التفكير الناجع

كي نصل إلى التفكير الناجع في تصرفنا يجب أن نتجنب:
  • (١)

    تفكير العاطفة، وقد سبق أن قلنا: إن تسعين في المائة — بل أكثر — من أخطاء التفكير تعود إلى سيطرة العاطفة، ونحن — لأننا نرغب في إشباع هذه العاطفة — نسوغ هذا التفكير بضروب من المكر والاحتيال، حتى نقتنع بأننا وجدانيون ولسنا عاطفيين، كما يَحْدُث كثيرًا عندما نؤجل عملًا يتطلب السرعة في الإنجاز، ولكن نسوغ هذا التأجيل بألوان مختلفة من المنطق، أو كما يحدث للشريب عندما يعزم على الكف عن الخمر ثم يؤجل هذا العزم بقوله: «هذا اليوم فقط» وتجديده في الغد.

  • (٢)

    كذلك يجب أن نفطن إلى ميول وأهواء قد أحدثتها الكامنة (العقل الكامن)، وهي جميعها مقنعة بالوجدان، تبدو كأنها منطقية ليس فيها ما يشوبها، كما يحدث عندما نكره أو نحب لأسباب يشق علينا توضيحها، ولكنها تعود إلى ما انغرس في نفوسنا أيام الطفولة، كالخوف من العفاريت يحملنا على الاعتقاد بأن الأرواح حقيقة واقعة، حتى لنستطيع أن نخاطبها. أو — لأننا نحب أمهاتنا أيام الرضاع وبعده — ننشأ ونحن لا نستجمل سوى تلك الفتاة التي تشبه أُمَّنَا في الوجه أو القوام أو الصوت، ويؤدي هذا إلى أن نتجاهل جميع عيوبها، وكثير من التعصب الطائفي يعود إلى مَكَارِهَ غُرِسَتْ فينا أيام طفولتنا، أو حدثت فيها حوادث كظم فيها غيظنا أو خوفنا ثم اصطنع تعصبًا أفسد وجداننا وتفكيرنا الموضوعي.

  • (٣)

    كذلك يجب، حين أعالج موضوعًا أو أعامل شخصًا، أن أنظر هل أنا معتمد على العقيدة (عاطفة) أم على المعرفة، وكثير من الناس يَفْسُد تفكيرهم؛ لأنهم يعتمدون على عقائد ليس لها أقل أصل من الحقائق، ويسوء تصرفهم لهذا السبب، وكثير من الأمهات في مصر يقضون على أطفالهم بالمرض أو الموت؛ لأنهم يختارون الدواء عن عقيدة وليس عن معرفة.

  • (٤)

    كذلك يجب ألا ننسى أن اتجاه الانطوائي يختلف عن اتجاه الانبساطي؛ فإذا كان أَحَدُنا انطوائيًّا وتزوج فتاة انبساطية فإن الأغلب أنه سيختلف معها كثيرًا؛ لأنها اجتماعية وهو انفرادي، وقِسْ على هذا اختلافه حتى مع أصدقائه وأولاده، وإذا تجاهلنا هذه الميول بين المزاجين فإننا نتورط في مغاضبات يسوء بها تصرُّفنا وقد تؤدي إلى شقائنا.

  • (٥)

    وكثير من كلمات اللغة تُحْدِث لنا التباسًا في التفكير واتجاهًا سيئًا أيضًا؛ فإن هناك كلمات ذاتية؛ أي: عاطفية تحملنا على التفكير العاطفي، وهناك كلمات كاذبة كقولنا: «سن اليأس»، للمرأة التي تبلغ سن الحكمة، وإيناع الشخصية حوالي ٤٨ أو ٥٠؛ فإن هذا التعبير السيئ يملأ نفسها تشاؤمًا ويهيئها لأمراض أو تصرفات خطيرة، أو انظر إلى عبارة «الحكم العرفي» فإنها وَصْف حَسَن للحكم السيئ؛ إذ هو ليس عرفيًّا؛ لأن المعجم يقول: «العرف: هو ما استقر في النفوس من جهة شهادات العقول وتَلَقَّتْه الطباع السليمة بالقبول» فأين هذا التعريف من حِرْمَاننا حقوقنا الدستورية مثلًا مدة ١٥ سنة فيما بين ١٩١٤ و١٩٤٥؟

    وكلمات اللغة تسيء إلى تفكيرنا الوجداني كثيرًا كما يرى القارئ في كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»، بل كثير من الأمراض النفسية وكثير من الجرائم يُعْزى إلى اللغة السيئة التي تحفل بكثير من الكلمات العاطفية.

  • (٦)

    وهناك بالطبع التفكير النيوروزي، وهو تسلط العاطفة تسلُّطًا قهريًّا على النفس، وفي بعض الأحيان يَقَعُ فيه فيلغي وجداننا بعض الوقت أو كله.

والآن وقد عرفنا ماذا يجب أن نتجنب؛ أي: ما هي الوسائل السلبية للتفكير الحسن يجب أن ننظر فيما يجب أن نأخذ به؛ أي: ما هي الوسائل الإيجابية للتفكير الحسن.

  • (١)

    وأول ذلك أن نعتمد على الروية؛ أي إن نعطي الوجدان الفرصة كي يتغلب على العاطفة، وكل من عانى التفكير يعرف أنه يحتاج إلى الحصانة كي ينضح ويخصب، كأن الذهن حين يمتد به الوقت يأخذ في التذكر والتخيل والمراجعة والمقارنة حتى ينتهي إلى الصورة المثلى، وعندي أن الحصانة هي الاستسلام للكسل والاسترخاء واللعب مدة قد تكون أسبوعًا أو شهرًا.

