جزيرة الإيبيورنيس

اتَّكأ الرجل ذو الندبة على وجهه مستندًا إلى الطاولة، ناظرًا إلى باقة الأزهار التي أحملها.

بادرني سائلًا: «هل تلك زهرات أوركيد؟»

أجبتُه: «بعضٌ منها.»

فأضاف: «هل هي من جنسِ خفِّ السيدة؟»

فرددتُ: «أغلبها.»

«هل من جديد؟ كنت أعتقد أنه لم يَعُد هناك أيُّ جديد. لقد «زرتُ» تلك الجزرَ منذ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين عامًا. إذا وجدتَ شيئًا جديدًا هناك، فلا شك أنه سيكون جديدًا تمامًا؛ فأنا لم أترك الكثيرَ ليُجمَع بعدي هناك.»

قلت: «أنا لا أعمل في جمع الأشياء.»

فتابَعَ قائلًا: «كنتُ شابًّا آنذاك. يا إلهي! كم اعتدتُ التجوالَ حول العالم!» بَدَا كأنه يتفحصني. «أمضيت في الهند الشرقية سنتين، وفي البرازيل سبعًا، ثم توجَّهت إلى مدغشقر.»

قلت، مترقبًا سماع حكاية مثيرة: «أعرف أسماء بعض المستكشفين. لحسابِ مَن كنتَ تجمع الأشياء؟»

أجاب: «شركة دوسن. أتراك سمعتَ باسم بوتشر من قبلُ؟»

«بوتشر … بوتشر؟» بَدَا للاسم حضورٌ مبهم في ذاكرتي، ثم تذكَّرتُ قضيةَ بوتشر ضد دوسن، فقلت: «حقًّا؟ أنت مَن قاضيتَهم ليسدِّدوا لك راتبَ أربع سنوات أمضيتَها هائمًا في جزيرةٍ نائية مهجورة …؟»

فأجاب منحنيًا: «خادمك. كانت قضيةً غريبة، أليس كذلك؟ كنتُ ذلك الشخصَ الذي كوَّنَ ثروةً طائلة على تلك الجزيرة، دونَ أن أبذل أيَّ مجهود، وكانت شركة دوسن عاجزةً تمامًا عن الوصول إليَّ وإخطاري بإقالتي. كثيرًا ما أمتَعَني التفكيرُ في الأمر حين كنت هناك؛ لقد أجريتُ عملياتٍ حسابيةً كثيرة لتقدير تلك الثروة وسجَّلتُها في جميع أنحاء الجزيرة المرجانية اللعينة بأرقامٍ ورموزٍ مزخرفة.»

سألته: «كيف حدث ذلك؟ لا أتذكَّر القضيةَ بالضبط.»

«حسنًا … أسمعتَ عن طائر الإيبيورنيس؟»

«بالتأكيد. كان أندروز يحكي لي عن فصيلةٍ جديدة كان منشغلًا بدراستها منذ شهر تقريبًا، قُبَيْل إبحاري مباشَرةً. إنَّ لهذه الفصيلة عظمةَ فخذٍ يبلغ طولها ياردة كاملة تقريبًا. لا بد أن هذا الكائن كان وحشًا ضخمًا.»

فردَّ الرجل ذو الندبة: «أنت على حقٍّ، لقد «كان» وحشًا ضخمًا بالفعل؛ لم يكن رُخُّ السندباد سوى أسطورةٍ مستلهَمة منه. لكنْ متى وجدوا تلك العظام؟»

«منذ ثلاث أو أربع سنوات، عام ١٨٩١ حسبما أعتقد. لماذا؟»

«لماذا؟ لأنني «أنا» مَن وجدتُها — يا إلهي! — مضى على ذلك ما يقرب من عشرين عامًا. لو لم تتعامل شركة دوسن بحمقٍ مع مسألة الراتب تلك، لَأمكَنَهم تحقيق شهرةٍ واسعة وثروةٍ طائلة من تلك العِظام … لم «أستطع» السيطرةَ على القارب اللعين ومنعه من الانجراف مع التيار.»

صمت برهةً ثم واصَلَ قائلًا: «أعتقد أنه المكان ذاته؛ مكانٌ ما يشبه المستنقعات يقع على بُعْد حوالي تسعين ميلًا شمال أنتاناناريفو. أتعرفه؟ عليك أن تستقلَّ قاربًا لتصل إلى ذلك المكان الواقع على طول الساحل. ربما لا تتذكَّر ذلك؟»

«لا أتذكَّر. أعتقد أن أندروز ذكرَ شيئًا عن مستنقعٍ ما.»

