الفصل الرابع عشر

ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟

ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ تحديد أركان الإيمان، وأخيرًا الفصل بين الإيمان والفلسفة.١

***

لا بدَّ لنا، لكي نكتسِب معرفةً حقيقية بالإيمان، من أن نكون على علمٍ بأن الكتاب مُهيَّأ بحيث يتلاءم مع فهم الأنبياء، بل ومع فهم عامَّة اليهود في تبايُنِهم وتقلُّبهم، وتلك حقيقة لا يُمكن أن يجهلها أحدٌ حتى بعد فحصٍ سريع للموضوع؛ ذلك لأنَّنا قَبِلنا مضمون الكتاب كله بلا تمييز على أنه عقيدة شاملة مُطلقة عن الله، ولو لم نحرِص على أن نُميِّز فيه ما وضع على قدْرِ أفهام العامة، لتعرَّضنا لا محالة للخلْط بين أفكار العامة والعقيدة الإلهية، والنظر إلى بِدَع الإنسان وما يُزَيِّنه له هواه من أحكام، على أنها تعاليم إلهية، ولأسَأْنا استعمال سلطة الكتاب، فهل يصعُب علينا أن نُدرِك أن هذا الخلط هو المسئول عما يدعو إليه مُؤسِّسو الفِرَق من آراءٍ عديدة، مختلفة فيما بينها كلَّ الاختلاف، يتَّخِذونها أركانًا للإيمان، ويؤيِّدونها بنصوصٍ كثيرة من الكتاب، حتى شاع بين الهولنديين منذ القِدَم مَثَلٌ يقول: «ما من مُجدِّف إلَّا ويَستنِد إلى نص.»٢ والواقع أنَّ الكُتب المُقدَّسة ليس لها مُؤلِّف واحد، ولم تُكتَب للعامَّة الذين عاشوا في عصرٍ بعيْنِه، بل هي من عمل عددٍ كبير من الناس ذوي أمزِجةٍ مختلفة عاشوا في عصور مختلفة. وإذا أردنا أن نُحصي العصور التي تفصِل بينها وجدناها ألفي عام وربما أكثر، أمَّا مُؤسِّسو الفِرَق هؤلاء فلا نُريد اتِّهامهم بالكُفر لمجرَّد كونهم قد أوَّلُوا كلام الكتاب حسْب مُعتقداتهم؛ ذلك لأنه، مِثلما أن الكتاب قد وُضِع من قبل على قدْر أفهام العامَّة، فإنَّ لكلِّ شخصٍ الآن الحق في أن يُكيِّفه حسب معتقداته الخاصة، إذا كان يرى في ذلك وسيلة لطاعة الله، في الأمور المُتعلِّقة بالعدل والإحسان، بنفسٍ راضيةٍ تمام الرضا، ولكِنَّنا نتَّهِمُهم بذلك لأنهم لا يعترفون للآخرين بالحرية نفسها، ويحتقِرون من يُخالفونهم في الرأي، فيَعُدُّونهم أعداء الله، حتى لو كانوا يعيشون على أشرف نحوٍ يُمكن تصوُّره، ويُمارسون الفضيلة الحقَّة، كما أنهم على العكس من ذلك، يُحبُّون مَن يَنقادون لهم كالأنعام، وكأنَّهم أصفياء الله، حتى ولو كانوا بعيدين كلَّ البُعد عن الخُلُق القويم، وهذا هو أشدُّ المواقف جُرمًا وأكثرها ضررًا على الدولة. وإذن، فلكي نُبيِّن حدود حرية كل فرد في أن يفكر كما يشاء في أمور الإيمان، ونحدِّد من هم الناس الذين يتعيَّن علينا أن نَعُدَّهم مؤمنين بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم، علينا أن نُحدِّد الخصائص الأساسية للإيمان. وهذا هو موضوع هذا الفصل، بالإضافة إلى البحث في التمييز بين الإيمان والفلسفة وهو الغرض الرئيس من الكتاب كله. واتِّباعًا للترتيب السليم في البحث، نعود بأذهاننا إلى الغاية الرئيسة التي يَرمي إليها الكتاب المقدس، وبذلك نحصل على قاعدة صحيحة لتعريف الإيمان. لقد قُلنا في الفصل السابق: إنَّ غرض الكتاب الوحيد هو تعليم الطاعة، وهو أمر لا يُمكن أن يُعارضني فيه أحد، فمن ذا الذي لا يرى حقيقة أنَّ العهدين، القديم والجديد، لا يُعطيان إلَّا درسًا في الطاعة، وأنَّ الغاية التي يَرميان إليها هي جعل الناس يُطيعون عن رضًى؟ ولكي لا أُكرِّر حجَجَ الفصل السابق أقول: إنَّ موسى لم يُحاول حقيقة إقناع الإسرائيليين بالفعل، بل جمع بينهم بعهدٍ وبحلفٍ وبأعمالٍ طيبة قدَّمها إليهم، ثم حثَّ الشعب على طاعة القوانين، مُنذرًا العاصين بالعقاب، ومُبشرًا المُطيعين بحُسن الثواب، وكلها وسائل لا جدوى منها حين يكون الأمر مُتعلقًا بتحصيل المعارف، ولكنها فعَّالة في تحقيق الطاعة وحدَها. ولا يدعو الإنجيل إلَّا إلى الإيمان اليسير: وهو الإيمان بالله وبتبجيله أي طاعته. ولا حاجة بنا، من أجل توضيح هذه النقطة توضيحًا تامًّا، إلى تجميع نصوص الكتاب التي تحثُّ على الطاعة والتي تُوجَد بأعداد ضخمة في العهدَين. ومن ناحية أخرى، يُخبرنا الكتاب أيضًا بوضوحٍ تامٍّ بما يجِب على الإنسان القيام به لطاعة الله. فهو يُعلمنا أن الشريعة كلها تتلخَّص في هذه الوصية وحدها: أحب جارك.٣ إذن فلا يستطيع أحدٌ إنكار أنَّ من يُحبُّ جاره كحُبِّه لنفسه لأنَّ الله أوصى بذلك، يكون بحقٍّ مُطيعًا وسعيدًا٤ حسب الشريعة، على حين أنَّ من يكرَه جاره أو يتخلَّى عنه يكون عاصيًا مارقًا. وأخيرًا يُسلِّم جميع الناس بأنَّ الكتاب لم يُدَّون ولم يُروَّج له من أجل العلماء وحدهم، بل من أجل البشر جميعًا دون تمييز بينهم في السنِّ أو في الجنس. ويترتَّب على ذلك بوضوحٍ تامٍّ أن الكتاب لا يُلزِمنا بالاعتقاد إلَّا بما هو ضروري لتنفيذ هذه الوصية، فهذه الوصية إذن هي القاعدة الوحيدة للإيمان الكاثوليكي كله، وعن طريقها وحدها ينبغي أن تُحدَّد جميع عقائد الإيمان.٥ أعني القواعد التي يجِب على كل فرد الالتزام بها.

