المرض والصحة درجتان

المرض والصحة في النفس درجتان وليسا نوعين مختلفين، فنحن الذين نعيش أحرارًا نجول في الشوارع بلا مانع ونكسب عيشنا، لا نختلف عن المرضى المحجوزين في المارستانات إلا في الدرجة فقط؛ أي إن هؤلاء المرضى قد اتجهوا الوجهة التي نتجهها نحن كل يوم، بل كل ساعة، ولكنهم أسرفوا وبالَغُوا.

نحن الأصحاء نضبط عواطفنا بالوجدان، وكلمة «نضبط» هي كلمة تقريبية غير مطلقة؛ إذ مَنْ هو منا ذلك الذي يستطيع أن يقول: إنه يملك عواطفه ويضبطها؟ أما المريض فلا يملكها بتاتًا، بل ينساق فيها.

أنا العاقل عندما تتملكني عاطفة الغضب أهبُّ إلى من أغضبني وقد أضربه بيدي أو أقول: يا ابن الكلب، يا حمار، أو قد أكتم هذا الغضب فأجد أن يدي ترتعش، أو أن العرق يسيل من وجهي، وهذا السلوك يدل على مَرَضٍ نفسي، ولكنه وقتي سرعان ما يزول.

أما المريض فإذا تَمَلَّكَتْه عاطفة الغضب عَمَدَ إلى خصمه فخنقه وقتله، أو هو يضبط العاطفة بجهد كبير، فلا بد من أن ترتعش يده كما ارتعشت يدي، يجد شللًا في ذراعه، وهذا الشلل نفسي نسميه هستيريا، ولكن ارتعاش يدي كان من مبادئ هذه الهستيريا، وكذلك هذياني بأن خصمي ابن كلب أو حمار هو شذوذ وقتي لو طال؛ أي: لو احتقَنْتُ عاطفة الغضب، لصار مرضًا.

وامتيازي على هذا المريض درجي، فكلانا قد غضب، ولكني أنا السليم قد استيقظت قليلًا من وجداني وقنعت بقولي: يا ابن الكلب، أو كظمت غيظي، فأدى هذا الكظم إلى ارتعاشي أو ارتشاح عرقي، أما هو فقد استسلم لعاطفته وقتل الخصم، أو هو قد كظم غيظه أيضًا، ولكن؛ لأن عاطفة الغيظ عنده كانت فادحة، فقد أحدثت له في جسمه شللًا.

نحن نَمْرض لأن في النفس عاطفة مختنقة لا نعرف كيف نتخلص منها ولا نملك هذا التخلص، واحتقان العاطفة يشبه احتقان الكبد على التقريب، فهي غيظة مكظوم، أو حزن يائس أو غدة مضطرمة، أو خوف متردد، أو نحو ذلك من العواطف الطاغية التي لا تبرح النفس، ولو كان للمريض وجدان يسود تصرفه وكان قد تدرب على التعقل والمنطق والنظر الموضوعي لاستطاع أن يتغلب على هذه العواطف، ولكن حتى مع الوجدان السليم تطغى أحيانًا بعض العواطف علينا ويعجز وجداننا عن التصرف بها؛ ولذلك نجد أحيانًا فيلسوفًا قد انتهت حياته بالجنون أو الانتحار، وقد يعزى هذا إلى أنه يعرف من فساد الوسط الذي يعيش فيه أكثر مما يعرفه غيره، كما أنه يعرف من وسائل العلاج ما لا يعرفه غيره، فلا يطيق هذه الحال: فسادًا عامًّا وعلاجًا ميسورًا بلا محاولة للإصلاح؛ ولذلك ينهار وجدانه.

وسنرى أن انهيار الوجدان هنا هو إحدى الوسائل إلى راحته النفسية، ذلك أن هذا الوجدان قد أقلقه وأتعبه كثيرًا؛ لأنه عَرَفَ أن تفكيره ومجهوده عقيمان، فهو يلجأ إلى أحد الأحلام تخترعها نفسه كي يرتاح، كما رأينا في تلك الزوجة التي لم تُطِقْ تقريع زوجها لها بأنها هزيلة لا تسمن، فعمدت إلى أسطورة ارتاحت إليها، وهي أنها امرأة طاهرة وزوجها رجل نجس، وأنه لا يجوز له أن يقربها.

وقد كان أفلاطون يقول: إن ما يحلم به العقلاء في النوم يعمله المجانين في اليقظة، فحياتنا وَقْتَ النوم هي حياة العواطف العارية، وهي تقارب هذه الحال في خواطر اليقظة؛ فإذا غاظني أحد وأهانني فإنني أتخيله في خواطر اليقظة مهانًا مضروبًا، وقد أقتله في الحلم، وأجد في هاتين الحالين تعويضًا يريح النفس ويُرَفِّه عنها مما لاقته في الواقع، ولكن سرعان ما أعود إلى وجداني وأترك هذه الخيالات.