«لا بد أنه المكان الذي أَعْنِيه، إنه على الساحل الشرقي. يوجد بطريقةٍ ما شيءٌ في المياه يحفظ الأشياءَ من التحلُّل. إن رائحته تشبه مادة الكريوزوت، لقد ذكَّرني بترينيداد. هل وجدوا المزيدَ من البيض؟ كان بعض البيض الذي عثرتُ عليه يبلغ طوله قدمًا ونصفَ قدم. يحيط المستنقع بالمكان ويعزله عن بقية المنطقة، كما أن أغلب مائه مالح. حسنًا … يا له من يوم … ذلك الذي عثرتُ فيه على تلك الأشياء! لقد وجدتُها بمحض الصدفة. كان هدفنا العثور على البيض، أنا ورجلين من السكان الأصليين، ووجدناه في واحد من زوارق الكانو الغريبة التي وُصِل بعضها ببعض، وعثرنا على العظام في الوقت ذاته. كانت لدينا خيمة ومؤن تكفينا أربعةَ أيام، وحططنا الرحالَ في إحدى المناطق المستقرة الراسخة. إن مجرد التفكير في ذلك المشهد يستدعي إلى أنفي رائحةَ القار الغريبة. إنه عمل عجيب؛ تذهب لتفتش داخل الوحل باستخدام قضبان حديدية، وعادةً ما يتهشم البيض. تُرى كَمْ من الوقت مضى على وجود كائنات الإيبيورنيس؟ تذكرُ الإرسالياتُ التبشيرية أن السكان الأصليين يردِّدون أساطيرَ بشأن الزمن الذي عاشت فيه تلك المخلوقات، لكنني لم أسمع أيًّا منها قط. (ملحوظة: لم يُسمَع من قبلُ عن رؤيةِ أيٍّ من الأوروبيين لطائر إيبيورنيس حيٍّ، باستثناء مكاندرو، الذي زار مدغشقر عام ١٧٤٥، وهو استثناء محل شك (إتش جي دبليو).) لكنْ مما لا شك فيه أن البيض الذي وجدناه كان طازجًا وكأنه وُضِع لتوِّه. طازجًا! بينما كان الرجلان المساعدان لي ينقلان البيضَ إلى الزورق، أسقَطَ أحدهما بيضةً على إحدى الصخور فتهشَّمت. كم كنتُ قاسيًا في ضربِ الرجل! لكنها كانت لذيذة، وكأنها وُضِعت لتوِّها، وحتى رائحتها لم تكن كريهة، وكأنَّ التي وضعَتْها لم يمر أربعمائة عام على موتها. قال الرجل إن حريشًا قد لدغه. يبدو أنني أحيدُ عن مسارِ القصة. أمضينا النهارَ كله ونحن ننقِّب داخلَ الوحل لإخراج البيض سليمًا، وقد غطَّتْنا جميعًا طبقةٌ قَذِرة من الوحل الأسود، وكنتُ غاضبًا بطبيعة الحال. كان ذلك البيض الذي وجدتُه هو الوحيد الذي استُخرِج سليمًا، على حدِّ علمي. لقد توجَّهت لاحقًا لأرى البيض المعروض في متحف التاريخ الطبيعي في لندن، فوجدتُه جميعًا متصدِّعًا وملتصقًا بعضه ببعض وكأنه قطعة فسيفساء، مع فقدان بعض الأجزاء، أما البيض الذي اكتشفتُه فكان كاملًا وسليمًا، وقد عزمتُ على أن أُذيع أمرَه فور عودتي. لا شكَّ أنني كنت منزعجًا من إضاعة هذا الأخرق السخيف ثلاثَ ساعات من العمل بسبب حريشٍ. لقد ضربتُه ضربًا مبرحًا على أية حال.»

أخرَجَ الرجل ذو الندبة غَلْيُونًا مصنوعًا من الفخار، فوضعتُ أمامه جرابَ التبغ خاصتي. ملأ غَلْيُونه وقد بَدَا شاردًا.

«قلت له: ماذا عن البيض الآخَر؟ أعُدْتَ به إلى الوطن؟ لا أذكر …»

«أجابني قائلًا: ذلك هو الجزء الغريب من القصة: لقد عثرتُ على ثلاث بيضات أخرى، كانت طازجة تمامًا. حسنًا، لقد وضعناها في الزورق، ثم ذهبتُ إلى الخيمة لإعداد بعض القهوة تاركًا مساعِدَيَّ الجِلْفين بالقرب من الشاطئ، يحاول أحدهما مداوَاةَ لدغته ويساعده الآخَر. لم يخطر ببالي قطُّ أن الوغدين سيستغلان الموقف الغريب الذي كنتُ فيه لاختلاق مشكلة، لكنني أعتقد أن معاناة أحدهما من سمِّ الحريش والضرب الذي تلقَّاه مني قد أغضباه — كان دائمًا شخصًا مشاكسًا — وأقنَعَ صاحبه بخطته.

أذكر أنني كنت جالسًا أدخن وأغلي المياه فوق مَوْقِدي الكحولي الذي اعتدْتُ اصطحابه معي في مثل هذه الرحلات الاستكشافية. كنت مستمتعًا، بالمناسبة، بمنظر المستنقع تحت شمس الغروب؛ إذ اصطبَغَ كله بالسواد والحمرة القانية في خيوطٍ في مشهد جميل. وفي الأفق بَدَت سُحبٌ رمادية وضبابٌ متصل حتى التلال، والسماء خلفهما حمراء، وكأنها فوهة تنُّور. وقف خلفي على بُعْد خمسين ياردة هذان الهمجيان اللعينان — غير آبهَيْن تمامًا بصفاء المشهد وهدوئه — يخطِّطان للهرب على متن الزورق وتركي وحيدًا خاليَ الوفاض، اللهم إلا من مؤنةٍ تكفي لثلاثة أيام وخَيمةٍ من قماش، ودونَ شرابٍ سوى برميل ماء صغير. سمعت ضجةً قصيرة خلفي، فالتفتُّ لأجدهما في زورق الكانو — إن جازت تسميته زورقًا — وقد ابتعدا عن اليابسة بنحوِ عشرين ياردة. سرعان ما أدركتُ ما يحدث. كانت بندقيتي داخل الخيمة، وكانت خاليةً من الطلقات — لم يكن بها سوى طلقات لصيد البط — كان الوغدان يعلمان ذلك، لكنني كنت محتفظًا بمسدس صغير في جيبي، فأخرجتُه بينما أركض نحو الشاطئ.

قلت ملوِّحًا به: «عودَا.»

