لحظة درامية

في أيام بالميسيدا العصيبة حين كانت تشيلي منقسمةً إلى نصفين، وكانت عاصمتها فِعليًّا محاصَرة، مشى ممثِّلان معًا في الشارع الرئيسي نحو المسرح الوحيد الذي كان مفتوحًا حينئذٍ. كانا ينتميان إلى فرقةٍ مسرحية فرنسية كان سيُسعدها الرحيلُ من تشيلي لو استطاعت إليه سبيلًا، لكن ظروف الحرب اضطرتها إلى البقاء، فلجأَت إلى البديل التالي الأمثل، وهو أن تُقدِّم عروضًا على خشبة المسرح الرئيسي في الليالي التي كان يأتي فيها الجمهور.

لو اطَّلع غريبٌ على الشوارع لما كاد يُصدق أن حربًا ضروسًا تدور، ولا أن مَن يُدعَون بالمتمردين كانوا على أبواب المدينة. فعلى الرغم من كساد التِّجارة وانهيار الثقة والتهديد المحدق بحياة كل الرجال وحريتِهم، كانت الشوارع تعجُّ بحشودٍ لا يَثْنيها كلُّ ذلك عن الاستمتاع والاستغلال الأمثلِ لكل الظروف.

بينما كان جاك دوبري وكارلوس لوموان يمشيان معًا، أخذا يتحدَّثان بجدِّية، لا عن الحرب التي كادت تدقُّ أبوابهم، بل عن الصراعات الخيالية التي تُبعَث فيها الحياةُ على خشبة المسرح. كان دوبري الممثلَ الرئيسي في الفرقة، وكان يستمع في صبر الشيوخ لحديث الممثِّل الذي يَصْغره وتنطقُ حروفُه بالحيوية والعُنْفوان.

صاح لوموان: «أنت مخطئ تمامًا يا دوبري، مخطئٌ تمامًا. لقد درستُ الموضوع. تذكر أني لا أعيبُ تمثيلك بوجهٍ عام. وتعلم أن أحدًا لا يُكِن لك ما أكنُّه أنا من إعجاب، وليس هذا بقولٍ هيِّن بالنظر إلى أن الزملاء في الفِرَق المسرحية عادة ما يُناصب بعضهم بعضًا العداءَ بسبب الغيرة.»

قال دوبري: «تحدَّثْ عن نفسك فقط يا لوموان. تعلم أني أغار منك. فأنت النجم الصاعد وأنا الآفِل. وقد وصلتُ إلى عمرٍ يصعب فيه تعلُّم الجديد يا كارل.»

رد لوموان: «هذه ترَّهات يا دوبري. أتمنى أن تنظر في الأمر بجدِّية. براعتك على خشبة المسرح هي التي تجعلني لا أتحمل رؤيتك تُخالف رؤيتك الفنيَّة لإرضاء جمهور البلكون. ينبغي أن تربأَ عن هذا كلِّه.»

قال دوبري: «كيف للمرء أن يتعالى على هذا الجمهور، الذي هو الشيء الأهمُّ في المسرح؟ تعقَّلْ يا كارلوس في كلامك حتى أستمع لك.»

قال كارلوس: «أنت تمزح، ببساطةٍ لأنك تعرف أنك لستَ مُحقًّا، ولا قِبَل لك بمناقشة هذا الأمر بجدِّية. والآن إنها تطعنك في القلب …»

قال دوبري: «كلا. هذا شيءٌ خاطئ تمامًا. إنها تقول شيئًا عن قسوة قلبي، ويبدو أنها تنوي طعنَ هذا العضوِ الشرير، لكن المرأة لا تُصيب ما تُحاول إصابتَه أبدًا، وأنفي تعرُّضي للطعن في القلب. قل إن الطعنة بجوار القلب أو بالقرب منه، واستمِرَّ في حديثك معي.»

