الجنون الذي يُطفئ نور العقل!

كَثُرَ الحديث عن المَلِك طلال الذي قيل: إنه يعاني هذا المرض النفسي الوبيل الذي يُسَمَّى شيزوفرينيا.

وهذا المرض يَعْرِفه الغربيون باسم «إسكيزوفرينيا». ولكننا في مصر وَجَدْنَا أن كلمة شيزوفرينيا أجرى على اللسان وأسهل.

وعلى جميع الآباء أن يدرسوا هذا المرض، وأن يَعْرِفوا أعراضه الأولى التي يمكن أن تُعَالَج، أما إذا جَهِلُوا هذه الأعراض أو استهانوا بها، ثم تفاقَم المرض فإن العلاج عندئذٍ يغدو شاقًّا، بل ربما مستحيلًا، وعندئذٍ يَجِدُ الأبوان ابنهما وقد استحال إلى كتلة حيوانية، قد زالت عنها جميع الملامح الإنسانية، وانطفأ فيها نور العقل، فلا عقل ولا إحساس.

وأسوأ ما في الشيزوفرينيا أنها تصيب الشبان من الجنسين، من السابعة عشرة إلى نحو الثلاثين، وليس هذا التحديد مؤكدًا، ولكنه تقريبيٌّ؛ ولذلك كان يُسَمَّى قبلًا «جنون المراهقة»، ومعظم من يقعون فيه يكونون عادة من النحاف الطوال ذوي الوجوه الطويلة، وهم عادة لا يصلعون.

ويمكن أن تتلخص الأسباب لهذا المرض بهذه الجملة: «أنا لا أطيق العيش.»

اعْتَبِرْ أيها القارئ، أيها الأب، أيتها الأم، شابًّا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة قد أَرْهَقَتْه الدروس، وقد حرمه أبواه ضروب التسلية، مثل قراءة القصص أو ارتياد الدور السينمائية، أو هو الكظم الجنسي أو القلق الذي لا يبرحه لخوفه من الفشل في الامتحانات، أو تعيير أبويه له بأنه متخلف.

اعْتَبِر كل هذه الأشياء تَقَعُ لأحد الشبان، كلها أو بعضها، بحيث يجد أن الدنيا كئيبة لا تطاق، وأنه يعيش فيها كما لو كان محبوسًا قد حُظِرَ عليه هذا وذاك من ألوان التفريج، فهو يعتزلها — أي يعتزل الدنيا — ويحب الخلوة وقد يسرِّي عن نفسه في هذه الخلوة بعضَ هذا الكرب النفسي بوسائل تزيد في فساد جسمه وذهنه من سيئ إلى أسوأ.

أو هو يسرِّي عن نفسه بعضَ هذا الكرب، هذا الضيق، هذا الإرهاق، بالهروب بذهنه من هذه الدنيا الشاقة، بأن يتخيل الخيالات التي تعوضه من الواقع المؤلم أحلامًا لذيذة، ثم يمعن في هذه الخيالات، حتى ليكاد ينسى الواقع، ثم يُمْعِن أكثر فأكثر، حتى يختلط عليه الخيال بالواقع فلا يميز بينهما، بل هو ينسى الواقعَ الكريهَ ويَذْكُر الخيالَ اللذيذَ.

وكل هذا يمكن الشاب أن يتحمله، ويمكن أن يُشْفَى منه، ولكن يحدث حادثٌ قد يكون صغيرًا في نفسه، ولكنه يُعَدُّ كبيرًا خطيرًا في منطقة المزعزع، فيكون بمثابة الثقاب الذي يلتهب ويُشْعِل المبنى العظيم ويحرقه ويحطمه.

عرفت شابًّا كان في هذه الزعزعة الأولى التي لم يَتَعَرَّفْهَا أبواه لِجَهْلهما؛ فإن الضغط كان ثقيلًا عليه، فَكَرِهَ الدنيا، وصار يختلي، واستسلم للفساد الجنسي الانفرادي يُرَفِّه به عن ضيقه، وكان يحلم ويتخيل كي يتعوض برفاهية الخيال والحلم من مشاق الحياة الواقعة.