أجابا بشيء لم أتبيَّنه، ثم صاح مَن كسَرَ البيضةَ متهكِّمًا. صوَّبت المسدسَ نحو الآخَر؛ لأنه لم يكن مصابًا وكان يتولَّى التجديف، لكنني أخطأته. ضحك الرجلان، لكنني لم أنهزم. كنت أعلم أن عليَّ الحفاظ على رباطة جأشي، فحاولتُ إصابتَه مجدَّدًا وجعلته يقفز فزعًا من دويِّ الطلقة. لم يضحك تلك المرة. في المرة الثالثة، نجحتُ في إصابة رأسه، فسقط ومعه المجداف. كانت إصابةً موفَّقة للغاية من مسدسٍ صغير كهذا؛ أظنني أصبتُه وهو على بُعْد خمسين ياردة، وسقط في الماء على الفور. لا أدري ما إذا كنتُ أصبته، أم أنه صُعِق من دويِّ الطلقة وسقط غريقًا. ثم بدأتُ أصيح داعيًا الثاني إلى العودة، لكنه انكمش على نفسه داخلَ الزورق ورفض الاستجابةَ لطلبي؛ لذلك وجَّهتُ نحوه طلقاتي، لكنها لم تَمسَّه البتَّة.

يسعني إخبارك أنني شعرتُ بأنني أحمق بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى. وقفت وحيدًا فوق هذا الشاطئ الحالك البائس؛ المستنقعاتُ الضحلة من خلفي، والبحرُ الساكن أمامي، وقد بدأَتِ البرودةُ تَسْري في الجو بعد المغيب، وهذا الزورق الأسود يُبحِر مُبعِدًا بثبات نحوَ عُرْض البحر. أؤكِّد لك أنني لعنتُ شركةَ دوسن وشركةَ جامرك والمتاحفَ وكلَّ ما له علاقةٌ بالأمر، ودعوتُ عليهم بما يستحقُّون. أخذتُ أصيح آمِرًا ذلك الغبي بالعودة، حتى صار صياحي صراخًا.

لم يكن أمامي سوى ملاحقته سابحًا وتجربة حظي مع أسماك القرش. فتحتُ مِطْواتي وثبَّتُّها بين أسناني، ثم خلعت ملابسي وخضتُ في ماء البحر. غاب الزورق عن بصري بمجرد نزولي الماء، لكنني كنت عازمًا على اعتراض طريقه كما قررتُ. كان أملي معقودًا على أن يكون الرجل شديدَ الإصابة بحيث يعجز عن التجديف، وأن يظل الزورق ينجرف في نفس الاتجاه. سرعان ما ظهر الزورق مرةً أخرى في الأفق متَّجِهًا نحو الجنوب الغربي. كان شفق المغيب قد تلاشى وبدأت عتمةُ الليل تزحف نحو السماء، تتخلَّلها النجوم. الحقُّ أنني سبحت كالأبطال، بالرغم من أن أطرافي سرعان ما آلَمَتْني.

غير أنني تمكَّنت من الاقتراب من الزورق حين تألَّقت النجوم. ومع اشتداد ظلمة الليل بدأت أرى جميعَ الأشياء المتوهِّجة في الماء؛ الوميض الفسفوري، كما تعلم. لقد أصابني ذلك بالدوار في بعض الأحيان، ولم أكن قادرًا على تمييزِ النجوم من ذلك الوميض الفسفوري إلا بشِقِّ الأنفس، ولا تحديدِ ما إذا كنتُ أسبح ورأسي إلى أسفل أم عقبي. بَدَا الزورق في سواد الفحم والموجُ تحته كأنه ألسنة لهب. كنتُ بلا شك حَذِرًا في محاوَلة تسلُّق الزورق، وحريصًا على أن أرى أولًا ما يخطِّط له الرجل. حين رأيتُه بَدَا مُتكوِّرًا على نفسه عند مقدمة الزورق، وكانت مؤخرة الزورق مرتفعةً عن الماء تمامًا. ظلَّ الزورق ينجرف في حركة دائرية وكأنه يؤدِّي رقصة، ربما. توجَّهتُ إلى مؤخرة الزورق وجذبتُها إلى الأسفل، متوقِّعًا أن توقظ الحركةُ الرجل، ثم بدأت أتسلَّق الزورق والمِطْواة في يدي، مستعِدًّا لأيِّ هجومٍ مفاجئ، لكن الرجل لم يحرِّك ساكنًا؛ لذلك، قبعتُ عند مؤخرة الزورق الصغير وهو ينجرف بعيدًا، على صفحة مياه البحر الفسفورية الهادئة وتتوهَّج فوقي كوكبةٌ من النجوم، في انتظارِ حدوثِ شيءٍ ما.

بعد فترة طويلة، ناديتُه باسمه لكنه لم يُجِب البتَّة. كنت في غاية الإنهاك، فلم أحاول المخاطَرة والاقتراب منه؛ لذلك ظللنا جالسَيْن هناك. أظنني غفوتُ مرة أو مرتين. حين طلع الفجر وجدتُه جثةً هامدة، وقد انتفخ جسده واصطبغ باللون الأرجواني. كانت بيضاتي الثلاث والعِظام موضوعةً وسط الزورق، ووجدتُ برميلَ ماء صغيرًا وبعضَ القهوة والبسكويت داخل لفافةٍ من ورق صحيفة كيب آرجوس عند قَدَمه، وتحته علبة من الكحول المغيَّر. لم يكن على متن الزورق مجداف، ولا أي شيء في الحقيقة يمكنني استعماله كمجداف سوى علبة الكحول؛ لذلك عزمتُ على ترك الزورق ليجرفه التيار إلى أن ينتشلني أحدهم. فكَّرت في أسباب وفاته، وتوصَّلت إلى أنه ربما يكون قد لَقِي مصرعه إثرَ لدغةِ ثعبان، أو عقرب، أو حريش مجهول. ثم ألقيتُ بجثته في البحر.

