عند الصحراء

أخيلة وأشباح

صحراء ألماظة القريبة إلى المدينة لا الصحراء الكبرى التي يستوي فيها الخراب على عرشه الأكبر، ويقيم حوله من الوحشة والخوف أغوال الخيال حُرَّاسًا لم يذللها القيد ولم يروضها اللجام.

وهذه الصحراء «ألماظة» ليست بالصغيرة في مساحتها ولا بالهينة في مراكبها؛ لأنها تبدأ عند تخوم القاهرة وتضرب إلى الشرق في بوادي الشام وجزيرة العرب، ولكنها — لقربها إلى المدن وإحاطة العمار بها في كل موضعٍ — تبدو للوهم كأنها الوحش المكبوح أحدق به نطاق الأسر من كل صوب! أو كأنها صحراء بيتية صناعية أَعَدَّها الناس حول ديارهم؛ لإيحاش أنفسهم من فرط الأُنس بالعَمارِ كما يعدون الشلالات والغياض في ساحات البيوت وأرباض المدن، محاكاةً لشلالات الطبيعة النائية وغياضها المتأشبة في مجاهل الأرض والزمان.

وتارة تعكس هذه الصحراء الصغيرة من روحها على المدينة الجديدة التي نبغت في جوارها نبوغ الجزر البركانية في عرض البحار، فيُخيَّل إليك أنك تنظر حيالها إلى مضارب خيام في العراء نفحتها نافحةٌ من السحر، أو تنزَّلت عليها كلمةٌ من كلمات الله فانتفضت في أماكنها عمائر وقصورًا ومنائر وبروجًا يوشك أن يزول عنها السحر فتنطوي عن النظر وتدع الشاخصين إليها يعركون الجفون دهشةً وذهولًا. فأنت إن شئت من هذه الصحراء في باديةٍ بيتيةٍ، وأنت إن شئت من هذه العمائر في مدينة بدوية، وكلا النظرين يوفق لك من غريب الشعور ما لا يتفق في المدينة ولا في الصحراء!

•••

والصحراء — كَكُلٍّ منظر جليل — تُريك الحياة على وجهين مختلفين أبعد الاختلاف؛ هذا غاية في العظمة والسمو، وذاك غاية في الصغر والمهانة. تنظر إلى النملة الضئيلة فيها وهي تدب على الأرض الموات بين الشقوق والأخاديد فتملأ من نفسك فراغًا شاسع الأطراف عميق الأغوار خفي الشعاب مجهول البداية والنهاية موصولًا بالأبد الذي لا أول له ولا مقياس لقربه وبُعده؛ فراغًا تدركه على حين غرةٍ قائمًا أبدًا كالهاوية المسدودة بين الجماد الميت الذي تراه ثَمَّ حيثما وليت ببصرك، وبين هذه المخلوقة الصغيرة التي تبصر وتسمع وتأمل وتخشى وتحب وتبغض، وتعرف لها وجودًا تؤتمن عليه وتستقل به، وتواجه به الكون قاطبة في فترةٍ عابرةٍ من الزمن، فتقوى عليه بحياتها أكثر مما يقوى هو عليها بأرضه وسمائه ومائه وهوائه وحَرِّه وبرده، وكل حركةٍ من حركاته وناموسٍ من نواميسه، وتقف هذه المخلوقة الصغيرة في جانبٍ وتلك الصحراء المترامية في الجانب الآخر فإذا هي أعظم منها قدرًا، وأهول منها سرًّا وأضخم من كل ما فيها من الآكام والهضاب والزلازل والأعاصير، وتُحدِّق أنت بعينيك هذا البرزخ السحيق الذي لا يُعبر ولا يُحدُّ فتستعيد في ضميرك سياحة الحياة من آزالها المجهولة وأصولها المستورة، وتعلم أنها إن كانت تُقَاس بالعمر بسبعين أو ثمانين أو مائة دورة من دورات الأرض في الفضاء فإنها بالكنه والطبيعة سياحة لا مبدأ ولا ختام ولا أوج لها ولا قرار.

إن الحياة في المدن رخيصة مبتذلة؛ لأنها كثيرة مألوفة يقاس بعض بمقياس بعض، أما في الصحراء فلا مسحة على الحياة من ذلك الابتذال، ولا هي تُقَاس إلا إلى الموات المنتشر في كل مكانٍ الذي بينه وبينها ما لا يحد ولا يُدرَك ولا يُتخيَّل. وما رأيتُ حياة في صحراء إلا تصورت المعجزة الكبرى تُعَاد فجأة على مشهد منِّي في وَمضةٍ من نور النجوى والاطلاع؛ معجزة الحياة تظهر لأول مرة بين أحضان الجمود والعماء، ويا لها من ومضةٍ بارقةٍ تُنيِر الأكوان كلها في طرفة عين بنورٍ نافذٍ كنظرة الله! فهل لمحتها؟ هل تخيلتها؟ هل شعرت بها؟ إن لحظة تقضيها في استحضار تلك المعجزة لتجزينك عاجلًا بسياحة الحياة التي حدثتك عنها كاملة شاملة تفيء إليك جملة واحدة كأنك أُعطيت حياةَ كلِّ حيٍّ ووجودَ كل موجودٍ، وبلغت العمق الذي لا تكون الحياة فيه إلا اﻟ «حياة» مطلقة مجردة لا أنواع فيها ولا أفراد، فلا هي حياة إنسان ولا هي حياة حشرة ولا هي حياة شيخ ذابلة ولا هي حياة طفل نامية، ولكنها هي هي اﻟ «حياة» التي يعب فيها جميع الأحياء في جميع الأحيان على حدٍّ سواء. وإذا ألهمتك الحشرة الدارجة في الصحراء هذا الشعور فقد أكبرتك ورفعتك وأطلعتك على آصرة الرحم التي بينك وبينها، وأَرَتْكَ في كل جسمٍ حيٍّ هيكلًا مقدسًا ينبغي أن يُصان كأنه طراز مفرد لا مثيل له في هذا الوجود.

