النظر السيكلوجي للإجرام

النيوروز هو كظم لا ينفرج يضيق به الإنسان كالغيرة أو الخوف أو القلق أو الشك؛ أي إنه جنون العاطفة.

والسيكوز هو تفريج مخطئ زائف للكظم السابق الذي تفاقم حتى صار نيوروزًا لا يستطاع تحمله، ذلك أن السيكوزي يخترع أسطورة يسكن إليها، أو خيالات يرتاح إليها، فتذهب عنه الكظوم التي لم يكن يَطِيقها، كالأم التي تركها ابنها، فهي بين الشكوك التي لا تطاق، هل هو عائد أم لا؟ وحي أم ميت؟ فعاطفتها في عذاب وتمزيق لا يطاقان، وهذا هو النيوروز، وفي ذات صباح تجد أنها قد استيقظت وهي مرتاحة ساكنة إلى خيالات جديدة وأساطير لذيذة؛ بأن ابنها قد عاد وقابلها يوم أمس وتحدث إليها، وأنه سيحضر هذا المساء، وعندئذٍ يعد السيكوز جنون العقل الذي حَلَّ محل النيوروز؛ أي: توتر العاطفة وجنونها.

والإجرام يُعَدُّ — من الناحية السيكلوجية — تفريجًا لكظم سابق؛ أي إن المجرم نيوروزي ضائق مثلًا بفقره، أو — بالأحرى — بعوزه، يجد أن حاجاته أكثر من مقتنياته، فهو كاظم قد احتقنت في نفسه أحقاد أو توترات مختلفة تطالبه بالتفريج، وغَيْر المجرم يلجأ إلى الخمر مثلًا فيفْتَرج، وغيره يلجأ إلى أحلام اليقظة فيفترج أيضًا، ولكنه هو يلجأ إلى الجريمة، ومن هنا خطره على المجتمع، والإجرام — بهذا الاعتبار — يُعَدُّ سيكوزًا أو نيوروزًا، ويجب لذلك أن يَجِدَ المُعالَجة السيكلوجية، ولكنا ما زلنا نُعَالِج المجرمين بقانون العقوبات، وهو قانون عاطفي وليس وجدانيًّا؛ لأننا — حين ننفذه — ننتقم ولا نتعقل.

والمُشَاهَد أن الذكاء في المجرمين أَقَلَّ قليلًا من المتوسط العام؛ أي: أقل من مائة، ولكن الإجرام لا يعود إلى نقص الذكاء؛ لأن هناك آلافًا من الأفراد دون المائة؛ أي: دون المتوسط، ومع ذلك يعيشون العيشة السوية في المجتمع، ولكن سبب الجريمة هو الكظم الذي لا يجد منفرجًا إلا بهذا الانفجار الإجرامي، وقد سَبَقَ أن قلنا: إن المجتمع الحسن هو ذلك الذي تَقِلُّ فيه الكظوم، ولا تتفاقم حتى لا تؤدي إلى الجنون أو إلى الإجرام؛ ومن هنا نفهم أنه حيث يكون الحرمان المالي أو الاقتصادي أو الجنسي أو الترفيهي نجد الإجرام، وعلى قدر هذا الحرمان يكون الإجرام.

وقد سبق أن قلنا: إن ضمير الإنسان في مجتمعنا مؤلف من ثلاث ذوات:
  • (١)

    الذات البيولوجية الغريزية التي نشتهي بها الطعام والأنثى والسيطرة، إلخ.

  • (٢)

    الذات الاجتماعية المؤلفة من التقاليد والعادات الاجتماعية.

  • (٣)

    الذات العليا التي تنتقد وتتبصر وتتألف من الدين والأخلاق والمثليات.

وواضح أن الذات الأولى هي أرسخ وأَلَحُّ الذوات في ضميرنا؛ لأنها هي الذات الفطرية الأولى؛ أي: الذات الحيوانية الكامنة، وهي لا تكاد تقبل تعليمًا أو تعديلًا؛ ولذلك يؤدي حرماننا من الطعام أو الأنثى أو السيطرة إلى الإجرام، وكلمة السيطرة هنا تعني أشياء كثيرة، كالحصول على المال والمقام والوجاهة، والشعور بالرغبة في الانتقام عندما نجد الإهانة أو الحط من مكانتنا، إلخ، وعندما نكون تحت سلطان الخمر أو أي مخدر آخر تسفر الذات البيولوجية وتخمد الذات الاجتماعية والذات العليا، وكلنا يعرف مثلًا أن المجرم يلجأ أحيانًا إلى الخمر كي يُخْمِد أو يميت هاتين الذاتين الأخيرتين، وهو ينجح في ذلك، فيعود عقب الشراب وليس به سوى الذات البيولوجية فيسلك سلوك الحيوان.

وكي نتقي الجريمة يجب أن:
  • (١)

    نعمل على توفير الحاجات للذات البيولوجية، بإيجاد نظام التكفل الاجتماعي، فلا يجوع أحد لأنه متعطل، بل ينظم المجتمع بحيث لا يكون به تعطُّل بتاتًا، وإذا وجد — وهذا نفسه مرض — فإنه يحب أن يؤدى تعويضٌ للمتعطل على تعطله حتى يجد العمل، وكذلك ينظم الزواج بحيث يكون مستطاعًا حوالي العشرين من العمر، وليس هذا شاقًا إذا عَمَّمْنا تعليم الفتاة حتى تَعْمَل إلى جانب زوجها عملًا كاسبًا، وإذا عممنا وسائل مَنْع الحمل حتى لا يرهق الزوجان في سن مبكرة بكثرة الأولاد، وليس في العالم أمة متمدنة تهمل في أيامنا التكفل الاجتماعي، فإن الدولة تُعنى بالصحة والتعليم وتغذية التلميذ في المدرسة، وهي تُئْوي المريض في المستشفى وتؤدي تعويضًا عن التعطل وتمنح الحامل أُجْرَة كاملة في الأسابيع الأخيرة للحمل وعَقِب الوضع، كما أنها تمنح المسنين معاشًا إلخ.

