التطهير

جلس يوجين كاسبلييه على إحدى الطاولات المعدنية بمقهى إيجاليتيه، وأخذ يصبُّ الماء ببطءٍ من الدورق الزجاجي على مكعَّب سكر وملعقة ذات ثقوب لتستقرَّ في كأس الأفسنتين الخاص به. لم يكن ما ارتسم على وجهه حينئذٍ امتعاضًا؛ بل مسحة عابرة من الحزن تَشي بقسوةِ العالم عليه. وعلى الجانب المقابل من الطاولة المستديرة الصغيرة جلس صديقُه ورفيقه العطوف هنري لاكور. أخذ يرتشف شراب الأفسنتين الخاص به على مهل، وهي الطريقة المُثْلى لتناول هذا الشراب، وبدا عليه الانشغالُ الشديد بالمشكلة التي تُواجه صديقه.

سأل هنري: «لماذا، بحقِّ السماء، تزوجتَها؟ لم يكن ذلك ضروريًّا على الإطلاق.»

هز يوجين كتفَيه. كانت ترجمة هذا الفعل إلى كلمات هي: «لماذا حقًّا؟ فلتسأَلْني سؤالًا أسهل.»

ساد الصمتُ بينهما بعضَ لحظات. ليس الأفسنتين من المشروبات الروحية التي تُشرَب بتعجُّل أو يُكثِر شاربوها الحديثَ بين كل رشفةٍ منه والرشفة التالية. ولم يبدُ أن هنري كان يتوقَّع أيَّ ردٍّ أكثرَ من هزة الكتفين المعبِّرة، وظل الرجلان يحتسيان مشروبهما في شرود ذهن، في حين كافأ الأفسنتين انغماسَهما في التفكير بإحداث مفعوله الخفيف الذي أخذ يسحب من عقلَيهما تدريجيًّا كلَّ ما اعتمل فيهما من انشغالٍ وقلق، وبدَّد الغمامَ الذي يطوف بسماءِ كلِّ الرجال أحيانًا، كضبابٍ يخفُّ رويدًا رويدًا حتى ينقشع، وليس كما تبيد شمس الصباح الدافئة غلالةَ الشبورة فتختفي تمامًا ولا تترك وراءها إلا الهواء النقي والسماء الزرقاء.

وأخيرًا قال كاسبلييه: «لا بد للمرء أن يعيش، وليس قَرْضُ الشعر الملتزِم بقواعدِ حركة الانحطاط الأدبية بمهنةٍ مربحة. لا شك أنه يُحقق شهرةً لا تَخْبو في المستقبل، لكن علينا تناول ما نريده من الأفسنتين في الحاضر. تسألني لماذا تزوجتها؟ لقد كنتُ ضحيةَ بيئتي. لا بد لي من كتابة الشعر، ولأكتبَ الشعر، عليَّ أن أعيش، ولأعيشَ، عليَّ امتلاكُ النقود، وللحصول على النقود اضطررتُ إلى الزواج. فالدوريم من أفضل صنَّاع المخبوزات في باريس، فهل الذنب ذنبي إذن في تفضيل الباريسيِّين للمخبوزات على الشِّعر؟ وهل عليَّ لومٌ لأن الإقبال على منتجاتها في متجرها يفوق الإقبال على منتجاتي أنا في المكتبات؟ ما كنتُ سأمانع في تقاسم عائدات المتجر معها دون الإقدامِ على حماقة الزواج، لكن فالدوريم لديها أفكار غريبة ووحشية يقف المنطقُ المتحضِّر عاجزًا عن إخراجها من عقلها. لكن ما فعلته لم يكن بغرضٍ مادِّي بحت، ولم يكن الغرضُ المادي هو السببَ الأهم وراءه حتى. كان لاسمِها وقْعٌ أعجبني. إنها روسية، وكان بلدي وبلدُها في ذلك الوقت متحالِفَين، فاقترحتُ على فالدوريم أن نحذوَ حذْوَ بلدَينا. لكن المؤسف يا صديقي هنري أني أدركتُ أن سُكنى باريس لعشَرةِ أعوام لا تكفي لتنقية نفسٍ روسيةٍ من وحشيتها. وبالرغم من اسم زوجتي الذي له وقعٌ كالنبيذ الناعم القوي المفعول، فهي لا تكاد تفوق البرابرةَ تحضُّرًا. فعندما أخبرتُها بشأن تنيس، جُنَّ جنونها، وطردتني إلى الشارع.»