ولكن المجنون يستسلم كل وقته، أيامه ولياليه، لهذه الخواطر وهذه الأحلام حتى ينسى الواقع ويلغي وجدانه؛ فالفرق بيني وبينه هو فرق في الدرجة.

وأنا في النوم أحلم بالكابوس كنتيجة للمخاوف المترددة في ساعات اليقظة وظروف المعيشة، وقد أصرخ وأنا نائم، ولكن عاطفة الخوف التي أحدثت عندي هذا الكابوس تحتقن وتقدح عند المجنون فتحدث كابوسًا دائمًا يزعجه بألوان مختلفة من المخاوف لا يستيقظ منها إلى الوجدان.

ونستطيع أن نذكر الأمراض النفسية كي نرى بذورها في أنفسنا، فكلنا نسمع كلمات نيوروز، سيكوز، هستيريا، شيزوفرينيا، مانيا، بارانويا.

وكل مريض بأحد هذه الأمراض يستحق الحجز أو العلاج.

ولكن نحن العقلاء، ليس فينا واحد، يخلو منها، أو بالأحرى من بذرتها كما نرى فيما يلي:
  • (١)

    النيوروز هو احتدادُ أو توتُّر العاطفة وملازمتها، كأن يتسلط علينا الخوف من الإفلاس أو الموت أو المرض، أو يتسلط على الزوجة الغيرة، أو يتسلط علينا هَمٌّ لا يبارحنا، فهنا نيوروز يجعل حياتنا عظيمة وهو يبدد قُوَّتنا النفسية ولا يخف بخواطر اليقظة أو الحلم، كما أننا لا نستطيع تسليط الوجدان على العاطفة هنا؛ لأنها طاغية فتعجز عن معالجة الموضوع بالمنطق والتعقل والنظر الموضوعي؛ لأن تسلط العاطفة يجعلنا ننظر النظر الذاتي، والنيوروز يتسم بأنه قسري.

    ونحن العقلاء نجد ألوانًا من هذا النيوروز المخفف في عواطف تتملكنا التَّمَلُّك القسري في وقت ما، حين نستسلم لخواطر الغضب أو الخوف، والهم إذا طغى صار نيوروزًا، وإذا خف لم يَعُدْ شيئًا يُؤْبَهُ به؛ لأن كلا منا إلى حد ما يجده.

    وقد يقدح النيوروز؛ أي: تتفاقم العاطفة وتثقل، وعندئذٍ نخترع؛ أي: نتخيل علاجًا زائفًا هو السيكوز.

    فأنا السليم الذي مَنَعَ عني الطبيب الطعامَ أَضِيقُ بعاطفة الجوع، وأخفف عن هذا الضيق بأن أتخيل — في خواطر اليقظة والأحلام — أني آكل وأشبع على مائدة حافلة بالألوان، وإذا استيقظت لم أُصَدِّق أني أَكَلْتُ.

    ولكن المريض الذي يضيق بعاطفة الغيظ المكظوم يخترع ويتخيل أنه قد قَتَلَ خصمه واستولى على ممتلكاته، وتَثْبُت عنده هذه الدعوى فلا يرجع عنها في يقظته، وهو هنا قد انتقل من النيوروز — مرض العاطفة — إلى السيكوز — مرض العقل — وارتاح إلى هذا المرض الجديد؛ لأنه أنقذه من توتر العاطفة.

  • (٢)

    السيكوز هو مرض العقل؛ أي إن المريض يؤمن بأنه مَلِكٌ أو ثري أو وزير، أو تعتقد المريضة أنها أم كلثوم أو جريتا جاربو، ونحن في أحلامنا نعيش في سيكوز نحلم بأننا نطير، أو بأننا في حضن امرأة جميلة، أو أننا قد سافرنا إلى الصين، ولكن إذا استيقظنا رجعنا إلى حقائق الواقع، أما المريض فلا يرجع إلى الواقع، وفي خواطر اليقظة أحيانًا نستسلم لمثل هذه الخيالات اللذيذة ونرتاح إليها بعض الوقت، ولكن المجنون يلصق بها كل الوقت؛ فالفرق بيننا وبينه درجي، نحن نترك العاطفةَ تطغى بعض الوقت (= نيوروز) أو نخترع ونتخيل حالات وصورًا ذهنية نرتاح إليها (= سيكوز) فإذا عُدْنَا إلى وجداننا زال كل هذا، أما المجنون فتطغى عليه العاطفة (= نيوروز) أو هو يسكن إلى الخيالات والصور التي اخترعها كي يرتاح إليها من غليل العاطفة المتأجج ولا يعود إلى وجدانه (= سيكوز).