بعدها تناولتُ شربةَ ماءٍ وبعضَ البسكويت، والتفتُّ حولي. أعتقد أن رجلًا منهَك القوى ومحبَطًا مثلي لن يرى على تلك المسافة البعيدة للغاية؛ لم يكن لمدغشقر أثرٌ على أية حال، ولا لأية يابسة مطلقًا. رأيت شراعًا متَّجِهًا نحو الجنوب الغربي، وبَدَا كأنه لمركب شراعي لكن جسمه نفسه لم يظهر قطُّ. سرعان ما علت الشمس إلى أن استقرت في كبد السماء وبدأت تلفحني بأوارها. يا إلهي! كان دماغي على وشك الغليان. حاولتُ غمْرَ رأسي في ماء البحر، لكنَّ عيني وقعت بعدَ برهة على صحيفة كيب آرجوس، فاستلقيتُ ممددًا في القارب باسطًا الصحيفة فوقي. كم هي رائعة تلك الصحف! لم يسبق لي أن قرأت صحيفة كاملة بتمعُّن، لكن الوحدة تدفعك لفعل أشياء غريبة، وكان هذا حالي. أحسب أنني قرأت ذلك العدد القديم من تلك الصحيفة اللعينة عشرين مرة. تصاعَدَ الدخان من القار الموجود على الزورق بفعل حرارة الشمس، وارتفع سطحه على هيئة فقاعات كبيرة.

واصَلَ الرجل ذو الندبة روايتَه: «ظللتُ هائمًا في عُرْض البحر عشرةَ أيام. ربما يبدو لك هذا أمرًا هيِّنًا، أليس كذلك؟ كانت كلُّ أيامي متشابِهة. لم أكن أتطلَّع حولي إلا في الصباح والمساء؛ فقد كان القيظ بَشِعًا للغاية. لم أَرَ أية أشرعة بعد الأيام الثلاثة الأولى، وتلك التي رأيتها لم تلاحظني نهائيًّا. في الليلة السادسة مرت بي سفينة على بُعْد نصف ميل فقط مني، وكانت جميع أضوائها متوهجة ومنافذها مفتَّحة، وبَدَتْ وسطَ سواد الليل كيَرَاعةٍ كبيرة مضيئة. كانت أصواتُ الموسيقى تنبعث من داخلها. نهضتُ وصحتُ وصرختُ مناديًا. في اليوم الثاني ثقبتُ إحدى بيضات الإيبيورنيس، وقشَّرتها شيئًا فشيئًا وذقتُها، وابتهجتُ حين وجدتها صالحةً للأكل. كانت بها نكهة بعض الشيء — أعني على نحوٍ غير سيئ — لكنْ كان بها شيءٌ من مذاقِ بيضِ البط. كان هناك ما يشبه البقعةَ المستديرة، عرضها حوالي ست بوصات، على أحد جوانب المُحِّ، ولاحظتُ فيها شعيراتٍ دمويةً وعلامةً بيضاء تشبه السلم أثارَتِ استغرابي، لكنني لم أفهم دلالتَها حينئذٍ، ولم أكن ميَّالًا إلى الإفراط في التدقيق. ظللتُ ثلاثةَ أيام أقتات على البيضة، مع بعضِ البسكويت وشربةِ ماء، بالإضافة إلى مضْغِ حبوب القهوة أيضًا كنوعٍ من المنشطات. أما البيضةُ الثانية ففتحتُها في اليوم الثامن تقريبًا، وقد أفزعني أمرها.»

صمت الرجل ذو الندبة هنيهة، ثم قال: «أجل، كانت تنمو.»

أكاد أجزم أنك لا تستطيع تصديقَ الأمر. لقد راوَدَني الشعور نفسه أمام ذلك الشيء. لقد ظلت البيضة مطمورةً تحت ذلك الطين الأسود البارد، ربما لثلاثمائة عام. لكنْ لم يكن هناك أدنى شك فيما رأتْ عيناي. كان هناك … ما هذا؟ جنين، برأسه الضخم وظهره المنحني وقلبه النابض أسفل حلقه، وقد تقلَّص المُحُّ حوله مع انتشارِ أغشيةٍ كبيرة داخلَ القشرة وفي المُحِّ بأكمله. ها أنا أفتح بيضَ أكبرِ الطيور المنقرضة على الإطلاق، داخلَ زورقٍ صغير وسطَ المحيط الهندي. ليْتَ دوسن العجوز كان يعلم ذلك! كان الأمرُ يستحقُّ راتبَ أربع سنوات. ما رأيك؟

غير أنني اضطررتُ إلى التهام تلك البيضة الثمينة عن آخِرها قبل أن ألمح الجزيرةَ المرجانية، وبعض القضمات كانت بَشِعة المذاق للغاية. تركت البيضة الثالثة؛ رفعتُها تحت ضوء الشمس، غير أن قشرتها كانت سميكةً للغاية فلم أتبيَّن ما قد يكون كامنًا داخلها؛ على الرغم من أنني خِلْتني أسمع خفقانَ دم، ربما كان ذلك صوتًا خافتًا في أذنيَّ، كالذي تسمعه عند وضع صدفة بجوار أذنك.