سأله هنري: «ولماذا أخبرتها بشأن تنيس؟»

رد كاسبلييه: «لماذا؟! كم أكره هذه الكلمة! لماذا! لماذا! لماذا! فهي تُطارد أفعالَ المرء ككلبِ صيد، باحثةً على نحوٍ دائم عن السبب. يبدو لي أني طَوالَ الوقت أُحاول الإجابة عن سؤالٍ عن السبب. لا أعرف لماذا أخبرتُها؛ فلم يبدُ لي أن الأمر يستحقُّ التفكير أو التدبُّر. خطرَت تنيس ببالي حينئذٍ فتحدثتُ عنها فحسب. لكني فوجئت بالطوفان الذي انهمرَ بعد ذلك وصِرتُ أرتعد كلَّما تذكرتُه.»

سأله صديقه: «مرةً أخرى لماذا؟» ثم أردف: «لماذا لا تكفُّ عن التفكير في استرضاء زوجتك؟ الروسُ بطبعهم لا يتفاهمون. لمَ لا تبدأ حياةً شاعرية بسيطة مع تنيس وتهجر الشارع الروسي كلَّه؟»

تنهَّد كاسبلييه برفق. وهنا تذكَّر وقْعَ ضربات القدَر الشديدَ عليه. وقال: «للأسف يا صديقي هذا مستحيل. فتنيس تعمل عارضةً للرسَّامين، وهؤلاء الرسامون المتوحشون الذين يتقاضون أثمانًا باهظة عن لوحاتهم السيئة، لا يدفعون لها في الأسبوع إلا القليل، لدرجة أن أجرَها لا يكاد يكفي طعامي وشرابي. إنني أحصل على أوراقي وأقلامي وحبري من المقاهي، لكن كيف لي أن أتحمَّل تكلفةَ ملابسي؟ لو دفعَت فالدوريم لنا مبلغًا صغيرًا بانتظام، لاستطعنا العيشَ في سعادةٍ بالغة. فالدوريم زوجة، قلتُ لها ذلك كثيرًا، وهي مَدينة لي ببعض الفضل في ذلك، لكنها تعتقد أن الرجل إذا تزوَّج كان عليه واجبُ رعاية بيته كتاجر بقالة برجوازي. إذ ليس في طبعها أيُّ شِعر ولا إدراكٍ لاحتياجات رجلٍ ذي ذائقةٍ أدبية.»

أقرَّ لاكور آسفًا بصعوبةِ الموقف. ولم تكفِ كأسُ الأفسنتين الأولى لإيجاد حلٍّ واضح يُمكنه من الجمعِ بينهما، لكن الكأس الثانية أكسَبَته بعض الجسارة، فأظهر نُبلَه واقترح مواجهةَ اللَّبُؤةِ الروسية تلك في عرينها، ليشرحَ لها وجهة النظر الباريسية بشأن موقفِها غيرِ المبرَّر، وليُعيدَها إلى جادةِ الصواب إن أمكن.

غلبت كاسبلييه مشاعرُه فانتحب في صمت، في حينِ أخبره صديقه بطلاقةٍ عن كُتَّابٍ بارزين، كانت أسماؤهم مفخرةً لفرنسا، غفَرَت لهم زوجاتُهم زلَّاتٍ عابرةً في حياتهم الزوجية، وقال له إنه سيستشهد بهم في حديثه للسيدة فالدوريم حتى يدفعها للاحتذاء بهذه الأمثلة البارزة.

تعانق الرفيقان ثم ذهب كلٌّ منهما في طريقه، كان على هنري أن يستخدمَ تأثيره وقدرته على الإقناع مع فالدوريم، وعلى كاسبلييه أن يُخبر تنيس كيف أنَّ وجود هذا الصديقِ المستعدِّ للشفاعة لهما نعمةٌ كبيرة، وكانت تنيس شابةً باريسية جميلة لا تُضمِر شرًّا لزوجةِ عشيقها التي لا تعرف التفاهم.