  • (٣)

    الهستيريا هي مرض جسمي له أصل نفسي، وأوله عندنا نحن العقلاء عاطفة مكظومة تتسلل إلى الخروج بشتى الطرق، كالعرق يصيبني وقت الخجل، أو جفاف الريق والحلق إذا وقفت على المنبر للخطابة، أو ارتعاش اليد للخوف، وقد يفدح قليلًا كالإسهال من الهم، ولكنه في المريض يتفاقم أكثر، كأن يُحِسَّ المريض فالجًا يمنعه من مبارحة السرير، أو هو يعمى، أو يُحِسُّ صممًا.

    تأمل رجلًا يعيش مع زوجة من الأبالسة في الشر والعنت والإيذاء، يكره الدنيا لأنه كرهها، ولكنه بدلًا من أن ينتحر كما يفعل غيره في مثل هذه الظروف يجد نفسه أعمى، والعمى هنا في التفسير النفسي مرادف للانتحار؛ إذ هو يُعَبِّر عن كراهته لها وللدنيا من أجلها، وهو علاج مثل علاج السيكوز في اختراعِ وتخيُّلِ حالة حسنة تُفَرِّج عن الغيظ أو الحزن أو الهوان المكظوم.

  • (٤)

    الشيزوفرينيا هي مَرَضٌ يَحْمِل المريض على تجنب الناس، وهو يعتزل ويستسلم لخواطره شهورًا بل سنين، فينقطع ما بينه وبين العالم انقطاعًا تامًّا، ويستسلم لخواطره وعواطفه، حتى يخترع لنفسه عالمًا كاملًا يسكن إليه، وكُلُّنَا إلى حد ما نجد مثل الشيزوفرينيا حين نأوي إلى غرفتنا وننفرد ونكره لقاء الناس، ونستسلم لخواطر لذيذة تعوقنا من الشقاء الذي نُحِسُّه في الحياة الاجتماعية، ولكنا نحن الأصحاء نقنع من هذه العزلة بوقت قصير، أما المريض فيلتزمها طوال حياته، والانطوائيون كثيرًا ما يقعون في الشيزوفرينيا؛ لأنها تتفق ومزاجهم الانفرادي الانعزالي.

  • (٥)

    المانيا هي الحزن الفادح أو الطرب العظيم، وهي في المريض تلازمه طوال الحياة أو معظمها، وقد يطرب شهرًا ثم يحزن سنة، وقد يضحك ويبكي في يوم، وتتناوبه نوبات من السرور والغم، ومن منا ينكر أن هذه النوبات تنتابه أيضًا؟ ولكن في درجات خفيفة لا يُحسُّ أنه يحتاج فيها إلى علاج.

    والانبساطيون كثيرًا ما يقعون في المانيا؛ لأنها تتفق ومزاجهم الاجتماعي؛ إذ هم يفرحون كثيرًا ويغتمون كثيرًا، ويجب ألا ننسى أن الفرح والغم قطبان لعاطفة واحدة، وعندما نلاحظ الضحك في أحد نَجِدُ أنه لا يختلف من البكاء في حركة الأعضاء، وكثيرًا ما يختلط علينا الصوت هل هو بكاء أم ضحك، ولا ننسى قولهم: «من فرط ما قد سرني أبكاني» لأن الدموع تنهمر في الحزن والسرور معًا.

  • (٦)

    البارنويا هي اعتقاد راسخ في شيء ما، مثل أن الأرض مسطحة أو أن هتلر حي، أو أن الأرواح تتحدث إلينا من تحت المائدة، أو أن اللصوص يكمنون لقتلي إذا تأخرت في المساء، أو أنه يمكن الوصول إلى القمر على الأشعة، أو أن ألمانيا يَحِقُّ لها أن تسود الدنيا.

والعادة أننا نَعُدُّ المخترعَ بارانوئيًّا إذا خاب في اختراعه، ونعُدُّهُ عبقريًّا إذا نَجَحَ، فلو أن هتلر نجح في التسلط على العالم، أو لو أنه كان قد سبق الولايات المتحدة في اختراع القنبلة الذرية وتغلب عليها؛ لصار اسمه مُخَلَّدًا في التاريخ باعتباره العبقري الأول.

ولكنا نعده الآن مجنونًا؛ لأنه كان فريسةَ اعتقاد راسخ بشأن تسلط ألمانيا على العالم.

وهذا المثل وَحْدَه يدلُّنا على أن الفرق بين الصحة والمرض في النفس هو فرق درجي أو اعتباري لا أكثر؛ لأن كليهما؛ أي: المخترع والبارانوئي، يجمع نشاطه في بؤر مفردة، الأول يحقق غايته والثاني يخيب فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