أستاذ التاريخ القديم
أخذت معالم الإسكندرية تتضح مع ارتفاع شمس الصباح واقتراب الباخرة «لوتس» من الميناء، ووقف الركاب يتطلعون إلى المدينة، ومن بينهم «الدكتور» طه حسين عائدًا من البعثة في فرنسا، وقد وقف بجوار زوجته التي كانت تحيطه بذراعها اليسرى وتحمل ابنتها الطفلة باليمنى، تمد بصرها إلى الأرض التي ستصبح وطنها منذ اليوم؛ إلى أرض مصر التي لا تعرف عنها إلا ما قرأت في كتب الجغرافيا والتاريخ من جهة، وما جعل زوجها يحدثها به من جهة أخرى، منذ عامين وشهرين، منذ زواجهما في أغسطس عام ١٩١٧.
وتلتفت السيدة سوزان إلى الرجل الذي من أجله جاءت إلى هذه البلاد، فتراه غارقًا في أفكاره كما اعتادت أن تراه في كثير من الأحيان، إنها تدرك أنه يفكر في مصر التي يعود إليها بعد غياب أربع سنوات، ويفكر في شعبها الذي ثار هذا العام يطالب بحريته واستقلاله، ولا شك أنه يفكر أيضًا في الجامعة التي يعود الآن ليقف من طلابه فيها موقف أساتذتها منه، عندما كان يسعى إليها كل مساء من بيته المتواضع في «حوش عطا» في حي الأزهر عطشان إلى العلم لا يرتوي، وهو أخيرًا يفكر في تلك المدينة من مدن الصعيد التي يعمل فيها أبوه، يتخيل لقاء أبويه له فيها بعد قليل، كما يتخيل لقاءهما لزوجته ولابنته لأول مرة.
كان طه حسين يفكر في ذلك كله فعلًا، ويفكر أيضًا في حياتهم التي ستبدأ حين يتركون الباخرة إلى الشاطئ؛ في الطريق الذي سوف يسلكه هو ليحقق ما يملأ صدره من الآمال، وفي زوجته التي سوف تبدأ في مصر حياة جديدة في بلد غريب عليها، وفي ابنته «أمينة» التي ستنطق في بلدها العزيز بأول كلماتها، فقد أتمت الآن شهرها السادس عشر.
وتخرجه زوجته من أفكاره في رفق، لتصف له ما تراه، كما تفعل دائمًا، تصف له السماء والماء وعمارة الأرض في الإسكندرية، وتذكر له أن الباخرة قد هدأت، وأخذ ركابها يستعدون لمغادرتها.
وأخيرًا تسأله في قلق لا تستطيع إخفاءه إن كان متأكدًا من أنهم سيجدون من يستقبلهم في الميناء، وهو يؤكد لها أنه قد كتب إلى محافظ المدينة بموعد وصولهم، ويكرر أن المحافظ، حسن باشا عبد الرازق، هو من مواطنيه في مديرية المنيا، يعرفه ويعرف أهله، ولا شك أنه سيرسل إلى الميناء من يستقبلهم.
وقد صعد حسن باشا عبد الرازق بنفسه إلى الباخرة ليلقاهم عليها، وأصر على أن يستضيف الأستاذ العائد من فرنسا وأسرته الصغيرة في منزله الجميل في حي الرمل بالإسكندرية، وطه حسين سعيد بهذه الحفاوة التي اطمأنت بها زوجته، غير أنه متلهف إلى معرفة أحوال البلاد، يقول إنه قد تلقى هو وزملاؤه المصريون في باريس النبأ العظيم، نبأ ثورة مصر، «فإذا الوجود كله إشراق، وإذا السكون حركة، وإذا الجمود نشاط، وإذا نحن سرور كلنا وابتهاج كلنا، يسعى بعضنا إلى بعض، ماذا أقول؟ يسرع بعضنا إلى بعض … وتجري على هذه الوجوه المشرقة دموع حارَّة، ولكن في حرارتها برد الأمل والرجاء … مصر ثائرة، مصر تقاوم الإنجليز، مصر تنهض في وجه المستعمر … رحم الله شهداء ١٩١٩! لقد صغرت حياتهم في نفوسهم لنكبر نحن في نفوسنا، لقد ماتوا فأحيانا موتهم»، وهو الآن يصل الإسكندرية فخورًا ببلاده، معتزًّا بشعبه الذي وقف صامدًا، مستندًا إلى مساجده وكنائسه، من خلف زعيمه سعد زغلول، ولكنه قلق في نفس الوقت على مواطنيه؛ لأنه يدرك أن سلاح الاحتلال الغاشم مسلَّط على شعب أعزل.
يسأل المحافظ في قلق عن الأحوال … ويقول المحافظ إن أهم أخبار الإسكندرية الأخيرة هي أن شابًّا قد ألقى في محطة الرمل قنبلة على سعيد باشا رئيس الوزراء في الشهر الماضي، وقد انفجرت القنبلة ولكن رئيس الوزراء لم يُصَبْ بسوء، وطلب سعيد باشا إلى السلطات أن تعامل الجاني بالرأفة لأنه يقدِّر كيف تغلي نفوس الشباب في هذه الأوقات.
أما أهم أخبار مصر فهي أن بريطانيا ما زالت مصممة على إرسال بعثة برئاسة وزير المستعمرات «لورد ملنر» إلى مصر رغم اعتراض رئيس الوزراء سعيد باشا واستقالته. وبريطانيا تعلن أن مهمة البعثة هي «بحث أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر، واقتراح الأنظمة التي من شأنها أن تهدئ الحالة فيها»، وذلك كله في ظل الحماية البريطانية التي فُرضت على البلاد منذ نوفمبر ١٩١٤.
وطه حسين يقول إن بريطانيا تتجاهل أسباب السخط والثورة، وتدَّعي أنها تبحث عنها لتهدِّئ الأحوال في ظل نظام الحماية، ونظام الحماية هو نفسه سبب السخط، ووجود بريطانيا في مصر هو نفسه سبب الثورة واضطراب الأحوال. على أنه متأكد من أنه لن يُحال بين مصر وبين أهدافها الوطنية ما دام الشعب قد نهض كريمًا عنيدًا يطالب بحريته وبحقوقه.
•••
ويسأل طه حسين عن حالة المواصلات وقطارات السكة الحديد، فهو يريد السفر إلى القاهرة، ومن هناك إلى كوم امبو ليرى والديه الذين لم ينقطع عن التفكير فيهما طيلة السنوات الأربع الماضية، والمحافظ يطمئنه، فقد استفسر وتأكد من سلامة المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، وكذلك بين القاهرة وكوم امبو.