قال كارلوس: «حسنًا إذن. إنها تطعنك في مكانٍ حيوي طعنةً تُؤدِّي إلى وفاتك بعد دقائق قليلة. ترفع يديك، وتترنَّح مستندًا إلى رفِّ المدفأة، وتفتح ياقة قميصك بعنفٍ وتُحاول الإمساكَ بشيء، وتضغط بيدَيك على جرحك وتأخذ خطوتين مترنحتين للأمام، وتستغيث بصوتٍ ضعيف وتتعثَّر في الأريكة فتسقط عليها، وتُواصل محاولة الإمساك بشيء، وأخيرًا تتدحرج على الأرض، حيث تركل الهواءَ مرةً أو مرتين، وتضرب بقبضتك على الأرضية، ثم ينتهي كلُّ شيء.»

قال دوبري: «وصفٌ مثير للإعجاب يا كارلوس. يا إلهي! ليت جُمهوري ينتبهون إلى جهودي مثل انتباهِك. والآن أنت تقول إنَّ هذا كلَّه خطأ، أليس كذلك؟»

قال كارلوس: «كلُّه خطأ.»

رد دوبري: «افترِضْ أنها طعنَتك أنت، ماذا كنت ستفعل إذن؟»

رد كارلوس: «كنت سأسقطُ على وجهي، صريعًا.»

قال دوبري: «يا إلهي! وماذا كان سيحدثُ للستارة؟»

قال كارلوس: «سحقًا للستارة!»

قال دوبري: «قد يسهل عليك سبُّ الستارة يا كارل، لكن لا بد أن يتمَّ الأمر بالتدريج. ستنزل الستارة، ولن يعرفَ جمهورُ البلكون ماذا حدث. أمَّا إن مرَرتُ بالمراحل التي وصفتَها أنت بوضوح، فسيُتاح للجمهور الوقتُ الكافي لتفهُّم الموقف. سيقولون وهم يضحكون ضحكةً خفيفة: «هذا الشرير قد نال جزاءه أخيرًا، وكان يستحقُّه.» يريد الجمهورُ الاستمتاعَ بمعاناته، في حينِ تقف البطلةُ متجهِّمة لدى الباب لتمنعَ هروبه. وعندما تسقط قبضتي على خشبة المسرح ويُدركون أني قد لقيتُ حتفي بالفعل، فسيُطلقون صيحات انتصار سيكون من المفرح سماعُها.»

قال كارلوس: «هذا ما أعنيه تحديدًا يا دوبري. أرى أن الممثلَ لا يحقُّ له سماعُ التصفيق، وينبغي ألا يعرف أنَّ هناك شيئًا اسمه الجمهور. فمهمته أن يُصوِّر الحياةَ كما هي بالضبط.»

قال دوبري: «لا يُمكنك أن تصوِّر الحياة في مشهدِ موت يا كارل.»

قال كارلوس: «لقد نَفِد صبري معك يا دوبري، أو بالأحرى كان سينفد لو لم أعلم أنك أكثرُ عمقًا مما تُبْدي لنا. يبدو أنك لا تُدرك مدى جدِّيتي حيالَ هذا الأمر.»

قال دوبري: «بل أتفهَّم جديتك يا بني، وهي ما ستجعل منك ممثلًا عظيمًا جدًّا. كنتُ طموحًا مثلَكَ يومًا ما، لكن مع تقدُّمِنا في السن …» ورفع كتفيه ثم واصل: «نبدأ في الاهتمام بإيرادات شُبَّاك التذاكر. أعتقد أنك تنسى أحيانًا أني أكبرُك بسنوات كثيرة.»

قال كارلوس: «أنت تعني أني أبلهُ، وأني سأكتسب الحكمة مع تقدُّمي في العمر. أعترف أنك ممثلٌ أكثرُ براعةً مني، قلت ذلك منذ لحظات، لكن …»

قال دوبري: ««أنت تُسيء فهمي يا بروتوس، لقد قلتُ إني أكبرُ منك سنًّا، لا أكثرُ براعةً.» لكني سأُجاريك فيما تقترح. هل سبق لك رؤيةُ رجلٍ يُطعَن أو يُطلَق عليه الرصاص في القلب؟»

قال كارلوس: «كلا مطلقًا، لكني متأكدٌ من أنه لا يفك رابطة عنقه بعد الإصابة.»

مال دوبري برأسه إلى الخلف وضحك.

