نظر الشاعر إلى الطبيعة

في النعيم والشقاء

إذا كان لك من المقدار سلطانه الذي يصول به لم تَقْدِر أن تمنع الشاعر من أن يُفْرِغ ما يثور به صدره. أتحسب أن الغريد إذا ضمته أسلاك القفص كانت مانعةً إياه الغناءَ العذب، أو أن الشقاء إذا حَنِيَتْ عليه أضالع الأديب أسكته. إن البلبل إذا أَطْلَقَ نغماته وهو آخذ بأطراف النعيم بين الأشجار والأنهار كساها الجلال جلبابه، ونشرت حولها الطلاقةُ هالتها. أما إذا جاد بها وهو في سجنه كانت كأنها لابسةً حِدَادًا، أو كأنها صوت المريض المُوَدِّع عُوَّاده، فتثير عواطف الرحمة والخشوع، ويكون جمالها في هذه الحال مثل جمال السحب التي طَرَّزَتْ أَطْرَافَهَا أشعةُ الشمس الذهبية، فكأنها البرد الأسود المزركش، الذي يجمع بين اللون العابس واللون الضاحك.

قد ضُمِّنَ المتنبي في نفسه من المرارة وسوء الظن بالناس ما يُضْمِرُهُ كُلُّ مَنْ قَصَّرَ عن إدراك آماله وأطماعه، ولكنَّ تلك المرارة لم تكن داعيةً إلى إضعاف لذة التغريد، فإن مَنْ قيَّد البحث بنفوس الشعراء عَلِمَ أن المرارة لا تمحو تلك اللذة، وإنما تُكْسِبُها ألمًا لذيذًا، ولو أننا أردنا أن نَصِفَ جمال شِعْر الأديب البائس لما وَصَفْناه بأبلغ مِنْ قَوْلنا: الجمال الحزين أو البهاء العابس، فإنك إذا رأيتَ حسناء بَلَغَ منها المرض مَبْلَغًا عَرَفْتَ أن ماء الحسن جائل في أنحائها، ولكن الألم يُكْسِبُها رقة ولطفًا غير رِقَّتِها ولُطْفها. كذلك نغمات الشاعر الذي تَمَلَّكَهُ الشقاء.

أليس عجيبًا أن ذلك الشاعر الأبي ذا الأماني الضخمة الذي يقول:

وكل ما قَدْ خَلَقَ
الله وما لم يَخْلُقِ
مُحْتَقَر في هِمَّتِي
كشَعْرِه في مَفْرِقِي

يَعْرف كيف يتوَدَّد ويتحبب إلى الأسد حيث يقول:

أجارُكِ يا أُسْدَ الفراديسِ مُكْرَمُ
فتسْكُنَ نفسي أم مُهَانٌ فمُسْلَمُ
ورائي وقدامي عُداةٌ كثيرة
أُحَاذِرُ مِنْ لِصٍّ ومنكِ ومِنْهُمُ
فهل لَكِ في حِلْفِي على ما أريدُهُ
فإني بأسباب المعيشة أَعْلَمُ
إذَنْ لأَتَاكِ الرِّزْقُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ
وأُثْرِيتِ مما تَغْنَمِينَ وأَغْنَمُ

ألا يجول بخاطرك أيها القارئ أن قائل هذه الأبيات قد استعار براعة السياسي المُدَرَّب والسفير الحكيم رسول الصلح؟

إذا سمع الشاعرُ الحزين غريدًا يُرْسِل النغمات العِذاب التي يَخْفِق لها القلب خُفُوقَ الثوب في مَهَبِّ الريح، زَعَمَ أنه ينوح من أجل شقائه، وإذا رأى الورد يَقْطُر بالندى حسب أنه يبكي عليه، وإذا رأى النهر يتدفق قال: إن خريرَه من أنينه وماءَه من بكائه، وإذا سمع الريح الهوجاء قال: إنها خَلَسَتْ هِيَاجَها وقَلَقَها من هِيَاجه وقَلَقِه، وإذا عانق النسيمُ أوراق الغصن الزاهي حسب أنه استعار حنينه، وإذا رأى السُّحْب تُرْخِي على السماء سِتْرًا قال: إنها مقدودة من همومه وأحزانه. أما القطر فهو من آماقه والظلام حداد الليالي عليه، والنجوم جمرات أشجانه وأشواقه، ثم لا يُبْقِي شيئًا من أعضاء الطبيعة حتى يجعله من خُدَّامه وأتباعه، مثل ذلك قول الشاعر الأندلسي:

عليَّ وإلا ما بكاءُ الغمائمِ
وفيَّ وإلا ما نُوَاح الحمائمِ
وعني تطير الريح صرخة طَالِبٍ
لثأر ويُبْدِي البَرْق صَفْحَة صَارِمِ