وفي محطة القاهرة يستقبل الأسرة الصغيرة العائدة بعضُ الأقارب والأصدقاء، منهم صديق قديم عزيز هو الأستاذ محمد رمضان المحامي الذي اشترك مع طه حسين في ترجمة كتاب «الواجب» للكاتب الفرنسي جول سيمون قبل سفره إلى البعثة عام ١٩١٤، ومنهم زميلا الأزهر القديمان محمود الزناتي وأحمد حسن الزيات، ومنهم صديق آخر هو الأستاذ محمد المرصفي، الذي يُسرع ويحمل الطفلة الصغيرة «أمينة» عاليًا فوق رءوس المسافرين والمودِّعين والمستقبلين ليخرج بها من المحطة، وأمها من خلفه وخلفها قلقة، تريد أن تسرع لتلحق بابنتها، لكنها مضطرة إلى الإبطاء لتسير مع زوجها ومع صحبه، وهم يشقُّون زحمة المسافرين والمستقبلين في محطة القاهرة.
وفي القطار إلى كوم امبو يتحدث طه حسين مع زوجته عن والديه اللذين يعود إليهما الآن وقد بلغ الثلاثين، وله زوجة وبنت، ومعه درجة الدكتوراه وقد عُيِّن أستاذًا في الجامعة الأهلية، يقول لها إن والده كان يتمنى لو أصبح يومًا شيخًا في الأزهر الشريف له عمود يتجمع حوله الدارسون، وكان ذلك أقصى ما يتمناه له.
وعندما يصل إلى كوم امبو، وتتلقاه الأسرة بالفرح والترحيب، يتركه أبوه مع أمه، ويترك ابنته لجدتها، ويخرج هو مع زوجة ابنه ليريها معالم المدينة، وفيها آثار الانتعاش الاقتصادي الناشئ عن قيام شركة السكر فيها، يسيران معًا، هو بملابسه بالعمامة والجبة والقفطان، وهي بملابسها الأوربية، يسألها — بالإشارة — عن رأيها فيما تراه، وعن طلباتها إن كانت لها طلبات، وتشكره هي بالابتسامة سعيدة كل السعادة باستقبال أسرة زوجها لها.
•••
وتمر أيام الزيارة سريعة، سعيدة، على أنه لا بد من العودة إلى القاهرة فإن الجامعة ستفتح أبوابها عن قريب، ولا بد من أن يبدأ طه حسين عمله فيها.
ثم يختم حديثه بقوله: «أستاذنا الدكتور طه حسين يبدأ الآن حياة جديدة، يبدأ حياة الإفادة بعد الاستفادة، وإني باسم الله وبالنيابة عن أعضاء مجلس الإدارة أفتتح الدرس الأول للأستاذ الدكتور طه حسين.»
•••
ويحضر الطلبة درس التاريخ القديم متثاقلين، على أنهم بعد سماعهم الأستاذ الشاب قد جعلوا يُقبلون عليه وعلى مادته شيئًا فشيئًا، فقد تبين لهم أن دروسه لن تكون سردًا لأسماء الأباطرة وللمعارك التي خاضوها، بل ستكون دراسة للحضارة القديمة ونظمها السياسية والاجتماعية وثمارها الثقافية ولتاريخ الفكر الإنساني وتطوره في الزمن القديم.
وهكذا كانت طريقة الأستاذ الشاب؛ يكلف تلاميذه قراءة بعض النصوص الأصلية المتصلة بدراسة الحضارتين اليونانية والرومانية، ويكلفهم شرحها تحت إشرافه ومراجعته، كما يطلب إليهم قراءة بعض النصوص في الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وهو حريص على ألا يقل مستوى التدريس في جامعة مصر عن مستواه في أوروبا، فهو يطلب إلى طلابه دراسة كتاب من تأليف أرسطوطاليس اسمه «نظام الأثينيين»، يقول لهم إنه قد عرف هذا الكتاب بطريق الصدفة في باريس، «أحالنا عليه أحد أساتذتنا في السوربون، فلما رجعت إليه عرفت أنه استُكشف في مصر في عام ١٨٩١، فنقله الإنجليز إلى لندن، ونُشرت صورته الفوتوغرافية ثم طُبع في لندن وباريس وبرلين وغيرها من مدن أوروبا، ثم نُقل إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من اللغات الحديثة، ثم نُقد وفُسِّر في جميع اللغات، ثم دُرِّس في جامعات أوروبا، انتفع به مؤرخو الأوروبيين فأصلحوا ما كان في تاريخ أثينا من خطأ وأكملوا ما كان فيه من نقص، ثم مضت على ذلك ثلاثون سنة والمصريون لا يعلمون من أمره شيئًا، وإذ كنت أدرِّس لكم تاريخ اليونان، وكنت قد أخذت نفسي بأن أفسر لكم من حين إلى حين بعض الأصول التاريخية القديمة لتعتادوا قراءة كتب التاريخ والاستفادة منها؛ فقد اخترت في هذه السنة هذا الكتاب.»
الأستاذ يريد من طلابه أن يتعودوا قراءة النصوص القديمة، ويريد أن يدربهم على نقد المراجع الهامة، وعلى ألا يدعوهم قدمها أو كون مؤلفها عملاقًا مثل أرسطو إلى التسليم بكل ما يجيء فيها وتصديقه بغير تمحيص، فإنه حريص على أن يقف وأن يقف تلاميذه من كل ما يقرءون موقف الدارس الناقد والمفكر الواعي.
ويقبل شهر ديسمبر ١٩١٩ فتصل لجنة اللورد ملنر إلى القاهرة، ولكن مصر كلها تقاطعها، فقد اختارت الوفد ورئيسه «سعد باشا زغلول» وكيلًا عنها للمطالبة بحريتها واستقلالها، وهي تريد أن ترغم دولة الاحتلال على احترام هذه الوكالة والتعامل مع وكيلها وحده لتحقيق الهدف الذي وكَّلته لتحقيقه، فلا تستطيع اللجنة الاتصال بأحد، وتحاول زيارة طنطا «موطن المظاهرات في العام الماضي» فتقوم مظاهرات جديدة ضدها، ويعلن علماء الأزهر أنهم يطالبون مع الشعب كله بالجلاء والاستقلال في نداء يوقِّعونه بأسمائهم ويوجهونه إلى دار المندوب السامي، ولأول مرة في تاريخ مصر تخرج السيدات مؤيدات للحركة الوطنية في مظاهرة في القاهرة تتحدى الرصاص.
ويتحدث طه حسين إلى أستاذه وصديقه القديم أحمد لطفي السيد عن سعادته بيقظة الشعب المصري وتصميمه على أن يحصل على استقلاله، ولكن لطفي السيد يتساءل وماذا بعد الاستقلال؟ إنه يرى أن على المواطنين أن يفكروا منذ الآن في طبيعة الحكم الوطني بعد الاستقلال. هذا الحكم في رأيه لا يجوز أن يكون حكم الخديو المطلق؛ لأنه يرفض حكم الفرد الذي يلغي الحرية كل الرفض، ولا بد أن يكون الحكم هو حكم الشعب لنفسه بنفسه، أي الحكم الديمقراطي.