وسأل: «مَن الذي يمزح الآن؟» ثم أضاف: «أنا لا أفكُّ رابطة العنق، بل أفتح ياقة القميص فحَسبُ، وهو ما قد يُقدِم عليه رجلٌ يحتضر بكل تأكيد. لا أفهم كيف يُمكنك أن ترى خطأً في تصويري للمأساة وتكون مُحقًّا في رأيك دون أن ترى رجلًا يَلْقى حتفَه متأثرًا بطعنة كهذه كما أراه أنا كلَّ ليلة. أتخيل أن الحقيقة تتوسَّط طرَفَيِ النقيض. أغلب الظن أن مَن يُشرف على الموت لا يُحدِث جلَبةً كالتي أُصوِّرها، ولا يسقط صريعًا بالسرعة التي تقترحُها دون أن يُعطي جمهورَ البلكون ما اشترَوا التذاكرَ ليُشاهدوه. ها قد وصلنا إلى المسرح يا كارلوس، لنؤجِّل هذا الجدلَ المحتدم حتى المرة القادمة التي نتمشى فيها معًا.»

كان الجنود مرابطين أمام المسرح يقومون بواجبهم ويسيرون ذهابًا وإيابًا حاملين على أكتافهم البنادقَ الطويلة لإظهار هيبة الدولة وأنَّ بمقدورها السيطرةَ على المسرح وشنَّ الحرب. وكان بالجوار الكثيرُ من المتسكعين الذين لو رآهم مَن لا يعلم بحقيقة الأوضاع لرجَّح أن تعجَّ قاعة المسرح بجماهيرَ غفيرةٍ فور بدءِ المسرحية. التقى الممثلان بمدير المسرح بين الجمع المحتشد بالقرب من الباب.

سأل دوبري: «ما عدد الجمهور المتوقَّع الليلة؟»

رد المدير: «عددٌ قليل جدًّا.» ثم أردف: «لم يُبَع إلا نحوُ ستِّ تذاكر.»

قال دوبري: «الأمر لا يستحق عناء عرض المسرحية إذن، أليس كذلك؟»

قال المدير: «بلى، يجب أن نبدأ عرضها»، ثم خفَض صوتَه وواصل: «أمرني الرئيسُ بعدم غلق المسرح.»

قال لوموان بنفاد صبر: «أوه، سحقًا للرئيس!» ثم أضاف: «لِمَ لا يوقف الحربَ وحينها سيظل المسرح مفتوحًا طواعية.»

قال دوبري وهو يبتسمُ لزميله المنفعل: «إنه لا يدَّخر جهدًا في محاولة إيقافها، لكن جيشه لا يُنفِّذ أوامره بصرامة كما يفعل مديرنا.»

قال الممثل الأصغر: «بالميسيدا رجلٌ أحمق.» ثم أضاف: «لو خرج مِن الصورة، لما استمرت الحربُ يومًا آخر. أرى أنه يلعب لُعبةً خاسرة على أي حال. من المؤسف أنه لا يظهر كثيرًا في العلَن، حينها كان من الممكنِ أن تُصيبه رصاصةٌ طائشة تُنهي الحرب، فتُحقَن دماء رجالٍ كثيرين أفضلَ منه.»

احتجَّ المدير بلطف قائلًا: «ليتك تمتنع عن هذا الكلام يا لوموان، خاصة عندما يكون حولَك الكثيرُ من المستمعين.»

رد لوموان: «أوه! بل أحبُّ أن يَزيد جمهوري.» ثم أردف: «لديَّ ما يُمكن تسميته بغرورِ الممثل في هذا الصدَد. إنني أقول ما يخطر ببالي، ولا آبَهُ لمن يسمع قولي.»

قال المدير: «رائع، لكنك تنسى أننا إلى حدٍّ ما نُعَد ضيوفًا في هذا البلد، وينبغي ألا نتطاولَ على مضيِّفينا أو الرجل الذي يُمثِّلهم.»

قال لوموان: «آه، وهل يُمثلهم حقًّا؟ يبدو لي أنك تقودنا إلى طرح هذا السؤال، وهذا ما تدور رَحى الحرب للإجابة عنه. فالرأي العامُّ يقول إن بالميسيدا لا يُمثل شعبه تمثيلًا حقًّا، وإن البلد سيكون سعيدًا إن تخلَّص منه.»