فلنتساءل الآن: لمَّا كان هذا الأمر واضحًا تمامًا، وكان يمكن استنباط كل ما يتعلق بالإيمان من هذا المبدأ وحده، مُعتمدين على العقل وحده، فكيف وقعَتْ هذه الخلافات العديدة داخل الكنيسة؟ هل هناك أسباب أخرى غير التي ذكرناها في الفصل السابع؟ إنَّ هذه الخلافات تدفعني إلى أن أُبيِّن الطريقة والمنهج اللَّذَين ينبغي اتباعهما لتحديد عقائد الإيمان ابتداءً من هذا المبدأ الذي وجدناه؛ ذلك لأنَّني لو لم أقُم بهذا البيان، وتخلَّيتُ عن وضع بعض الوقائع المحكمة في هذا الموضوع، لظنَّ الجميع عن حقٍّ أنِّي لم أُنجز حتى الآن إلَّا الشيء القليل؛ إذ يظلُّ كل فرد حرًّا في أن يُقحِم على الإيمان ما يشاء بحجَّةِ أنَّ ما يُقحِمه وسيلة ضرورية للطاعة، وهو أمر تظهر خطورته بوجهٍ خاص عند البحث في مسألة صفات الله.

وإذن فلكي أسير في هذا الموضوع بترتيب سليم، سأبدأ بتعريف الإيمان ابتداءً من المبدأ الذي سلَّمنا به، فأقول: إن الإيمان هو أن ننسب إلى الله بالفكر خصائص يؤدي الجهل بها إلى ضياع الطاعة، على حين أنَّ وجود الطاعة يستتبع وجود هذه الخصائص بالضرورة. وهذا تعريف واضح للغاية، وهو يترتَّب على البراهين السابقة بقدْرٍ من الوضوح لا يُحتاج معه إلى أيِّ شرح. وسأحاول الآن باختصارٍ أن أُحصي نتائجه:

