خلاصة تاريخ مصر

وما كان بينها وبين سوريا والعراق وجزيرة العرب من الوقائع الحربية والصلات التجارية وغيرها «عن طريق سيناء» منذ أول عهد التاريخ إلى اليوم.

***

كان المشهور الذي عليه الجمهور أن سكان مصر القدماء هم أبناء مصرايم ابن حام بن نوح، هاجر إليها من آسيا، ولكن بعض المتضلعين من اللغة الهيروغليفية اكتشفوا حديثًا أن هذه اللغة واللغة العربية السامية هما من أصل واحد كما مرَّ، فإذا ثبت ذلك كان سكان مصر الأولون أجداد القبط الحاليين هم من أصل عربي قديم، «وكان هذا هو الفتح العربي الأول لمصر.»

وقد اختلف الباحثون في الطريق التي جاء منها الفاتحون الأولون، ففريق يرى أنهم جاءوا من الجنوب عن طريق بوغاز المندب، قالوا: لأن أقدم تمدن في مصر بدأ في الصعيد، والفريق الآخر أنهم جاءوا عن طريق سيناء.

أمَّا التمدن المصري فقديم جدًّا يرجع إلى نحو خمسة آلاف سنة قبل المسيح، وقد قام على مصر في عهدها القديم ٣١ دولة عرفت بدول الفراعنة، امتد حكمها من سنة ٥٠٠٤–٣٣٢ق.م، وتركت في وادي النيل من الآثار النفيسة الفخمة كالأهرام والنُّصُب والتماثيل ما لا يزال إلى اليوم ناطقًا بفضلها وشاهدًا بسمو منزلتها في الزراعة والصناعة والعلم.

ودلَّ تاريخ مصر القديم كما دلَّ تاريخها الحديث أنها بلاد مطموع بها؛ لخصب واديها وكثرة خيراتها، فكانت كلما ضعف سلطانها، وانشقت كلمة أبنائها، وكان لملوك البلاد المجاورة لها أو الطامعة بها شيء من القوة والعصبية؛ زحفوا عليها وامتلكوها إلى أن يقوم من ملوكها الأصليين من يضمُّ كلمتها ويجمع شتاتها، ويردُّ الملك إلى أهلها، فيحافظ على حدودها الطبيعية أو يمدُّ فتوحاته شرقًا إلى الشام والعراق وجزيرة العرب، أو غربًا إلى صحراء ليبيا، أو جنوبًا إلى السودان، لكن أهم ما يلفت النظر في تاريخ مصر أنه منذ افتتحها الإسكندر سنة ٣٣٢ق.م لم يقم فيها دولة وطنية صرفًا إلى اليوم.

ونحن لا نأتي في هذه الخلاصة من تاريخ مصر إلَّا بما كان له علاقة مع جاراتها عن طريق سيناء استيفاءً لموضوعنا.

(١) الدولة السادسة المصرية، وبلاد فلسطين

وأول ملك ذكره التاريخ من ملوك مصر الذين كان لهم علاقة مع جارات مصر عن طريق سيناء: الملك ببي الأول (سنة ٤١٦٧–٤١٤٤ق.م) مؤسس الدولة السادسة، فإننا نقرأ في الآثار أنه وجه قائده أوني بجيش جرَّار إلى «الهيروشايتو» أسياد الرمال القاطنين بين جبال التيه والبحر الميت، لاعتدائهم على أرض مصر، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وأحرق مساكنهم، وعاث بأشجارهم وكرومهم وعاد إلى مصر بالغنائم والأسرى، وقد سُرَّ الملك ببي بما أوتي من النصر على يد قائده؛ فأنعم عليه بأفضل ما كان ينعم به على القواد الفاتحين، فقلده الصولجان وأذن له في لبس النعال في حضرته.

(٢) الدولة الثانية عشرة المصرية، وسيناء وفلسطين

ثم كانت الدولة الثانية عشرة، وقام من ملوكها أمنمحعت الأول (سنة ٣٤٥٩–٣٤٢٩ق.م)، فعزَّز الحصون التي أقامها أسلافه على حدود مصر الشرقية بين رأس خليج السويس وفم الفرع البليوسي، وقد حافظ خلفاؤه على تلك الحصون ولم يتعدُّوها لأن ملوك هذه الدولة لم يكن يهمُّهم السيطرة على سادة الرمال ما داموا محترمين الحدود المصرية.

(٢-١) مملكة الكلدان الأولى

وفي أواخر عهد الدولة الثانية عشرة المصرية اشتهر للكلدان دولة على الفرات، وكان لها اتصال مع سوريا ومصر.

(٢-٢) تجارة مصر وآسيا

وكانت تجارة آسيا من قبل الدولة الثانية عشرة بأزمان رائجة في أسواق مصر، وكان التجار السوريون يأتون إليها بالعبيد، والعطور، وخشب الأرز، وعطر الأرز، والكئوس المنقوشة بالميناء والحجارة الكريمة وحجارة اللازورد، والأقمشة الصوفية المصبوغة والمطرزة التي احتكر الكلدان تجارتها إلى زمن الرومان.

وكان تجار الدلتا يقتحمون مخاطر الصحراء معرضين أنفسهم للوحوش الكاسرة وقطاع الطرق ويحملون إلى سوريا من مصنوعات مصر: الكتان الرفيع والحلي والفخار والغراء والتمائم وغيرها.

(٢-٣) مهاجرو آسيا في مصر

وكانت مصر السفلى من قبل هذا العهد بزمان ملجأ للمهاجرين والفارين من وجه الثورات في سوريا، جاء في الآثار: «إنه في السنة السابعة من ملك أوسرتسن الثاني قدم إلى مصر ٣٧ آسيويًّا من رجال ونساء وأولاد عن طريق صحراء بلاد العرب والبحر الأحمر، ونزلوا في مقاطعة «الغزال»، فاستقبلهم كبير الصيادين «خيتي» وأتى بهم إلى الأمير «خمهتبو» فقدموا له الهدايا: الكحل وصباغًا أخضر للعين وتيتلين حيين، فأمر الأمير بحفر صورهم على جدران ضريحه في قبور «بني حسين» تذكارًا لزيارتهم، وما زال هذا الأثر محفوظًا إلى اليوم.»

(٢-٤) مهاجرو مصر في آسيا

هذا وكان الجناة المصريون والمجرمون السياسيون الفارون من وجه الفراعنة يجدون ملجأ عند قبائل آسيا، وكانوا يستقبلونهم على الغالب بالحفاوة والتكريم، وفي الآثار المصرية ذكر أخبار بعضهم.

(٢-٥) قصة البطل سنوهيت

حُكيَ أن أمنمحعت الأول مات فجأة، ولما بلغ منعاه أوسرتسن الأول كان «سنوهيت» ابن أمنمحعت جالسًا بالقرب من الخيمة الملكية، فخشي أن يأمر أوسرتسن بقتله، ففرَّ هاربًا حتى اجتاز الحدود الشرقية، وأوغل في الصحراء، وحدَّث عن نفسه قال: «لما لاح الفجر كنت قد وصلت إلى «بُتني» فسرت منها إلى بحيرة «كيموريري»، واشتدَّ بي الظمأ حتى شعرت بحشرجة الموت في حلقي، ثم سمعت خوار قطعان فالتفتُّ فإذا بجماعة من الآسيويين مقبلين نحوي، وكان زعيمهم قد سبق أنه جاء مصر فعرفني، فقدم لي الماء فشربت ثم قدَّم لي اللبن وأتى بي إلى مخيَّمه، ومنه ذهبت إلى بلاد «كدومة» فوجدت عند أميرها جماعة من المصريين قد لجئوا إليه فرارًا من الظلم فحماهم، فاستأنست بهم إذ سمعتهم يتكلمون لغة مصر، وأحبَّني أمير كدومة فأزوجني بابنته وأقطعني أرضًا جميلة على حدود بلاده تدعى «آيا» فيها كثير من شجر التين والعنب والزيتون وغيره من الأشجار المثمرة، وفيها الخمر أكثر من الماء، والعسل والقمح والدقيق وجميع أنواع الماشية، وقد جعل لي راتبًا يوميًّا من الخبز والخمر والزبدة واللبن على أنواعه، واللحم المطبوخ ولحم الطير والصيد علاوة على ما كانت تأتيني به كلاب الصيد، فبقيت على الحدود حتى وُلِد لي أولاد وكبروا وأصبح كل منهم رئيس قبيلة، وكان كلما ذهب رسول إلى الداخلية أو عاد منها عرَّج في طريقه عليَّ، فكنت أعامل الجميع بلطف: أسقي العطشان، وأهدي التائه، وأؤدب قطَّاع الطرق، وكنت أقود قبيلة «البيتاتو» وأغزو بهم البلاد الأجنبية البعيدة، فأهاجم القبائل في آبارها، فأقتل منها وأغنم قطعانها وأستأسر عبيدها، فرهبت القبائل سطوتي وملأ ذكري الأقطار، ولما رأى أمير البلاد شجاعتي وحسن درايتي زاد حبَّه بي وجعلني زعيم أولاده.

وكان في بلاد «تونو» بطل مشهور تهاب لقاءه الأبطال، فلما رأى منزلتي عند الأمير حسدني على ذلك، فأتى يومًا إلى مخيَّمي طالبًا نزالي، فأخبرني الأمير بأمره، فقلت: إني لا أعرف هذا البطل، ولا أسأت إليه ولا أتيت منزله ولا دخلت خباءه، لا شك أنه حسدني وظنَّ أنه يتغلب عليَّ ويستولي على ما أملك من القطط والنعاج والثيران والأسلحة، فحنيت قوسي وأخرجت سهامي وهيأت أسلحتي، وما لاح الفجر حتى ازدحمت بلاد «تونو» بمن اجتمع من قبائلها وقبائل البلاد المجاورة لها للتفرج على مبارزتنا، وكانوا يتساءلون هل في الناس بطل كفؤ لي، ثم أقبل العدوُّ ومعه ترس وبلطة ورمح وقوس وقبضة من السهام، فشرعنا في المبارزة وكان هو البادئ، فأخذ يرميني بالسهام وأنا أقصيها عني فلم يمسسني واحد منها، ثم أطلقت سهمي عليه فنفذ في عنقه، فصاح وسقط إلى الأرض على وجهه، فأخذت رمحه ووقفت على ظهره وصحت صياح الظفر والانتصار، فضجَّ المتفرجون بأصوات الفرح والتهليل، وجعل أتباعه الذين كانوا يقاسون من ظلمه يشكرون «مونتو»، وأنعم عليَّ الأمير «أميانشي» بكل ما كانت تملكه يدا المغلوب، فكثرت كنوزي وزاد عدد مواشيَّ»، انتهى ملخصًا عن «فجر العمران.»

(٣) دول الرعاة، وهي الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة المصرية

وكان أول من هاجم مصر من الخارج وتملكها في عهدها القديم «الرعاة»، أتوها عن طريق البتراء أو طريق الفرما، وأسسوا فيها الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، وقد اختلف المحققون في أصلهم، فقد سمَّاهم مؤرخو اليونان «الهكسوس» ومعناه الملوك الرعاة، وهذا الاسم يوافق كلمة «حق شاسو» من لغة المصريين القدماء أي ملوك البوادي، وسمَّاهم مؤرخو العرب العمالقة، قال ياقوت: «إن العمالقة امتدوا من بلاد العرب إلى سوريا، فكانوا ملوكًا في سوريا وفراعنة في مصر.»