خفَض المديرُ صوتَه إلى حدِّ الهمس مؤثِرًا السلامةَ كعادته وقال: «ربما كان ذلك كلُّه صحيحًا، لكن القول الفصل في ذلك ليس لنا. فنحن فرَنسيون؛ لذا أعتقد أن الأفضل ألا نُفصح عن رأينا.»

قال لوموان: «أنا لستُ فرنسيًّا.» ثم أردف: «أنا تشيلي الأصل، ولي الحقُّ في التطاول على بلدي إذا أردتُ.»

قال المدير وهو يتلفتُ في قلق: «هذا سببٌ أدعى إذن … هذا سبب أدعى لأن تتوخَّى الحذرَ فيما تقول.»

قال دوبري باترًا للجدال: «أظن أن الوقت قد حان لوضعِ مساحيقِ التمثيل. هيا يا لوموان، وحدِّثني عن الفن الذي يجمعنا ودَعْك من السياسة، هذا إن كانت الترَّهات التي تقولها عن تشيلي ورئيسها تمتُّ إلى السياسة بصِلة.»

دخل الممثلان المسرح، ودلفا إلى غرفة الملابس نفسِها معًا، وواصلَ لوموان المنفعلُ الحديثَ بلا انقطاع.

وعلى الرغم من قلةِ عدد الجالسين في صالة المسرح، كانت البلكون ممتلئةً بالكامل كالمعتاد.

عندما جاء المشهد الأخير في الفصل الأخير، همس دوبري بكلمةٍ للرجل الذي يتحكَّم في إسدال الستارة، وعندما تلقى دوبري وهو الممثلُ الذي يلعب دور الشرير في المسرحية الطعنةَ المميتة من البطلة التي أُسيء معاملتُها، سقط إلى الأمام واستقرَّ على وجهه دون أن يتلوَّى، فاندهش المدير الذي كان يُشاهد المسرحية من مقدمة المسرح وكذلك الحال بالنسبة إلى جمهور البلكون، الذي كان ينتظر مشاهدةَ التلوِّي والتألم السابق للموت.

وعلى الرغم من رغبة الجمهور في القضاء على الشرير، فلم يسعَدوا لرؤيته ينتقل فجأةً من هذا العالم الذي لم يُضِف إليه إلا الشرَّ إلى العالم الآخَر دون معاناة. وأُسدِلَت الستارة على مشهد الذروة، ولكن لم يضجَّ المسرح بالتصفيق، وانسلَّ الجمهور إلى الشارع في صمت.

عاد دوبري إلى غرفة الملابس، وهناك قال: «أرأيت؟ أتمنى أن تكونَ راضيًا الآن يا لوموان، وإذا كنتَ راضيًا فستكون الراضيَ الوحيد في المسرح. لم يُحدِث المشهد تأثيرًا يُذكَر كما قلت، ولا بد أنك رأيتَ أن مشهد الذروة نفسَه أيضًا لم يُحدث تأثيرًا.»

قال لوموان مصرًّا: «ومع ذلك، كان ذلك تصويرًا واقعيًّا للأمر.»

وبينما كانا يتحدثان دخل المديرُ غرفة الملابس. وقال: «يا إلهي! لماذا أنهيتَ المشهد بهذه الطريقة الحمقاء يا دوبري؟ ماذا حلَّ بك؟»

قال دوبري مازحًا: «السكِّين هو ما حل بي.» ثم أضاف: «لقد دخل في قلبي مباشرة، ولوموان يُصرُّ على أنه عندما يحدث ذلك يجب أن يسقط الرجل صريعًا على الفور. وقد فعلتُ ذلك إرضاءً للوموان.»

قال المدير محتجًّا: «لكنك أفسدتَ المشهد.»

قال دوبري: «نعم، كنتُ أعلم أن هذا ما سيحدث، وقلت ذلك للوموان، لكنه يصرُّ على تقديم الفن من أجل الفن. يجب أن تُوجِّه احتجاجك إلى لوموان، ومع ذلك أقول لكما إني لا أنوي أن أموتَ بهذه الطريقة مرة أخرى.»