  • (١)
    يجلب الإيمان الخلاص لا بنفسه بل لأنه يتضمَّن الخضوع، أو كما يقول يعقوب (٢: ١٧):٦ الإيمان دون الأعمال مائت (انظر في هذا الموضوع كلَّ الإصحاح الذي كتَبَه هذا الحواري).
  • (٢)
    ونتيجة لذلك، يكون الإنسان المُطيع حقًّا هو صاحب الإيمان الحق،٧ أعني ذلك الإيمان الذي يكون الخلاص ثمرةً له. ألم نَقُل أنه إذا وُجِدت الطاعة وُجِد الإيمان؟ وهذا ما يقوله الحواري نفسه صراحةً (٢: ١٨): «فأرني إيمانك بغَير الأعمال أما أنا فأُريك إيماني بالأعمال.» وكذلك يقول (الرسالة الأولى، ٤: ٧-٨): «فكلُّ من يُحبُّ (جاره) فهو مولود من الله وعارف به، ومن لا يُحِبُّ فإنه لا يعرِف الله لأنَّ الله محبَّة.» ومن هذا نَستنتِج مرَّة أخرى أنه لا يمكن الحكم على أحد بأنه مؤمن أو غير «مؤمن إلَّا بأعماله، فإذا كانت أفعاله حسنة، مع اختلافه في عقائده» عن بقية المؤمنين، فهو مؤمن، وإذا كانت أفعاله سيئة واتَّفقَت عقائده لفظيًّا مع الآخرين، فهو غير مؤمن؛ ذلك لأنه إذا وُجِدت الطاعة وُجِد الإيمان بالضرورة، والإيمان دون الأعمال مائت.٨ وهذا ما يقوله يوحنَّا صراحةً في الآية ١٣ من الإصحاح نفسه: «وبهذا نعلم أنَّنا نثبُت فيه وهو فينا بأنه آتانا من روحه.»٩ أي المحبة؛ لأنه قال قبل ذلك إنَّ الله محبة. وهو يستنتج من ذلك (أي من المبادئ التي سلَّم بها من قبل) أنَّ رُوح الله تسكن في الإنسان حقيقة عندما يُحِب، بل إنه استنتج اعتمادًا على أن أحدًا لم يرَ الله، لأنَّ أحدًا لا يشعُر بالله أو يُدرِكه إلَّا بِحُبِّ الجار، وبالتالي فإن أحدًا لا يستطيع أن يعرِف أية صفةٍ لله سوى هذه المحبَّة بقدْر مشاركتنا فيها. وعلى الرغم من أنَّ حُجَجي ليست قاطعة، فإنها تُفسِّر بوضوحٍ ما قصد إليه يوحنا. ويتَّضِح ذلك على نحوٍ أصرَحَ في الآيات ٣، ٤ من الإصحاح ٢ من الرسالة نفسها، التي تُبيِّن صراحةً ما نودُّ بيانه: «وبهذا نعلم أنَّا قد عرفْناه بأن نحفَظ وصاياه. فمن قال إني عرفتُه ولم يحفَظ وصاياه فهو كاذِب وليس الحقُّ فيه.» ومن ذلك ننتهي من جديدٍ إلى النتيجة القائلة: إنَّ من يضطهد الشرفاء مُحبي العدل لأنهم يختلفون معه في الرأي ولا يعتنقون العقائد نفسها أو حقائق الإيمان نفسها، إنما هو عدوٌّ المسيح الحقيقي؛ ذلك لأنَّنا نعلم أنَّ حُبَّ العدل والإحسان يكفي ليكون الإنسان مؤمنًا، ومن يضطهد المؤمنين يكون عدوًّا للمسيح. ويترتَّب على ذلك، أخيرًا، أنَّ الإيمان يتطلَّب عقائد تحثُّ على التقوى وقادرة على توجيه مُعتنقيها إلى الطاعة، أكثر ممَّا يتطلَّب عقائد صحيحة. ولا يهمُّ بعد ذلك ألَّا يكون العدد الأكبر من هذه العقائد مُحتويًا على ذرَّة واحدة من الحقيقة،١٠ ويكفي ألا يعرِف من يعتنقونها أنها باطلة، وإلَّا لتمرَّدوا عليها بالضرورة؛ إذ كيف يمكن لفرد، يسعى إلى حُبِّ العدل وطاعة الله، أن يعبُد شيئًا، على أنه إلهي، وهو يعلم أنه غريب على الطبيعة الإلهية؟ على أنَّ الناس قد يُخطئون لسذاجة عقولهم، والكتاب كما نعلم، لا يُدين الجهل، بل العصيان وحده، بل إنَّ هذا ينتج بالضرورة عن تعريف الإيمان وحده؛ لأن الإيمان كله يرتكز على الأساس الشامل الَّذي برهَنَّا عليه من قبل، وعلى الغاية الوحيدة التي يرمي إليها الكتاب — ما لم يكن هدفنا هو الخلط بين الإيمان وما يروق لنا من الأحكام. وإذن، فالإيمان لا يتطلَّب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي ضرورة إلى الطاعة، أي تُثبِّت القلوب على حُبِّ الجار؛ إذ إنَّ كلَّ إنسانٍ لا يكون في الله، ولا يكون الله في كلِّ إنسان (كما يقول يوحنا)، إلَّا بمقدار هذا الحب. وإذن فلمَّا كان علينا، كيما نحكُم على تقوى كلِّ إيمانٍ أو فسوقه، ألَّا نأخُذ في اعتبارنا سوى طاعة من يعتنِق هذا الإيمان أو عصيانه، بغضِّ النظر عن صحة الإيمان ذاته أو بُطلانه، وكذلك لَمَّا كان من المُسلَّم به أن التكوين الذهني للبشر مُتعدِّد للغاية، إذ لا يستريح كلُّ الناس للأفكار نفسها، بل على العكس، تحكمهم أفكار مُختلفة، بحيث إنَّ الأفكار التي تحثُّ أحدَهم على التقوى، قد تُثير في نفس الآخر السخرية والاحتقار، فإنَّنا نستنتج من ذلك كله أنَّ الإيمان الكاثوليكي أو الشامل، لا يحتوي على أية عقائد يُمكن أن تُثير خلافًا بين الشرفاء. وأما العقائد التي تقبَلُ الجدل فتحثُّ على الطاعة عندما تعتنقها نفس طيبة، وعلى الفسوق عندما تعتنقها نفس أخرى (ما دام العامل الحاسم هو الأعمال وحدها). والواقع أنَّ الإيمان الشامل لا يحتوي إلا على عقائد تحث على طاعة الله على نحوٍ مُطلق، ويؤدي الجهل بها إلى أن تستحيل الطاعة تمامًا. أما الجوانب الأخرى للعقيدة فإن لكلِّ فرد — ما دام هو خير من يعرف نفسه — أن يتصوَّرَها كما يشاء بحيث يتسنَّى له أن يسلك على خيرِ نحوٍ طبقًا للحبِّ والعدل. وأظنُّ أن هذه القاعدة تمنع أيَّ نزاعٍ داخل الكنيسة.
والآن، لم يعُد هناك ما أخشاه من صياغة عقائد الإيمان الشامل أي المُعتقدات الأساسية التي استهدفها الكتاب الشامل.١١ هذه العقائد يجب أن تتَّجِه (كما يترتَّب بوضوحٍ تام على ما جاء في هذا الفصل وفي الفصل السابق) إلى مبدأ واحد؛ هو أنَّ هناك موجودًا أسمى يحبُّ العدل والإحسان يلزم الجميع طاعته حتى يتمَّ لهم الخلاص، ويتعيَّن عليهم عبادته بمُمارسة العدل والإحسان نحوَ الجار. وابتداءً من هذا المبدأ نستطيع بسهولةٍ أن نُحدِّد باقي المبادئ، وهي:
  • (١)