  • (٢)

    العاطفة المحزنة تبطئ التفكير كما تبطئ حركة الجسم، كما نرى حول الجنازة حين يصمت الحاضرون ويجمدون، ولكنهم في العرس يتحدثون ويزأطون، والحزن يجمد الذهن، والعواطف السارة محركة؛ ومن هنا كان كثير من المؤلفين يعمدون إلى الشراب القليل كي يغمرهم سرور خفيف يحرك أذهانهم، ولكن لهذه الوسائل الصناعية أضرارًا أكيدة في النهاية، وقصارى ما نحتاج إليه أن نتجنب ما يثير حزننا أو اغتمامنا وقت التفكير.

  • (٣)
    نستطيع أن نقسم الناس من حيث التفكير والتصرف إلى عاطفيين ووجدانيين، ولكن هذا التقسيم غير معين بحدود؛ إذ ليس هناك إنسان عاطفي مائة في المائة إلا إذا كان في المارستان، وليس هناك إنسان وجداني مائة في المائة، وكذلك نستطيع أن نقسم الناس من حيث مرجعهم في التفكير ثلاثة أقسام:
    • (أ)

      أولئك الذين يرجعون فيه إلى العقيدة كما كان الشأن في الأمم القديمة وكما هو الشأن في العامة من الشعب في عصرنا، والمتوحشون والمتأخرون في الحضارة على وجه إجمالي.

    • (ب)

      أولئك الذين يعتمدون فيه على المعرفة وهم خاصة الأمم والعلميون، مهما يكن العلم الذي يمارسونه.

    • (جـ)

      أولئك الذين يعتمدون فيه على الحكمة، وهي فوق المعرفة، فقد يعرف أحدنا أشياء كثيرة ولكنه ينحيها ويبعدها في تصرفه ولا يعتمد عليها، ويقنع بالحكمة التي يتطلبها الظرف القائم.

    وأفضل أنواع التفكير — ونعني هنا التفكير للتصرف — هو تفكير الحكمة.

  • (٤)

    هناك عادات تفكيرية نتعودها، كالصمت في المشكلة، وهو يؤدي إلى إخماد العاطفة وإيجاد المجال للوجدان فالروية، وكالمصالحة والمحاولة بدلًا من التحدي والخصومة، وكالتأليف والبناء بدلًا من النقد والهدم، وهذا هو تفكير التصرف الحسن في الحياة، وهنا نذكر غاندي الذي يصوم عن الكلام يومًا في الأسبوع.

  • (٥)

    مع كل ما قلنا عن ضرر التفكير العاطفي الذاتي يجب ألا ننسى أن خمود العواطف — كما يحدث في الشيخوخة — يؤدي إلى خمود الذهن.

    واليقظة الفكرية في الشبان تعود إلى يقظة العواطف، ولعل لهذه الحال سببًا فسيولوجيًّا يتعلق بالغدد الصماء، ونحن نرى أن الخواطر تتوارد بسرعة وقت التهيج أو التعجل أو الغضب بشرط ألا تغمر الشخصية بقوتها فتحول دون التفكير، كما قد يؤدي فنجان القهوة أو الشاي إلى تثبيت العواطف.

  • (٦)

    يحتاج التفكير الحسن إلى استخدام الكامنة (العقل الكامن) بالاسترخاء والحضانة حتى تُسْتَثَار العواطف الكامنة فتنتفع بما فيها من اختبارات، وأيضًا بما فيها من توترات وكظوم تفتق التفكير وتكسبنا البصيرة والوصول إلى نتائج قد لا تتفق مع المنطق القائم، ولكنها صحيحة في ضوء اختباراتنا؛ ولذلك كثيرًا ما يؤدي المرض والتزام السرير شهرًا إلى تفكير جديد يقارب الاختراع وتغيير الشخصية.

  • (٧)

    نجد أحيانًا جمودًا في التفكير ووقفة لا نتحرك منها، وفي أكثر الأحيان يرجع ذلك إلى عقدة ذهنية خفيفة غابت عنا، ولكنها اندست واستكنت. والتهيج الخفيف يعيد إلى الذهن حركته، كأن نمشي بسرعة؛ فإن حركة المشي تُحْدِث حركة في الذهن فتتوارد الأفكار، ويتفكك الجمود.

  • (٨)

    الإرادة تُحْدث الخيال وتنظمه، كما أن الرغبة في الطعام تُحْدث خيالات الأطعمة سواء في اليقظة أم في النوم، وإذا تركنا الذهن حُرًّا صارت الخيالات عابثة لا قيمة لها؛ ولذلك يجب أن نُسَيِّرها ونوجِّهَها بالإرادة.

  • (٩)

    الطمأنينة التامة والعواطف المشبعة التي لا تجوع أبدًا، كلتاهما تُحْدث ركودًا في التفكير، كأن النفس تقول: «لماذا التفكير؟ كل شيء على خيرِ ما أحب، وليس هناك ما يدعو إلى الجهد.» ولذلك نجد أن الصعوبات والتوترات تثير التفكير، والاختراع الذي يَكْثُر مدة الحروب يَرْجع إلى القلق الذي تُحْدثه، وقد عُزِيَ الجمود الأدبي في عصر الملكة فيكتوريا في إنجلترا إلى النجاح المالي المستمر؛ لأن الطمأنينة المالية التامة حالت دون التفكير، وهذا حق، ونحن في حاجة دائمة إلى قليل من القلق نتذبذب به ونصحو ونتنبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