•••

وتنظر إلى الصحراء من وجهٍ آخر فتهون عليك الدنيا وما فيها، وتصغر عندك الحياة ومَن يحرص عليها؛ ترى أمامك فضاء يحسر عنه الطرف على هذا الكوكب الذي يسكنه الإنسان بين كواكب لا عداد لها في السماء، وتراه قد فقد ذلك الإنسان ولم يشعر له بفقدان أو وجود، ولم يعبأ له بحياةٍ أو ممات، ولم يحفل بمقامٍ أو مغيب، وترى إلى جانب ذلك الفضاء الغامر بقعة ضيقة من الأرض يحشد فيها الإنسان جموعه، وينشد لديها آماله، ويفرق فيها من أوجاله، ويحصر لديها همه في العالم، ويحسب أن هذا العالم الذي لا نهاية له خواء بلقع إن لم يسعد هو بما يصبو إليه في تلك البقعة المكتظة بمَن يزاحمونه عليها ويذودونه عن أنحائها، وما هي؟ بقعة كسائر البقاع لو أُلقيَت في الصحراء لضاعت في جوفها كما تضيع فيه ألوف النجاد والوهاد، وماذا يدع بعده عليها مما يميزها عن تلك النجاد والوهاد؟ لا شيء، أو شيءٌ كَلَا شيءٍ!

•••

والقمر مأنوس المحضر حيثما ظهر، متبوع الخطوة أينما خطر، تبسم لك نضرته على الحدائق والمروج وتروعك طلعته على البحار والأمواج ويستخفك لألاؤه في مجالس الصفو والحبور، ولكنه في بعض لياليه — ولا سيما في المدن — يلوح لك أنه يهبط بالسماء إلى الأرض، ويقترب بها من منازل البشرية الوضيعة، ويقوم لها في عليائه مقام الخادم الحاملِ المصباح لملاهيها، والمضيءِ لها الطريق في غواياتها ودياجيها، ويعرِّي للناس وجهها المُحجب بالظلام المحروس بجنود الكواكب، فتقول هذه السماء وهذه الأرض قريبٌ من قريبٍ تلمسها الأعين وتهم بها الأكف! فلا حجاب هناك من ظلمة الغيهب المتراكب، ولا تلك العيون التي لا عداد لها تهولك بالسر المكنون الذي تفتح عليه جفونها سرمدًا بلا هداية ولا وجهة ولا دلالة.

أما في الصحراء فالقمر أبدًا مهيب السمت موفر الحرمة يغض من الأنظار ولا تغض منه الأنظار، إن أخطأته حلية الجلال لم تخطئه حلية الحزن والألم، وأُبصره على تلك السهوب الهامدة فريدًا شاحبًا مشدوهًا يتنقل في أجواز الفضاء بلا أملٍ ولا مقصدٍ ولا اطمئنان فيشبِّه لي هيئة الحسناء الوالهة جنت من الحزن على حبيبٍ فقيدٍ، فجعها الموت في متعة عطفه وأنسه فلاذت بالقبور تهيم بينها على غير هدًى، وتحملها اللوعة الكاسفة إلي غير قرار، ويجتمع لي ذلك الشبه الكئيب من شحوب القمر وانفراده وطوافه الذي لا يهدأ، واقترانه بسمة الملاحة وخاطر الجنون في آداب الأمم ومن موات الصحراء وسكون المقابر الذي يخيم عليها، فيعوِّض هذا الحزن الشامل عندي ما غاب من هيبة السماء في ليالي الظلام.

إن الصحراء تُريك نفسك في منظار الحقيقة من طرفيه المتقابلين، تريكها كأعظم ما تكون وكأصغر ما تكون، وهي لا تُعرِّفك إلى أحدٍ ولكنها تُعرِّفك إلى نفسك، ولا تُقدِّم إليك صديقًا جديدًا ولكنها تُقدِّمك إلى صديقك الذي بين جنبيك على غير ما تراه كل يوم، وكفى بذلك داعيًا يكتب عليك فريضة الحج إليها كلما استطعت إليه سبيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