توقَّف هنري لاكور قبالةَ متجر المخبوزات القائم في الشارع الروسي، وكان يحمل اسم «فالدوريم» فوق نافذتَي العرض المملوءتين بما لذَّ وطاب. لم تُغير السيدة كاسبلييه اسم متجرها الشهير عندما تخلَّت عن اسم عائلتها. وقعت عينا لاكور عليها وهي تُلبي طلبات زبائنها، فبدَت له أشبهَ بأميرةٍ روسية لا صاحبة متجر. وتساءل حينئذٍ عن سبب تفضيل صديقه للعارضةِ الصغيرةِ الجسمِ ذاتِ الشعر الأسود. بدا من مظهرها أنها لم تتجاوَزِ العشرين من عمرها، وكانت كبيرةَ الجسم وجميلةً جدًّا وشعْرها كَسْتَنائيٌّ غزير به حُمرة طاغية. وكان لذقنها مظهرٌ جميل كأنه منحوت كان يوحي ربما بحزمٍ مفرِط، وكان ذلك على نقيض الضعف البادي في ذقن زوجها. سرَت في لاكور رِعدةٌ خفيفة عندما تخيَّلها ترمُقه بنظرةٍ مباشرة، وللحظةٍ خشي أن تكون قد لاحظته يتسكع أمام نافذة العرض. كانت عيناها واسعتين بلون الكهرمان النقي، وبدَت في عمقهما نارٌ متَّقِدة خشي لاكور انبعاثَ لهيبها. بدت لمهمته الآن صبغةٌ مختلفة لم تصطبغ بها عندما كان أمامَ مقهى إيجاليتيه. تردَّد لحظة، ثم تجاوزَ المتجر وتوقَّف عند مقهًى مجاور، وطلب كأسَ أفسنتين أخرى. كم هو مذهل كيف يختفي بسرعةٍ مفعولُ هذا المشروب المحفِّز!

بعد أن حصل على جرعةٍ أخرى من التحفيز، قرَّر أن يمضيَ في تنفيذ ما انتَواه قبل أن يتبخَّر ما اكتسبَه من شجاعة، وخاطب نفسَه بأنه ينبغي لأيِّ رجل ألا يخشى مواجهة أي امرأة، روسيةً كانت أم متحضِّرة، ثم دلف إلى المتجر، وانحنى للسيدة كاسبلييه بأدبٍ جم.

وقال: «أتيتُ بصفتي صديقًا لزوجك لأتحدث معكِ بشأنه.»

قالت فالدوريم: «آه!» وجَزِع هنري لرؤيةِ النيرانِ المتقدة في أعماق عينيها تستعر. لكنها أعطَت مساعدها بعضَ التعليمات والتفتَت إلى لاكور وطلبت منه بأدبٍ أن يتبعها.

مضَت به في المتجر وصعدا درَجًا في مؤخَّرته، وفتحت بابًا مُفضِيًا إلى الطابق الأول. دخل لاكور غرفةَ استقبالٍ مرتَّبةً تُطِل نوافذُها على الشارع. وجلست السيدة كاسبلييه إلى طاولة، وأسندَت كوعها إليها، وظلَّلَت براحةِ يدها عينَيها اللتين شعَر لاكور بهما تَسْبران غَوْر روحه.

قالت: «اجلس.» ثم أردفَت: «أنت صديقُ زوجي. ما الذي جئتَ لتقوله؟»

ولما كان من العسير على أيِّ رجل أن يُخبر امرأةً حسناء بتفضيل زوجها لغيرها عليها، مهَّد لاكور لكلامه بالحديثِ عن أمورٍ عامة. فقال إن الشاعر يُمكن تشبيهُه بالفراشة، أو النحلة الأكثرِ اجتهادًا التي ترتشفُ الرحيقَ من كل زهرة ترسو عليها ثم تُثْري العالمَ بعسلها. وأضاف أن للشاعر قانونًا خاصًّا به، وينبغي عدم القسوة عليه بإخضاعه لما قد يُسمَّى بمنطق إدارة المتاجر. ثم تحمَّس لاكور بحديثه الافتتاحي فساق أمثلةً عديدة غفرَت فيها زوجاتُ رجالٍ عظماء ما بدَر من أزواجهن من أفعالٍ بسيطة غريبة؛ بل وشجَّعْنَهم عليها في سبيل إثراءِ عالم الأدبِ المقدَّر بشدة.