    يُوجد إله، أي موجود أسمى، خيِّر ورحيم على نحوٍ مُطلق، أي إنه بعبارة أخرى نموذج للحياة الحقَّة، فمن لا يعرفه أو يؤمن بوجوده لا يستطيع طاعته أو الاعتراف به حكمًا.

  • (٢)

    الله واحد لا شريك له، وهو أمر لا يمكن أن يشكَّ أحد في أنه ضروري ضرورةً مُطلقة، لكي يكون الله موضوعًا أسمى للخشوع والإجلال والمحبَّة؛ إذ لا ينشأ هذا الخشوع وهذا الإجلال وهذه المحبَّة إلَّا من رفعة هذا الموجود وسُموِّه على غيره من الموجودات.

  • (٣)

    الله حاضر في كلِّ مكان ويرى كلَّ شيء، فلو اعتقَدْنا أن شيئًا يَخفى عليه، أو لم نعلم أنه يرى كلَّ شيء، لتطرَّق إلينا الشكُّ في كمال عدله الذي يخضع له كلُّ شيء.

  • (٤)

    لله الحقُّ والقدرة المُطلقة على كل شيء، وهو لا يُجبَر على أفعاله بل يفعل ما يشاء بمشيئةٍ مُطلقة وبفضل ينفرد به. وعلى حين أنَّ طاعته واجبة على الجميع فإنه لا يُطيع أحدًا.

  • (٥)

    عبادة الله وطاعته لا تكون إلَّا في العدل والإحسان، أي في حُبِّ الجار.

  • (٦)

    لا يتمُّ الخلاص إلَّا لمن يُطبِّقون هذه القاعدة في الحياة، أي لمن يُطيعون الله، على حينِ يهلَك من يعيشون تحت سيطرة اللَّذَّات، ولو لم يعتقد الناس بذلك اعتقادًا جازمًا لَمَا كان هناك ما يدعوهم إلى إيثار طاعة الله على السعي وراء اللَّذَّات.

  • (٧)

    وأخيرًا، يغفر الله للتائبين خطاياهم، وكل بني آدم خطاءون. فهذا أمر لو لم يُسلَّم به ليئس الجميع من خلاصهم، ولَمَا وجدوا سببًا للإيمان بالرَّحمة الإلهية. أما من يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن الله برحمته وبفضله الذي وسِع كل شيء يغفر ذنوب البشر حقًّا، ومن ثَمَّ من يشتاق حبَّ الله، فإنه يعرف المسيح حقًّا بالرُّوح، ويكون المسيح فيه.