وزعم بعض المؤرخين أنهم رعاة فينيقيون، والبعض أنهم أدوميون من جبل سعير، والبعض أنهم لفيف من القبائل الرحَّالة عليهم ملوك من الحثيين الذين أسسوا ملكًا قويًّا في سوريا الشمالية كما مرَّ، وخلاصة القول: إنهم قوم رحالة أو عرب أتوا من المشرق «فإذا ثبت ذلك كان هذا هو الفتح العربي الثاني لمصر.»

والظاهر أنهم كانوا من جنس عرب سوريا؛ لأن في أيامهم عمَّ السلام بين مصر وسوريا، ونزح كثير من السوريين إلى مصر، وقد أجمع المؤرخون أن تغرب بني إسرائيل في مصر كان في عهد الرعاة؛ لأن أحوال مصر في زمانهم كانت كما تمثلها التوراة مدة تغرب إسرائيل فيها، ولكن المنقبين في الآثار المصرية لم يجدوا شيئًا يدلُّ صراحة على هذا التغرب، إلَّا أنه وجد في مصر العليا كتابة على قبر رئيس اسمه بابا عاش في عهد الدولة السابعة عشرة تدلُّ أنه حصل قحط في أيامه دام عدة سنين، فتعين هو لتوزيع القمح على الناس في المدينة لئلا يهلكوا جوعًا، فاستدلَّ البعض من ذلك أنه الجوع الذي حصل في أيام يوسف الصدِّيق.

(٤) الدولة الثامنة عشرة المصرية، والرتنو والحثيون في سوريا، والكلدان في العراق

وبقي الرعاة سائدين في مصر حتى أخرجهم منها أحعمس مؤسس الدولة الثامنة عشرة، وخلفه تحوتمس الأول، فانتصر على «الرتنو» في شمال سوريا، وتوغل في سوريا حتى بلغ الفرات، فوصل حدًّا لم يصله ملك قبله من ملوك مصر، وقد انتصر على ملك الكلدان في موقعة فاصلة على الفرات عند كركميش، فأقام هناك نصبًا دوَّن فيه انتصاراته، وعدَّه حد مملكته الشمالي.

وخلفته تحوتمس الثاني، فملك مع أخته هتشبسوت زمنًا قصيرًا، ثم مات فملكت أخته وحدها مدة، ثم ملكت مع أخيها تحوتمس الثالث (١٤٨١–١٤٤٩ق.م)، فكان له في سوريا غزوات نقشت أخبارها على جدران هيكل الكرنك وخلاصتها:

«أنه ارتقى إلى منصة الملك طفلًا، فكانت أخته هتشبسوت تدير الملك، فثار السوريون وأبوا دفع الجزية، ولم يبقَ على طاعة مصر إلا غزَّة، فلما شب تحوتمس غزا سوريا والفرات ست غزوات بين السنة اﻟ ٢٣ والسنة اﻟ ٤٢ من ملكه.»

«ففي الغزوة الأولى كان ملوك سوريا والكنعانيون قد ألقوا القيادة العامة على ملك «قادس» (مدينة على العاصي قرب حمص)، وحشدوا معظم جيوشهم في مجدُّو «اللجون في جانب جبل الكرمل»، فزحف تحوتمس عليهم بجيوشه وانتشب القتال في ظاهر المدينة، فانهزمت جيوش الحلفاء وتبعتهم جيوش تحوتمس إلى أسوار المدينة، وكان حراسها قد أقفلوا الأبواب، فألقوا الحبال من أعلى السور ورفعوا المنهزمين، فحصر تحوتمس المدينة وضيَّق عليها حتى اضطرها إلى التسليم، ثم سار في مرج ابن عامر مخترقًا شمال سوريا حتى أتى الفرات، وقد بلغت المدن التي دانت له في هذه الغزوة ١١٩ منها بيروت دمشق، وعاد إلى مصر ظافرًا ومعه آلاف من الأسرى، ومن الغنايم ٩٤٢ مركبة و٢٠٤١ فرسًا وعدد كبير من الصفايح الذهبية.»

«وفي الغزوة الثانية أتم إخضاع سوريا واجتاز الفرات ثاني مرة، فدان له الرتنو الذين في عبر الفرات، وأرسل إليه ملك بابل وملك آشور الجزية، وشاد حصنًا على نهر الخابور بقيت آثاره إلى الآن.»

«وفي الغزوة الثالثة كان ملك «الرتنو» في قادس قد لمَّ شعثه وأعد معدات الحرب، واستمال إليه جميع سكان سوريا الشمالية، فسار تحوتمس بطريق الساحل ففتح أرواد، وحاصر قادس فافتتحها عنوة، وعاد إلى مصر منصورًا ومعه أبناء الملوك وإخوانهم رهائن، فكان إذا مات أحد الملوك في سوريا أرسل من يخلفه من الرهائن التي عنده في مصر — على نحو ما كان جاريا في سلطنة الفور كما بيَّناه في كتابنا تاريخ السودان.»

«وفي الغزوة الرابعة اكتسح سوريا والعراق حتى بلغ نينوى، وضرب على أهلها الجزية، وكانت جزية بلاد «الحثيين» الفسيحة ٨ حلقات من الفضة وزنها ٣٠١ ليبرة، وحجرًا ثمينًا كبيرًا أبيض، ومركبات وأخشابًا» — وهذه أول مرة ذكر فيها الحثيون على الآثار المصرية، «وفي الغزوة الخامسة انتصر على «الرتنو» وأدى إليه «الحثيون» الجزية، فكانت ٤٠ ليبرة ذهبًا و٢١ عبدًا وأمة وثيران وبقرًا»، «وفي الغزوة السادسة كان ملك قادس قد حصَّن مدينته وأغرى بعض ملوك سوريا بالخروج عن طاعة تحوتمس، فزحف تحوتمس على سوريا وافتتح قادس عنوة وبدَّد شمل الحلفاء.»

وخلفه تحوتمس الرابع فَوُجد في هيكل «آمون» في الأقصر حجر مكتوب عليه هكذا: «غزوة الملك تحوتمس الرابع لبلاد الحثيين.»

وكانت جنود هذه الدولة أرقى نظامًا وأكمل تدريبًا من جميع الجيوش التي جنَّدتها مصر إلى ذلك العهد، وذكر في الآثار «أنه لم يكن يصعب على جنود مصر التغلب على سوريا، ليس لأن السوريين كانوا أقل شجاعة وأسوأ نظامًا من المصريين، بل لأن السوريين كانوا أقلَّ جندا ولأن طبيعة بلادهم وصعوبة المواصلات فيها وقفتا في سبيل اتحادهم وتعاضدهم.»

(٤-١) التجارة بين مصر وسوريا

وفي عهد هذه الدولة راجت التجارة بين مصر وسوريا رواجًا لم يسبق له مثيل، فقد كان الاتصال ما بين القطرين برًّا وبحرًا أشدَّ مما كان عليه في عهد أية دولة تقدمتها، وكان أهم ما أتى به التجار السوريون إلى مصر: «العبيد، والخيل، والبقر، والثيران الحثية، والسمك المقدد، والطيور المغردة على أشكالها، والحجارة الكريمة وأهمها حجر اللازورد، والخشب للبناء والزينة، والآلات الموسيقية، والحراب من البرونز والحديد، والعربات، والأقمشة المزركشة والمصبوغة، والعطور، والزيت، والخمور، وغيرها، وكانوا يدفعون رسمًا جمركيًّا على الحدود سواء حضروا بالبر أو بالبحر.

وكان التجار المصريون أيضًا يدفعون رسمًا جمركيًّا لملوك الحثيين وآشور وبابل، وأهم ما اتجروا به مع سوريا وبابل وآشور: الأسلحة، والأقمشة، والأدوات المعدنية، ونفيس الأثاث.»

(٤-٢) الأجانب في مصر

وكانت مصر في ذلك العهد مفتوحة في وجه الأجنبي المهاجر من سوريا وغيرها، فكان يأتيها ويتزوج فيها ويقتني عقارًا وأطيانًا زراعية، وكانت له الحرية التامة في ممارسة شعائره الدينية، بل كانت وظائف الحكومة مفتوحة أمامه، ونرى في جبانة ثيبة قبورًا لغير واحد من الضباط السوريين أو المولودين في مصر من والدين سوريين ممَّن عاشوا في البلاط الملكي.

وكان المهاجرون إلى مصر بنيَّة التوطُّن فيها وعدم الرجوع إلى بلادهم يتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها أهل البلاد الأصليون، وأمَّا الذين كانت إقامتهم وقتية، فقد أقاموا فيها تحت شروط معينة.

ومعلوم أن هذا التسامح من جانب مصر نحو المهاجرين المتوطنين في البلاد هو في مصلحة مصر كما هو في مصلحة الأجنبي، ويدلُّ على نبوغ المصريين في ذلك العهد، وتفوقهم في فن الاقتصاد السياسي، ووقوفهم على أسرار رقي المجتمع الإنساني.

(٥) الدولة التاسعة عشرة والعشرون المصرية، ومملكة الحثيين في شمال سوريا

(٥-١) مملكة الحثيين

وقد ظهر بأس الحثيين وسطوتهم في شمال سوريا في عهد الدولة اﻟ ١٩ المصرية، إذ كانوا في هذا العهد قد تغلَّبوا على «الرتنو»، واستولوا على سوريا الشمالية كلها، وكان أول ملك اشتهر لهم في التاريخ «سابَلْت» فقد نبذ الطاعة لملك مصر، وأغرى غيره من ملوك سوريا فنبذوا هم أيضًا الطاعة لمصر، وكان قد حصل في آخر عهد الدولة اﻟ ١٨ المصرية اضطراب سياسي ديني أضعف قوة مصر، فأصلح رعمسيس الأول (١٣٨٠ق.م) مؤسس الدولة اﻟ ١٩ شئون البلاد، ثم اهتم بإعادة سوريا إلى الطاعة، فحشد الجيوش، وزحف على فلسطين، فلم يصادف فيها مقاومة شديدة، وتقدم شمالًا إلى العاصي فقابله ملك الحثيين بجيوش لم تكن في حسبانه، وكانت بينهما حرب لم نطلع على تفصيلها، والأرجح أن رعمسيس أضرب عن تدوينها لأنها لم تكن مشرفة له.

ولم يكن الفراعنة قبل هذا العهد يحسبون ملوك سوريا مساوين لهم فيتنازلون لعقد صلح معهم، بل كانوا يحسبونهم أعداءً ينكلون بهم أو عصاة يعاقبونهم، فلما قامت دولة الحثيين رأينا رعمسيس قد عقد صلحًا مع ملكهم دلَّ على تكافؤ الملكين.

وخلف رعمسيس ابنه ساني الأول سنة ١٣٢٦ق.م، ففي السنة الأولى من ملكه حارب العرب لأنهم أكثروا من السطو على تخوم مصر الشرقية، وفي السنة التالية زحف على سوريا ففتح قلعة قادس من الحثيين بعد قتال تعددت فيه الوقائع، ولكن لم يكن فتح قادس ختام القتال، فإن الحثيين دافعوا عن بلادهم شبرًا شبرًا، وكانوا كلما طال أمد القتال اشتدت عزائمهم وعظمت حميتهم، حتى أعيوا ساتي فاضطر أن يعقد صلحًا مع ملكهم «متنار» ضمن لهم فيه بلادهم وأعاد لهم مدينتهم قادس، ولم يُلزَموا إلَّا بالكف عن الاعتداء على الأعمال المصرية في سوريا، وهي فلسطين وفينيقية، وقد أرسل ساتي إليها عمَّالًا مصريين، وأقام حاميات دائمة في حصون غزة وعسقلان ومجدُّو وغيرها.