وداخل الجامعة يدرس طه حسين نظم الديمقراطية الأثينية في كتاب أرسطوطاليس، وهو يدرك أنه ليس بين الطلاب من يعرف لغة الكتاب وهي اليونانية، وإذن فلا بد من قراءة ترجمة فرنسية أو إنجليزية للكتاب، ويسأل نفسه لماذا لا يُترجم الكتاب إلى اللغة العربية كما تُرجم إلى اللغات الأوروبية الحية، ويتساءل: «لماذا لا أفسر للطلاب ترجمة الكتاب بالعربية؟ فإذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نُعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدراستها، فإني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد.»
ويقول طه حسين إن الكتاب هام، لا لقيمته التاريخية فحسب، بل لقيمته المعاصرة أيضًا، فإن أرسطوطاليس «لم يكن يشخِّص عصره الذي عاش فيه فحسب، وإنما كان يشخِّص الرقي الإنساني بوجه عام.»
وأرسطو يستعرض صور الحكومات ويختار منها حكومة وَسَطًا، تمثل طبقات الشعب تمثيلًا صحيحًا معقولًا، ويرفض صور كل الحكومات الاستبدادية؛ استبداد الملوك، أو استبداد الأقليات، أو استبداد العامة.
وإذن فإن هذا الدرس «الأكاديمي» الذي اختار الأستاذ الشاب طه حسين أن يلقيه على طلابه في العام الجامعي ١٩١٩-١٩٢٠ لم يكن منقطع الصلة بما يجري خارج الجامعة، بل كان شديد الاتصال بما يشغل باله هو وبال غيره من المفكرين، أي بطبيعة حياة مصر السياسية بعد الاستقلال.
•••
وتنتقل أسرة طه حسين من السكاكيني إلى «شقة» في شارع الحواياتي على ناصية شارع الخديو إسماعيل، وقد وصلت سجادة عجمية من الوالد الذي كان قد أرسل أيضًا حوالة بريدية اشترت السيدة سوزان بقيمتها عربة للطفلة أمينة، ووصلت سجادة أخرى من الشيخ أحمد شقيق طه حسين الكبير، وكان عبد المجيد الشقيق الذي يصغره بخمسة عشر عامًا يساعد في إعداد «الشقة»، إنه يتابع دراسته الثانوية ويريد أن يدخل بعد ذلك مدرسة الهندسة العليا، وهو الآن يداعب ابنة أخيه في عربتها، وهي تضحك له سعيدة بمداعبته، ولكن عبد المجيد ينصرف عن هذه المداعبة بعد قليل ليحدث شقيقه الكبير بما يحس به الشباب — حتى من كان منهم في مثل سنه الصغيرة — من غضب على المحتلين ورغبة في العمل لإنهاء الاحتلال واستعداد للتضحية في سبيل تحرير البلاد.
طه حسين يقول لشقيقه إن زعماء البلد يبذلون جهودًا جدية للوصول إلى هذا الهدف، وقد عاد ملنر وبعثته إلى بريطانيا في مارس ١٩٢٠ مقتنعين بضرورة التفاوض مع الوفد المصري وكيل الأمة، ومن المنتظر أن تبدأ المباحثات قريبًا بين الوفد المصري والإنجليز وهو يرجو لها النجاح. ثم يذكر طه لأخيه أن نهاية العام المدرسي قد اقتربت، وقد يحسن بأخيه وبزملائه أن يهتموا الآن بدروسهم وامتحاناتهم، ولكن عبد المجيد يحتج بأن الإنجليز لا ينوون الخير لمصر، فقد نقلت الصحف أن ونستون تشرشل قد صرح أخيرًا بأن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، وبأنه ينوي أن يزورها قريبًا بهذه الصفة، وطه حسين يرد عليه بأن هذا الهراء يجب ألا يحمل أحدًا على اليأس، ويقول له إنه هو قد قال لسعد زغلول عندما قابله في باريس منذ عامين: «كيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ ودعوتموه فاستجاب؟» ويكرر أنه ما دام الشعب يقظًا فإن مطالبه العادلة ستتحقق دون شك.
عبد العزيز فهمي هو الذي ذهب مع سعد زغلول ومع علي شعراوي باشا فواجهوا ممثل بريطانيا في مصر يوم ١٣ نوفمبر ١٩١٨، يطالبونه بالاستقلال بعد أن انتهت الحرب العالمية التي تحملت فيها مصر ما تحملت، وهو الآن في باريس مع سعد مستمرَّين في الجهاد رغم كل العقبات التي تضعها إنجلترا، وأوروبا معها للأسف، في طريق الحركة الوطنية المصرية.
طه حسين إذن يعرف سعدًا ويعرف عبد العزيز فهمي عن قرب، وهو يعرف أيضًا من زعماء الحركة الوطنية عبد الخالق ثروت وكيل الجامعة، وآل عبد الرازق ومنهم حسن باشا محافظ الإسكندرية، وعلي ومصطفى صديق أخيه الشيخ أحمد وصديقه منذ أيام الأزهر، وهو واثق أن هؤلاء الرجال الكرام على أنفسهم وعلى شعبهم سيصلون باتحادهم وبصمود الشعب من خلفهم إلى تحقيق أهداف البلاد، وهو يدعو الله أن يظل الشعب متحدًا صامدًا خلف زعمائه، ويدعو الله أن يستمر هؤلاء الزعماء في جهادهم متحدين متآزرين.
ويحضر أخوه الشيخ أحمد لزيارته في شارع الحواياتي، ويدور الحديث عن دور الأزهر ودور الجامعة وأساتذتهما في الحركة الوطنية. يقول طه حسين إن الفيلسوف الفرنسي «سان سيمون» الذي درس مذهبه عندما كان يعد رسالته للدكتوراه في باريس، يرى أن أمور الحكم الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب يجب أن تصير إلى العلماء، ومع أن طه حسين يشك في أن العلماء يمكن أن يتولوا أمور الحكم في مصر أو في غيرها من البلاد في هذا العصر الحديث، فإنه يقول إنه لمعرفته بشخصيات كثير من الزعماء يخشى أن يختلفوا في المستقبل، ويرى أن العلماء المصريين هم الذين ينبغي أن يقضوا بين الزعماء في مصر عندما يختلفون، ولذلك فإنه لا ينبغي لهم أن ينحازوا إلى زعيم من الزعماء أو إلى حزب من الأحزاب.
•••
كما يتوقف الأستاذ طه بتلاميذه عند الصفحات المثيرة التي يدور فيها الحوار بين الملك كريون وولده هيمون، يقول فيها الفتى لوالده: إنه لا طاعة للحاكم إن هو حاد عن حكم العدل والرحمة، ولا طاعة للأب على ولده «الذي يحبه بل يتفانى في حبه» إذا ترك الأب طريق العدل إلى طريق الاستبداد.