إن أحدًا لا يستطيع أن يُجادل في أن معرفة هذه الأمور ضرورية أولًا وقبل كلِّ شيء حتى يتسنى للناس جميعًا، وبلا استثناء، أن يُطيعوا الله طبقًا لوصية الشريعة التي شرحناها من قبل. ففي رفض أحد هذه المعتقدات رفض لطاعة الله، أما معرفة ما هو الله، أي أنموذج الحياة الحقَّة، فإنَّ كونه نارًا أو رُوحًا أو نورًا أو فكرًا … إلخ، لا يمس الإيمان في شيء، وكذلك لا يُهمُّ الإيمان تحديد المعنى الذي يكون به نموذجًا للحياة الحقَّة، وهل يرجِع ذلك إلى أنه عادل رحيم أو قادر على كل شيء، أم إلى أنَّنا به نعلم ونرى ما هو حق وعدل؛١٢ لأنَّ الأشياء جميعًا لا تكون ولا تُفعَل إلَّا به، فمهما كانت الآراء التي كوَّنها كلٌّ مَنَّا حول هذا الموضوع، فإنها كلها تتساوى في قيمتها. ومن ناحية أخرى لا يُهمُّ الإيمان في شيء أن يكون الله في كل مكانٍ بفضلِ ماهيَّتِه أو بفضل قُدرتِه، وأن يكون تدبيره الشامل للأمور طبقًا لحُريَّته أو طبقًا لضرورة طبيعته، وأن يضع القوانين كما يضعها الحاكم، أو أن يعلمها بوصفها حقائق أزلية، وأن يُطيع الإنسان الله بإرادته الحُرَّة أو بالضرورة الصادرة عن المشيئة الإلهية، وأخيرًا أن يكون ثواب الأخيار وعقاب الأشرار، أمرًا ينتمي إلى الطبيعة أم إلى خوارق الطبيعة. أقول: إنه مهما اختلفت الطُّرُق التي يوضح بها كل فردٍ هذه المسائل وما شابهها فإنها لا تؤثر في الإيمان مُطلقًا، بشرطٍ واحد هو ألا يكون هدفه من النتائج التي يصِل إليها هو أن يسمح لنفسه بمزيدٍ من الحرية في ارتكاب الإثم، أو أن يُصبِح أقلَّ طاعةً لله. بل إنَّني لأذهب إلى أبعدِ من ذلك، فأقول: إنَّ كلَّ فرد — كما بيَّنتُ من قبل — مُلزَم بأن يُهيئ عقائده في الإيمان على قدْرِ فَهمه الخاص، وأن يُفسِّرها بحيث يسهل عليه اعتناقُها دون أي تَردُّد١٣ وبقلبٍ صادق، كيما تأتي طاعة الله بدَورها عن رغبةٍ صادقة؛ ذلك لأنه، مِثلما أن الإيمان قد أُوحِيَ به قديمًا، وكُتب على قدْر فَهم الأنبياء والعامَّة في عصرهم، وطبقًا لمعتقداتهم، فكذلك يتعيَّن على كلِّ فردٍ أن يُهيئ الإيمان وفقًا لآرائه، حتى يُمكنه اعتناقُه دون أدنى مُقاومة من فِكره، ودون أي تَردُّد، فالإيمان — كما نودُّ أن نُردِّد مرة أخرى — لا يتطلَّب من الحقيقة بقدْرِ ما يتطلَّب من التقوى، وهو لا يكون باعثًا على التقوى، ولا يؤدي إلى الخلاص إلَّا بقدْر حثِّه على الطاعة. وعلى ذلك، فأفضل المؤمنين ليس بالضرورة من يعرِض أفضل الحجج، بل هو الذي يقدِّم أفضل أعمال العدل والإحسان. وإني لأترك لكلٍّ منكم حرية الحكم في مدى نفع هذه العقيدة وضرورتها للدولة إذا أردْنا أن يعيش الناس في سلام ووئام، وفي مقدار ما تُتيح من تجنُّب أسباب القلاقل والجرائم، وما أكثرها وما أخطرها.