قال المدير: «أتمنَّى ذلك.» ثم أردف: «أنا لا أريدك أن تقتل المسرحية وتقتل نفسَك يا دوبري.»

رد لوموان بصرامةٍ بعد أن عاد وجهُه إلى لونه الطبيعي:

«هذا يُظهِر أن تقاليد المسرح تُحيطنا جميعنا وتُقيِّدنا. جمهور البلكون يريد رؤيةَ الرجل يتخبَّط في كلِّ مكان قبل أن يخرَّ صريعًا، عندئذٍ يجب على الضحية بَعثرةُ الأثاث والظهورُ بمظهر الأحمق، في حين أنَّ الأحرى به أن ينهار في هدوء بفعل ضربةٍ مستحَقَّة. اسأل أي طبيب وسيُخبرك أنه إذا طُعن رجلٌ أو تلقى رصاصةً في القلب مباشرة فسينهار على الفور. لا تخبُّطَ يحدث في هذه الحالة. فهو لا يلعب بالكراسيِّ والأرائك، بل يسقط على الأرض من فوره وينتهي أمرُه.»

صاح دوبري وهو يرتدي معطفه: «هيا نذهب يا لوموان، ودعك من هذه الترهات. فالفنُّ الحقيقي هو المزجُ الحكيم بين أفكارِ الجمهور العاديِّ المسبقة ووقائعِ الحالة. فالصورة الملتقَطة لحصانٍ يُهرول هي بلا شكٍّ صحيحة فنيًّا وبنحوٍ مطلَق، لكنها لا تُصور الحصان وهو يتحرك تصويرًا دقيقًا.»

قال لوموان بسرعة: «أنت تُقِر إذن أني محقٌّ من الناحية الفنية فيما قلت حيالَ نتيجةٍ مثل هذا الجرح.»

قال دوبري: «أنا لا أُقر بشيء.» ثم أضاف: «أنا لا أعتبرك محقًّا في أي شيء تقوله عن الأمر. أعتقد أن الحقيقة هي أنه لا يموت رجلانِ بالطريقةِ نفسِها إذا تعرضا للظروف نفسِها.»

قال لوموان: «بل يموتان بنفس الطريقة إذا طُعِنا في القلب.»

قال دوبري: «ما هذه الترهات السخيفة التي تتفوَّه بها؟! لا يتصرف أيُّ رجلين بالطريقة نفسها إذا لمس الحبُّ القلبَ، فلماذا يتصرَّفان بالطريقة نفسها إذا لمسَه الموت؟ لنذهب إلى الفندق، ولنوقِفْ هذه المناقشةَ الحمقاء.»

تنهَّد لوموان وقال: «آه! أنت تُهدر فرصَك. أنت مهملٌ جدًّا يا دوبري، ولا تدرس بما يكفي. هذا الأمر قد يكون مقبولًا جدًّا في تشيلي، لكنه سيقضي على فرصك لو ذهبتَ إلى باريس. لو درست بتعمُّق أكبر يا دوبري لأصبحَت باريس طوعَ أمرك.»

قال دوبري في هدوء: «شكرًا لك، لكن إذا لم تُصبح هذه المدينة طوعَ أمر المتمردين في أسرع وقت، فقد لا نرى باريس مرةً أخرى. لا أُخفيك سرًّا، لا يُؤثِّر في قلبي شيءٌ سوى سكِّين البطلة. لقد سئمتُ الوضع هنا.»

بينما كان دوبري يتحدث وجدا فرقةً صغيرة من الجنود قادمين بخطًى حثيثةٍ نحو المسرح. وبدا أن قائدهم قد تعرَّف عليهما، وقال كلمةً لرجاله على أثرها أحاطوا بالممثِّلَين. ولمس الرقيب كتف لوموان وقال:

«أنا مكلَّف بالقبض عليك سيدي.»

سأل لوموان: «يا للهول! لماذا؟»

لم يُجب الرجل لكن وقف جنديٌّ على كلِّ جانب من جانبَي لوموان.

سأل دوبري: «هل أنا أيضًا قيد الاعتقال؟»

جاءه الرد: «لا.»

