الصيف

هو برء من العشا
وشفاء من الكبر

لكأن نفس المرء تَعْظُم في الصيف حتى تملأ الفضاء، وتختفي في الشتاء اختفاء الأزهار، وكما يُخَيَّل للمرء أن سماء الصيف أسْمَى وأبْعَدُ من سماء الشتاء، كذلك يُخَيَّل له أن سماء نفسه في الصيف أسمى وأبعد شأوًا، ويُخَيَّل له أنه إذا مدَّ يده قَبَسَ الحياةَ من الضياء والنسيم، ويُحِسُّ كأنه ينتشي من حرارة الشمس كما ينتشي الزهر منها، وكأن المرء يعيش أيامًا كثيرة بالصبر والاحتمال حتى تُتَاح له ساعة تَحْسُر له الطبيعة فيها عن جمالها، وإنَّ مَنْ عاش السنين ولم يُرْوَ من محاسنها كان كأنْ لم يَعِشْ.

نرى الأزهار في الصيف ناعسةً كأنما أنامَها طرف الشمس باقتدار لحظاته. إن محاسن الطبيعة تَسْحَر النفس حتى تتضاءل بلاغة الرائي وحتى يَعْرِف من نفسه العي والعجز، فإنها تُبِيح من جمالها ما يُبِيح الوارث المسرف من ماله وما تُبِيح الخليعة من محاسنها، فيُحِسُّ المرء لذةً في رؤية أشعة الشمس نائمة منطرحة على الأرض كلذته في رؤية الحسناء المنطرحة على فراشها، ويشم النسيم كأن النسيم يحمل نفحاتِ أشعة الشمس المُذَهَّبة، وكأن الشمس زهرة تُبِيحه عِطْرَها، وكأنما حفيف الغصون ذكرى الماضي، أو كأنما هو صوت ينادي المرءَ من عالَم آخر، أو هامِس يهْمِس في أعماق نفسه، وكأنما تلك الغصون قلب دائم الخفقان.

في الصيف يُحِسُّ المرء كأنه طائر يهم بالطيران فيتشبث بالأشجار خشية أن يطير.

هل في ضمير ذلك الغدير الذي كان لنا زمنًا ينبوع الحياة ذكرى الأوجه التي تقاربت على وجهه، وتحابت ونظرت فيه لترى خيالاتها يُقَبِّل بعضها بعضًا؟ هل في ضمير ذلك الغدير ذكرى تلك الأوجه والأيام؟ فكم رأينا عنده أشعة الشمس تَنْفُذ من خلال الأشجار كأنها فَرَاش على وجه الغدير، وكانت تضيء كما تضيء الذكرى في ليل النسيان فتجلو وُجُوه السنين الماضية، وكأن تغريدَ العصافير تغريدُ الأمل في النفس!

وفي بعض الأحايين كانت تغرد العصافير وهي مختبئة في الأشجار كأنها أفواه الأشجار الصادحة:

فشدو الطير صوت فَمِ الربيعِ

إن أعظم لذة يقتبسها المرء من الأزهار والغدران والنسيم هي لذة الأحلام، فيحلم بحياة سعيدة كحياة الأزهار، حياة يشم منها نفحة الزهر ويسمع منها تغريد العصافير ويرى منها أشعة الشمس، والأزهار هي عيون الطبيعة يذوب أمامها روح الرائي كما يذيبه سحر عيون الغيد، وإنما يشجونا الصيف لأن أنفاسه مثل أنفاس العاشق. أما الخريف فإنه يبعث إلى التفكير؛ لأن أزهاره تتناثر كما تتناثر لذاتنا البائدة وأيامنا الخالية وأحبابنا الذين طَوَّحَتْ بهم عواصف الأقدار.

