه فوق باب السيارة، ثم قال بفخر: لقد كنت هناك وعشت عشرين عامًا في فرنسا .. نعم، فأنا أعرف فرنسا أكثر مما تعرفها أنت رغم ما تراني عليه، لقد عشت في تولون أثناء الحرب، وأنا لا أريدها أن تذهب معك.

أجاب السيد بجفاف: لم يجبرها أحد على الذهاب، وإنما هي التي تريد.

– بالتأكيد لأن كل شابٍّ أفريقي يحلم بالذهاب إلى فرنسا، لكنهم سرعان ما يضيقون بالحياة هناك؛ لأنهم يعملون كخدم .. أنتم تقولون الضوء هو الذي يجذب الفراشة، لكننا هنا في بلدي «كازامانس» نقول: إن الظلام هو الذي يُغري الفراشة.

عادت «ديوانا» وحولها عدد من النسوة كُنَّ يغنين وكل واحدة منهنَّ تتوسل إليها في طلب تذكار صغير، فقالت إحداهن: تَذكَّرِي فستاني.

– وأحذية الأطفال، لقد أعطيتك المقاسات .. تَذكَّرِي أيضًا ماكينة الخياطة الأزرار الكبيرة مقاس ٤٤.

– لا تنسَي إرسال بعض النقود إلى أمك في «بوتوبا».

هكذا انهالت عليها الطلبات، وكان وجهها مشِعًّا فتناول «كوريا» الحقيبة ووضعها في السيارة بهدوء، ثم قال: اتركنَها تذهب يا بنات؛ فهل تعتقدن أن النقود تنمو فوق الأشجار في فرنسا؟ على أية حال سوف تخبركم بالكثير بعد عودتها.

ثم خاطب «ديوانا» قائلًا: وداعًا يا ابنة العم الصغيرة، اهتمِّي بنفسك، واكتبي لابن عمك في تولون فور وصولك كي يساعدك، تعالي وقبِّلِيني.

شعر السيد بالملل فأدار محرك السيارة، وفي الميناء كان الأقارب والأصدقاء أيضًا يَحُومون حولها حتى ركبَت «ديوانا» السفينة تحت رعاية السيد.

كانت حصيرة من الماء تحيط السفينة من كل اتجاه، وكان السيد في انتظارها بعد مُضِي أسبوع في عرض البحر، وبعد انتهاء الإجراءات مَضَوا في طريقهم مسرعِين.

أصابت «ديوانا» الدهشة وهي تُحدِّق في كل شيء، وأبصرت كل الأشياء جميلة؛ حتى غدت أفريقيا في نظرها قطعة أرض قذرة بالنسبة إلى ما ترى .. المدن، الأتوبيسات، القطارات، وعربات النقل.

– هل كانت الرحلة بعربات النقل؟

– نعم، سيدي، (هكذا كانت ستجيب إذا سألها السيد).

وصلوا إلى «أنتيب» بعد ساعتين داخل السيارة، ومضت الأيام والأسابيع والشهر الأول والثاني، لكن «ديوانا» لم تَعُد هي تلك الفتاة الصغيرة المَرِحة ذات الابتسامة العذبة المتدفِّقة بالحياة، بدأت عيناها تتقعران وأصبحَت نظراتها خالية من الاشتياق واليقظة، حتى إنها لم تَعُد تلحظ التفاصيل أو تهتم بها؛ فلقد أصبح لزامًا عليها أن تقوم بأعمال أكثر مما كانت تقوم به في أفريقيا؛ وهكذا لم تعرف فرنسا الجميلة، ولم ترَ شيئًا منها سوى بعض المشاهَدات السريعة كالحدائق الفرنسية، وأسوار الفيلات الأخرى، وقمم الأسطح التي يمكن رؤيتها من فوق الأشجار الخضراء.

كانت المدام عند خروجها مع السيد تقول: اهتمِّي جيدًا بالأطفال، واعملي على سعادتهم.

