كلمة في اسم الكتاب

في هذه المجموعة مقالاتٌ شَتَّى نَشرتُ أكثرَها في البلاغ أيام الإثنين، التي وقفتها على الكتابة الأدبية بعنوان «في عالم الآداب والفنون»، ونَشرتُ القليل منها في بعض الصحف الأخرى والمجلات، وتَفضَّل الأستاذ صاحب المطبعة العصرية فرأى أن يحفظها في كتابٍ يضمه إلى السِّمْط الأنيق الذي يتولاه بعنايته وتنضيده، فسمَّيتُه «مراجعات في الآداب والفنون»؛ لأنه بَحْثٌ مستطرد في موضوعاتٍ مختلفةٍ في الآداب والفنون وما إليها، ولأن المراجعة هي طريقتي فيما أكتب من هذه المباحث على الإجمال.

فالفكرة التي أكتب فيها ندَرَ أن تكون بنت يومها، وقَلَّ أن تخلو من تاريخٍ سالفٍ تنتقل فيه كما ينتقل الكائن الحي في أدوار حياته، ولكل فكرة أَثبتُّها ميلادها ونشأتها وحوداث سيرتها وحظوظ أيامها، فلا تزال تنمو وتكبر وتترقى في تكوينها وترتيبها حتى تبلغ تمامها وتُوفِي على غايتها، ثم تجيء المناسبة لإثباتها فأُراجع ماضيها وأنظر إليها في هيئتها الأخيرة كأنني أبٌ ينظر إلى وليده الذي يراه الناس فردًا واحدًا، ويراه هو أبناء عدة تقلبت بهم الطفولة والشباب وتَعاوَرهُم النقص والكمال، وتمثَّلوا له في صور متتابعة لكلٍّ منها مكانها في قلبه وخاطره وذكرياتها من ماضيه وحاضره، ولعل النقص منها غير مقصر عن الكمال في موقع المحبة ومكان الإعزاز!

وسواء أكانت المناسبة التي تدعوني إلى الكتابة كلمة استوقفتْني في كتاب، أو رأيًا سمعته من قائل، أو مشاهدة حرَّكتْني إلى البحث؛ فليس شيء من ذلك بفاصل الفكرة عن جذوعها التي نبتت عليها ولا هو مُخرِجها عن الأصل الذي امتزجت فيه أيامها بأيامي، واتصلت سيرة حياتها بسيرة حياتي. فلو أن للخواطر يوم بعثٍ تُرَدُّ فيه إلى مناشئها؛ لخِلْتُ أن ستُبعَث معي في جسدٍ واحدٍ يوم يُنفَخ في الصور الموعود، أو لعادت معي إلى حيث كنَّا في الحياة، ولو كان لها ألف شبهٍ يربطها بآراء المرتئين وكتابات الكاتبين، فإنما أنا قد عشتها وغذوتها فلا أتخيلني قائمًا بغيرها كما لا يستطيع أحدٌ أن يتخيل جسده قائمًا بغير أعضائه، أو يتخيل رأسه ويديه وقدميه وسائر جوارحه راجعة — يوم القيامة — إلى جُثمانٍ غيرِ جثمانه!

ولقد يرى بعض الناقدين أنَّنِي أتأثر بما أقرأ فيما أكتب، وأنَّني أنحو هذا النحو أو ذاك مما أُعجب به من آراء المفكرين وأنماط التفكير، فليس لي أن أقول في هذا الرأي إلا أنَّنِي أعلم غير ذلك من شأني وأنَّني لا أحسب تفكير الإنسان إلا جزءًا من الحياة ونوعًا من الأُبوة، فليس يسرُّني أن تُنمى إليَّ أفكارُ كل مَن أَقلَّتهم هذه الأرض من الأدباء والحكماء والعلماء إذا كانت غريبة عني بعيدة النسب من نفسي، كما ليس يسرُّني أن ينزل لي كل مَن في الأرض عن أبنائهم وبناتهم، ولو كانوا أبناء سادة وذرية ملوك. أقول ذلك لا أجد فيه ادِّعاءً ولا عجبًا، ولكنني أقرر به حقيقةً وأُبيِّن مذهبًا، فمَن شاء أن يعدَّه من الادِّعاء والعجب فله مشيئته، وليس عليَّ أنا أن أنازعه فهمه وتفسيره.

•••

إن المراجعة إذن هي طريقتي في البحث ولا سيما في مقالات هذا الكتاب، أراجع سيرة كل فكرةٍ وأثوب بالنظر إلى مصدر كل مشاهدة، وقد يَحسُن هنا أن أُلمَّ بأسلوب النظر الذي أميل إليه بالفطرة، وأوثره على سواه بعد التجربة، فأقول في إيجاز: إنَّنِي أنظر إلى الدنيا نظرةً فيها من الشمول أكثر مما فيها من التفصيل، وإنَّ الحياة والزمان والعالم من الأوائل التي لا أوَّل لها إلى الأواخر التي لا خاتمة لها، كلها عندي جملةٌ واحدة متماسكة، ليست المظاهر الفردية فيها إلا أجزاء عارضة تنال قيمتها بقدر ما تحتويه من ذلك «الكلِّ» العظيم، وكأن الأشياء والشخوص الفردية في هذه الصفة عملة الورق التي لا قيمة لها بذاتها ولا بالذهب الذي تُمثله، ولكنَّما قيمتها الصحيحة بالجهد الحي الذي تساويه والثروة العينية التي تدل عليها، ومن شأن هذا الأسلوب أن يتخطى بعض الشيء مقاييسَ العُرف وحدودَ الاصطلاح وتفاصيلَ الظواهر، وفي ذلك تأويلُ كثيرٍ من الآراء التي بَسطتُها في هذه المقالات، ومنها تعليق الجمال بالفكرة الباطنة قبل الأجسام والأشكال.

•••

قد يُقال: ولكن أليس في هذا النظر مجافاةً للواقع الذي يُبنَى عليه كل علمٍ صحيح؟ فأقول لا، إنما هذا النظر يوسِّع الواقع ويمتد بحدوده إلى آفاقٍ أبعد من هذه الآفاق التي نحصر فيها قِيَم الأشياء وأقدار الأحياء، ومثال ذلك أننا إذا حكمنا على قدر الرجل بنصيبه في العُرف الدارج — أي بما يسمونه «الواقع» — فقد يُرجَّح المجرمون المداورون على أعظم العظماء وأصلح المصلحين، وقد يكون أفشل الناس قدرًا أولئك المخترعون والدُّعاة الذين يقضون حياتهم في هذه الدنيا ولا يُعتَرف لهم بنصيبٍ من النجاح والجزاء. فالواقع أن «رجال الأعمال» ومَن يُسمُّون أنفسهم برجال الحقائق المحسوسة لا ينظرون إلى «الواقع» المقرر ولكنهم ينظرون إلى جزءٍ منه محصور في حيِّز الحاضر الراهن، إذ إن الإنسان الفرد لم يحسب في خلقته حساب مكانٍ معين أو فترة محدودة بل حساب صلاتٍ كثيرة بالكون كله وأجيال الحياة كافة، وهذا هو الواقع الصحيح، ولو عدَّه أصحاب «الواقع المموَّه» ضربًا من ضروب الخيال وطلسمًا من طلاسم الأوهام.

•••

بهذه المراجعة كتبتُ المراجعات، وعلى هذا النظر اعتمدتُ وأعتمد فيما أرى وأكتب، وعلى هذا العهد أتقدم بهذه المجموعة بين أيدي القراء.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