وخلفه رعمسيس الثاني الغازي الشهير سنة ١٣٠٠ق.م، ففي السنة الرابعة بدت آثار ثورة في فلسطين يُرجَّح أن يدًا حثِّية حرَّكتها، فحمل رعمسيس عليها مرتين، بلغ في إحداهما مدينة بيروت، وترك صورته محفورة على صخر عند مصب نهر الكلب.

وكان الحثيون إذ ذاك في أوج عزِّهم، فنقضوا الصلح الذي عقدوه مع أبيه وأخذوا يتأهبون لحربه، ومن الشعوب التي تحالفت عليه كما روت الآثار: سكان حلب، والجرجاشيون أحد فروع الكنعانيين، والآراميون سكان البقاع وأرواد، ولم يعلم عدد الجيوش المتحالفة، ولكن يظهر أنه كان كبيرًا جدًّا، فإن ملك حلب وحده جهَّز ١٨٠٠٠ جندي، وكان عدد المركبات الحربية ٢٥٠٠ أو أكثر.

وجهَّز رعمسيس الثاني الجيوش الجرارة، وزحف بها في السنة الخامسة من ملكه، فسار بطريق الساحل إلى طرابلس، وكان أهل الساحل إلى طرابلس ممالئين له، ومن طرابلس ترك الساحل واتخذ طريق حمص وواقع الحثيين في عدة وقائع دموية.

وكان مُتنار ملك الحثيين مدبِّرًا واسع الحيلة، فكاد لرعمسيس حتى فصله عن معظم جيشه، وكاد يبطش به لولا أن أسرع جيشه إلى نجدته فأنقذه من الخطر وأكسبه النصر، وقد وصف بنتاور الشاعر المصري حرب رعمسيس هذه مع الحثيين بقصيدة نقشت على جدران هيكل الكرنك تجاه الأقصر، وكتبت في درج من البابيروس محفوظ الآن في المتحف البريطاني بلندن، ومما جاء فيه بلسان رعمسيس:

كنت وحدي لا يصحبني قائد ولا جندي إذ دهمني العدو، فصرخت أين أنت يا أبتاه «آمون رع» «الشمس»، هل يرى أبٌ ابنه في ضيق ويتركه في ضيقه، هل خالفت لك أمرًا أم نبذت لك مشورة أم أتيت أي عمل لا ترضاه؟ هل وقفت أم مشيت ولم أشخص بنظري إليك؟ هل تطيق أن يذَّل ملك مصر وسيدها لشعوب «الآمو» الذين يعاندونك ولا يقرُّون بألوهيتك؟ ألم أشيِّد لك معابد تدوم آلافًا من السنين! ألم أملأ هيكلك بالغنائم التي أحرزتها من الأعداء؟ فبك أستجير وإياك أدعو يا أبتاه «آمون»، قد استجابني «رع» لما دعوته ومدَّ إليَّ يده وقال: لا تخف يا رعمسيس أنا معك، أنا أبوك «رع» ويدي تعضدك، أنا خير لك من آلاف الجند، أنا رب النصر وعشيق الشجاعة، فإذا رأيت شجاعًا باسلًا مثلك همت بحبه ومنحته النصر، وفعلًا نصرني على الأعداء، فكنت أرمي سهامي بيميني مثل مونت «إله الحرب» وأقبض بشمالي على الأعداء، وأرى الآن ٢٥٠٠ مركبة وأنا في وسطها وليس من رجالها من يمدُّ يدًا للقتال، فقد تولَّاهم كلهم الرعب وشلت أيديهم، فأغرقتهم بالماء كما يغرق التمساح.

وكان أن رعمسيس أدركه جيشه، وشبت نار الحرب النهار كله إلى أن أظلم الليل، ثم تجدد شبوبها في اليوم التالي، فكانت وقعة دموية دارت فيها الدائرة على الحثيين، فانكسرت صفوفهم، وقتل حامل سلاح الملك وقائد المشاة ورئيس الخصيان وكاتب الوقائع الرسمية وغيرهم، وحاول بعض المنهزمين أن يعبروا النهر سباحة فغرقوا ونجا مسرائيم أخو ملك الحثيين وغرق ملك «نينا» وانتُشل ملك حلب من الماء.

فأرسل ملك الحثيين إلى رعمسيس في طلب الصلح يقول: «أيها الملك العظيم، إن الحثيين يشتركون مع المصريين في تقديم خدماتهم أمام قدميك، فإن «رع» أباك السعيد نصرك عليهم وولَّاك أمرهم، فأرفع عنهم غضبك فإنك شديد البأس، وقد نكلت بهم تنكيلًا، أيحسن بك أن تفني عبيدًا أنت سيدهم، فلقد قتلت منهم مئات الألوف، فإن عدت إلى القتال اليوم فلا يبقى من يخضع لك، فامنحنا نعمة الحياة.» ا.ﻫ.

فعقد رعمسيس صلحًا مع الحثيين وعاد إلى مصر، على أن ذلك الصلح لم يكن إلَّا هدنة على ضغن، فإن ملك الحثيين لم يلبث أن نفخ نار الثورة على رعمسيس في جنوب سوريا وتهيأ للحرب، فخرج رعمسيس بجيوشه في السنة اﻟ ١١ من ملكه، وتمكن من استرداد عسقلان وشلاما «أورشليم» والكرمل، وقهر جيوش الحلفاء في فلسطين وفينيقية وسهل البقاع، ثم زحف على قادس فافتتحها مرة أخرى وتوغل في بلاد العاصي إلى قلب بلاد الحثيين، ودامت هذه الحروب ١٥ سنة، ولم تخمد جذوتها حتى قُتِل متنار ملك الحثيين غيلة في بعض المعارك.

وخلفه أخوه «كيتاسار» أو خاتوسارو، وكانت الدولتان المتحاربتان قد ملَّتا القتال فعقدتا معاهدة صلح دلَّت على تكافئهما وتساويهما في العظمة والكرامة، وقد نقشت على جدار هيكل الكرنك، ولا تزال محفوظة إلى اليوم إلا أن آخرها مشوَّه، وهي أقدم معاهدة دوَّنها التاريخ وخلاصتها:

إنه في السنة اﻟ ٢١ من ملك رعمسيس محب آمون، في اليوم اﻟ ٢١ من شهر طوبه، بينما كان جلالته في مدينة رعمسيس يقدِّم الفرائض لأبيه آمون رع … وافاه مفوِّضان من قِبل «كيتاسار» ملك الحثيين المعظَّم، ومعهما صحيفة من فضة كتبت عليها شروط الصلح والإخاء المؤبدين بين ملك مصر الكبير وكيتاسار ملك الحثيين الكبير، وهذا هو الاتفاق الذي وُقِّع عليه:

قد كانت في أيام أخي مُتنار ملك الحثيين المعظَّم حروب طال عهدها مع ملك مصر المعظَّم، فمن الآن فصاعدًا يكون سلام وإخاء مؤبَّدان بين بلاد مصر وبلاد الحثيين، فلا تنشأ بعد الآن عداوة بينهما البتة، بل يكون ملك مصر المعظَّم أخًا لي محافظًا على السلام، وأنا أكون أخًا له محافظًا على السلام، ويكون خلفاء رعمسيس العظيم على صفاء وإخاء مع خلفاء كيتاسار العظيم، ويكون المصريون والحثيون على صفاء وإخاء تامين إلى الأبد، فلا ملك الحثيين يسطو على أرض مصر ولا ملك مصر يسطو على أرض الحثيين، وأنا أرعى العهد الذي وقَّعه سبالات ملك الحثيين، والعهد الذي وقَّعه أخي متنار، وأسلك بموجبهما، وكذلك يفعل ملك مصر، وإذا غشي عدوٌّ أرض مصر وطلب ملك مصر النجدة من ملك الحثيين لزم ملك الحثيين أن ينجده بنفسه، وإذا تعذَّر عليه الحضور بنفسه أرسل رجاله وخيله لنجدته، وكذلك إذا غشي عدوٌ أرض الحثيين، وطلب ملكهم من ملك مصر النجدة أنجده بنفسه أو برجاله وخيله، وكل جان في إحدى المملكتين حاول النجاة من جزاء وقع عليه بالفرار إلى المملكة الأخرى لزم تسليمه إلى رئيس قبيلته، وكل عبد أبق من إحدى المملكتين وأضرَّ بمولاه لزم ردَّه إلى مولاه، وكذلك كل منتقل لغير جناية، وكل مأخوذ جبرًا، وكل صاحب صناعة أو فن انتقل من المملكة الواحدة إلى الأخرى — كلٌّ من هؤلاء يردُّ إلى بلاده إذا طلبته، ولكن لا يحسب انتقاله من وطنه على هذه الصور جناية، فلا يمسُّه ضرر في بيته، ولا تُزعج امرأته ولا أولاده، ولا تُضرب أمه، ولا يُضرب هو على عينيه أو على فمه أو على قدميه، ولا يُرفع عليه دعوى جزائية، ويلزم أن تكون المساواة التامة والاشتراك الكامل بين الشعبين المصري والحثي، هذا هو عهد الدفاع والهجوم الذي أبرم بين المملكتين، وقد استدعى كل من الملكين المتعاهدين آلهته للشهادة عليه والانتقام ممن يخالف شيئًا مما أُبرم فيه. ا.ﻫ.

ويظهر أنه في هذا الاتفاق كانت سوريا من جبيل فجنوبًا للمصريين، ومنها فشمالًا للحثيين، وقد حافظ الفريقان عليه وعمَّ السلام البلادين، وأمنت السبل وراجت التجارة برًّا وبحرًا، وتزوج رعمسيس بنت كيتاسار ودعا حماه لزيارة مصر، فاستقبله في مدينة رعمسيس التي شادها في أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل مغتربين، ثم أتى به إلى ثيبة «الأقصر»، وأقام هناك نصبًا حفر عليه صورته وصورة حميِّه وامرأته، وما زال هذا النصب باقيًا هناك إلى اليوم، وخلف رعمسيس الثاني ابنه منفتاح، فكان خروج بني إسرائيل من مصر في عهده على المشهور كما مرَّ.

ثم لا نجد ذكرًا للحثيين في الآثار المصرية إلَّا في عهد رعمسيس الثالث أحد فراعنة الدولة العشرين المصرية سنة ١٢٢٥ق.م، فإنه نقش على جدار مدينة «أبو» أسماء الملوك الذين أخضعهم، فكان بينهم «ملك الحثيين المنكود الحظ الذي أُسِر حيًّا في الحرب».

وأمَّا مدينة قادس، فلم نعد نسمع بذكرها بعد الدولة اﻟ ١٩ المصرية، والظاهر أنها هُدِّمت وهُجرت، واشتهر بعدها في شمال سوريا دمشق الشام، فأسس فيها الآراميون ملكًا قويًّا ذُكِر كثيرًا في التوراة، وأصبحت كركميش على الفرات عاصمة الحثيين، ويدلُّ تاريخ آشور أنه كان للحثيين حروب شهيرة مع الآشوريين ملوك نينوى، وأن عاصمتهم كركميش سقطت بيد الآشوريين في عهد الملك سرجون سنة ٧١٦ق.م.

وتدلُّ آثار الحثيين على أنهم بسطوا ولايتهم على آسيا الصغرى كما بسطوها على شمال سوريا، ولا يبعد أن يكونوا هم الكيتيو الذين ذكرهم هوميروس الشاعر اليوناني الشهير في إلياذته، وللحثيين آثار فخمة في الكبادوك وجهات أُخرى في آسيا الصغرى، وفي كركميش وحلب ومرعش وحماة وحمص في سوريا.