وكان الأطفال الأربعة يلْعَبون معها لعبة المافيا، ويتفنَّنُون في اضطهادها، حتى إن الولد الكبير صفَعها ذات مرة بعد أن سمع كثيرًا من الجمل والعبارات عن الضرر العنصري خلال محادثات ماما وبابا والجيران العائدين من أفريقيا، كما بالغ الولد في ملاحظاته إلى أقرانه حتى أصبحوا يُغنُّون قائلِين: بنت سوداء .. بنت سوداء .. سوداء كمنتصف الليل.

تلاشت أحلام «ديوانا» القديمة وتعبت كثيرًا من العمل الشاق المتلاحِق؛ فأصبحَتْ تنام في الليل مثل الخشب لا تكاد تحس شيئًا.

امتلأ قلبها بالحقد وأصابها الملل، فأين هي فرنسا؟ وأين تلك المدن الجميلة التي تشاهدها على شاشة السينما في «داكار»؟ أين الطعام النادر وذلك الزحام المثير؟ .. لم تَعُد فرنسا بالنسبة لها سوى السيد، والمدام، وأخت المدام، وأصبحت المدينة بأسرها ليست سوى ما يحيط بالفيلا، بالإضافة إلى شعورها بالرعب من لون بشرتها الأسود الذي جعلها تتقهقر بخجلٍ داخل نفسها، كما لم تجد «ديوانا» مَن تتبادل معه الأفكار والحكايات؛ فأصبحت وحيدة تمامًا تثرثر مع نفسها.

قالت لها المدام ذات يوم: سنذهب غدًا إلى «كان»؛ أي إن أبي وأمي يرغبان في تذوق الطعام الأفريقي .. سوف تصنعين لنا يا «ديوانا» ذلك الطعام الأفريقي الجميل.

– نعم، مدام.

– أرسلت في طلب بعض الأرز ودجاجتين، يجب ألَّا تُكثري من التوابل.

«نعم، مدام .. نعم، مدام» هكذا كانت دائمًا تجيب دون زيادة أو نقصان، فقد كان قلبها متحجرًا .. كانت هذه هي إحدى المرات الكثيرة جدًّا التي تنتقل فيها من فيلا إلى أخرى، ومن منزل إلى آخر دون أن تتوقف عن عمل كل شيء وأي شيء.

– هذه المرة في منزل أبي وأمي يجب أن تتفوقي على نفسك.

– نعم، مدام.

عادت «ديوانا» للمطبخ وهي تفكر في تظاهر المدام بالطيبة والرقة؛ فسئمت كل شيء، وراحت تستعيد أيامها في «داكار» حين كانت تجمع مخلفات السيد والمدام وتذهب بها إلى منزلها في شارع «اسكارفيه» وحين كانت تتباهى بعملها مع البِيض، أما الآن فهي وحيدة تمامًا .. وحيدة وقانطة، وتشعر بالرغبة في القيء من طعامهم، ولم تَعُد تربطها بهم أية علاقة سوى تلك التي تخص طبيعة العمل.

– «ديوانا» هل ستقومين بالغسيل اليوم؟

– نعم، مدام.

– لاحظي أنك لم تقومي بتنظيف قمصاني الداخلية جيدًا في المرة السابقة، كما أنك أتلَفْت ياقات قمصان السيد؛ لأن المكواة كانت ساخنة جدًّا.

– نعم، مدام.

– أوه، نسيت أن أخبرك أن قمصان السيد وبنطلوناته القصيرة بها بعض الأزرار الناقصة.

كانت «ديوانا» تفعل كل شيء، وفجأة تقوقَعَت داخل نفسها، واختارت نوعًا من الحبس الانفرادي، وبعد لحظات طويلة من التأمل الفريد عرفت أنها ليست سوى كائن مفيد للآخرين.

كانت تسمع السيد أو المدام في الحفلات وهما يبديان ملاحظاتهما حول سيكولوجية تلك الشعوب وأبناء البلد منهم، وكانا يتخذان من «ديوانا» مثالًا فيضيف بعض الضيوف: إنها بنت سوداء ذات جراب مثل بعض الحيوانات.