وبينما مضى في حديثه بطلاقة، بدا الشررُ يتطاير بين الفَيْنةِ والأخرى من عينَي فالدوريم القابعتَين في الظل، لكنها لم تتحرَّك ولا قاطَعَته في حديثه. ولما فرَغ من حديثه بدا صوتُها رتيبًا وخاليًا من المشاعر، فارتاح لمعرفةِ أن الانفجار الذي خشِيَه قد تأجَّل على الأقل.

قالت له: «إذن أنت تنصحُني بأن أفعل مثلما فعلَت زوجةُ ذلك الرِّوائيِّ البارز فأدعوَ زوجي والمرأةَ التي هو معجبٌ بها إلى طاولتي؟»

قال لاكور: «أوه، أنا لا أقول إنَّ بإمكاني أن أطلب منكِ الوصولَ إلى هذا الحد، لكن …»

قاطعته: «أنا لستُ امرأةً تقبل بأنصافِ الحلول. إما كل شيء أو لا شيء. إذا دعوتُ زوجي لتناول العَشاء معي، فسأدعو معه تلك المرأة … ما اسمها؟ قلت إن اسمها تنيس. حسنًا، سأدعوها معه أيضًا. هل تعرف أنه متزوِّج؟»

صاح لاكور في حماس: «نعم، لكني أؤكد لكِ يا سيدتي أنها لا تُكِن لك إلا أطيبَ المشاعر. تنيس لا تعرف الغيرة.»

ردت السيدة الروسية: «يا لطيبتها البالغة! يا لطيبتها البالغة!» وقالت ذلك بمرارةٍ جعلَت لاكور يعتقد أنه تلفَّظ بملاحظة غير حكيمة بعضَ الشيء، في حينِ كانت كلُّ جهوده مرتكزةً على رغبته في إصلاح ذات البَين وإرضائها.

قالت فالدوريم وهي تنهض: «رائع جدًّا.» ثم أردفَت: «يُمكنك إخبارُ زوجي أنك نجحتَ في مهمتك. أخبره أني سأشملُهما بعطفي. اطلب منهما تشريفي بحضورهما إلى الإفطار صباحَ الغد في الثانية عشرة. وإذا كان في حاجةٍ إلى النقود كما تقول، فهاك مائتَي فرانك، ربما ستكفي لتغطيةِ احتياجاته حتى منتصف يوم الغد.»

شكرَها لاكور مُظهِرًا امتنانًا عظيمًا كان من شأنه إدخالُ السرور على أيِّ شخص طبيعي يتفضَّل بالعطاء، لكن فالدوريم وقفت بلا حَراكٍ كملكة في مسرحية تراجيدية، ولم يبدُ عليها إلا الرغبةُ في انصرافه بسرعة بعد أن أتم ما أُرسِل لفعله.

امتلأ قلبُ الشاعر ابتهاجًا عندما سمع من صديقه أن فالدوريم أخيرًا بدأَت تنظر إلى علاقة زوجها بتنيس بعينِ المنطق. وبينما عانقَ كاسبلييه لاكور، أقرَّ بأن زوجته ربما لم تَعْدمِ المناقبَ بعد كلِّ ما جرى.

ارتدى الشاعرُ ملابسه يوم المأدُبةِ بعنايةٍ فاقَت المعتاد، وارتدَت تنيس التي رافقَته بعضَ الحُلي التي اشترَتها بما تفضَّل من هِبة فالدوريم. اعترفَت باعتقادها أن زوجة يوجين نظرت إليهما بعين العقل، لكنها قالت إنها لم تكن ترغبُ في رؤيتها، فقد صوَّرَتها لها حكاياتُ زوجها شخصًا مرعبًا وصعبَ المراس بعض الشيء، لكنها رافقَته على أي حال، فقط لطيبةِ أصلها ورغبتها في رَأْب صَدْع أسرتِه. ما كانت تنيس لِتتردَّد عن أيِّ شيء من شأنه إحلالُ السِّلم الأسري.