ولو عَرَفَ أبواه هذه الأعراض الأولى، ولو أنه عولج بالترفيه والتفريج لنجا، ولاستطاع أن يواجِهَ مشاق الدنيا، ولكنهما جهلا ذلك.

ثم جاء التهاب الثقاب الذي يشعل البيت كله ويحطمه، ذلك أن هذا الشاب وهو في هذه الزعزعة الابتدائية، رأى أبويه وهما في وَضْع الزوجين، فرُعِبَ رعبًا عظيمًا، وطَلَّقَ الدنيا، قاطَعَهَا، وانطوى على نفسه؛ فإذا وَقَفْتَ أمامه لم يُحِسَّ بك، وإذا كَلَّمْتَه لم يَسْمَعْك.

إنه قد عالج نفسه من هذه الدنيا البغيضة، من هذا الإرهاق بالدروس، والقلق خوفًا من الرسوب في الامتحانات، ومن هذا الكظم الذي لا يُطِيقه، ومن هذه الأسوار التي توضع حوله حتى لا يتمتع بالاختلاط والمسرات والنزهات والمجلات؛ عالَجَ نفسه أولًا بمقاطعة هذه الدنيا بالاختلاء، ثم رأى منظرًا أرعبه فانتهى إلى هذا القرار الحاسم، وهو أن دنياه الداخلية — دنيا الخيالات والأحلام — نَضِرَة جميلة، فهو يلجأ إليها ويحيا فيها، ويتجاهل هذه الدنيا المادية الواقعية تجاهلًا تامًا، تضع أمامه الطعام فلا يأكل ولا يشرب، بل هو قد لا يرى الطعام أو الشراب، ولذلك يوضعان له في أنبوبة تَسْلُك من أنفه إلى معدته، وهو لا يُحِسُّ جوعًا أو شبعًا.

لقد رأيته، وقَصَّ عليَّ أبوه ألوانَ الضيق والإرهاق والكرب والحرمان التي عاناها هذا الشاب من قَبْل؛ لا مجلة يقرؤها، ولا فسحة يتنزه فيها، ولا زيارة لحديقة الحيوان، ولا نقود يُنْفقها، ولا هواية يحبها ويقضي فيها بعض وقته، ولا سينما، ولا … ولا … دروس، دروس، دروس فقط، دنيا ملعونة، وحياة محرومة، كرههما هذا الشاب، فاختلى وصار يُرَفِّه عن نفسه بالفساد الجنسي الانفرادي.

وإلى هنا كان سليمًا، ولكنه كان مزعزعًا، وفي أثناء هذه الزعزعة رأى أبويه زوجين، فطَلَّقَ الدنيا وخيم الظلام فأطفأ نور عَقْله.

ولو أنه كان سليمًا لم يتزعزع لاستطاع أن يتحمل هذا المنظر الشاذَّ الذي أَشَرْت إليه، ولو أنه كان يختلط بالجنس الآخر لاستضاء عَقْله، وكان يمكنه أن يتحمل أكثر، ولو أنه كان قد ثُقِّفَ شيئًا من الثقافة الجنسية وعَرَفَ كيف يُولَد الأطفال لما أَنْكَرَ ما فعله أبواه.

ومكانة الأم كبيرة جدًّا في قلوب الأبناء، هي طاهرة، وابنها هذا لا يطيق رؤيتها وهي ساقطة في هذه النجاسة، ساقطة، امرأة ساقطة، الأمومة طاهرة يجب أن تنأى عن النجاسة، عن العورة، ولكلماتها العربية أثر سيئ في كل ذلك.