بدأ الشهر الرابع، وكان كل شيء يُشير إلى الأسوأ، وراحت «ديوانا» تتساءل عن فرنسا الجميلة التي لم تعرفها حتى الآن، وتقول لنفسها: إنني أقوم بطهي الطعام، وأعمال التمريض، والغسيل، والكَي، وترتيب الحجرات مقابل ثلاثة آلاف فرنك في الشهر فقط .. إنني أخدم ستة أفراد .. ما هذا الذي أفعله هنا؟

غرقت «ديوانا» في ذكرياتها، وعقدت مقارنة بين شجيرات بلدها وتلك الشجيرات الميتة، وبين ما تراه هنا وما تراه في وطنها «كازامانس»، ثم فَقدَت تدريجيًّا كل صلة بالآخرين وأطبقت شفتيها أسفًا على اليوم الذي جاءت فيه، ومضت تسبح في شريط من الذكريات؛ حتى انهالت فوق رأسها آلاف من التفاصيل الأخرى.

ذات مساء كان السيد جالسًا يشاهد التليفزيون فطافت بشفتيها ابتسامة خفيفة وقررت التمتع بالمشاهدة، لكنها أبصرت المدام إلى جوار السيد؛ فسارعت بمغادرة الحجرة وهي تردد: باع .. باع .. اشترى .. اشترى، لقد قاموا بشرائي مقابل ثلاثة آلاف من الفرنكات .. لقد غرَّروا بي، وقيَّدوني بهم وها أنا ذا كالعبيد.

فتحت «ديوانا» حقيبتها، وألْقَت نظرة إلى الأشياء بداخلها، ثم بكَت، لكن أحدًا لم يهتم بها، وكذا لم تشأ هي أن توضِّح شيئًا عن مشاعرها للآخرِين.

اعتادت أخت المدام أن تنادي عليها دائمًا نحو مزيد من الطلبات؛ فتزداد «ديوانا» غضبًا؛ لأنها أكثر كسلًا من المدام.

– تعالي وأبعدي هذا من هنا، لديك كثير من العمل يا دونا .. لماذا لم تفعلي هذا يا دونا؟ عليك من الآن فصاعدًا أن تُجرِّفي الحديقة.

كانت «ديوانا» تجيب بنظرةٍ غاضبةٍ متعمَّدة من عينيها.

سألها السيد ذات يوم بعد أن تقدَّمَت المدام إليه بالشكوى منها: ماذا حدث لك يا «ديوانا»؟ هل أنت مريضة أو أنك تعانين شيئًا ما؟

لكن «ديوانا» لم تعد تفتح فمها.

– هل ترغبين في الذهاب إلى تولون؟ إنَّ وقتي لم يكن يسمح بذلك، لكنني غدًا سأصحبك إلى هناك.

بعد ثلاثة أيام وبعد عودة «ديوانا» من جولة السوق الصباحية اتجهت للحمَّام، وكلمات مدام «بوشيه» تخترق أذنيها: «ديوانا» .. «ديوانا»، أنت قذرة رغم كل شيء .. يجب أن تنظفي الحمام بعد الانتهاء منه.

– لست أنا مدام .. إنهم الأطفال.

– الأطفال يتمتعون بالنظافة، لكنك أنت التي سئمت منهم، ولتعرفي أنني لا أحتمل أن تكذبي مثل أولاد بلدك، فأنا لا أحب الكذابين وأنت كاذبة!

ظلت «ديوانا» صامتة لكن شفتيها كانتا ترتعشان، ثم صعدت السلالم إلى الحمَّام وخلعت ملابسها حيث وجدوها ميتة.

أعلن المحققون: حالة انتحار!

ثم حُفِظت القضية!

في اليوم التالي وفي العمود السادس من الصفحة الرابعة من الجريدة كان العنوان صغيرًا، ومن العسير ملاحظته: «فتاة أفريقية يغمرها شوق العودة إلى وطنها تقطع رقبتها في مدينة أنتيب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