ثم ظهرت الجزيرة المرجانية. بزغَتْ فجأةً من المشرق، إذا جاز التعبير، وراحت تدنو مني. حملني التيار نحوَها مباشَرةً حتى لم يَعُد يفصلني عنها سوى نصفِ ميل تقريبًا، ليس إلا، وإذا بالتيار ينحرف بي بعيدًا عنها، فكان عليَّ أن أجدِّف قدرَ جهدي باستخدام يديَّ وقِطَع من قشر البيض في سبيل الوصول إلى مبتغاي. وأخيرًا نجحتُ في بلوغ الجزيرة. لم تكن سوى جزيرة مرجانية عادية تمتد مساحتها لأربعة أميال، وفي أحد جوانبها بعض الأشجار وعين ماء بَدَتْ كبحيرة شاطئية مُترَعة بأسماك الببغاء. حملتُ البيضة معي إلى الشاطئ ووضعتُها في مكان مناسب، فوق خطِّ المد تمامًا وتحت أشعة الشمس لأمنحها كلَّ فرصةٍ ممكنة للحياة، ثم جذبتُ الزورقَ إلى اليابسة وتجوَّلت في المكان مستكشفًا. إنه لَغريب مدى رتابة تلك الجزر! وبمجرد عثوري على عين الماء، شعرتُ أنَّ كل اهتمامي بها قد تلاشى. حين كنت طفلًا، اعتقدتُ أنَّه ما من شيء أروع أو أكثر إثارةً من مغامرات روبنسون كروزو، إلا أن ذلك المكان كان في رتابةِ كتابٍ للخُطَب والمواعظ. طفتُ بالمكان مفكِّرًا وباحثًا عن شيءٍ يُؤكَل، ولكن أؤكِّد لك أن الضجر كاد يقتلني قبل أن ينقضي يومي الأول، ولم تكن البداية مبشِّرةً؛ فقد تحوَّلَ الطقس في اليوم ذاتِه الذي حللتُ فيه على الجزيرة؛ إذ هبَّتْ عاصفةٌ رعدية متَّجهة نحو الشمال، لكنها لم تمر دون أن تجتاح الجزيرة، وحين حلَّ الليل هطل وابلٌ من المطر صحبَتْه ريحٌ صرصرٌ عاتية. وكان ذلك كفيلًا، كما تعلم، بقلب الزورق رأسًا على عقب.

كنت نائمًا أسفل الزورق وكانت البيضة، لحُسْن الحظ، وسطَ الرمال أعلى الشاطئ، وكان أول شيء أتذكَّره صوتًا كأنَّ مائةَ حصاة ارتطمَتْ بالقارب دفعةً واحدة، ثم فيضًا من الماء غمر جسدي. كنت أحلم بأنتاناناريفو، ثم نهضت من نومي وجلست وناديت على إنتوشي لأسألها عمَّا كان يجري، ورحت أنبش بيدي باحثًا عن الكرسي الذي اعتدتُ أن أضع أعوادَ الكبريت عليه. ثم تذكَّرتُ أين كنت. كانت الأمواج الفسفورية تنقضُّ عليَّ متدافِعةً وكأنها وحوشٌ تروم افتراسي، ولا شيءَ حولي سوى قِطَع الليل المظلم. كان للهواء عويلٌ حقًّا. دنَتِ السُّحُب وكأنها توشك أن تقع فوق رأسي، وانهمر المطر الغزير عليَّ حتى خِلْت الكونَ يغرق فلجأ إلى تصريف مياهه فوق السماء الدنيا. تسلَّلتْ نحوي موجةٌ عاتية، كأنها حيةٌ من نار، فأجفلتُ بسرعة، ثم خطر ببالي الزورق؛ فهرعتُ إليه بينما كانت الأمواج تعاوِد مهاجمتي من جديد، لكنه اختفى. تفقَّدتُ البيضةَ حينها، وتحسَّستُ طريقي إليها. كانت سليمةً وبمنأًى عن أعتى الأمواج؛ لذا جلستُ إلى جوارها وضممتُها طلبًا للرفقة. يا إلهي! يا لها من ليلة!

انقضَتِ العاصفة قبل طلوع الصبح، وحين بزغ الفجر لم يكن للسحب أثرٌ في السماء، ووجدتُ قِطَعًا من ألواح خشبية متناثرة بطول الشاطئ، كانت في الأصل هيكلَ زورقِي المفكَّك. وبالرغم من فداحة خسارتي، فإن تلك الألواح أوحَتْ إليَّ بفكرة؛ فقد أنشأتُ ما يشبه ملجأً من العواصف باستخدام ذلك الحطام، مستفيدًا من شجرتين متقاربتين. وفي ذلك اليوم، فقسَتِ البيضة.

فقسَتْ، يا سيدي، حين كنت نائمًا متوسِّدًا إياها. سمعتُ صوتَ قعقعة وشعرت برجَّة؛ فنهضت جالسًا، ووجدت الجزءَ العلوي من البيضة وكأنَّ منقارًا قد نقره، وإذا برأسٍ صغير عجيب بنيِّ اللون يبرز ناظرًا إليَّ. هتفتُ حينها: «يا إلهي! مرحبًا بك.» وخرج الطائر من البيضة بقليلٍ من الصعوبة.