•••
وفي أول سبتمبر ١٩٢٠ يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق — الذي أصبح أستاذًا للفلسفة في الجامعة — لطه حسين: إن الأخبار الواردة من لندن تفيد أن المباحثات قد انتهت إلى مذكرة بقواعد اتفاق بين مصر وبريطانيا، وأن الوفد المصري رأى «أخذًا بالأحوط واستمساكًا بنص الوكالة على إطلاقه ألَّا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله … حتى يعرض الأمر على البلاد …» ولذلك فإنهم قد بعثوا أربعة منهم إلى مصر للتشاور، وطه حسين سعيد بهذا الخبر كل السعادة لما فيه من دلالة، أولًا: على أن الإنجليز قدموا عرضًا يقبل المناقشة، وثانيًا: لما فيه من دلالة على أن سعد باشا والزعماء المصريين حريصون على مبدأ التشاور وعلى الرجوع دائمًا إلى الأمة.
وهناك خبر آخر مفرح، وهو أن طلعت حرب باشا شارعٌ في إنشاء بنك لمصر، وهو حريص على أن يجمع ثمن الأسهم كلها من المصريين من جميع الطبقات بمن في ذلك الأساتذة وطلاب الجامعة، بل إن بنك مصر قد باع سهمًا لأخيه عبد المجيد، أي أن البنك يجمع قيمة الأسهم حتى من تلاميذ المدارس لإشعارهم بأهمية إنشاء هذا البنك المصري بأيدي المصريين. طه حسين يقول إن الاستقلال، على أهميته وخطره، هو عمل سلبي ينحسر به سلطان الأجنبي عنا، ولكن العمل الإيجابي هو الذي يبني البلاد، إن البلاد إنما تُبنى بالعلم والعمل في كل ميدان.
وتطلب مجلة الهلال إلى طه حسين أن ينشر فيها فصولًا عن «قادة الفكر»، فيوافق مسرورًا لأنه يريد دائمًا أن يشرك عامة القراء في دراساته وبحوثه كلما استطاع، وهو سيحدث قراء الهلال إذن عن سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر ويوليوس قيصر، ولكنه سيحدثهم أيضًا عن الشاعر هوميروس فإنه يرى للشعر أهمية كبرى، وهو يسأل: «هل كانت توجد الحضارة اليونانية لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر هوميروس وخلفائه؟ وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟»
•••
ويزور الشيخ مصطفى عبد الرازق طه حسين ويتحدثان عن الأخبار الواردة من لندن، لقد عرض أعضاء الوفد التحفظات التي أبدتها البلاد على قواعد الاتفاق المطلوب، وأهم هذه التحفظات ضرورة النص على إلغاء الحماية، ولكن إنجلترا لم تقبل ونتيجة لذلك قطع المصريون المفاوضات وغادروا لندن إلى باريس.
في ٢٦ فبراير ١٩٢١ تُظهر بريطانيا الرغبة في حل المشكلة المصرية فترسل إلى السلطان فؤاد دعوة ليرسل وفدًا رسميًّا للتفاوض معها في شكل العلاقة «التي تحل محل الحماية البريطانية، فإن هذه الحماية لم تعد نظامًا مرضيًا.» وعلى هذا الأساس قبلت مصر التفاوض، ولكن تأليف وفد المفاوضة أصبح موضوع خلاف جعل يشتد اشتدادًا خطيرًا، إن رئيس الوزراء عدلي باشا يكن يرى أن الطبيعي أن يرأس رئيس وزراء مصر وفد مصر الرسمي إلى إنجلترا، على أن يضم هذا الوفد الرسمي ممثلين للوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول، وسعد باشا زغلول يرى أنه هو الذي وكَّلته الأمة ليعمل للحصول على استقلالها التام، فهو المطالب برئاسة أي وفد يفاوض الإنجليز لكي يكون الاستقلال التام هو النهاية الوحيد المقبولة لهذا التفاوض. إنه يقول إن السلطان هو الذي يعيِّن رئيس وزراء مصر، ولكن السلطان لا يملك أن يأمر في هذا الشأن بغير ما يراه الإنجليز، فكيف يرأس رئيس الوزراء المصري — وأمر تعيينه في مركزه هو إذن بيد الإنجليز — كيف يرأس وفدًا هدفه إخراج الإنجليز من البلاد؟
ويصر عدلي باشا على السفر إلى لندن للتفاوض ومعه وفد رسمي، يصدر السلطان أمرًا بتشكيله في ١٩ مايو ١٩٢١ لا يضم أحدًا من أعضاء الوفد المصري.
•••
ويقبل خريف ١٩٢١، وقد أتمت السيدة سوزان شهور حملها الثاني وحضرت والدتها من باريس لتكون إلى جوارها وقت الولادة، وفي الثامن من سبتمبر تحس بآلام الوضع فيحضر الطبيب إلى شارع الحواياتي في أول الصباح. يطمئن الوالد والوالدة، ولكن الساعات تمر بطيئة ثقيلة ترهق الوالد بالقلق والمخاوف، قلبه موزَّع بين صغيرته أمينة وهي جالسة بجواره وبين زوجته التي تعذبه آلامها المتزايدة عذابًا لا يعرف كيف يمنع أسبابه، حتى يخرج الطبيب بعد الظهر ضاحكًا مبتهجًا، يبشر طه حسين بأنه أصبح والدًا من جديد.
وعندما يمسك طه بيدي زوجته ويسمعها تهمس سعيدة «إنه ولد» يرد عليها: إذن هو «مؤنس». وتقرب المولود منه وقد انتهى القلق والخوف، وهما ينتبهان إلى الصغيرة التي دخلت الغرفة تبتسم وهي تحس بأبويها سعيدين، وتتطلع في شغف إلى رؤية المولود.
الوالد يحمل ولده في الشهر الثالث من عمره بين ذراعيه، يسير به ينشده قصائد من الشعر العربي القديم، ولكنه مضطر إلى أن يعيده إلى والدته أسفًا لأن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد حضر للزيارة.
إن الأخبار الواردة من لندن تفيد بأن وزير الخارجية اللورد كيرزون قدم لعدلي باشا مشروعًا لا يمكن قبوله، وإن عدلي باشا رفض المشروع فعلًا، وإنه يعود الآن إلى مصر، وسيقدم استقالته للسلطان بمجرد وصوله إليها.
وبريطانيا تقرر — بناء على نصح مندوبها السامي في مصر الفيلد مارشال لورد اللنبي — استعمال أقصى الشدة مع أهل البلاد. يقوم المندوب السامي بإبلاغ السلطان أن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا وممتلكات جلالة الملك في الشرق، ولذلك فإن جميع الأراضي المصرية ضرورية لهذه المواصلات!
ويرسل الإنجليز إلى سعد باشا زغلول وإلى أعضاء الوفد المصري أمرًا كتابيًّا بعدم الاشتغال بالسياسة بتاتًا وبالذهاب إلى بلادهم والبقاء فيها تحت رقابة مدير كل مديرية.