وقبل أن أستمرَّ في البحث نلحظ أنه من السهل علينا — اعتمادًا على ما أثبتناه الآن — تفنيد الاعتراضات التي أُثيرت (في الفصل الأول) بشأن الحديث الذي وجهه الله للإسرائيليين من فوق جبل سيناء. فلا شكَّ في أن الصوت الذي سمعوه لم يكن يستطيع أن يُعطيهم أيَّ يقينٍ فلسفي، أي رياضي، بوجود الله، ولكنه كان مع ذلك كافيًا لأن يُثير فيهم إجلال الله كما كانوا يعرفونه من قبل، وأن يَحُثَّهم على طاعته، وقد كان ذلك هو الغرض من هذا التجلِّي، فالله لم يكن يرمي إلى تعليم الإسرائيليين صفات ماهيته المُطلقة (التي لم يكشف منها عن شيء في تلك اللحظة) بل أراد أن يكسِر من حِدَّة عصيانهم وأن يُجبِرهم على طاعته؛ لذلك تجلَّى لهم بضربات البُوق والرعد والبرق لا بحُججٍ عقلية (انظر: الخروج، ٢٠: ٢٠).١٤
وأخيرًا، بقِي أن نُبيِّن الآن أنه لا تُوجَد أية صلة أو قرابة بين الإيمان واللاهوت من ناحية وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وهذا أمرٌ لا يُمكن أن يجهله من يعلم غايةَ كلٍّ من هذين المبحثَين وأساسه؛ إذ إنهما مُتعارضان أشدَّ التعارض، فغاية الفلسفة هي الحق وحده، وغاية الإيمان كما بَيَّنَّا من قبل، هي الطاعة والتقوى وحدهما. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الأُسُس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المُشتركة، وهذه يجِب أن تُستخلَص من الطبيعة وحدها. أما الإيمان فأُسُسه هي التاريخ وفِقه اللغة، وهي أُسُس ينبغي أن تُستمَدَّ من الكتاب والوحي وحدَهما، كما بيَّنَّا في الفصل السابع. فالإيمان إذن يكفُل لكلِّ فردٍ الحريَّة المُطلقة في أن يتفلسف، حتى ليستطيع أن يُفكِّر كما يشاء في أيِّ موضوعٍ دون أن يكون بذلك قد ارتكب جرمًا، وهو لا يُدين إلَّا من يدْعون الناس إلى العصيان والكراهية والمُنازعات والغضب، بوصفهم الخارجين على الدِّين ودُعاة الفتن. أما المؤمنون بحقٍّ فهم عنده أولئك الذين يدعون الناس من حولهم إلى العدل والإحسان بقدر ما تسمح لهم عقولهم وقدراتهم. وأخيرًا، فبما أني قد وصلتُ هنا إلى الموضوع الأساسي لهذه الرسالة،١٥ فإني أودُّ أن أدعو القارئ على الفور، قبل أن أستمرَّ في بحثي إلى أن يقرأ هذَين الفصلَين بعنايةٍ خاصَّة، وأن يُعطيهما ما يَستحقَّانه من دراسةٍ وافية. وأرجو ألا يُعتقَد بأني قد كتبتُ ما كتبتُ رغبة مِنِّي في تقديم بِدَع جديدة، بل لكي أردَّ على بعض الأحكام الخاطئة التي أرجو أن تُصحَّح في يومٍ من الأيام.
١  كان حكَّام هولندا المُستنيرون يُفرِّقون أيضًا بين اللاهوت والفلسفة، أمَّا الفرق الإشراقية فإنها تُعلي من قِيمة الأنبياء وخيالاتهم وتُفرِّق أيضًا بين التصوُّف والعلم، ولكن تفرقة سبينوزا بين اللاهوت والفلسفة ترمي إلى عدَم خلْط الظنِّ باليقين كخطوةٍ للقضاء على اللاهوت والاعتماد على الفلسفة اعتمادًا كُليًّا وكوسيلةٍ لإثبات حرية الفكر التي تعلمها الفلسفة والتي يجهلها اللاهوت. وإذا كان ابن رشد يُوحِّد بين الفلسفة والدِّين في حين أن سبينوزا يُفرِّق بين الفلسفة واللاهوت فإن الغاية واحدة وهي ضمان الحرية العقلية للمُفكِّرين دون تدخُّل من السلطات الدينية.