بعد أن صرَف الرفيقان عربةَ الأجرة، أخبرهما عاملُ المتجر أن السيدة في انتظارهما في الطابَق العلوي. وفي غرفة الاستقبال وقفَت فالدوريم مولِّيةً ظهرها للنافذة كإلهة متجهِّمة ينسدلُ شعرها الأسمر المصفرُّ على كتفَيها، وتُبرز ملابسها الشديدةُ السواد شحوبَ وجهها. خلع كاسبلييه قبَّعته برشاقته المعتادة وانحنى في تبجيل، وما إن استقامت قامته حتى طَفِق يَكيل لها كلماتِ المديح والعبارات الشعريةَ التي أعدَّها للِّقاء في المقهى في الليلة السابقة، إلا أن النظرة المتَّقدةَ التي رمَقَته الروسيةُ بها جعلَته يتلعثم في كلامه، وأطلقَت تنيس التي لم تسبق لها رؤيةُ هذا النوع من النساء ضحكةً خافتة متوتِّرة يُخالطها بعضُ الخوف، وتشبَّثَت بعشيقها أكثرَ من ذي قبل. فقد كانت زوجتُه أشدَّ إثارةً للرهبة مما تخيَّلَتها. سرَت في فالدوريم رِعدةٌ خفيفة عندما لاحظَت هذه الحركةَ الحميميَّة التي أقدَمَت غريمتُها عليها، وظلت تُغلق قبضتها وتفتحها في توتر.

قاطعت استرسالَ زوجها في الإطراء بقولها: «تعالَيا»، ومرَّت من أمامهما، ولملمَت أهداب ملابسها عند اقترابها من تنيس، ثم قادَتْهما إلى غرفة الطعام في الطابق الأعلى.

همست تنيس متراجعة: «إني خائفةٌ منها.» ثم أضافت: «إنها ستُسمِّمنا.»

قال كاسبلييه هامسًا: «هُراء.» ثم أضاف: «تقدَّمي. فهي تُحبني لدرجةٍ تمنعُها من محاولة القيام بأي شيء كهذا، وأنت في أمانٍ ما دمتُ أنا هنا.»

جلسَت فالدوريم على رأس الطاولة، وجلس زوجُها عن يمينها وتنيس عن يسارها. كان الإفطار أفضلَ ما ذاقه أيُّهما. جلست المضيِّفة صامتة، لكنَّ وجود الشاعر كان يُغْني عن أي متحدِّث غيره. كانت تنيس تضحك على أقواله في ابتهاجٍ من وقتٍ لآخَر، فقد بدَّد مذاقُ الوجبة الشهيُّ مخاوفَها من السُّم.

قال كاسبلييه: «ما هذه الرائحة الخانقة التي تملأ الغرفة؟ لنفتَحِ النافذة.»

نطقت فالدوريم للمرة الأولى منذ أن جلسوا قائلة: «لا شيء!» ثم أضافت: «إنه فقط النفثا. لقد كلفتُ بتنظيفِ هذه الغرفة به. لن تُفتَح النافذة، فلو فُتِحَت لما تمكَّنَّا من سماع حديثك بسبب ضجيج الشارع.»

يمكن للشاعر تحملُ أي شيء إلا مقاطعةَ طلاقةِ حديثه؛ لذا كفَّ عن الشكوى من رائحة النفثا. وعندما جيء بالقهوة، صرَفَت فالدوريم الخادمةَ الصغيرة الجسم التي كانت تخدمهم.

وقالت: «لديَّ بعضٌ من سجائرك المفضَّلة هنا. سأُحضرها.»

نهضَت وبينما كانت تتوجَّه إلى الطاولة التي كانت العُلب عليها، أغلقَت قفل الباب بهدوء وبراعة، وسحبَت المفتاح، ووضعَته في جيبها.

وخاطبَت تنيس قائلة: «هل تُدخِّنين يا آنستي؟» ولم تكن قد أعارَت لوجودِها انتباهًا قبل ذلك.

ردَّت الفتاة وضحكت ضحكةً مكتومة: «أحيانًا، يا سيدتي.»

قالت فالدوريم: «ستُعجبك هذه السجائر جدًّا. فذَوقُ زوجي في السجائر أفضلُ من ذوقه في أشياءَ كثيرة. إنه يُفضِّل النوع الروسيَّ على النوع الفرنسي.»

انفجر كاسبلييه ضاحكًا.