ويرد سعد باشا في ٢١ ديسمبر ١٩٢١ قائلًا: «سأبقى في مركزي مخلصًا لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادًا وجماعات.» ويرد بقية أعضاء الوفد برد مماثل.
وفي ٢٣ ديسمبر ١٩٢١ تقبض قوة عسكرية بريطانية على سعد وزملائه فتح الله بركات ومصطفى النحاس وسينوت حنا وعاطف بركات ومكرم عبيد، وتأخذهم، عن طريق السويس، بحرًا إلى منفاهم في جزيرة سيشل في المحيط الهندي.
وفي نفس اليوم يكتب عدلي باشا يكن للسلطان معلنًا أن وزارته كانت قد استقالت بمجرد رجوعه من لندن في شهر نوفمبر بعد فشل المفاوضات، وهو يرى من الضروري أن يعلن تلك الاستقالة لأنه لا يريد أن يتحمل تبعة إجراءات لا علم له بها.
أقدام عساكر الاحتلال هي وحدها التي تُسمع في ليل القاهرة.
عندما نتحابُّ نصلح ما أفسده عارضٌ ما، ذلك العارض فصل نفسين عن بعضهما، كل منهما تبحث عن الأخرى، عندما تلتقيان تتعارفان وتتآلفان، تعودان كلًّا واحدًا، كائنًا واحدًا وليس كائنين.
وتقول: «ما أقدم هذا الكلام وما أبقاه! هذا ما أحس به أفلاطون، أوَليس هذا ما أحسسنا به نحن أيضًا؟ أليس هذا ما نحس به الآن؟»
ولكن طه مشغول العقل والقلب بما يجري في البلاد.
وهو في الجامعة ينتهي من الحديث عن قادة الفكر القديم، ويسأل طلابه: والآن … أليس للفكر قادة الآن؟ وفي أثناء المناقشة التي يثيرها هذا السؤال يلاحظ الأستاذ أن المطبعة والصحيفة، يومية وأسبوعية، سياسية وأدبية، ووسائل الاتصال الجديدة السريعة: التلغراف، التليفون، وكذلك هذه الأداة العجيبة الجديدة التي يسمونها الراديو، والتي سمع أنها استُكشفت وأنها ستُستعمل فعلًا في أمريكا منذ أوائل هذا العام، والقطارات، والطائرات، «فقد عرف قراء الصحف في ذلك الوقت أن أول خط للطيران قد افتُتح من نيويورك إلى واشنطن منذ ثلاثة أعوام.» كل ذلك يتيح لكل صاحب فكر أن ينشر فكره بسهولة بين الناس حيثما كانوا، ونتيجة لذلك يتعدد القادرون على الوصول بأفكارهم إلى الجماعات، فتتعدد قيادات الفكر ولا يعود من الممكن أن تصير قيادة الفكر في عصرنا إلى شخصية واحدة.
ويقول طالب: إذا تساوى أصحاب الأفكار في الفرصة المتاحة لكل منهم لتوصيل أفكاره للجماهير، فلا شك أن من كان منهم ممتازًا نابغًا يمكن أن تصبح له قيادة الفكر في موضوعه وفي إقليمه على الأقل.
ولا ينكر طه حسين ظاهرة النبوغ ويقول لتلميذه إنه على حق.
•••
يسافر اللورد اللنبي إلى إنجلترا، يقال إنه مسافر ومعه مقترحاته في جيب واستقالته في جيب آخر، على أنه يعود في فبراير ١٩٢٢ ومعه تصريح تصدره بريطانيا من جانب واحد بإنهاء نظام الحماية وبالاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبهذا التصريح — الذي سيُعرف باسم تصريح ٢٨ فبراير — تصبح مصر قانونيًّا دولة حرة مستقلة، ويصبح سلطان مصر «أحمد فؤاد» ملكًا عليها، وتؤلَّف وزارة مصرية جديدة برياسة عبد الخالق ثروت باشا، الذي يتولى إلى جانب منصب وزير الداخلية منصبًا آخر هو وزير الخارجية، وهو المنصب الذي كانت بريطانيا قد ألغته عند إعلان حمايتها على مصر عام ١٩١٤. وهكذا تستعيد مصر مظهر استقلالها الخارجي، ويكون لها أن تنشئ المفوضيات والقنصليات في الخارج، هذه أهداف وطنية تتحقق. ولكن التصريح قد تضمن أيضًا أربعة تحفظات خطيرة خاصة بحماية المواصلات الإمبراطورية، وبالدفاع عن مصر، وبحماية الأجانب والأقليات فيها، وبوضع السودان.
طه حسين يرى أن هذه التحفظات الأربعة توشك أن تجعل الاستقلال صوريًّا، ولكنه يرى أيضًا أن هذا التصريح يدخل مصر مرحلة جديدة يستطيع المصريون — إن هم عملوا بجد وتصميم أثناءها — أن يحولوا هذا الاستقلال إلى حقيقة، وهم يستطيعون على كل حال، بتحملهم مسئوليات الحكم الوطني وبإنشائهم للنظام الدستوري، أن يتخلصوا من حكم الفرد، أي حكم السراي، وأن يخطوا خطوات واسعة وسريعة نحو الاستقلال التام.
ولكن سعد باشا زغلول يرى رأيًا مخالفًا وهو ينسف تصريح ٢٨ فبراير نسفًا، عندما يحكي قصة الأعرابي الذي كانت له ناقة ثمينة عزيزة عليه مرضت مرض الموت، فنذر الأعرابي نذرًا لئن شفيت ليبيعنها بدرهم واحد، وشفيت الناقة فأُسقط في يد الأعرابي، ثم اهتدى إلى حل بدا له؛ ربط نعلًا قديمة بعنق الناقة ثم دفعها والنعل في عنقها إلى السوق، وجعل ينادي عليها: «ناقة بدرهم واحد ونعل بمئة دينار، ولا أبيعهما إلا معًا.» فكان الناس يقولون: ما أحلاها لولا الملعونة في عنقها! والملعونة في تصوير سعد هي التحفظات الأربعة التي رُبطت في عنق تصريح ٢٨ فبراير.
ويتفاقم الخلاف بين السعديين والعدليين ويزداد الانقسام ويشتد، ويتطرف الشارع المصري في الانحياز إلى زعيمه سعد زغلول وفي معاداة عدلي وثروت وزملائهما، وتخرج الجماهير إلى الشارع لا تريد أن تسمع إلا رأيًا واحدًا، ولا أن تنقاد إلا إلى زعيم واحد، هتافها «لا زعيم إلا سعد.»
ويخرج طه حسين عما كان يأخذ نفسه به ويرى أن يأخذ العلماء أنفسهم به من الابتعاد عن الانحياز إلى الأحزاب، يكتب أن القول بأن لا زعيم إلا فلان ولا قول إلا قول فلان هو كلام مرفوض، لأن فيه مصادرة لأصحاب الآراء الأخرى لا تجوز.