٢  يذكُر سبينوزا هذا المَثَل بالهولندية ويرمي سبينوزا من ذِكره إلى التقليل بقدْر الإمكان من العقائد لأنها كلها ظنِّيَّة.
٣  نشأت فرقة في المسيحية سمَّت نفسها «مَسيحيِّي الوصايا على الجبل» تقوم أساسًا على هذه الوصية.
٤  Ethique, V, prop. 36, school.
٥  عقائد الإيمان هي تلك العقائد الموجودة في النفس المُطيعة وهي مصادر الدين التي لا تُغني عن الميتافيزيقا.
٦  (يعقوب، ٢: ١٧): «كذلك الإيمان إن كان بِغَير أعمالٍ فهو مَيِّت في ذاته.»
٧  انظر الهامش ١٥، من الفصل الحادي عشر.
٨  يكرر سبينوزا في الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر الفكرة نفسها إما لعرْضِها لقراءٍ سُذَّج أو لاستمرار حدْس سبينوزا الفكري وحماسه له مدَّة طويلة. ويُحتَمل أيضًا أن يكون سبينوزا قد أعدَّ هذه الفقرات لبعض المُحاضرات التي تسمح بمثل هذا التكرار.
٩  يفسِّر دائمًا سبينوزا النصوص الدينية تفسيرًا خاصًّا به وكثيرًا ما يَرجِع إلى النصوص الأصلية نفسها (السرياني بالنسبة لهذا النص) وهذه هي طبيعة المُصلح الذي يرى الواقع الجديد في بطن الآية. ولا يعني تَبنِّي سبينوزا هذا المعنى في آية يوحنا وهو الحلول الصوفي تَخلِّيه عن فكرته الفلسفية وهي أنَّ الله جوهر.
١٠  ومن ثَمَّ يكون الخطأ في اللاهوت لا قيمة له ومع ذلك لا يجوز النظر إلى عقيدةٍ نافِعة على أنها حقيقة فلسفية؛ لأنَّ الاعتقاد العلمي دون أساسٍ نظَري يكون أقربَ إلى الشك.
١١  يقترِح سبينوزا هذا الحد الأدنى من الإيمان للطوائف المسيحية، وينادي بالتسامُح ما دام المحكُّ في العقائد هو السلوك العملي لا الصحة النظرية. وهذا الحد الأدنى من الإيمان هو تركيز لمبادئ «الأخلاق» ودفاع عنها ضِدَّ تهمة الإلحاد التي وُجهت إليه، وهو أيضًا الإيمان الشامل الذي يمكن للإنسانية أن تجتمع عليه ولم يذكر فيه سبينوزا المسيح إلَّا في النهاية ومرة واحدة وبطريقةٍ رمزية، ولكنه إيمان دون كنيسة أو طقوس. وقد رفضَتِ الطوائف المسيحية مبادئ الإيمان التي عرَضَها سبينوزا ولم يعتنِقها حتى المسيحيُّون الأحرار في هولندا.
١٢  لا يُهمُّ الاعتقاد النظري في مسائل اللاهوت (وقد قنَّنها سبينوزا في «الأخلاق») وبالتالي يُدين سبينوزا كلَّ الطوائف والفرق المسيحية التي أخذت الجدل الديني طريقًا لها.
١٣  التردُّد في الإيمان علامة على عدم الوفاق الداخلي الذي تنشأ عنه خطورة الوقوع في المعرفة الناقصة.
١٤  (الخروج، ٢٠: ١٨–٢٠): ١٨: «وكان جميع الشعب يُشاهد الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يُدخِّن، فلمَّا رأى الشعب ذلك ارتاعوا ووقفوا على بُعد.» ١٩: «وقالوا لموسى كلِّمنا أنت فنسمع ولا يُكلِّمنا الله لئلَّا نموت.» ٢٠: «فقال موسى للشعب لا تخافوا فإنَّ الله إنما جاء ليمتحِنكم ولتكون مهابَتُه أمام وجوهكم لئلَّا تخطئوا.»
١٥  مع أن هذا الفصل موضوع في وسط الرسالة إلَّا أنه يكون صُلبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