كان في البداية فرخًا صغيرًا، لطيفًا وودودًا، في حجمِ دجاجةٍ صغيرة تقريبًا؛ لم يكن يختلف كثيرًا عن غيره من أفراخ الطيور، غير أنه كان أكبر. كان زغبه، في بادئ الأمر، بنيًّا مَشُوبًا بلون رمادي يغطِّيه شيءٌ كقشرة رمادية سرعان ما تساقطت، وكان دون ريش تقريبًا، بل كان مغطًّى بما يشبه الشعر الناعم. لا يمكنني أن أصف بهجتي برؤيته؛ لا شكَّ أن روبنسون كروزو كان يعاني من وحدته، أما أنا فكانت لديَّ تلك الصحبة الممتعة. نظر الفرخ إليَّ وغمز بعينه من الأمام إلى الخلف، كما تفعل الدجاجة، وأصدَرَ صوتَ سقسقة ثم بدأ ينقر الأرض حوله في الحال، وكأن خروجه للحياة متأخرًا عن موعده بثلاثمائة عام لا يعني شيئًا. خاطبْتُه قائلًا: «سعيد برؤيتك يا فرايداي!» فمنذ اللحظة التي وجدتُ فيها البيضة وقد اكتمَلَ نموها في الزورق، عقدتُ العزم — بطبيعة الحال — على تسمية الفرخ إذا فقس ﺑ «فرايداي». كنتُ قَلِقًا قليلًا بشأن مأكله؛ لذلك أعطيته على الفور كتلةً من أسماك الببغاء النيئة. أكلها، ثم فتح منقاره طالبًا المزيد. سُرِرتُ بذلك؛ إذ لو نما وسمن، فربما أضطر — في ظل ظروفي هذه — أن آكله على أية حال.

ستندهش حين ترى كم كان ذلك الإيبيورنيس الصغير طائرًا مسلِّيًا. كان يتبعني في كل مكان منذ البداية؛ اعتاد أن يقف إلى جواري ويراقبني بينما أصطاد من عين الماء، ويقاسمني في كل ما كنت أحصل عليه من الصيد. كان حسَّاسًا أيضًا؛ فكان من المعتاد أن تستقرَّ على الشاطئ أشياء خضراء مقزِّزة مليئة بالثآليل، تشبه الخيار المخلَّل، وقد تذوَّقَ أحدَها فلم يعجبه، ولم يقرب أيًّا منها ثانيةً قطُّ.

وكبر الفرخ، وكان بإمكانك أن تلحظ نموه. كانت طريقته الهادئة الودودة ملائمةً تمامًا لطبيعتي غير الاجتماعية. ظللنا نحن الاثنان نعيش على مدار عامين تقريبًا في أقصى درجات السعادة الممكنة على تلك الجزيرة. لم تساورني مخاوف بشأن عملي؛ فقد كنت على علمٍ بأن راتبي يتجمَّع شهرًا بعد الآخَر لدى دوسن. كنا نرى شراعًا بين الحين والآخَر، لكنْ ما من قاربٍ ولا سفينة اقترَبَ منَّا البتَّة. نجحتُ أيضًا في تسليةِ نفسي بتزيين الجزيرة بتصميماتٍ مزجتُ فيها بين قنافذ البحر والأصداف الملوَّنة المُبهِجة بمختلف أنواعها. كتبتُ كلمة «جزيرة الإيبيورنيس» في جميع أنحاء الجزيرة تقريبًا، بأحرف كبيرة، كالتي تراها مصنوعةً من الحجارة الملوَّنة في محطات السكك الحديدية في مسقط رأسي، كما دوَّنتُ عملياتٍ حسابيةً وصنعتُ رسوماتٍ لمختلف الأشكال. اعتدتُ أن أتَّكِئ مسترخيًا وأشاهد الطائر الميمون وهو يخطو متجوِّلًا ويكبر أكثر فأكثر، وأفكِّر في المال الذي يمكن أن أجنيه إذا عرضتُه على الناس في حالِ غادرتُ تلك الجزيرة يومًا ما. صار الطائر حسنَ المنظر بعد تبديلِ ريشه لأول مرة؛ إذ ظهر له عُرْف، وغَبَب أزرق، وكثير من الريش الأخضر في ظهره. ثم اعتدْتُ التساؤلَ عمَّا إذا كان لشركة دوسن أيُّ حقٍّ في المطالَبة بالحصول على الطائر. كان من عادتنا خلال الجو العاصف وفي موسم الأمطار أن نستلقي متضامَّيْن تحت الملجأ الذي صنعتُه من زورقي القديم، وأُمضي الوقتَ في سرد الأكاذيب حول أصدقائي في موطني، حتى إذا ما انقضت العاصفة، كنا نخرج من الملجأ متجولَيْن في الجزيرة بحثًا عن أي شيءٍ يكون قد دفعه التيار إلى الشاطئ. يمكنك أن تعتبرها جنةً خالية من الهموم، ولو كان لديَّ فقط بعضُ التبغ، لَصارت أشبهَ بالفردوس.

عندما شارَفَ العام الثاني على الانتهاء، حدث ما أفسَدَ جنتنا الصغيرة. كان طول فرايداي يبلغ حينها حوالي أربع عشرة قدمًا، من قدمَيْه إلى منقاره، برأسٍ عريض وكبير يشبه رأس المِعْوَل، وعينين كبيرتين بنيَّي اللون أصفرَي الجفن، وكانتا متقاربتين كعينَي الإنسان، لا متباعدتين كعينَي الدجاجة. كان ريشه ناعمًا، ليس كئيب المنظر كريش النعام، بل أشبه بريش طائر الشبنم في لونه وملمسه. ثم بدأ فرايداي يصوِّب عُرفه نحوي ويغترُّ بنفسه ويُبدِي بوادرَ سوء الأدب …