وطه حسين مدرك أنه — بهذا الموقف — قد أثار سخط الجماهير عليه وعاداها، وقد سبق له أن أثار سخط السلطان واستجلب عداوته، ولكن طه حسين يكره الطغيان في كل صوره ولو كان طغيان الشعوب.
في أول العام الجامعي الجديد «٢٢-١٩٢٣» يقبل طه حسين دعوة الجمعية الجغرافية الملكية لإلقاء محاضرة بقاعتها عن المادة التي يدرسها في الجامعة وهي التاريخ اليوناني والروماني، ولكنه لا يكاد يبدأ المحاضرة حتى يقاطعه أحد الحاضرين بسؤال عن فائدة هذا الموضوع ولماذا نُعنى نحن بتاريخ غيرنا بعد أن نلنا الاستقلال، لماذا لا نحصر اهتمامنا بتاريخ مصر وبتاريخ العرب والمسلمين، ما لنا وللتاريخ القديم؟
وطه حسين يبين أن العناية بمادة معينة لا تعني عدم العناية بسواها، ثم إن دراسة التاريخ اليوناني والروماني نافعة في دراسة تاريخ مصر وتاريخ العرب أيضًا، وهي كذلك دراسة لجزء من تراث الإنسانية ونحن ورثة نشارك في هذا التراث فيجب أن نعرفه.
ويرضى المثقفون عن حديث طه حسين، ولكن هناك أيضًا من يرضى عن مقاطعة من قاطع ويسخط على طه حسين!
•••
يحاول الملك الضغط على رئيس الوزراء ثروت باشا ليعدل المواد الواردة في مشروع الدستور التي تنص على أن الأمة مصدر السلطات، وعلى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، ولكي ينص الدستور المعدل على حقوق للملك، منها ولايته على التعليم الديني عن طريق وزارة الأوقاف، وحقه في تعيين رئيس مجلس الشيوخ، وكذلك للنص على استثناء بعض المعاهدات التجارية من الخضوع لسلطة البرلمان وغير ذلك من التعديلات.
والإنجليز يطالبون الوزارة بحذف المادتين الواردتين في مشروع الدستور بشأن تلقيب الملك بملك مصر والسودان وبترتيب حكم خاص للسودان.
الدستور كما كُتب يُعلن، وإن كانت به أخطاء فإن البرلمان يناقشها.
رجل يجلك ويتفاءل خيرًا بوزارتك، يرى واجبًا عليه أن يوجه إليك هذا الخطاب بلاغًا وتبصيرًا، لقد عُنيت لجنة الدستور عناية تامة بالبحث في شأن السيادة على البلاد فرأت أنها تمحَّصت للأمة، وأن كل سلطة قد أصبحت الأمة مصدرها، وأن سلطانها أضحى فوق كل سلطان، فجعلت هذا المبدأ أساسًا للدستور ودوَّنته بالمادة ٢٣ من مشروعها. ولكن الناس يتناقلون أن دولة نسيم باشا، غفر الله ذنبه وستر عيبه، قد حذف هذه المادة من مشروع الدستور فقلبه بهذا الحذف رأسًا على عقب، وأصبح الدستور مجرد منحة، على اعتبار أنه لا حق في الأصل للأمة ولا سلطان للأمة ولا سيادة للأمة.
فرارًا من وخز ضميري أسارع إلى تنبيهكم لشيء من التعديلات الأخرى التي تحاكى بها الخاصة ويألمون لها … وإنه ليخيل إليَّ أنكم عاكفون من حول هذا الدستور الأعزل تصوبون إليه سهمًا بيد وتحبسونه باليد الأخرى، يدفعكم إلى الرمي حب المجاملة، وتمنعكم منه الذمة ومراقبة الله والناس.
ويُعلن الدستور في ١٩ إبريل سنة ١٩٢٣ كما أعدته لجنة الثلاثين، إلا أن لقب ملك مصر والسودان قد أُهمل.
ويكتب طه حسين بتاريخ ٢٥ إبريل ١٩٢٣، منددًا بهذا الإهمال وبهذه السهولة التي أظهرتها الوزارة المصرية في النزول عن النص على هذا اللقب ولو إلى أجل، يقول: «نزلت الوزارة عنه لأن ممثل إنجلترا قطَّب جبينه ولوى وجهه … فسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز.»
وينتهي العام الجامعي، ويقبل الصيف، وطه حسين يذكر توصية الطبيب بسفر زوجته وابنه إلى الخارج، وهو لم يستطع الاستجابة لهذه التوصية طيلة العام الجامعي، أما الآن فقد تجمع لديه من ثمن كتبه مال يكفي لشراء بطاقات السفر لأسرته دون أن يسافر هو معها، فلا يتردد في تدبير أمر سفر زوجته وولديها ولا يقبل مناقشة في ضرورة سفرهم وتركه هو في القاهرة.
•••
يودِّع طه حسين زوجته وولديه على الباخرة في الإسكندرية ويعود إلى القاهرة، يدخل «الشقة»، يتلمس السرير الكبير ويقف عند سرير الطفلة أمينة ومهد الطفل مؤنس، وهناك وردة في إناء للزهور وضعتها زوجته السيدة سوزان فيه، فهو يأخذها وينفض الماء عنها ويضعها داخل آخر كتاب كانا يقرآنه معًا.
وعندما يجيء الأستاذان مصطفى عبد الرازق ومحمود الزناتي لزيارته، يدور الحديث عن الانتخابات وعن لطفي السيد «بك» الذي سيرشح نفسه فيها، ثم ينتقل الحديث إلى ما جاء الصديقان من أجله، إنهما يريدان منه أن يسافر إلى الإسكندرية معهما فلا يبقى وحده في القاهرة.
وفي الإسكندرية يلتقي لطفي السيد «بك» بطه حسين ويقول له: سنحتفل قريبًا بذكرى الإمام محمد عبده فحضِّر نفسك ماليًّا وأدبيًّا، ويرد طه: ماليًّا نعم، كم يدفع الباشوات والمشايخ الكبار؟ فيقول لطفي: خمسة جنيهات، فيلتزم طه بالنصف، أي بجنيهين ونصف جنيه، أما أدبيًّا فإنه يعتذر، لأن حفلة التكريم يجب بطبيعتها أن تكون كلها إشادة بامتياز الشيخ، وطه حسين يراه من أعظم المصلحين ومن أفذاذ المجددين، ولكنه لا يستطيع أن يتابعه فيما اتجه إليه من محاولة تفسير القرآن الكريم بحيث يكون ملائمًا للعلم كما نعرفه في وقتنا الحاضر، لأن القرآن ثابت والعلم متغير، والإيمان بالقرآن الثابت لا ينبغي أن يحتاج إلى محاولة الملاءمة بينه وبين ما يعرفه الناس من العلوم في جيل ما، في بلد ما، قد ينقضه علم جيل آخر أو بلد آخر.