سأل دوبري: «بأي سُلطة تُلقون القبض على صديقي؟»

أجاب الرقيب: «بأمر الرئيس.»

سأل دوبري: «لكن أين سلطتُك أنت؟ أين أوراقك؟ وما سبب الاعتقال؟»

هزَّ الرقيب رافضًا وقال:

«لدينا أمرٌ من الرئيس، وهذا يكفي بالنسبة إلينا. تراجَعْ، رجاءً!»

في اللحظة التالية وجد دوبري نفسه بمفرده، واختفَت الفرقة والشخص معتقَلٌ في شارعٍ خلفي. وقف مكانَه لحظة مذهولًا، ثم التفت وركض بأقصى سرعة عائدًا إلى المسرح يأمُل أن يجد عربة أجرة في طريقه. ولما وصل إلى المسرح وجد الأنوار مطفأة، والمدير يهمُّ بالانصراف.

صاح دوبري: «لقد أُلقِيَ القبض على لوموان، وقد اعتقلته فرقة من الجنود قابَلْناهم، وقالوا إنهم يفعلون ذلك بأمر الرئيس.»

بدا على المدير ذهولٌ بالغ من هذه المعلومات وحدَّق في دوبري منعدمَ الحيلة.

وأخيرًا قال: «بأي تهمة؟»

أجاب دوبري: «هذا ما لا أعرفه.» ثم أضاف: «فقط قالوا إنهم يُنفِّذون أوامر الرئيس.»

قال المدير وهو يتلفَّت حوله ويتحدث في خوف: «هذا مؤسف، مؤسفٌ جدًّا.» ثم أضاف: «كان لوموان يُطلِق لسانه في تهور. لم أتمكَّن قط من إقناعه بأنه ليس في تشيلي، وأنه يجب ألا يتحرَّر في الحديث إلى هذا الحد. لكنه كان يُصر على القول إننا في القرن التاسعَ عشر، وإن الرجل يُمكنه قولُ ما شاء، كما لو كان القرن التاسع عشر له أيُّ اعتبار في جمهورية في أمريكا الجنوبية.»

قال دوبري وقد بدأ الشحوبُ يبدو على وجنتيه: «أنت لا تعتقد أن يكون الخَطْب جَللًا. أسوأُ ما قد يحدث أن يُسجَن يومًا أو يومين، أليس كذلك؟»

هز المدير رأسه وقال:

«ينبغي أن نستأجر عربةً ونُقابل الرئيس في أقرب وقت ممكن. سأتعهَّد بإعادة لوموان إلى باريس، أو أن أجعله يستقلُّ إحدى السفن الحربية المدرَّعة الفرنسية. لكن لا يمكن إهدارُ أيِّ وقت. يمكننا العثور على عربة في الميدان على الأغلب.»

وجدا عربةً وانطلقا بها بأقصى سرعة إلى مقرِّ سكن الرئيس. في البداية مُنِعوا من الدخول، وبعد ذلك سُمح لهم بالانتظار في غرفةٍ صغيرة ريثما تُحمَل رسالتهم إلى بالميسيدا. مرت ساعة ولم تَرِد إليهم دعوةٌ من الرئيس. جلس المدير صامتًا في أحد الأركان، في حينِ ذرَعَ دوبري الغرفةَ الصغيرة يذهب به القلقُ على صديقه أشتاتًا. وأخيرًا دخل ضابط، وحمل إليهما تحية الرئيس وأعربَ عن أسفه لتعذُّرِ لقائه بهما تلك الليلة. وأضاف الضابط لمعلوماتهما أن لوموان سيُعدَم رميًا بالرصاص عند مطلع الفجر بأمر الرئيس. وقال إنه خضع لمحاكمةٍ عسكرية وحُكم عليه بالإعدام بتهمة إثارة الفتنة. وأردف أن الرئيس يأسف لتركهما في الانتظار لهذه المدَّة، لكن المحاكمة العسكرية كانت منعقِدةً حينما وصَلا، ورأى الرئيس أنهما قد يُريدان معرفة الحكم الصادر. وبعد ذلك اصطحب الضابطُ الرجلين المذهولين إلى الباب، ثم ركبا عربتهما بلا كلمة. وما إن ابتعدا مسافة لا تسمح بأن يُسمَعا قال مدير المسرح للحوذي:

«انطلق بأقصى سرعةٍ إلى مقر سكن المفوض الفرنسي.»