ونرى في الآثار المصرية عدة صور للأسرى الحثيين، فهم أقرب إلى الرتنو منهم إلى سكان فلسطين، ولون وجوههم أبيض ضارب إلى الحمرة بخلاف الآمو الساميين فإن لون وجوههم مائل إلى الصفرة، ولا يطلق الحثيون لحاهم كالساميين، بل يحلقون لحاهم وشواربهم وشعر رءوسهم، ويتركون في أعلاها ناحيةً ولون شعورهم أسود، ولباسهم قميص طويل يصل إلى العقب، وتمثلهم الآثار المصرية حفاة للدلالة على أسرهم وذلِّهم، ولكن آثارهم في أوطانهم تدلُّ أنهم كانوا يلبسون الأحذية المعكوفة رءوسها إلى فوق على مثال الأحذية المستعملة في سوريا إلى اليوم.

وقد كان للحثيين قلم خاص يكتبون به لم يحلَّ العلماء رموزه بعد، وكانت معظم قوتهم الحربية في الخيل والمركبات، وكانت جيوشهم مدرَّبة على القتال أحسن تدريب، وأجمل ما في طباعهم الانقياد إلى قوادهم.

(٦) الدولة الحادية والعشرون المصرية، ومملكة اليهود في فلسطين

(٦-١) مملكة اليهود

أمَّا اليهود فقد مرَّ بنا ذكر تاريخهم وخروجهم من أرض مصر إلى أن أسسوا ملكًا في فلسطين سنة ١٠٩٥ق.م، وكان ملوكهم: شاول، ثم داود النبي صاحب المزامير، ثم سليمان الحكيم صاحب سفر الأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد، وهو باني هيكل اليهود في أورشليم، بناه على مثال خيمة الاجتماع، وأغنى قومه عن الخيمة.

وكانت البلاد الواقعة بين غزة وبليوسيوم خاضعة لمصر، وقد أطلق العبرانيون عليها «برية شور»، وأطلقوا على أهلها اسم العمالقة، وكانت مصر في عهد الدولة اﻟ ٢١ قد فقدت السطوة التي كانت لها في عهد الدولة اﻟ ١٩، فلما استأنس لسليمان الضعف من مصر غزا العمالقة وأخضعهم لسلطانه، ومدَّ حدود مملكته إلى فرع النيل البليوسي.

وعرف سليمان فضل التجارة مما كانت تدرُّه من الخيرات على جيرانه الفينيقيين، فكان يشتغل بها مع مصر «وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر وجماعة تجار الملك أخذوا جليبة بثمن، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر بست مائة شاقل من الفضة والفرس بمائة وخمسين، وهكذا لجميع ملوك الحثيين وملوك آرام كانوا يخرجون على يدهم» (١ مل١٠: ٢٨).

«وصاهر سليمانُ فرعونَ ملك مصر، وأخذ بنت فرعون، وأتى بها إلى مدينة داود» (١ مل٣: ١). «وصعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر (بين يافا والقدس)، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهرًا لابنته زوجة سليمان» (١ مل٩: ١٦).

وتوفي سليمان سنة ٩٧٥ق.م، فانقسمت مملكته إلى قسمين: مملكة يهوذا وتشمل سبطي يهوذا وبنيامين وقاعدتها أورشليم، ومملكة إسرائيل وتشمل سائر أسباط بني إسرائيل وقاعدتها السامرة.

ووقع الخصام بين المملكتين فانتصر شيشق ملك مصر (سنة ٩٩٠–٩٦٠ق.م) من ملوك الدولة اﻟ ٢١ لمملكة إسرائيل على مملكة يهوذا: «وفي السنة الخامسة للملك رحبعام صعد شيشق ملك مصر على أورشليم، بألف ومئتي مركبة وستين ألف فارس، ولم يكن عدد للشعب الذين جاءوا معه من مصر لوبيين وسكيين وكوشيين، وأخذوا المدن الحصينة التي ليهوذا وأتى إلى أورشليم (٢ أيام ١٢: ٢) وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وجميع أتراس الذهب التي عمل سليمان» (١ مل١٤: ٢٥).

(٧) الدولة الرابعة والعشرون المصرية، والفينيقيون

وفي عهد الدولة اﻟ ٢٤ المصرية كان الفينيقيون لا يزالون أسياد التجارة البحرية بين مصر وسوريا، وكان من ملوك هذه الدولة الملك بقورس (سنة ٧٤٣–٧٣٧ق.م)، أقام في سايس على فرع النيل الكنوبي على نحو ٤٠ ميلًا من البحر المتوسط، وفي عهده كان الفرع البليوسي الذي عليه مدينة تانيس والفرع التيتني الذي عليه مدينة بوباستس قد بدءا يشحَّان، فتحولت التجارة الفينيقية منهما إلى الفرع الكنوبي.

(٨) الدولة الخامسة والعشرون المصرية، واليهود والآشوريون

(٨-١) زوال مملكة إسرائيل سنة ٧٢١ق.م

وفي عهد الدولة الخامسة والعشرين المصرية كان الآشوريون قد أسسوا مملكة قوية في نينوى «تجاه الموصل»، قامت على أنقاض مملكة بابل في العراق، وأشهر ملوكها شلمناصَّر فإنه مدَّ فتوحاته غربًا ففتح صيدا وعكا وجزيرة قبرص، وحاصر صور، وتهدد هوشع ملك إسرائيل، وكان على مصر إذ ذاك الملك سباقون المعروف في التوراة باسم «سوا»، فأرسل إليه هوشع هدايا وعقد معه محالفة ضد شلمناصر، ولكن ذلك لم يجده نفعًا، فإن شلمناصر حاصر السامرة ودام الحصار ٣ سنين، ومات شلمناصر في أثناء الحصار وخلفه على آشور الملك سرجون، ففتح السامرة وسائر مدن إسرائيل، وجلا أهلها إلى آشور، وبذلك انقرضت مملكة إسرائيل، وكان ذلك سنة ٧٢١ق.م بإجماع المؤرخين (٢ مل١٧ و١٨)، وفي هذا الوقت هاجر كثير من اليهود إلى مصر وتوطَّنوا فيها.

(٨-٢) السَّمرة

وأقام سرجون واليًا آشوريًّا على السامرة، وضرب عليها الجزية وأسكنها قومًا من بلاده، فكان منهم طائفة السمرة المشهورة، وقد كرههم اليهود منذ احتلوا بلادهم، وما زالوا يكرهونهم إلى اليوم.

(٨-٣) واقعة رفح الأولى

وبعد أن فتح سرجون السامرة زحف على غزة بقصد فتحها، وكان حانون ملك غزة قد حالف سباقون ملك مصر، ففرَّ حانون إلى رفح على حدود مصر، واستنجد بسباقون فأتاه بنجدة قوية، فسار سرجون بجيوشه إلى رفح والتقى هناك بجيش غزة ومصر، فهزمهما وأخذ حانون أسيرًا إلى آشور، وأمَّا سباقون فقد نجا، وهذه أول واقعة بين مصر وآشور وكانت في نحو سنة ٧٢٠ق.م.

(٨-٤) واقعة بليوسيوم الأولى

وفي نحو سنة ٦٩٩ق.م عقد حزقيا ملك يهوذا حلفًا مع طرهاقة ملك مصر، ورفض طاعة سنحاريب ملك آشور، فزحف سنحاريب بجيش عظيم لمحاربته، وعلم أن طرهاقة قادم بجيش لنجدة حزقيا، فلم ينتظره في سوريا بل سار بجيشه نحو مصر حتى أتى بليوسيوم، وكان يسكنها منذ القديم بحَّارة من الفينيقيين وغيرهم من الآسيويين ويحميها جيش من المصريين، فحصرها حصارًا شديدًا وحفر الخنادق، ورفع ترابها سورًا حتى صار بعلو أسوار المدينة، وكان قد سيَّر مراكبه في البحر نجدة لجيشه البرِّي فحصر المدينة برًّا وبحرًا، وما كاد استعداده يتم حتى هبَّت ريح شرقية فكسرت مراكبه في البحر، «وخرج ملاك الرب وضرب من جيش آشور مائة وخمسة وثمانين ألفًا، فلما بكروا في الصباح إذا هم جميعًا جثث ميتة، فانقلب سنحاريب ملك آشور راجعًا إلى نينوى» (أشعيا ٣٧: ٣٦ و٢ مل١٨: ٣٥)، وبذلك انصرف الشر عن أورشليم ومصر معًا.

(٩) الدولة السادسة والعشرون المصرية، واليهود والآشوريون والفرس

وخلف سنحاريب على آشور الملك أسرحدُّون، فحمل على مصر وأخذها من طرهاقة، وبقيت بيد الآشوريين إلى أن انتزعها منهم بسامتيك الأول (سنة ٦٨٥–٦١٤ق.م) مؤسس الدولة اﻟ ٢٦، وقد ساعده على طرد الآشوريين من مصر مسترزقة اليونان، فأقطعهم أرضًا بقرب بليوسيوم سُمِّيت «بالمعسكرات» فأحاطوها بالخنادق والمتاريس، وجعلوا مساكنهم وأحواض مراكبهم بداخلها، وكانوا حماة فم النيل البليوسي.

(٩-١) زوال مملكة يهوذا

وخلف بسماتيك على مصر ابنه نخو الثاني (سنة ٦١٤–٦٠٨ق.م)، وفي أيامه كان الآشوريون قد دالت دولتهم، وتغلبت بابل على نينوى، وقامت على العراق مملكة بابل الثانية في عهد الملوك نبو بلاصَّر، فوقع بين ملوك بابل وملوك مصر نزاع على اليهودية، إذ أراد كل فريق ضمها إلى سلطانه، وكان اليهود إذ ذاك على قلتهم وضعفهم حزبين: حزبًا مع البابلين وحزبًا مع المصريين، فساعدوا الغير على أنفسهم، وانتهى النزاع بين الفريقين بأن ضُمَّت اليهودية إلى بابل في عهد نبوخذنصر الذي أحرق أورشليم والهيكل، وهدَّم أسوارها وسبى اليهود إلى بابل، وذلك سنة ٥٨٧ق.م، وبذلك زالت مملكة اليهود ولم يعد لهم وجه لطلب النجدة من مصر، فاتخذوا مصر ملجأً لهم، وصاروا يهاجرون إليها أفواجًا، وهاجر معهم أرميا النبي، فكتب فيها مراثيه عن سقوط أورشليم وزوال ملك يهوذا، وكان على مصر إذ ذاك الملك بسامتيك الثالث المعروف في التوراة باسم هفرع، فرحَّب بهم وأسكنهم أرض جاسان بين ممفيس والبحر الأحمر، الأرض التي سكنها أجدادهم ٤٠٠ سنة قبل الخروج (والتاريخ يعيد نفسه).

(١٠) الدول السابعة والعشرون إلى الدولة الحادية والثلاثين المصرية، والفرس

وفي آخر عهد الدولة السادسة والعشرين قويت مملكة الفرس في عهد ملكها كورش، ففتح بابل من الكلدان سنة ٥٣٨ق.م، ثم فتح سوريا وهمَّ بفتح مصر، ولكن المنية عاجلته قبل أن يتمَّ قصده، فخلفه ابنه قمبيز فزحف على مصر سنة ٥٢٤ق.م.