في النهاية، جاء الوقت الذي تعثَّرَ فيه حظي في الصيد بعض الشيء، وبدأ فرايداي يحوم حولي بطريقة غريبة ونظرات متمعنة. حسبتُ أنه ربما يكون قد تناوَلَ بعضًا من خيار البحر أو ما شابه، لكنها كانت علامات السخط والضجر من جانبه. كنت جائعًا أنا الآخَر، وحين ظفرت بسمكة في نهاية المطاف أردتُها لنفسي. كان الانفعال في ذلك الصباح سيدَ الموقف ومسيطرًا على كلٍّ منا؛ فراح ينقر السمكةَ بمنقاره واختطفها، فوجَّهتُ إليه ضربةً على رأسه ليبتعد، وحينها أقبَلَ نحوي مهاجِمًا. يا إلهي! …»

قال الرجل مشيرًا إلى الندبة: «ترك هذه على وجهي.» ثم أردَفَ: «ثم ركلني. كانت كركلة فرس، لكنني نهضت، وحين رأيته عازمًا على مواصَلة هجومه، بادرتُ بالهجوم بأقصى سرعةٍ مُحتَمِيًا بوضع ذراعيَّ مطويتين أمام وجهي، غير أنه هُرِع برجلَيْه الخرقاوين بسرعةٍ تفوق سرعةَ فرس السباق، وظلَّ يوجِّه إليَّ ركلاتٍ باطشة، ويضرب بمنقاره مؤخرةَ رأسي. توجَّهت إلى البحيرة وغطست بها حتى رقبتي، فتوقَّف عند حافتها؛ لأنه كان يكره ابتلالَ رجلَيْه، وبدأ يُصدِر صوتَ زمجرة؛ شيئًا يشبه صوتَ الطاوُس لكنه أكثر خشونةً، وراح يتبختر في مشيته على طول شاطئ البحيرة جَيْئةً وذهابًا. لا أنكر أنني شعرتُ بالصَّغَار والمَهانة وأنا أرى هذا الطائر المنقرض اللعين وهو يتصرَّف كأنه سيدُ الجزيرة. كان الدم يسيل من رأسي ووجهي و… حسنًا، كان جسدي عبارة عن كتلة هلامية من الكدمات.

قرَّرتُ أن أسبح إلى الجانب الآخَر من البحيرة وأتركه وشأنه قليلًا إلى أن تنتهي المشكلة، وتسلَّقتُ أعلى نخلة على الجزيرة وجلست هناك أفكِّر بالأمر برمَّته. لا أعتقد أن شيئًا ما سبَّبَ لي كلَّ هذا القدر من الألم النفسي قبل تلك الواقعة ولا بعدها. إنه الجحود الشَّرِس الذي أبداه ذلك المخلوق. لقد كنتُ أكثر من أخٍ بالنسبة إليه، لقد فقس على يديَّ وأنا مَن ربيته. طائر أرعن ضخم عَفَاه الزمن! وأنا، الإنسان، وريثُ العصور والأزمان.

ظننت أنه سيبدأ هو نفسه بعد حينٍ في رؤية الأمور من هذا المنظور، وسوف يشعر بقليلٍ من الأسف حيالَ تصرُّفه. حسبتُ أنني إنْ صدْتُ قليلًا من الأسماك اللذيذة وأقبلتُ عليه توًّا بأسلوبٍ متبسط تلقائي وقدَّمت إليه الطعام، فربما يُحسِن التصرُّفَ ويعود إلى صوابه. احتجتُ إلى بعض الوقت حتى أدرك مدى القسوة والشراسة التي قد يُبدِيها طائرٌ منقرض. يا له من شرير!

لن أخبرك بكل الحِيَل الوضيعة التي جرَّبتُها في سبيل التحايُل على ذلك الطائر وترويضه مرةً أخرى؛ لأنني ببساطة لن أستطيع. إن وجهي لم يزل ينضح بالحمرة خزيًا وعارًا حتى الآن كلما تذكَّرتُ الإهانات واللكمات التي تلقَّيْتُها من هذا الكائن الغريب اللعين. جرَّبتُ العنف، فألقيت عليه من مسافةٍ آمِنةٍ كتلًا من المرجان، فلم يكن منه إلا أن ابتلعها. رميتُه بمِطْواتي المفتوحة وكدت أفقدها، لولا أنها كانت كبيرة فلم يتمكَّن من ابتلاعها. حاولتُ تجويعَه؛ فتوقَّفتُ عن الصيد، لكنه اتجه إلى التقاط الديدان التي يخلفها الجَزْر على طول الشاطئ، وواظَبَ على ذلك بالرغم من صعوبته. كنت أُمضي نصفَ وقتي مغمورًا في البحيرة حتى رقبتي، والنصفَ الآخَر مستقرًّا فوق أشجار النخيل. لم تكن إحداها مرتفعةً بما يكفي، وحين أمسَكَ بي فوقها أقام وليمةً على رَبْلة ساقي وأوسَعَها عضًّا ونقرًا. لم يَعُد الأمر محتملًا. لا أدري إنْ كنتَ قد جرَّبتَ في حياتك النومَ أعلى نخلة؛ لقد عانيتُ خلال نومتي تلك من أسوأ الكوابيس وأشدها فزعًا. تخيَّلْ ما ينطوي عليه الأمر من خزي أيضًا! فها هو ذلك الحيوان المنقرض يتسكَّع في أنحاء جزيرتي كملك ناقم، أما أنا، فمحظورٌ عليَّ أن أطأها. اعتدتُ أن يصل بي الإنهاك والغيظ حد البكاء. أخبرته مباشَرةً أنني لم أقصد البتَّة أن أكون طريدةً فوق جزيرة مهجورة لأي كائنٍ لعين ضلَّ طريقَه إلى زمان غير زمانه. رجوتُه أن يرحل ويجد شخصًا آخَر غيري ليزعجه، لم أجد منه جوابًا سوى أن نقرني بمنقاره. يا لك من طائر ضخم قبيح، ليس فيك سوى أرجل ورقبة!