    وهذا التكفل الاجتماعي يشبع الذات البيولوجية ويبعث الطمأنينة والرضى فتقل الجرائم، وإلى الآن لا تعرف مصر هذا التكفل، ومن ينصح به يُنْبَز بالشيوعية من المستغرضين أو من البله والمغفلين.

  • (٢)

    يجب أن يقل التفاوت الاجتماعي (الاقتصادي) بين السكان حتى يقل الكظم، فلا يعيش إنسان بثلاثة قروش في اليوم ويعيش آخر بثمانمائة جنيه في اليوم، كما هي الحال في مصر، وإني أَذْكُر هنا أجور الكناسين الموظفين في المجالس البلدية في بعض مدن أوروبا إلى جنب أجور الوزراء، فهي في السنة (من إحصاء ١٩٣٠):

    في لندن الكناس ١٤٥ جنيهًا والوزير ٥٠٠٠ جنيه
    في برن (بسويسرا) الكناس ٢٢٣ جنيهًا والوزير ١٦٠٠ جنيه
    في كوبنهاجن (دنمركا) [الكناس] ١٥٠ جنيهًا والوزير ٩٠٠ جنيه
    في ستوكهلم (سويد) [الكناس] ٢١٠ جنيهات والوزير ١٣٠٠ جنيه

    وواضح أن قلة التفاوت هنا تؤدي إلى الرضا، في حين أن عِظَم التفاوت عندنا بين مرتب الوزير وأجرة الكناس في المجلس البلدي يؤدي إلى السخط؛ أي: الكظم فالإجرام، والمقارنة هنا رمزية؛ لأننا نقصد منها إلى أن هناك آلاف الأفراد الذين يَحْصلون على مرتب رئيس الوزارة وملايين الأفراد الذين يحصلون على أجرة الكناس، والإجرام يقع من الأفراد الساخطين الكاظمين بين هؤلاء الملايين، ولا يقع من أولئك المرفهين الراضين الذين يحصل كل منهم على نحو عشرة جنيهات في اليوم.

  • (٣)

    ويجب أن تتوافر الاهتمامات للشبان والفتيان، وعندي أن الفرق في أغلب الحالات بين الشخص الطيب الذي لا يأكل نفسه بالحقد والكظم وبين الشخص السيئ الذي يتحرى الإيذاء هو أن الأول كثير الاهتمامات اللذيذة التي تملأ نفسه وتشغل ذهنه فتتبدد أحقاده وتتشتت كظومه، أما الثاني فمكظوم لم تنفرج كظومه، فهو يحمل همومًا ولا يشتغل باهتمامات، وقد تكون هذه الاهتمامات مسليات سخيفة عند البعض، وهي تضر هذا الشخص الذي يمارسها لأنها تبعثر ذكاءه ومواهبه وإن كانت تمنعه من الأذى، والمجتمع الحسن هو الذي يهيئ لأفراده الاهتمامات العالية النافعة كالثقافة بالكتاب والجريدة، وكالأندية والألعاب الرياضية، والتنزه على الشواطئ والسياحة، إلخ؛ أي: يجب على المجتمع الحسن أن يساعد الذات الاجتماعية والذات العليا على أن تتوافر لهما وسائل الحياة والقوة.

  • (٤)

    وواضح أننا لا نستطيع أن نهمل القدوة والإرشاد مدة الطفولة؛ لأن الإجرام قد يكون في النهاية أسلوبًا عاطفيًّا تَعَلَّمَه الطفل من أبويه ولا يستطيع الإقلاع عنه، وقد صارت كمالا — الفتاة الهندية التي أرضعتها ذئبة فنشأت معها وأخذت بأسلوبها — ذئبة في كل شيء إلا هيئة الوجه، ونَسِيَتْ إنسانيتها الفطرية حتى القوام تغير فصارت تجري على أربع كالذئبة، وأَذْكُر هنا الطفل المدلل الذي لا يطيق المعارضة من أَحَدٍ ويأبى إلا أن يتسلط على غيره وتكون له الكلمة الأولى، وما يؤدي هذا إلى عناد فانتقام، وأذكر الطفل المضطهد وألوان الخبث التي تَعَلَّمَها في طفولته كي يتقي بها هذا الاضطهاد، وهذا الأسلوب الذي تَعَلَّمَه كل منهما يعيش معه سائرَ حياته ويؤذيه كما يؤذي المجتمع، وهنا يجب أن نذكر أن بعض الولايات المتحدة تَعُدُّ «العَوْد» في الجريمة في عائلة المجرم وليس في شخص المجرم وحده؛ وذلك لأنها تجد أن عائلة المجرم مسئولة عن إجرامه، وأنه أَخَذَ بأسلوب الجريمة منها.

    والخلاصة أننا يجب في معالجة الجريمة أن نستبدل الطبيب السيكلوجي الاجتماعي بالقاضي الجنائي، ويجب أن ندرك أن المجرم ثائر بلا ثورة معينة، متوتر النفس في غير حق أو بحق، لا يعترف به مجتمعه (انظر فصل الشخصية السيكوبائية).

  • (٥)

    كي نتقي الجريمة يجب أن نتجنب في تربية الطفل تدليلَه أو اضطهاده، ويجب ألا نسأم من تكرار ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