(١٠-١) واقعة بليوسيوم الثانية

وكان على مصر إذ ذاك الملك بسامنيتس، فجهَّز جيشًا كبيرًا من الجنود المصرية ومسترزقة اليونان وأتى مدينة بليوسيوم، وحضر قمبيز فعسكر على مرأى منه، ففرَّ رجل من مسترزقة اليونان يُدعى فانس ولحق بجيش قمبيز فاستعظم اليونان هذه الخيانة، وكان أولاد فانس عندهم فقتلوهم على مرأى من أبيهم، ثم مزجوا دمهم بالخمر وشربوا منه كلهم، وبعد ذلك التحم الجيشان فكانت واقعة لم تشاهد أسوار بليوسيوم أشد منها هولًا، وكان النصر فيها لقمبيز، قالوا: فجمعت جثث القتلى بعد الواقعة فكان منها تل عظيم، ثم تقدَّم قمبيز إلى ممفيس وافتتحها وقتل ملكها، وبه انقرضت الدولة اﻟ ٢٦ المصرية، وأتى هيردوتس مصر بعد ذلك بقليل وزار محل الواقعة، فرأى تلَّ الجثث، ولحظ أن جماجم الفرس ألين جدًّا من جماجم المصريين؛ لأن الفرس كانوا يلبسون العمائم الكبيرة على رءوسهم بخلاف المصريين فإنهم لم يكونوا يتعمَّمون.

وبعد فتح قمبيز لمصر كان المصريون تارة يقوون على الفرس فيخرجونهم من مصر وتارة يقوى الفرس عليهم فيثبتون قدمهم في البلاد، ودامت هذه الحال إلى انقضاء ملك الفراعنة على مصر، وقد حصل في أثناء ذلك عدة وقائع بين الفريقين منها: غزوة تاخوس ملك مصر للفرس في فلسطين سنة ٣٦١–٣٥٩ق.م، وذلك أن تاخوس لم يكتف باستقلال بلاده عن الفرس وتوطيد أركان الأمن فيها بل أراد إخراج الفرس من فلسطين، وكان في جيشه من مسترزقة اليونان ١١ ألفًا وعليهم أجسيلوس السبارطي، وعلى جيشه البحري شبرياس الأثيني، وكان جيشه المصري مؤلفًا من ٨٠ ألفًا بقيادة ابنه نقتنيبو، وكان الجيش المصري قد استاء منه لاستخدامه اليونان في جيشه، فأعلنوا ابنه نقتنيبو قائدهم ملكًا على مصر بدلًا منه وعادوا به إلى مصر، وفي أثناء ذلك قرَّر الأثينيون في مجلس أعيانهم إخراج شبرياس من خدمة مصر إرضاءً لصديقهم الملك أرتازركسيس الفارسي، هذا وكان أجسيلوس قائد مسترزقة اليونان صغير الجسم جدًّا، فقال له تاخوس مستهزئًا به في ساعة غضب «تمخَّض الجبل فولد فارة»، فأجابه أجسيلوس «عمَّا قريب ترى من هذه الفأرة أسدًا إن شاء الله»، ثم ترك خدمته ودخل خدمة ابنه، وهكذا فقد تاخوس جيشه وأنصاره، فأرسل إلى أرتازركسيس في طلب الصلح، ولما لم يكن مراد أرتازركسيس التغلب على تاخوس بل على مصر قَبِل الصلح من تاخوس، وجعل تحت إمرته الجيش الذي كان قد أعدَّه لقتاله ليسترجع به عرشه، ولكن قبل أن يتحرك جيش الفرس مات أرتازركسيس ثم مات تاخوس بالدوزنتاريا لعدم موافقة أطعمة الفرس له.

(١٠-٢) واقعة بليوسيوم الثالثة

وتولى الفرس إذ ذاك «أشوس»، فانتقض عليه محالفوه الفينيقيون وأهل قبرص وانضموا إلى أعدائه المصريين، فأصبح همُّه قبل الزحف على مصر استرجاع فينيقية؛ لأنه بفقدها فقد عمارته البحرية، ولأنه إذا لم يسُد البحر المتوسط لم يستطع التغلب على مصر، فجمع جيشًا عرمرمًا من جميع أنحاء بلاده، قيل بلغت عدته ٣٠٠٠٠٠ من المشاة، فيهم جيش من مسترزقة اليونان، و٣٠٠٠ فارس، و٣٠٠ مركب حربي، و٥٠٠ مركب للنقل، وزحف به على صيداء فافتتحها بخيانة كبير أعيانها تَنَس، ولما كان الخائن كذَكَرِ النحل لا يبقى فيه خير بعد خيانته قتله ليأمن شره، ونعم ما فعل! هذا وباستيلائه على صيداء دانت له سائر مدن فينيقية وقبرص، فسار بالبرِّ والبحر ومسترزقة اليونان في مقدمة جيش البرِّ حتى أتى مدينة بليوسيوم.

وكان نقتنيبو ملك مصر قد حصَّن هذه المدينة وجميع ثغور النيل، وحشد جيشًا كبيرًا فيه ٢٠ ألفًا من مسترزقة اليونان و٢٠ ألفًا من الليبيين و٦٠ ألفًا من المصريين، وارتكب الخطأ الذي وقع فيه أبوه، فلم ينتظر مهاجمة العدو له، بل بادأ العدو بالهجوم، ولما لم يقدر على صدِّه رجع بنصف جيشه إلى ممفيس، فحاصر الفرس بليوسيوم حصارًا فنيًّا، ورموا أسوارها بالآلات الهادمة، ففتحوا فيها ثغرات واسعة، وكانت حاميتها اليونانية كلما فتح الفرس ثغرة سدُّوها بجسور من الخشب، حتى سمعوا بفرار نقتنيبو ففاوضوا الفرس بالتسليم على شرط سلامتهم فسلَّموا وسلموا، ومعلوم أن معركة واحدة في بلاد أنهكتها المظالم تقضي على الحرب، فدخل الفاتح الفارسي مصر بلا قتال.

(١١) دولة اليونان البطالسة في مصر، وأحبار اليهود في فلسطين، والسلوقيون في سوريا والعراق

وفي هذا العهد ظهر إسكندر الكبير في مكدونية، واستولى على اليونان، وكان قد حصل بين اليونان والفرس مواقع شهيرة أخصها موقعة مراثون وموقعة ثرموبولي، فحمل الإسكندر على الفرس في عهد ملكهم دارا، فقهرهم في مضيق إسُّس شمالي خليج إسكندرونة سنة ٣٣٣ق.م، ثم زحف على سوريا ففتح صيداء صلحًا؛ لأن أهلها كانوا مغتاظين من الفرس لما فعلوه بهم عند فتح مدينتهم، ثم فتح صور عنوة بعد حصار سبعة أشهر ثم غزَّة بعد حصار شهرين، وقد أظهر أهل صور وغزَّة من البسالة والجلد في الدفاع عن مدينتيهما ما خلَّد لهم الفخر مدى الدهر.

(١١-١) واقعة بليوسيوم الرابعة

ولما فرغ الإسكندر من فتح فينيقية وملك البحر، زحف على مصر بطريق البرَّ، ووافته عمارته بحرًا حتى انتهى إلى بليوسيوم بعد مسيرة سبعة أيام، قطع فيها ١٧٠ ميلًا في صحراء رملية قاحلة، وكان الفرس قد أخذوا معظم جيوشهم من مصر نجدة لدارا في واقعة إسُّس، ولم تكن الحاميات الباقية تقوى على المقاومة، وكان المصريون يكرهون الفرس لأنهم ظلموهم وأهانوا دينهم، فلم يخفوا فرحهم بوصول الإسكندر.

وكانت العمارة المصرية في بليوسيوم قد قاومت عمارة الإسكندر، فلم تثبت أمامها وفتحت المدينة أبوابها للإسكندر بلا قتال، فترك فيها حامية وتقدم بشاطئ النيل البليوسي، وكان قد أمر عمارته فوافته إلى هليوبولس، فعبر النيل هناك وتقدم إلى ممفيس، وكان عليها والٍ من قِبل دارا، فسلمها للإسكندر بلا قتال، وذلك سنة ٣٣٢ق.م.

وزار الإسكندر هيكل الشمس في واحة سيوة، وفي طريقه أمر ببناء مدينة الإسكندرية، فكانت من أعظم مواني البحر المتوسط إلى اليوم، وسار من مصر إلى العراق فافتتحها من الفرس سنة ٣٣١ق.م كما مرَّ، ثم فتح الهند وعاد إلى بابل فمات فيها سنة ٣٢٣ق.م، ولم يترك الإسكندر ابنًا شرعيًّا يرث الملك بعده، بل ترك امرأته ركسانة حبلى، فقُسمت ممالكه بين قواده، فكانت مصر من نصيب البطالسة.

(١١-٢) واقعة بليوسيوم الخامسة

وكان القوَّاد قد اتفقوا أن يجعلوا القائد بردكاس وكيل المملكة إلى أن تلد ركسانة، فولدت ابنًا وسمته الإسكندر على اسم أبيه، ولكن بردكاس ما لبث أن طمع بالملك كله لنفسه، وسار لفتح مصر وأصحب معه ابن الإسكندر ليكون له حجة على إصدار الأوامر إلى بلاد الإسكندر.

وكان أول البطالسة على مصر بطليموس صوتر (سنة ٣٢٢–٢٨٤ق.م)، فالتقاه في بليوسيوم وتحصن في قلعة صغيرة قرب المدينة، فحصره بردكاس فيها، ولكن بطليموس خرج من القلعة وردُّه إلى معسكره وخنادقه.

وكان بردكاس فظًّا غطريسًا فقام عليه بعض خاصته وقتله، وانضمَّ جيشه إلى بطليموس فتقوَّى به، وكان ذلك سنة ٣٢١ق.م، وبعد قتال بردكاس وقعت مكدونية واليونان في يد القائد كَسَنْدر فقتل ركسانا وابنها ليخلو له الجو.

ورأى بطليموس صوتر أن ضمَّ فلسطين وفينيقية وجزيرة قبرص إلى مصر ضربة لازب وقايةً لها من مهاجمة الأعداء، وكان على سوريا إذ ذاك القائد لاوميدون فجهَّز عليه جيشًا بريًّا عقد لواءه لقائده نيكاتور وسار هو في البحر إلى شطوط فينيقية، فانتصر نيكاتور على لاوميدون وأخذه أسيرًا، وافتتح بطليموس فينيقية ثم تقدم إلى فلسطين لإخضاع اليهود.

(١١-٣) أحبار اليهود

وقد تقدَّم أن نبوخذنصَّر ملك آشور سبى اليهود إلى بابل سنة ٥٨٧ق.م، فلما فتح كورش الفارسي بابل عطف على اليهود — ربما لأنهم ساعدوه على فتح بابل — فأطلقهم من السبي، وأذن لهم في الرجوع إلى بلادهم سنة ٥٣٦ق.م، فرجع منهم ٤٢٠٠٠ نسمة وسكنوا أورشليم، وأعادوا بناء الهيكل فأتموه سنة ٥١٦ق.م، ثم جاء عزرا من بابل ومعه ١٧٧٧ نفسًا وفيهم الأسرة المالكة، وفي سنة ٤٤٥ق.م جاء إلى أورشليم «نحميا» وكان مكرمًا في دار أرتازركسيس ملك الفرس، ولكنه فضَّل خدمة قومه وبلاده، فعينه الملك واليًا على أورشليم، وكان في الوقت نفسه الحبر الأعظم لليهود، ومن ذلك الحين أصبح الحبر الأعظم رئيس الشعب الديني والسياسي تحت سيادة الفرس، وبقي اليهود خاضعين للفرس إلى أن طردهم الإسكندر من سوريا سنة ٣٣٣ق.م كما مرَّ، فدانوا له، وبعد موته وقعت سوريا واليهودية في يد القائد لاوميدون فحلفوا له يمين الطاعة، فلما أتى بطليموس قاوموه برًّا بيمينهم إلى لاوميدون، فحصر بطليموس أورشليم طويلًا، ثم علم أن اليهود لا يأتون عملًا يوم السبت فهاجمهم في يوم سبت وقعدوا عن الدفاع! فافتتح المدينة وعامل أهلها بالشدة وأسر منهم نحو مائة ألف أسير وأرسلهم إلى مصر، ثم تذكَّر بسالتهم وحفظهم العهد لحكَّامهم فرفق بهم وجعل عليهم في بلادهم واليًا منهم.