وقال: «هذه صفعةٌ على وجهك يا تنيس.»

قالت تنيس: «على وجهي؟! كلا، فهي تتحدَّث عن السجائر، أنا نفسي أُفضِّل النوع الروسي، لكنها غالية جدًّا.»

لاحت على وجه فالدوريم المعبِّرِ نظرةُ حماس غريبة، رقَّقَتها مسحةٌ من الاستجداء. كانت عيناها مرتكِزتَين على زوجها، لكنها قالت للفتاة بسرعة:

«انتظري لحظةً يا آنستي. لا تُشعلي سيجارتك حتى أقول لك.»

التفتَت إلى زوجها وحدَّثته في تضرُّع بالروسية التي كانت قد علَّمَته إياها في الشهور الأولى من زواجهما.

وقالت: «يوجينيو، يوجينيو! ألا ترى حُمقَ هذه الفتاة؟ كيف لها أن تجذبَ انتباهك؟ لم تكن سعادتها لتقلَّ لو كانت برفقةِ أول رجل تُصادفه في الشارع، أما أنا، فلا أفكر في سواك. عُد إليَّ، يا يوجينيو.»

مالت نحوَه على الطاولة، وأمسكت معصمه بقوة. وأخذت الفتاة تُراقبهما مبتسمةً. ذكَّراها بمشهدٍ في عرض أوبرا استمعت إليه ذات مرة بلغةٍ غريبة. كانت البطلة تنظر وتترجَّى مثل فالدوريم.

هزَّ كاسبلييه كتفَيه، لكنه لم يسحَب معصمه من قبضتها المُحكَمة.

قال لها: «لِمَ نستفيضُ في الجدالِ المملِّ نفسِه من جديد؟ فإن لم تكن تنيس، كانت امرأةٌ أخرى. لم يُكتَب لي أبدًا أن أكونَ زوجًا مخلصًا، يا فال. فهمتُ من لاكور أننا لن نخوضَ في المزيد من هذا الكلام الفارغ.»

أرخَت ببطءٍ قبضتَها على معصمه الذي لم يُقاومها. وعادت إلى وجهها النظرةُ المأساوية القديمة وهي تأخذ نفَسًا عميقًا. واستعَرَ لهيبُ النار في أعماق عينيها الكهرمانيَّتَين، بينما غاب عنهما أيُّ حنو.

خاطبت تنيس بما يُشبه الهمسَ قائلة: «يُمكنكِ إشعالُ سيجارتك الآن يا آنستي.»

صاح زوجها: «أُقسم إن بإمكاني إشعالَ سيجارتي بهذه النار التي في عينَيك يا فال.» ثم أردف: «يُمكنك اكتسابُ شهرة في المسرح. سأكتب لك مسرحية تراجيدية، وﺳﻨ…»

أشعلت تنيس عودَ ثقاب. فملأ الغرفةَ ضوءٌ كالبرق وضجيجٌ كالرعد. وسقط زجاجُ النافذة في الشارع مهشَّمًا. كانت فالدوريم تقف مستندةً بظهرها إلى الباب. ذهبت تنيس إلى النافذة المهشَّمة وهي تترنَّح ويداها الصغيرتان ترتعشان بشدة. ونهض كاسبلييه على قدميه مترنحًا يتنفَّس بصعوبة، وقال لاهثًا:

«أيتها الشيطانة الروسية! المفتاح، المفتاح!»

حاول أن يقبض على رقبتها، لكنها دفعته بعيدًا.

وقالت: «اذهب إلى امرأتك الفرَنسية. فهي تستغيث.»

انهارت تنيس عند النافذة، بينما كانت إحدى ذراعَيها ممددةً على إفريز النافذة محترقة، وكانت صامتة. وأخذ كاسبلييه يضرب على يده المرتعشة ليُطفئ النارَ المشتعلة بها، ويئنُّ وينتحب، حتى سقط على الطاولة، ومنها سقط برأسه على الأرض.

ترنَّحَت فالدوريم برفقٍ أمام الباب يَمْنة ويَسرة والنار مشتعلةٌ بها، وهمست بصوتٍ مِلؤُه العذاب:

«يوجين، يوجين!» وألقَت بنفسها كملاكٍ مشتعل، أو عِفريت، على الرَّجل المسجَّى على الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