يا ابن آدم، أَكْثِر أنانيتك وإعلاءك لشأن نفسك وإعجابك بها، وما أكْثَرَ غرورك وأنت الضئيل الحقير. إن للطبيعة وأجزائها لَشئونًا إذا استعرضْتَهَا لحق الهزال شأنك. تقول إن الطير يبكي على مَصْرَعِك وهو يتغنى بالغزل الرقيق، وتقول إن السحب مقدودة من هُمُومِك، وهي تملأ وَجْهَ السماء لترضع بناتها الأزهار من لبانها، فإذا شِئْتَ رأيت أن أجزاء الطبيعة ملؤها الجلال والحب والحُسْن والرقة، فكيف تَرْضَى لنفسك أن تكون ملؤها الدناءةَ والقساوةَ والطمع، إذا كنت لا تستمد شرف النفس وجلالها من الطبيعة فدَعْ هذه العروس مطمئنةً في خدرها، ولا تُفْسِدْ هواءها بأنفاسك الخبيثة ونظراتك اللئيمة، ولا تُدَنِّس أَرْضَها المقدسة بقدمك التي لا تسعى إلا إلى إرضاء شَرَهِكَ أو بُغْضِك أو دناءة نفسك، فأنت كالحشرات التي ترود في جنباتها.

لقد كان القدماء أَصْدَق منا نظرًا في الأمور؛ لأنهم لم تَتَمَلَّكْهُم الأنانية كما تَمَلَّكَتْنَا، فزعمنا أن الطبيعة ليس لها حياة مثلنا. ألا يرى المرء في كل ورقة من أوراقها من المعاني أشياء كثيرة؟ أليس ذلك لأن لها حياة أَجَلَّ من حياتنا التي ليس فيها من المعاني سوى الإحساس بِعَبَثِهَا؟ وسبب ذلك أن حياتها — بالرغم من تَغَايُر أطوارها — مطمئنة، وأما حياتنا فهي أَسِيرَةُ البغض والحسد واللؤم. انظر إلى الطبيعة ترى الأرض تُعَانِق الضياء، والضياء يغازل الماء، والغصن يَمِيل على الغصن، والموجة تتسرب في خلال الموجة. فهما أَوْلَى ببيت إسماعيل باشا صبري:

كأن صديقًا في خِلَال صَدِيقِهِ
تَسَرَّبَ أثناء العناق وغَابَا

ثم انظر إلى الناس تَرَ كلَّ فرد يرمي الآخر بعين من تلك العيون التي يقول فيها أبو تمام:

يرمونني بعيون حَشْوُها شَزَرٌ
نواطقٌ عن قلوبٍ حَشْوُها مَرَضُ

أو التي يقول فيها البحتري:

وفي عَيْنَيْكِ ترجمةٌ أراها
تدل على الضغائن والحُقودِ

لقد صدق البحتري، فإن العين لا تَخْفَى معانيها، فهي تارةً حَشْوُها أَمَلٌ وتارةً يَأْسٌ، وتارة حَشْوُها حب، وتارة حَشْوها بُغْض، وغير ذلك من المعاني.

قلنا: إن القدماء كانوا أحسن مِنَّا نظرًا في الأمور؛ لأنهم كانوا إذا نظروا إلى الطبيعة نظروا إلى حَيٍّ جليل ملؤه المعاني البليغة، ومِنْ أَجْل ذلك كانت تَبْعَث في نفوسهم الإجلال والخشوع، أو الصبابة والاستعبار والحب، وكل هذه معانٍ من معاني العبادة. فما أَخْلَقَهُمْ بِعِرْفَان ما نَجْهَلُه من أسرار العقيدة الصحيحة!

وقد اختلف الشعراء في نظرهم إلى الطبيعة، فكان الشاعر شلي يرى أنها وعاء للحب والعواطف الرقيقة.

أما وردز وارث فقد كان ينظر منها إلى تَغَيُّر حالاتها واختلاف أنواعها، حاسبًا أن ذلك صادر عن حُسْن تفكير. أما هومير الشاعر اليوناني فقد كان يرى في جلالها ما هو جدير بالتقديس والعبادة.

وكان وُلتر سكوت يرى في حياتها استقلالًا عن حياتنا، وإنك لتَجِدُه في شِعْره يُلْحِقها بغيرها من الأشياء ذات الحياة، وقد سلك البارودي في هذا الباب مسلكًا حسنًا حيث قال:

وإن مَرَرْتَ على الرَّوْحَاء فَامْرِ لها
أخلافَ ساريةٍ هَتَّانَةِ الدِّيمِ
مِن الغزار اللواتي في حَوَالِبِها
رِيِّ النواهِلِ مِنْ زَرْع ومِنْ نَعَمِ

ألا ترى أنه جَمَعَ بين الزرع والنَّعَم جاعلًا شُرْبَ الحيوان مثل شُرْب النبات، وفي ذلك مِنْ شرف الخيال ما يستعصي على أولئك الشعراء الذين يتضاءلون أمام العظماء تضاؤل أعقابِ لَفَائِفِ التبغ في عين الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