ودام حكم البطالسة على اليهود نحو مائة سنة، فلم يثقل نيرهم عليهم لأن البطالسة سمحوا لهم أن يحكموا أنفسهم ويختاروا أحبارهم، وكان أحبارهم ينوبون عن الولاة على جزية يدفعونها لمصر، واشتهر من اليهود في عهد بطليموس الأول الحبر سمعان نحو سنة ٣٠٠ق.م، وكان مستقيم السيرة فلقِّب بالعادل.

(١١-٤) واقعة غزة الأولى سنة ٣١٢ق.م

هذا وكان على آسيا الصغرى من قواد الإسكندر القائد أنتيغونس، فطمع بالاستيلاء على أملاك الإسكندر كلها وبالخلافة له، فتألب عليه كسندر ملك مقدونية وبطليموس ملك مصر ولسيمخوس ملك تراقيا، وانتشبت الحرب بينهم في البرِّ والبحرِ سنة ٣١٥ق.م، فانكسرت جنوده في واقعة بحرية.

وكان من رأي بطليموس أن قبرص هي مفتاح فينيقينة، كما أن فينيقية مفتاح مصر، فاستولى على قبرص وبقيت خاضعة لمصر في كل عهد البطالسة — إلَّا في فترات قليلة — حتى استولى عليها الرومان سنة ٥٧ق.م.

وفي سنة ٣١٤ق.م جدَّد أنتيغونس قواه وزحف بجيش عظيم لامتلاك سوريا ومصر، فلما درى بطليموس به أخذ من فينيقية كل ما وجد من السفن، وقوَّى حصونها الجنوبية بزيادة حامياتها، فلما وصل أنتيغونس رأى جميع مراكبها قد أخذت إلى مصر، ولم يكن في وسعه مهاجمة مصر، بل لم يكن في وسعه فتح مدن فينيقية الجنوبية بلا عمارة بحرية، فشرع في بناء السفن في جبيل وطرابلس مستخدمًا ألوفًا من العمال في قطع الأشجار من جبل لبنان، وجدَّ في العمل حتى بنى أسطولًا كاملًا في سنة واحدة، وسار إلى فينيقية الجنوبية، ففتح صيداء وصور وغزة بعد عناء شديد، ثم شرع في تجهيز جيشه للزحف على مصر، وفيما هو كذلك إذ أتاه الخبر أن كسندر ملك مكدونية قد استحوذ على أمكنة عديدة من آسيا الصغرى، فأسرع بفرقة من جيشه لمقاتلة كسندر، وترك سائر الجيش مع ابنه ديمتريوس وأمره بمهاجمة مصر، وكان مع ديمتريوس عمارة بحرية فيها ٢٤٣ مركبًا حربيًّا، وجيشٌ بري فيه ١١٠٠٠ من المشاة و٢٣٠٠ من الفرسان و٤٣ من الأفيال ولفيف من البرابرة المسلحين بالأسلحة الخفيفة.

فخرج بطليموس من الإسكندرية للقائه حتى أتى غزة ومعه من الجيوش ١٨٠٠٠ من المشاة، و٤٠٠٠ من الفرسان، وكلهم من اليونان النظاميين والمسترزقة، ومعهم لفيف من المصريين بعضهم مسلَّح للقتال وبعضهم للاهتمام بالمؤن والذخائر، فالتقى الجيشان في ضواحي غزة، فاتقى بطليموس شرَّ الأفيال باستخدام أطباق الحديد، وانجلى القتال عن انهزام ديمتريوس بعد أن ترك في حومة الوغى ٥٠٠٠ من القتلى و٨٠٠٠ من الأسرى، وغنم بطليموس أفياله وخيمه وأمتعته، واستولى على اليهودية وفينيقية والبقاع، وأرسل جيشًا مع أحد قواده لمطاردة ديمتريوس فأدركه في جوار طرابلس، ووقع القتال فكان النصر لديمتريوس، وقد وقع في يده ٦٠٠٠ أسير من جيش بطليموس.

(١١-٥) واقعة بليوسيوم السادسة (سنة ٣٠٥ق.م)

وبلغ أنتيغونس خبر ابنه، فأسرع إليه من فريجيا بجيش كبير، وكان بطليموس رجلًا عاقلًا حذرًا، فلم يكن يقدم على موقعة فاصلة خسارتها تفقده ملكه؛ لذلك لم يقف في وجه أنتيغونس في سوريا، فهدم حصون عكا ويافا والسامرة وغزة، ورجع بجيوشه إلى مصر تاركًا صحراء سيناء بينه وبين أنتيغونس، وكان ذلك سنة ٣١١ق.م.

ولكن أنتيغونس بقي مصممًا على غزو مصر، وكان قد نوى غزوها بطريق البتراء، فوقف النبط في وجهه كما مرَّ، فلم يبقَ أمامه إلَّا طريق الفرما، ولما كان غزو مصر بهذه الطريق يقضي بامتلاك قبرص وكانت قبرص في يد بطليموس، كان أوَّل ما فعله أنه جهز ابنه ديمتريوس بجيش فأخذ قبرص عنوة بعد واقعة عنيفة سنة ٣٠٦ق.م.

وفي السنة التالية جهز أنتيغونس في البقاع جيشًا يزيد عن ٨٠٠٠٠ من المشاة، و٨٠٠٠ من الفرسان، و٨٣ من الأفيال، وعاد ابنه ديمتريوس من قبرص بأسطول فيه ١٥٠ سفينة حربية، و١٠٠ سفينة للنقل مشحونة بالمؤن ومعدات الحرب.

ولم أتمَّ استعداده سار بجيشه في صحراء بليوسيوم وسار ابنه ديمتريوس محاذيًا له في البحر، ولكن لم يسر ديمتريوس إلَّا قليلًا حتى هبَّت الرياح الشمالية التي تكثر في تلك الجهة، فألحَّ البحارة عليه بالانتظار ثمانية أيام ريثما تسكن هذه الرياح، فأبى صلفًا وتكبُّرًا؛ فأغرقت الريح بعض المراكب وقذفت بالباقي إلى ميناء بليوسيوم فوقعت غنيمة باردة في يد بطليموس.

وكان بطليموس قد حصَّن جميع الأمكنة في طريق أنتيغونس، فصدَّه في كل مكان، وفرَّ جماعات من جيش أنتيغونس وانضموا إلى جيش بطليموس، فلما رأى أنتيغونس ذلك ورأى النكبة التي أصابت مراكبه في البحر اضطر أن يعمل بمشورة قواده، وعاد بجيشه إلى سورية وعاد بطليموس إلى الإسكندرية، ثم غاب أنتيغوس وابنه عن سوريا، فحمل عليها بطليموس واسترجع فينيقية لحد عكا واليهودية والبقاع.

وعاد قواد الإسكندر فتألبوا على أنتيغونس، وحشد كل منهم جيشًا مؤلفًا من نحو ٨٠ ألف مقاتل، وأوقعوا به في إبسوس من أعمال فريجية فقتلوه، وكان ذلك سنة ٣٠١ق.م، وأمَّا ابنه ديمتريوس فإنه فرَّ من واقعة إبسوس بجيش صغير من المشاة والفرسان، وبقي شريدًا والأقدار ترفعه تارة وتحطه أخرى حتى وقع أسيرًا في يد سلوقوس سنة ٢٨٦ق.م ومات سنة ٢٨٣ق.م.

واقتسم القواد مملكة الإسكندر من جديد، فكان نصيب بطليموس مصر وجنوب سوريا وجزيرة قبرص، وسلوقوس بابل وشمال سوريا وجانبًا من آسيا الصغرى، ولسيمخوس ما بقي من آسيا الصغرى وتراقية.

وأصبحت هذه البلاد كلها ممالك يونانية، ولكن لم يكن في مملكة منها من اليونان بقدر ما كان في مصر السفلى، ولا سيما مدينة الإسكندرية، وكانت مصر إذ ذاك محكومة بقوانين مصرية وقضاة مصريين، ومع ذلك فقد كانت الإسكندرية خاضعة للقانون المكدوني، ولم يكن يسكن الإسكندرية مصري إلَّا ويشعر أنه من شعب مغلوب على أمره؛ لأنه لم يكن يتمتع بالحقوق المدنية التي كان يتمتع بها اليونان واليهود من سكان تلك المدينة، مع أنه لم يكن يدخل تلك المدينة يوناني أو يهودي إلَّا كانت تعطى له تلك الحقوق بحال دخوله، وبقيت هذه الحال لا سيما في ما يتعلق باليونان إلى أن استولى العرب على الإسكندرية في أيام عمرو بن العاص.

(١١-٦) الدولة السلوقية في سوريا

أمَّا سلوقوس مؤسس الدولة السلوقية في سوريا، فهو ابن رجل مكدوني اسمه أنطيوخوس، رافق الإسكندر في غزواته وبعد موت الإسكندر عضد بردكاس إلى أن طمع بمصر فخرج عليه، وبعد قتل بردكاس اقتسم القواد الأملاك، فكان نصيب سلوقوس بابل والقسم الشرقي من مملكة الإسكندر، ولكن أنتيغونس ضايقه ففرَّ من بابل ولجأ إلى مصر، فرافق بطليموس في حملته على فلسطين وحضر معه واقعة غزة الأولى سنة ٣١٢ق.م المتقدم ذكرها.

وبعد الواقعة أخذ شرذمة من العساكر وأسرع إلى بابل، فجرَّد أنتيغونس عليه جيشًا فقهر جيش أنتيغونس واستقل بالملك، وأسس مملكة عظيمة عرفت بالدولة السلوقية، وكان بدء تاريخها أول أكتوبر سنة ٣١٢ق.م.

ثم بعد أن تغلب قوَّاد الإسكندر على أنتيغونس في إبسوس سنة ٣٠١ق.م ألحق سلوقوس بأملاكه شمال سوريا، وكان اليونان في هذا القسم من سوريا أكثر عددًا مما هم في بابل، فبنى عاصمة جديدة على نهر العاصي سمَّاها أنطاكية على اسم أبيه، ونقل إليها عاصمته نحو سنة ٣٠٠ق.م، فقدَّمت بابل لهذه المدينة الجديدة نفس الطاعة التي قدَّمتها ممفيس للإسكندرية في مصر في عهد البطالسة، وأصبحت آشور وبابل ولايتين تابعتين لأنطاكية، ولقب أسلاف سلوقوس أنفسهم ملوك سوريا لا ملوك بابل، وبنى سلوقوس وأسلافه مدنًا كثيرةً في سوريا، منها سلوقية عند مصب العاصي محل السويدية الآن، وهي فرضة أنطاكية على ١٢ ميلًا منها، وبنوا اللاذقية وغيرها، وأدخلوا تمدن اليونان إلى كل مدن سوريا.

ومنذ أيام سلوقوس انقسمت سوريا قسمين: الشمالي للسلوقيين في أنطاكية، والجنوبي للبطالسة في مصر، ولكن السلوقيين ما برحوا يدَّعون أن جنوب سوريا أيضًا داخل في نصيبهم، فحصل بينهم وبين البطالسة لأجلها حروب طال أمدها، وجرَّت على سوريا عمومًا وسوريا الجنوبية خصوصًا أعظم الويلات وأمرّ الشدائد.