لا أودُّ أن أخبرك كم من الوقت مضى ونحن على هذا الحال. كنت سأبادر بقتله لو كنت أعرف سبيلًا إلى ذلك، لكنني توصَّلتُ في النهاية إلى وسيلةٍ للتخلُّص منه. إنها حيلة من أمريكا الجنوبية؛ ربطتُ كلَّ خيوط الصيد التي أملكها بسيقانٍ مجموعةٍ من الطحالب البحرية وما شابَهَها، وصنعتُ حبلًا متينًا ربما بلغ طوله اثنتي عشرة ياردة تقريبًا أو أكثر، وربطت في طرفَيْه كتلتين من صخرة مرجانية. استغرق الأمر مني بعض الوقت؛ فقد كنت أُضطر إلى نزول البحيرة أو تسلُّق النخيل بين الحين والآخَر كلما دعت الحاجة. أدرتُ الحبلَ سريعًا فوق رأسي، ثم ألقيتُه على الطائر. أخطأته في المرة الأولى، لكنني أصبتُه في التالية والتفَّ الحبل حول رجلَيْه مرةً تلو الأخرى، تمامًا كما أردتُ، وسقط أرضًا. كنت واقفًا في البحيرة مغمورًا فيها حتى خصري حين ألقيت الحبل، ثم غادرتها بمجرد سقوطه، وانقضضت على رقبته بسكيني وذبحته …

لا أحب تذكُّرَ ذلك حتى الآن. شعرتُ أنني قاتل وأنا أذبحه، بالرغم من سخطي الشديد عليه. لما وقفت أراقبه ورأيت دمه نازفًا فوق الرمال البيضاء، ورجليه العظيمتين ورقبته الجميلة تتلوَّى وهو في نزعه الأخير … تبًّا!

بعد تلك المأساة، حلَّتْ عليَّ الوحدة مثل اللعنة. يا إلهي! لن تستطيع أن تتخيَّل كم افتقدتُ ذلك الطائر. جلستُ بجوار جثته وأسفت لموته، وانتابتني رجفةٌ وأنا أُجيل بصري في أرجاء تلك الجزيرة المرجانية المُوحِشة الساكنة. تذكَّرت كم كان فرخًا ظريفًا حين خرج من بيضته، وعاودتني ذكرى مئات الحِيَل والحركات اللطيفة التي كان يؤدِّيها قبل أن يسوء حاله ويَئُول أمره إلى ما صار عليه. خطر ببالي أنني لو كنت اكتفيت بجرحه فقط، فلربما أمكنني مداواته وإعادته إلى صوابه. كنت سأدفنه لو كانت لديَّ أية وسيلة للحفر في الصخرة المرجانية. لقد شعرت حقًّا كأنه آدمي؛ ومن ثَمَّ لم أستطع التفكيرَ في أكله، ولم يكن أمامي سبيلٌ سوى إلقائه في البحيرة، وتولَّتْ أسماكها الصغيرة إخلاءَ عظامه من اللحم. لم أحتفظ حتى بريشه. وذات يوم، مر عليَّ رجلٌ كان يَجُوب البحر بيخته يَحْدُوه شغفٌ باكتشافِ ما إذا كانت جزيرتي لم تزل موجودة.

كاد الرجل يأتي بعد فوات الأوان؛ فقد سئمت الوحدة وبلغ الضجر مني مبلغه، وكنت متردِّدًا فقط بين إلقاءِ نفسي في البحر ليبتلعني، والانكبابِ على تلك الطحالب الخضراء للتغذِّي عليها …

بعت العظامَ لرجلٍ يُدعَى وينسلو — وهو تاجر يقع متجره بالقرب من المتحف البريطاني — ويقول إنه باعها لهافرز العجوز. يبدو أن هافرز لم يفطن إلى أن حجم العظام أكبر من المعتاد، ولم تلفت الأنظار إلا بعد موته. لقد أطلقوا عليها اسم إيبيورنيس … لا أذكر بقية الاسم.»

قلت له: «إيبيورنيس فاستس. يا له من أمر غريب! لقد أخبرني صديقٌ لي بالشيء ذاته. حين وجدوا طائرَ إيبيورنيس يبلغ طولُ عظمة فخذه ياردة كاملة، ظنوا أنه أكبرُ أفرادِ جنسه، فأطلقوا عليه اسم إيبيورنيس ماكسيمس، ثم ظهر آخَرُ بعظمةِ فخذٍ طولها أربع أقدام وست بوصات أو أكثر، فسمَّوه إيبيورنيس تيتان، ثم عثروا على عظامِ طائرك في مجموعةِ هافرز العجوز بعد وفاته، فسمَّوه إيبيورنيس فاستس، وأخيرًا اكتشفوا إيبيورنيس فاستيسيمس.»

ردَّ الرجل ذو الندبة: «أخبرني وينسلو بشيءٍ من هذا القبيل. إنه يتوقَّع زخمًا علميًّا وجهودًا بحثية مكثفة لو أنهم وجدوا المزيدَ من ذلك المخلوق. لكن ما مررتُ به كان أمرًا عجيبًا؛ أليس كذلك؟ … أَلَا تتفق معي؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