ويلتقي طه حسين ومعه سكرتيره ألبير بصديقه محمود الزناتي في مقهى التريانون، ويقول الزناتي: «إن البحر اليوم ناعم كالبساط.» ويقول السكرتير: «نعم، وأهل الإسكندرية الذين يعرفون أحوال البحر وما يتعرض له من نوات، يقولون إن البحر سيكون غدًا هادئًا كذلك.» ويقول الزناتي: «إن فندق سان استفانو قد حدد في البحر منطقة مأمونة، النزول فيها للاستحمام أمر لا خوف منه، وفيه رياضة فلماذا لا ننزل غدًا؟» ولا يرد طه حسين أولًا ولكن الزناتي يقول له: «أنت دائمًا تريد أن تعرف كل شيء.» ويسأل طه: «وماذا تلبسون عند النزول إلى البحر؟» ويصف له الزناتي لباس البحر في تلك الأيام، ويقول السكرتير إنه من الميسور جدًّا تدبير اللباس المطلوب.
وفي اليوم التالي ينزل طه حسين البحر عند سان استيفانو، وهو يفكر بعد أن يألف الماء ويمسك بالحبل الممدود في أن هذا هو بحر الروم، مهد إحدى الحضارات العظمى للإنسان، وهذه هي الإسكندرية إحدى عواصم الفكر الإنساني القديم، على هذا الشاطئ كانت تقوم مكتبة الإسكندرية وجامعة الإسكندرية التي علمت بعض قادة الفكر القديم … لماذا لا تعود للإسكندرية جامعتها وتعود إليها مكتبتها؟
ويستمر تفكيره: لقد عرفت مصر صروح العلم الشامخة؛ من جامعة الإسكندرية، إلى جامعة عمرو بن العاص، إلى جامعة الأزهر، ثم تعرضت لاحتلال الأجانب فضاعت الحرية، وبضياع الحرية ضاع العلم، واستشرت الأمراض، وافتقر الناس، الجهل علاجه العلم، المرض يحاربه التعليم، الفقر يطارده التعليم، الحرية نفسها لن يطالب بها الناس ولن يحرصوا عليها إن حصلوا عليها ولن يقدروها حق قدرها إلا بالتعليم.
لا بد إذن من التعليم، التعليم الجاد، وبهذا التعليم الجاد سنعرف أنفسنا، سنعرف أن أهلنا قد حققوا من الامتياز في الماضي ما لم تحقق مثله الشعوب المعاصرة لهم، وسوف يتبدد الوهم الذي يسيطر على بعضنا بأن شعوب أوروبا أرقى منا بالطبيعة، إنها إنما تجاوزتنا بالعلم، ونحن بالعلم نستطيع أن ندركها بل أن نتجاوزها.
إنه يحس بمسئولية قادة الفكر، مسئولية الرائد أن يسير بأهله إلى ما فيه الخير والنفع والعزة.
وتقبل موجة عالية تكاد تغرقه، فيمسك بالحبل ويخرج بمعاونة صاحبيه، يخرج ضاحكًا يقول: «الآن عرفت كيف يسبح الناس، وعرفت أيضًا كيف يغرقون!»
ويجلس الثلاثة على شرفة الفندق، فيلاحظ الزناتي أن شهر يوليو مزدحم في الإسكندرية كالعادة، ويذكر الزناتي أن شهر يوليو هو شهر الثورة الفرنسية، وأن الجبرتي قد وصف احتفال نابليون الضخم بهذا العيد في الأزبكية، ويقول طه: «لماذا لا نحتفل نحن بأعيادنا؟»
ويسأل الزناتي: «مثل عيد رأس السنة الهجرية؟»
ويقول طه: «نعم، مثل عيد رأس السنة الهجرية.»
فيقول الزناتي: «هل تذكر قصيدتك في عيد رأس السنة الهجرية منذ نحو عشرين سنة، في احتفال نادي المدارس العليا، قبل السفر إلى فرنسا، سنة ١٩١٤؟» ويتذكر طه حسين، ويقول: «نعم، في مدرسة مصطفى كامل … أجلسني الشيخ عبد العزيز جاويش — سامحه الله — على المنصة إلى جواره فظننت هذا تلطفًا منه، ولكنه فاجأني بإعلان اسمي على أنني بديل عن حافظ إبراهيم الذي كان قد وُظِّف في دار الكتب فلم يستطع المشاركة في الاحتفال، لقد أصبح موظفًا محترمًا!»
ويقول الزناتي: «الشيخ جاويش أعلن ذلك لأنك كنت قد أنشدته قصيدتك.»
ويقول طه وهو يبتسم: «نعم، كان عمري عند ذلك الحين خمسة وعشرين عامًا. ولقد نسيت الآن ذلك الهراء الذي كنت أسميه شعرًا، والذي أنشدته وأنا أرتعد ارتعادًا.»
ويقول الزناتي: «ولكني لم أنسَ، أنت قلت مخاطبًا هلال السنة الجديدة:
ويرد طه حسين: «هل هذا شعر؟!»
ويرد الزناتي: «المهم أنك كنت تبحث عن طريق الاستقلال منذ عام ١٩١٤، قبل الثورة المصرية بخمس سنوات.»
ويقول طه حسين: «هل تذكر يا زناتي من ألقى قصيدة أخرى في تلك الحفلة؟» ويرد الزناتي: «نعم، الشاعر أحمد نسيم.»
ويقول طه: «نعم، ولكن المهم أكثر الشاعر خليل مطران، الشاعر المسيحي الذي أنشد في ذلك العام قصيدة رائعة لمناسبة بدء العام الإسلامي، مشاركًا الشباب الذي أراد أن يحتفل بأعياد البلاد.»
ويقول الزناتي: «نعم، عندك حق في أن تذكر خليل مطران، شاعر القطرين كما نسميه الآن، وأن تذكر هذا التضامن الرائع بين المسلمين والمسيحيين في مصر وهو أساس نهضتنا الحاضرة بغير شك، ولكن هل تذكر ماذا قلت أنت مخاطبًا أولئك الشباب؟ لقد قلت:
وأنت ورأيك في قيمة الشعر، ولكن المعنى، الموضوعات، الاستقلال، المرأة والشباب، أنت كنت تبحث عن الاستقلال عام ١٩١٤ وترى أن بناء الوطن بعد ذلك يحتاج إلى العناية بالشباب وبالمرأة والاهتمام بالعلوم، قلت هذا في سنة ١٩١٤ وعمرك خمسة وعشرون عامًا.
وهناك بيت آخر كنت نسيته ولكني أتذكره الآن، لقد قلت في تلك القصيدة:
ويردد طه حسين في شيء من التهكم: «الأميال؟!»