وكان الصوريون إلى عهد بطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس (سنة ٢٨٤–٢٤٦ق.م) قد احتكروا تجارة البحر الأحمر كما احتكروا تجارة البحر المتوسط، فكانوا ينقلون السلع بالبحر الأحمر إلى أيلة، فتنقلها القوافل إلى صور، فأراد بطليموس أن يحوِّل تجارة البحر إلى الإسكندرية، فأنشأ كثيرًا من السفن في البحر المتوسط والبحر الأحمر، وبنى مدينة على شاطئ البحر الأحمر الغربي سمَّاها بيرنيس باسم أمه، وكانت السلع تأتيها بالمراكب من الهند والعربية وفارس والحبشة، وتنقلها القوافل إلى النيل عند قنا، ثم تُحمل بالمراكب إلى الإسكندرية فتشحن فيها إلى الغرب، وتستأتي منه البضائع إليها، فكان هذا داعيًا للتحاسد بين أنطيوخوس صاحب سوريا وبطليموس صاحب مصر.

(١١-٧) عود إلى أحبار اليهود

وكتب بطليموس الثاني هذا إلى أليعازر رئيس أحبار اليهود وأخي سمعان المار ذكره أن يرسل إليه رجالًا خبيرين بشريعة اليهود وأهلًا لترجمة التوراة إلى اليونانية، وأطلق الحرية لمائة وعشرين ألفًا من اليهود المقيمين في مصر ليعودوا إلى أوطانهم، فبعث إليه أليعازر باثنين وسبعين رجلًا من علماء اليهود، ستة من كل سبط من أسباطهم الاثني عشر، فرحب بهم بطليموس وأكرم مثواهم وأنزلهم في جزيرة فاروس تجاه الإسكندرية، فترجموا له التوراة المعروفة الآن بالترجمة السبعينية، فأجزل جوائزه لهم وأعادهم بهدايا ثمينة إلى رئيس الأحبار.

وفي عهد بطليموس الثالث الملقَّب يورجيتس (سنة ٢٤٧–٢٢٢ق.م) كان الحبر الأعظم على اليهود أونياس الثاني، فأبى أن يؤدي له الجزية، فتهدد اليهود فشخص يوسف بن أخت أونياس إلى مصر ليصرف غضب الملك، وكان يوسف رجلًا كيِّسًا ذكي الفؤاد خفيف الروح لطيف المعشر، فأحبَّه الملك وأعجب به حتى إنه دعاه لينزل في قصره، وكان يركبه معه في عربته ويدعوه إلى مائدته.

واتفق أنه عُرِض خراج البقاع وفينيقية والسامرة بالمزاد، فقدم الملتزمون ٨٠٠٠ وزنة من الفضة، أي مليون و٢٠٠ ألف جنيه، فقدم يوسف ضعفي ذلك، فقال له الملك: ومن كفيلك؟ قال مازحًا: «لأنت كفيلي أيها الملك وجلالة الملكة»، فسرَّ الملك منه ومنحه ما طلب، وبقي في هذه الوظيفة نائلًا رضا الملك مدة ٢٢ سنة، وهذا يوسف ثانٍ في مصر.

(١١-٨) واقعة رفح الثانية سنة ٢١٧ق.م

وفي عهد بطليموس الرابع الملقَّب فيلوبتر (سنة ٢٢٢–٢٠٥ق.م) كان على سوريا أنطيوخوس الثالث الملقب بالكبير، ففتح صور وعكا وزحف على مصر قصد افتتاحها، فأتى بليوسيوم سنة ٢١٧ق.م، فهبَّ بطليموس الرابع وحشد جيوشه فكان مجموعها ٧٣٠٠٠ مقاتل من المصريين واليونان والمكدونيين وأهل تراقية والغاليين و٧٣ فيلًا، وسار قاصدًا بليوسيوم، ولكن قبل وصوله إليها كان أنطيوخوس قد عاد بجيشه إلى سلوقية لقضاء فصل الشتاء فيها.

وسعى بعضهم إذ ذاك بالصلح بين الملكين، فكان بطليموس يدَّعي أنه عند قسمة المملكة بعد قتل أنتيغونس وقعت فينيقية واليهودية والبقاع في نصيب بطليموس الأول، وزعم أنطيوخوس أنها وقعت في نصيب سلوقوس وهو وارثه وخليفته، فهي إذن له، ولما لم يسلِّم فيلوبتر بذلك عاد أنطيوخوس في الربيع فزحف على مصر ومعه من الجيوش ٧٢٠٠٠ من المشاة و٦٠٠٠ من الفرسان و١٠٢ من الأفيال.

فزحف فيلوبتر بجيوشه إلى الحدود لصدِّه عن الدخول لأرض مصر، فالتقاه أنطيوخوس قرب مدينة رفح «على نحو ١٠٠ ميل من بليوسيوم»، وكان فيلوبتر متزوجًا شقيقته أرسينوي، فرافقته إلى الحدود وركبت فرسها وجالت معه بين الصفوف تحرِّض الجند على القتال والاستبسال في الدفاع عن نسائهم وأولادهم، وحلَّ الجيشان الواحد على مقربة من الآخر، فدخل ثيودوت أحد قوَّاد أنطيوخوس ذات ليلة معسكر الجيش المصري متسترًا في الظلام يصحبه نفران من أتباعه، فظنَّه الجنود مصريًّا وسار حتى انتهى إلى خباء بطليموس قاصدًا قتله، ودكَّ ركن الحرب بضربة واحدة، ولم يكن بطليموس في خبائه فقتل طبيبه — وهو يظنه الملك — وجرح اثنين من حاشيته، فقلق الجيش ونجا ثيودوت تحت جنح الظلام وعاد إلى معسكره.

وفي الغد صفَّ الملكان جيشيهما للقتال، ووقف كل منهما أمام صفوفه تشجيعًا لهم، ونزلت امرأة بطليموس مع بعلها إلى ساحة القتال لتثير الحمية في رءوس المصريين، وفي بدء القتال ظهر أن المصريين كانوا في خطر الانكسار لأنه لما اقترب الجيشان وشمَّت الأفيال الإثيوبية رائحة الأفيال الهندية ارتعدت وانكمشت عن منازلة أفيال أضخم منها جدًّا، ثم عند التحام الجيشين انكسر الجناح الأيسر لكل منهما، ولكن قبل أن ينتهي النهار انهزم جيش أنطيوخوس انهزامًا تامًّا، فرجع إلى غزة ومنها إلى أنطاكية تاركًا في ساحة القتال عشرة آلاف قتيل وأربعة آلاف أسير، واسترجع بطليموس فينيقية واليهودية والبقاع وعاد إلى مصر.

(١١-٩) واقعة بليوسيوم السابعة: نحو سنة ١٧٠ق.م

وفي عهد بطليموس السادس الملقب فيلومتر (سنة ١٨١–١٤٦ق.م) كان على سوريا خاله أنطيوخوس الرابع الملقب أبيفانس، وكان فيلومتر قد تولى الملك بعد وفاة أبيه سنة ١٨١ق.م وهو ابن ست سنين، فاستلمت أمه أخت أنطيوخوس الرابع زمام الملك، فكانت ذكية حسنة السياسة، لكنها لم تعش طويلًا فماتت سنة ١٧٣ق.م، فتولى اثنان من الأخصاء: «ليناي» أحد أشراف البلاد و«أولاي» أحد الخصيان زمام الملك بالوكالة، وكانا عاجزين ضعيفي الرأي وهما يجهلان عجزهما ويدعيان المقدرة على إدارة الملك، فبدلًا من تحصين الحدود وتقوية البلاد من الداخل أرادا أن يتشبَّبا بطلَّاب المجد في مباشرة الحروب، وكان أنطيوخوس الثالث قد انتزع اليهودية والبقاع من مصر، ثم أعطاهما مهرًا لابنته كليوبترا عند تزويجها بطليموس السادس، ولم يسلمهما عند الزواج، فأرسل ليناي وأولاي إنذارًا إلى أنطيوخوس الرابع ملك سوريا ليخلي اليهودية والبقاع مهر كليوبترا، فأبى بحجة أن شرط هبة البلادين مهرًا لم يكن إلَّا تلجئةً فهو فاسد باطل لا يعمل به، فأعلنا الحرب عليه، فحشد جيوشه وسار إلى مصر فالتقاه فيلومتر بجيشه عند بليوسيوم فقهره أنطيوخوس وأخذه أسيرًا، ثم تقدم إلى ممفيس فدخلها بدون مقاومة، وكان يورجيتس أخو فيلومتر مع شقيقته كليوبترا في الإسكندرية، فأعلن نفسه ملكًا على مصر.

فزحف أنطيوخوس بجيشه إلى الإسكندرية وحصرها، ولكنه عجز عن فتحها، فجعل فيلومتر ملكًا في ممفيس وعاد إلى سوريا، ولكنه أبقى بليوسيوم تحت سلطته وجعل فيها حامية قوية ليتمكن من الدخول إلى مصر أي وقت شاء، وقد أمَّل أن يتنازع الشقيقان مُلك مصر فتشتعل بينهما حرب أهلية وتضطرب مصر، فتمسي فريسة له، فعلم الشقيقان مراد أنطيوخوس فعقدا صلحًا على أن يملكا معًا، وفي الوقت نفسه اتخذ فيلومتر أخته كليوبترا زوجةً له، وهذا الزواج الذي تقشعر منه أبداننا اليوم لم يكن ممنوعًا بشرائع البلاد وعاداتها، وكانت كليوبترا السبب في منع الشقاق بين الشقيقين، وفي السنة التالية للصلح قدم أنطيوخوس الرابع إلى مصر وطلب أن يُعطى جزيرة قبرص ومدينة بليوسيوم ثمنًا لسكوته، ثم تقدم إلى ممفيس ففتحت له أبوابها ثم زحف على الإسكندرية.

(١١-١٠) دولة الرومان

وكان الرومان في هذا العهد قد أسَّسوا جمهورية قوية في رومية، وتغلبوا على فيلبُّس ملك مكدونية سنة ٢٠٥ق.م، وقهروا هنيبال بطل قرطاجة العظيم في موقعة فاصلة قرب مدينة زاما سنة ٢٠٢ق.م، وأصبحت المملكة الرومانية سيدة الممالك، وجميع الدول ترهب جانبها، وكان يورجيتس الثاني قد استجار بها من أنطيوخوس الرابع، فلما كان هذا على أربع أميال من الإسكندرية التقاه سفراء رومية وأمروه بترك البلاد، ولما لم يجب تقدم إليه بوبيلوس أحد السفراء ورسم بعصاه دائرة على الرمل حول مجلسه وقال له: «إذا تخطيت هذه الدائرة قبل أن تعِدَ بالخروج من مصر، فيُعَدُّ ذلك منك إعلانًا للحرب على رومية»، فلم يسع أنطيوخوس إذ ذاك إلَّا الخروج من مصر، وكان ذلك سنة ١٦٩ق.م.

(١١-١١) دولة المكابيين اليهود

هذا وفي مدة الحرب بين بطليموس السادس وأنطيوخوس الرابع انقسم اليهود بينهما حزبين، فلما عاد أنطيوخوس من مصر أول مرة سنة ١٧٠ق.م دخل أورشليم ساخطًا، فأخذ يقتل في الذين كانوا على غير حزبه، ونهب الهيكل، وسمَّى على اليهود يونانيًّا يدعى فيلبس فأذلَّهم.

وكان أونياس رئيس الكهنة في رأس حزب مصر، فجمع جمهورًا كبيرًا من رجال حزبه، وأتى بهم إلى مصر فأحسن فيلومتر استقبالهم وأكرم مثواهم وأقطعهم أرضًا في أُون في مقطاعة هليوبولس على نحو ٢٠ ميلًا من ممفيس، الأرض التي سكنها أجدادهم لما دخلوا مصر مع يعقوب قبل هذا العهد بمئات السنين، وأذن لهم أن يبنوا هيكلًا ويرسموا كهنتهم ويقيموا شعائر ديانتهم، فبنى أونياس هناك هيكلًا على مثال هيكل أورشليم، فكان بناء هذا الهيكل وإقامة الشعائر الدينية فيه علة دائمة للخصام بين اليهود اليونان واليهود العبرانيين.