•••

اعْتَبِر هذه الحادثة التالية:

لقد رأيتها أيضًا، كانت فتاة في العشرين، جميلة فوق المستوى، وجْه صبيح وشعر ذهبي وابتسامة مشرقة، وكانت إيماءةُ الدلال التي تعلَّمتْها — لأن والِدَيْها دَلَّلَاها — لا تُقَاوَم.

وكان أبوها مفتونًا بها، كان يعاملها وهي في العشرين كما لو كانت طفلة في الخامسة أو السادسة، يشتري لها طرف الطعام وتُحف اللباس، ولم يكن عاقلًا في ذلك؛ إذ كان يجب عليه أن يسعى لزواجها قبل موته، ولكنه لم يفعل. ومات الأب، وتحملت الفتاة هذه الصدمة؛ لأن أمها كانت لا تزال حية.

ولكن بعد شهور ماتت الأم، واكفهرت الدنيا بعد ابتسام، وجاءت الصحوة المؤلمة بعد النشوة اللذيذة.

كانت مع أبويها في أحلام واقعية؛ إعجاب ودلال، وهدايا لا تنقطع كأنها ملكة، ثم يزول كل هذا فجأة بلا أي استعداد لمواجهة دنيا الحقائق، وبلا استعداد أيضًا للزواج.

وكان من هذا كله انهيار، فحاولت الانتحار السيكلوجي: الشيزوفرينيا، الظلام بدلًا من النور.

ولم أستطع الاهتداء إلى الثقاب الذي أَشْعَلَ وأحرق هذه الشخصية الجميلة.

•••

واعتقادي أن الشيزوفرينيا تزيد حالتها في مصر على حالتها في أوروبا؛ لأننا نُحْرَم كثيرًا من المتع التي لا يُحْرَمُها الشبان والفتيات في أوروبا؛ عندنا كَظْم وعندهم تفريج.

وفي أوروبا تعمل الفتاة خارج البيت قبل أن تتزوج فتكسب وتفرح؛ فإذا تزوَّجَتْ لم تَخْشَ ضرة ولم تَخْشَ طلاقًا، كما أنها لا تعيش مع حماتها، فهي مطمئنة، أما في مصر فإن سهولة الطلاق ووجود الضرة والحماة، كل هذا يزعزع الزوجة، وقد ينتهي بانهيارها.

والفتاة في مصر لا تعمل خارج البيت قبل الزواج؛ إذ هي تلزم البيت وتجتر خواطرها وتأكل عواطفها، وفي كلٍّ زعزعة نفسية.

وأخيرًا نَجِدُ في مصر كربًا اقتصاديًّا ليس له شبيه في أوروبا؛ فإن خريجي الجامعات عندنا لا يمكن أن تستوعبهم وظائف الحكومة، كما أنه ليس عندنا من الأعمال الحرة، في المصانع والمتاجر، ما يكفي لاستيعابهم، وهم لذلك يبقون في عطل يُهِين كرامتهم ويملأ نفوسهم حسرة، ثم يزعزع كيانهم النفسي.

وبكلمة أخرى نقول: كي نتوقى الشيزوفرينيا يجب أن نجعل العيش مُطَاقًا غيرَ مستحيل؛ أي: نتيح اللعب للتلميذ والطالب، ونتيح الاختلاط بين الجنسين، ونتيح العمل للشبان عَقِبَ خروجهم من الجامعة، ونتيح العمل للفتاة قبل الزواج، ونجعل الزوجة في أَمْن وطمأنينة على حياتها الزوجية بحيث لا تخشى الطلاق، وكذلك نمنع عنها هذه المباراة المرهقة بينها وبين ضرتها أو بينها وبين حماتها.

اجعلوا العيش هنيئًا لأبنائنا وبناتنا، ولا تجعلوه مرهقًا يؤدي إلى الجنون.

إن مجتمعًا يُعَيِّن من القيود ويقيم من السياجات ما يؤدي إلى جنون أبنائه وبناته لهو مجتمع مجنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