كان كلُّ مَن في المفوضية الفرنسية قد انصرف عندما وصل إليها الرجلان المذعوران، ولكن السكرتير وافق على رؤيتهم بعد مدَّة من الوقت، ولما علم بخطورة الحالة، تعهَّد بإيقاظ المفوض ومحاولة إيجاد حل.

دخل المفوَّضُ الحجرة بعد ذلك بوقتٍ قصير، وأنصتَ لما لديهما باهتمام.

ولما فرَغا من روايةِ ما حدث، سألهما: «هل العربة على الباب في انتظاركما؟»

أجاباه: «نعم.»

فقال: «سآخذها إذن وألتقي الرئيسَ على الفور. ربما يُمكنكما الانتظارُ هنا إلى حينِ عودتي.»

مرت ساعةٌ بطيئة أخرى، ومر من الساعة التالية بعضُ الوقت قبل أن يسمَعا قرقعةَ عجلات العربة آتيةً من الشارع الهادئ. دخل المفوض ورأى الرجلان القلِقان على وجهه أماراتُ الإخفاق في مهمته.

قال المفوض: «يؤسفني القول إني حتى لم أستطِع تأجيلَ الإعدام. لم أكن أعرف عندما أخذتُ هذه المهمة على عاتقي أن السيد لوموان مواطنٌ تشيلي. هذا يُخرِج الأمر كلَّه من يدي. أنا لا سلطةَ لي في ذلك. لم يسَعْني سوى أن أنصح الرئيس بعدم تنفيذ ما انتواه، لكنه الليلةَ في مِزاجٍ عكرٍ بشدة بحيث لا ينفع معه النقاشُ المتعقِّل، وأخشى أنه لا يمكن إنقاذ صديقكما بأيِّ طريقة. لو كان مواطنًا فرنسيًّا لما سُمح بالطبع بتنفيذ هذا الإعدام، لكن الأمر ليس من شأننا في الوضع الراهن. يبدو أن السيد لوموان كان يتحدَّث ببعض التهوُّر. وهو نفسُه لا يُنكر ذلك، ولا يُنكر جنسيته كذلك. لو كان قد سعى لاسترضاء المحكمة العسكرية لما كانت النتيجةُ كارثية إلى هذا الحد، لكن يبدو أنه أهان الرئيسَ وجهًا لوجه، وتنبَّأ بأن يلتقيَ به في الجحيم في غُضون أسبوعَين. أقصى ما أمكنني فِعلُه هو أن أجعل الرئيس يُوقِّع لكما إذنًا بزيارة صديقكما لعلكما تتمكَّنان من الاستفادة به قبل تنفيذ الإعدام. أخشى أنه لا يُمكنكما إهدارُ أيِّ وقت. ها هو ذا الإذن.»

أخذ دوبري الإذن، وشكر سعادة المفوض على جهوده. أدرك أن لوموان حكَم على نفسه بالهلاك بتهوره وانعدام لباقته.

خرج الرجلان الكَدِران من المفوضية وانطلقا في الشوارع المهجورة نحو السجن. وأُخِذا عبر عدة غرف ذات أرضيات حجرية حتى وصلا إلى ساحةٍ حجرية أيضًا، وانتظرا فيها بعض الوقت حتى أُتي بالسجين بين جنديَّين. كان لوموان قد خُلِع عنه معطفه، وجاءهما يرتدي قميصَه. لم يكن مكبلًا أو مقيدًا بأيِّ نحو؛ فقد كان السجناءُ كثيرين والأصفاد لا تكفي لتقييد كلِّ واحد منهم.

صاح لوموان عندما رآهما: «كنت أعلم أنكما ستأتيان لو سمح لكما المجرمُ العجوز الجالس في سُدَّة الرئاسة بذلك، وكنت أشكُّ في أن يسمح لكما بذلك. كيف تمكنتما من ذلك؟»

قال دوبري: «المفوض الفرنسي استصدرَ لنا إذنًا.»