في الصيف أحسب الشمس بابًا يلج المرء منه إلى الفردوس، وأحسب الروض ثَغْرَة يُطِلُّ المرء منها على الخلد، وأرى الماء في الغدير فأحسبه ماء الحياة الذي أسمع عنه في قِصَص العجائز، وكأن الخلد في جرعة منه، وكأنما الضوء تِبْر منثور أو غدران صافية الأديم، والضوء شعر الطبيعة، موقِعُه من البصر موقع الألحان من القلب، ويعجبني سطوع الشمس على الوجه الجميل؛ لأنه يُذَكِّرني سطوعَها على الفاكهة والزهر.

في الصيف يُخَيَّل للمرء أن للدهر صوتًا وفمًا، وأن لكل شيء منطقًا وكأنما روحه قد أُلْهِمَتْ لغات الكائنات.

الصيف حُلْم جميل من أحلام الطبيعة، تحسب في الصيف أن صانعًا صَبَغَ الوجود صبغة جديدة، فتلمس الزهر ثم تنظر في يدك لترى أَثَرَ طلاء لونه الجديد، ويُخَيَّل لك في الصيف أن الروح بركة صافية تنطبع فيها صور الحياة كما تنطبع صور الروض في غدرانها، وأن ألوان الصيف كئوس مثل كئوس الرحيق ينتشي المرء منها كما ينتشي من الخمر المعتقة. أما في الشتاء فإن جفاء الطبيعة وَجِيع مثل جفاء الأحباب، والجمال ضياء السعادة وزهرها، فإنه يُنْسِي المرء الشقاء والشرَّ حتى يَحْسَبهما حُلْمًا من أحلام النوم، فيكاد لا يرى للشقاء والشر سبيلًا إلى هذه الطبيعة التي يُبْصِر جمالها كأنما هي منى النفس التي تَنْشُدها.

وإن المرء لينظر إلى محاسن الطبيعة في الصيف كأنه نُقِلَ إلى عالَم مسحور كان يحْلُم بمحاسنه، فالصيف هو شهوات السمع والبصر، بل هو شهوات النفس والحِسِّ تُصْغِي الأذن فيه إلى شَدْو الطيور قبل أن تتغنى، وتتطلع العين إلى الزهر قبل أن تراه، ويَنْشَق الأنف نفحاتِه قبل أن يحملها النسيم إليه، تلك النفحات التي تكاد تَصْبُغ النسيمَ بلون الزهر، وتكاد كل نفحة تكون زهرة تلمسها اليد، وكما أن السماء ترتسم على صفحة البحر، كذلك تُرِيق السماء لوْنَها على الزهر. فإذا كانت السماء مُشْمِسة كان الزهر مِثْلها، وإذا كانت داجية كان داجيًا، وإذا كانت مقمِرَة كان الزهر مقمرًا.

تُفْلِت النفس مِنْ رِقِّ مشاغل الحياة كي تلتذَّ الصيف، فهي كالعصفور الذي يُفْلِت من يد الصبي الذي يُعَذِّبه فلا يُفْلِت من الخيط الذي قَيَّدَه به، فإذا طار وَقَعَ على قُرْبٍ فلا يَلْتَذ أنه طليق، ويخشى في كل طرفة أن يَأْسِرَهُ مُعَذِّبُهُ، فآهٍ لو كانت الحياة فَرْحة وعرسًا أو حُلمًا لذيذًا من أحلام الصيف والسعادة، ولكن مشاغل الحياة لها في عنق النفس قَيْد من خيوطها مثل خيط الطفل في عُنُق الطائر.

ويُخَيَّل لك في الصيف أن عصافيره المغردة خارجة من صدرك، وأنها أشجانك وأماني نفسك، ويُخَيَّل لك أنك ترى في أنغام الطيور شيئًا من السماء والماء والأزهار ونفحاتها، والرياح ونسماتها، والشمس وأشعتها، وكأن سُمُوَّ الطيور مُوقِظٌ في نفسك الرغبةَ في السمو، فتَوَدُّ النفس لو تسمو كالطيور حتى تُسَامِر النجوم التي هي طيور السماء، ثم تتعداها إلى ما وراءها وتظل النفس تسمو إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