ويقول الزناتي: «يا سيدي القافية أحوجت إليها، تقصد اختلاف الرأي واختلاف الميول، المهم المعنى: منا نحن بليتنا وعندنا نحن الدواء! هذا كلام قلته أنت عام ١٩١٤، ألا ينطبق هذا الكلام علينا الآن في عام ١٩٢٣ في حالة التطاحن ومحنة التطرف والتعصب مثلًا، نظرًا لأن وزارة ثروت هي التي كونت لجنة وضع الدستور الذي يتلهف الشعب كله على وضعه وتطبيقه، فإن سعدًا باشا سماها «لجنة الأشقياء» … وأصبح هذا هو اسمها على لسان الشعب حتى اليوم؟»
ويقول طه حسين: «موضوع الدستور وحقوق الشعب يستحق كتابة مقال.»
ويقول الزناتي: «ليس هذا وقت كتابة، لقد فهمت أنك مرشح لوظيفة جديدة، وظيفة اسمها مدير مكتب الترجمة والنشر العلمي، يقولون إنها ستنشأ في وزارة المعارف وإنك سوف تتولاها.»
ويقول طه حسين إن وزير المعارف ورئيس الوزراء قد كلماه في شيء مثل هذا، «ولكن موضوع الساعة ليس هو الترجمة والنشر العلمي، وإنما هو تأكيد مسئولية الشعب عن إدارة شئونه بنفسه، خاصة ونحن مقبلون على الانتخابات.»
دفعت جنيهين ونصفًا في حفلة الشيخ محمد عبده، ودفعت طلبات الإخوان الذين يعتقدون أنني غني، والحمد لله، وبقي معي ثلاثة جنيهات لأول الشهر، ولكني سأتدبر الأمر، المهم كيف أحوال الطفل وأمينة وكيف حالك؟
ثم يملي المقال عن حق الشعب ومسئوليته.
ويقرأ الزناتي المقال وهو جالس على قهوة التريانون فيقول: «إذن طارت وظيفة مدير الترجمة والنشر العلمي.»
ويقرأ والد طه المقال في كوم امبو فيدخل بالصحيفة على زوجته «أم توفيق» ويقول لها: «هذا طه يكتب أن الناس جميعًا سواء أمام خالقهم وأمام وطنهم، وهم جميعًا مسئولون عن مصيره … هذا كلام كبير يا أم توفيق.» وأم توفيق تدعو لطه بالخير وبأن يحفظه الله من كل سوء.
•••
وينتهي صيف ١٩٢٣، وتعود الأسرة من باريس، والزوج والزوجة كلاهما يقدران أنهما قد ادخرا شيئًا من المال من إيراد كتب الأستاذ، فأما الزوج فقد رأى أن خير ما يُنفق فيه هذا المال هو شراء بيانو يفاجئ به زوجته عندما تعود من باريس، أما الزوجة فقد رأت أن خير ما يُنفق فيه هذا المال هو شراء ساعة ثمينة من فرنسا تفاجئ بها زوجها عندما تعود إلى مصر، والآن يفاجئ كل منهما الآخر … وإذن فالمال المدخر قد أُنفق مرتين! فكيف الخروج من هذا المأزق؟
يتذكر طه حسين أسطورة تونسية خلاصتها أن الفتى أحمد والفتاة جويدة، كانا يعيشان في مدينة القيروان فالتقيا، فتحابا، فتعاهدا على الزواج، فغضبت قبيلتاهما وخلعتاهما، فهربا من القيروان، وتزوجا وعاشا في ضيق وضنك؛ يسعى أحمد على جواد له ليكسب رزقه المحدود، وهو لا يجد لديه مالًا يشتري به سرجًا للجواد، ثم ينقضي عام على زواجهما، وتريد جويدة أن تقدم لزوجها هدية في عيد الزواج، فتقص شعرها الطويل الجميل، وتشتري بثمنه سرجًا لجواد أحمد، ولكنه يعود إليها في يوم عيد زواجهما راجلًا بدون الجواد وفي يده مشط ذهبي اشتراه لزوجته لتزين به شعرها الطويل الجميل، وهكذا تقدم جويدة إلى زوجها السرج وقد باع الجواد، ويقدم أحمد إلى جويدة المشط الذهبي الذي طالما اشتهته، ولكنها قد قصت شعرها فما حاجتها إلى المشط الآن؟
ويتسامع الناس بقصة هديتَي عيد الزواج، وتصل القصة إلى القبيلتين فترق القلوب للزوجين، ويسعى إليهما الأهل، فيردونهما إلى القيروان يعيشان فيها حياة السعادة والرخاء.
وتقول سوزان: «أنا لا أعرف لي قبيلة في فرنسا، وأنت لا تنتظر أن تُهرع إليك القبيلة من المنيا.» وهي لذلك تسأل عن وظيفة مدير مكتب الترجمة والنشر العلمي، التي من شأنها أن تعين على الحصول على بعض المال، ويقول لها طه: «على هذه الوظيفة السلام، لقد ضيعتها، مدركًا لما أفعل، بمقال …» وتسأل سوزان: «والآن؟» ويقول طه: «الآن نستأنف الحياة معًا، نستعد للعام الجامعي الجديد، ونتحدث بعد العشاء.»
بعد العشاء يقول لها إن جريدة السياسة تعرض عليه الإشراف على صفحتها الأدبية وتحريرها، أي تولي كل مسئوليتها وليس مجرد الكتابة فيها كما كان يفعل من قبل.
وتسأل زوجته: «ألن يشق عليك هذا العمل؟ إنك تبذل في الجامعة مجهودًا ضخمًا.» فيقول طه: «سأخصص الصباح لأعمال الجامعة، وأخصص وقتي بعد الظهر لأعمال الصحيفة.»
وتحاول زوجته أن تثنيه عن القبول فهي لا تريد أن يرهق نفسه، وهو يؤكد لها أن الكتابة لن ترهقه، ويتقدم الليل وتنتهي المناقشة بقوله: «إن الليل يُقبل بالمشورة.»
وكعادته يقوم بالتأكد من إغلاق النوافذ والأبواب قبل النوم.
في الصباح يقول طه حسين لزوجته وهما جالسان إلى مائدة الإفطار: «لقد أقبل الليل بالنصيحة، إن أثر محاضراتي على الطلاب محدود بعددهم … وطلاب الثقافة في مصر والعالم العربي لا يمكن أن يختلفوا جميعًا إلى الجامعة، ولا أن يحضروا جميعًا محاضرات في الجمعية الجغرافية مثلًا، إن الصحيفة وسيلة العصر لنشر الثقافة وإتاحتها لطلابها أينما كانوا ومهما كان عددهم، أرجو أن يوفقني الله في هذا العمل الجديد، إني أحس الحاجة إلى أن يصل صوتي إلى أبناء وطني. وأنا أعدكِ ألَّا يطغى وقت الجامعة على وقت الصحيفة وألَّا يطغى وقت الصحيفة على وقت الجامعة.»
وتجيب هي بأن المهم ألا يطغى الاثنان على الوقت الذي يقضيه مع أسرته، الوقت الذي تحس فيه أن الجامعة والحياة العامة لم تأخذاه منها ومن ولديه تمامًا ولم تستبدَّا به غاية الاستبداد.