قال لوموان: «أوه، لقد ذهبتما إليه، أليس كذلك؟ بالطبع لم يسَعْه فعلُ شيء، فأنا، كما قلتُ لكما، أحمل جنسية هذا البلد للأسف. يا للمفارقة، هذه الحياة قِوامُها مجموعةٌ من التفاهات! أتذكر أني كنتُ ذاتَ مرة في باريس في طريقي مع صديقٍ لي لأداء قسَمِ الولاء للجمهورية الفرنسية.»

صاح دوبري بحماس: «وهل أديتَه؟»

قال لوموان: «كلا، مع الأسف! فقد التقينا بصديقَين آخرين، وذهبنا جميعًا إلى مقهًى لاحتساء مشروب. لم أكن أعلم بالطبع أن زجاجة الشمبانيا تلك ستُكلِّفني حياتي. لو كنت قد أديتُ قسَم الولاء، يا صديقي، لقصَف المفوض الفرنسي المدينةَ قبل السماح بتنفيذ الإعدام.»

قال المدير وعيناه تترقرَقان بالدموع: «أنت تعلم مصيرك إذن.»

قال لوموان: «أوه، أعلم أن بالميسيدا يعتقد أنه سيُعدمني رميًا بالرصاص، لكنه أحمقُ كما كان دائمًا، ولا يعرف أبعادَ ما يقول. طلبتُ منه أن يسمح بأن تشهدا الإعدام، وأن يستعيضَ عن فرقة الإعدام التي ستُمطرني بالرصاص بقنَّاص بارعٍ واحد، لو كان في جيشه كلِّه قناصٌ بارع، وأن يُطلق القناصُ رصاصةً على قلبي، حينها كنتُ سأريك يا دوبري كيف يموت الرجل في هذه الحالة، لكن المجرم رفَض. الغاصب لا تعرف روحُه الفنَّ أو أيَّ شيء آخر. أتمنى ألا يحزنكما موتي. فهو لا يحزنني أنا نفسي، أُؤكد لكما ذلك. أُفضِّل الرمي بالرصاص على مواصلة العيش في هذا البلد اللعين. لكني قررتُ محاولة خداع بالميسيدا العجوز إذا تمكَّنتُ من ذلك، وأريد منك يا دوبري أن تنتبهَ جيدًا، وألا تتدخل.»

وبينما كان لوموان يقول ذلك، خطف بسرعة الحَرْبة التي كانت تتدلَّى من جانب الجندي. كان جندي يقف عن يمينه وآخَرُ عن يساره، وكان كلٌّ منهما يشبك أصابع يدَيه على فوهة بندقيته التي استقرَّ أخمصها على الأرض الحجرية. لم ينتبها للحوار الذي كان يدور على ما يبدو — هذا إن كانا يفهمانه — وهو ما لم يكن مرجَّحًا. كانت الحربة في يدي لوموان قبل أن يعرف أيٌّ من الرجال الأربعة الحاضرين ما كان يفعله.

أمسك أسفل الحربة بيديه ووجَّه طرَفَها إلى صدره، وأغمد النصلَ بقوةٍ ويأسٍ في جسمه حتى اخترقه. حدث كلُّ ذلك بسرعة كبيرة حتى إنَّ أحدًا لم يعرف ما حدث إلى أن رفع لوموان يديه ورأَوا الحربة مغروزةً في صدره. وبدَت في عينيه نظرةُ ألمٍ وابيضَّت شفتاه. مال على الجندي الواقف عن يمينه فابتعد الجندي، ثم ترنَّح على الحائط الحجري المكسوِّ بالكلس، وأخذت ذراعُه اليمنى تتحرَّك على الحائط صعودًا وهبوطًا كما لو كان يمسح شيئًا على الحجر. وخرَجَت منه أنَّةُ ألَم، ثم نزل على إحدى رُكبتيه. والتفتَت عيناه نحو دوبري في ضعف، وشهق قائلًا:

«يا إلهي! لقد كنتَ محقًّا في النهاية.»

ثم سقط إلى الأمام واستقرَّ على وجهه مُنهِيًا المأساة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