ثم لما عاد أنطيوخوس من مصر المرة الثانية سنة ١٦٨ق.م عزم على النقمة الشديدة من اليهود، فأرسل لإتمام عزمه قائدًا يسمى أبولُّونيوس وجهَّزه بجيش كبير، فأتى أورشليم وانتظر حلول السبت، فدخل المدينة وسرَّح جنوده فقتلوا الرجال واستعبدوا النساء والأولاد، وأحرقوا المنازل وهدموا الأسوار، ثم احتلوا البرج على جبل صهيون وحصَّنوه ليتمكنوا من التسلط التام على المدينة، وبقي هذا الحصن في يد جنود ملك سوريا إلى أن طردهم منه سمعان المكابي سنة ١٤٣ق.م، ثم سعى أنطيوخوس في إلغاء دين اليهود وإكراههم على دين اليونان، فأرسل إلى أورشليم لهذا الغرض رجلًا شديد التعصب يدعى أثينيوس، فأقام في الهيكل تمثالًا لزفس وتمثالًا لأنطيوخوس، وقدم لهما ذبايح من الخنازير، وأكره الناس على المشاركة فيها، وبلغ الظلم حدًّا لا يتحمله الطبع البشري، فكان ذلك السبب في قيام دولة المكابيين المشهورة بين اليهود، وذلك أنه لما عظم الاضطهاد على اليهود في أورشليم فرَّ منها من استطاع الفرار، وكان بين هؤلاء كاهن اسمه متاثيا فرَّ إلى مدينة مودين في نواحي بلاد فلسطين هو وعائلته، وكان له خمسة بنين، فأتى رسول الملك إلى مودين وبنى مذبحًا وأمر السكان أن يذبحوا للأوثان، وقال: من لم يمتثل الأمر يقتل، فأراد أحدهم أن يعمل بأمر الملك فقام عليه متاثيا وقتله وقتل رسول الملك وهدم المذبح ونادى بالدفاع عن شريعة موسى، ثم التجأ إلى بعض كهوف الجبال فنصره بنوه وجماعة من أهل الحمية الدينية، فأعلن الجهاد على اليونان.

وكان متاثيا طاعنًا في السن، فمات سنة ١٦٦ق.م وخلفه ابنه يهوذا، وكان رجلًا شهمًا حسن التدبير يلتهب غيرة على وطنه ودينه وجنسه، فاستمر بالجهاد الذي أعلنه أبوه على اليونان، وأصلاهم هو وإخوته من بعده حربًا دامت سنين أظهروا فيها البأس وصدق العزيمة في النزال ما أدهش الأعداء، وكان من خطة يهوذا أن يبيِّت الأعداء ويهاجمهم على غير انتظار ثم يستبسل في القتال، وقد انتصر على جيوش أنطيوخوس في عدة وقائع واسترجع أورشليم عنوة سنة ١٦٥ق.م، ثم تكاثرت عليه جيوش اليونان فاضطر إلى الفرار منها، وطاردوه إلى نواحي أشدود، وكانوا نحو ٢٠ ألفًا، ولم يكن معه سوى ٨٠٠ رجل، فثبت هو ورجاله وحاربوا حرب الأبطال مدة، ولما تكاثرت عليه الجيوش نادى رجاله قائلًا: «لقد دنا أجلنا، فلنمت موت الأبطال»، ثم حملوا على ميمنة العدو فكسروها غير أن الميسرة دارت عليهم من خلفهم وأحاطت بهم لقلة عددهم، فقُتِل يهوذا ومعظم رجاله، وكان يلقب مكابيوس فعُرف قومه بالمكابيين.

وخلفه أخوه يوناثان، ثم أخوه سمعان، وما زال هذا يجاهد في سبيل الاستقلال حتى ناله وعاد إلى أورشليم سنة ١٤٣ق.م، وطرد اليونان منها، وقد ساعده على الاستقلال محالفته للرومان، وانقسام أفراد الأسرة السلوقية بعضهم على بعض، وقيام دولة الفرثيين في شرق دجلة وطموحها لامتلاك سوريا وانتزاعها من يد السلوقيين.

وقُتِل سمعان غدرًا سنة ١٣٥ق.م، وخلفه ابنه هركانوس، فملك إلى سنة ١٠٦ق.م.

وخلف هذا ابنه أرستوبولس، فكان أول من لبس التاج وسمَّى نفسه ملكًا، ولكنه كان يسمَّى أيضًا رئيس الأحبار، وخلفه أخوه إسكندر ينيوس سنة ١٠٥ق.م، فملك إلى سنة ٧٨ق.م، وكان له ابنان هركانس الثاني وأرستوبولس، فصار الأول وهو البكر رئيس الكهنة والثاني قائد الجيوش.

وكان اليهود في آخر ملك هركانوس الأول قد انقسموا حزبين دينيين سياسيين:
  • الصدُّوقيين: ويقولون: إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح.
  • والفريسيين: ويقولون بكل ذلك (أعمال ٢٣: ٨).

وكان هذا الخلاف علة الشقاق الدائم والخراب، وقد استولى الرومان على سوريا وانتزعوها من يد السلوقيين سنة ٦٤ق.م، ثم استولوا على اليهودية عنوة على يد بمبيوس الكبير سنة ٦٣ق.م، فولَّى بمبيوس هركانوس الثاني واليًا على اليهودية تحت سلطة رومية، وأخذ أخاه أرستوبولس أسيرًا إلى رومية، ومن ذلك العهد صار الرومان يولون الولاة من قبلهم على اليهودية إلى انقضاء ملكهم.

وكان هدم استقلال المكابيين ضربة قاضية على يهود مصر كما كان على يهود سوريا، فإن يهود مصر لما كان إخوانهم أسياد اليهودية كانت رءوسهم مرفوعة، وكان مقامهم فيها كمقام اليونان، فلما سقطت أورشليم وزال ملكهم نكست رءوسهم وانحطوا في عيون أنفسهم كما انحطوا في عيون الآخرين، ونزلوا عن مقامهم إلى مصاف عامة المصريين.

(١١-١٢) واقعة بليوسيوم الثامنة سنة ٥٥ق.م

هذا وكان على مصر في هذا العهد بطليموس الملقب أوليتس، وكان ضعيفًا فكرهه قومه، وفي سنة ٥٧ق.م ضم الرومان قبرص إلى أملاكهم، فلم يحتج عليهم فزاد قومه كرهًا له، وقاموا عليه بالسلاح ففر إلى رومية، وطلب من مجلس الشيوخ أن يساعدوه بجيش لاسترجاع ملكه، فلم يفلح لأن رئيس الكهنة أعلن أنه ثابت في كتبهم «أن رومية يجب أن تكون صديقة ملك مصر، ولكن لا يجب أن تمدَّه بجيش»! إلَّا أن أوليتس تمكن من مصادقة «بمبيوس الكبير»، فأخذ منه كتاب توصية إلى غابينوس الوالي الروماني على سوريا، وأتى سوريا فنقد غابينوس ١٥٠٠٠ جنيه على أن يمكِّنه من استرجاع عرش مصر، فجهز غابينوس بجيش وأرسل معه مرقس أنطونيوس أميرًا على الفرسان، وأمدَّه هركانوس والي اليهودية بجيش من اليهود بقيادة أنتيباتر الأدومي، وسار غابينوس بالجيشين سنة ٥٥ق.م حتى أتى بليوسيوم، وكان مرقس أنطونيوس مع فرسانه في المقدمة، فكسر الجيش المصري ودخل المدينة، فأراد أوليتس أن يعمل السيف بأهلها فمنعه مرقس أنطونيوس، ثم أقبل غابينوس نفسه بجيش وزحف على مصر ففتحها بلا عناء، وقتل بيرنيس المالكة في مصر وزوجها أرفلاوس، وولى أوليتس عرش مصر كما كان وعاد إلى سوريا.

(١١-١٣) واقعة بليوسيوم التاسعة سنة ٤٨ق.م

ومات أوليتس سنة ٥١ق.م عن ابنين وبنتين، وهما كليوبترا وأرسينوي وبطليموس الأكبر وبطليموس الأصغر، وكتب في وصيته أن تتزوج بنته الكبرى كليوبترا بابنه الأكبر بطليموس، ويتوليا عرش مصر معًا، وأرسل نسخة من وصيته إلى مجلس رومية واستحلفه بمعبوداته أن ينفذ الوصية ويتولى الوصاية على ابنه إلى أن يبلغ سن الرشد، فأنفذ مجلس الرومان الوصية وعين بمبيوس وصيًّا لبطليموس الأكبر، ولكنه كان في الواقع واليًا على مصر.

وكانت كليوبترا أكبر من أخيها زوجها، وداهية عاتية، أحبت الاستقلال في الملك، فحاولت طرده وانتشبت الحرب بينهما، فانهزمت كليوبترا ولحقت بسوريا، وهناك جمعت العساكر وعادت إلى مصر فغلبته وقتلته وانفردت بالملك.

وفي هذه الأثناء تنازع بمبيوس الكبير ويوليوس قيصر السلطة في رومية، فأرسلت كليوبترا ستين مركبًا حربيًّا لمساعدة بمبيوس الكبير، ولكن يوليوس قيصر فاز عليه في موقعة فرساليا «في مقاطعة تساليا من أعمال اليونان» سنة ٤٨ق.م، فانتهز الخصيُّ بوثينس — المتولي العناية ببطليموس الأصغر — الفرصة وأعلن سيده ملكًا على مصر وعزل كليوبترا، ففرَّت إلى سوريا وهناك جندت جيشًا وزحفت به على بليوسيوم، فقابلتها الجيوش المصرية، ووقف الجيشان هناك الواحد تجاه الآخر بينهما بضع غلوات.

وكان بمبيوس الكبير عند انكساره في موقعة تساليا قد ركب سفينة وفرَّ من وجه قيصر قاصدًا مصر، فأتى بليوسيوم لاجئًا إلى أولاد أوليتس؛ لأنه كان أحسن إلى أبيهم كما مرَّ، ولكن يقال: إن عرفان الجميل فضيلة قلَّما توجد في القصور.

وكان الإسكندريُّون في هذه الحرب الأهلية بين بمبيوس الكبير وقيصر يودُّون أن يكونوا على الحياد، فلما جاء بمبيوس الكبير بهذه الحال اضطروا أن يختاروا حزبًا فاختاروا حزب الأقوى، وكان أصحاب الكلمة في مجلس بطليموس الصغير: بوثينوس الخصي وأشيلاس القائد المصري وثيودوتس معلم بطليموس الأصغر، فقرَّ رأيهم على قتل بمبيوس الكبير، قال ثيودوتس: «إننا بقتل بمبيوس نحمِّل يوليوس قيصر منَّة ولا نخشى شرًّا»، ثم قال باسمًا: «إن الموتى لا يعضُّون!» فأصدروا أمرًا إلى أشيلاس القائد المصري ولوسيوس سبتيميوس قائد العساكر الرومانية في الجيش المصري، فذهبا إلى شاطئ البحر ورحبا ببمبيوس واستقبلاه مقابلة الصديق للصديق، فأنزلاه من سفينته إلى قاربهما وأتيا به إلى البرَّ فقتلاه، ثم قطعا رأسه وأحضراه إلى الملك وطرحا جثته في البحر. قيل فانتشلها عسكري روماني وأحرقها ودفن رمادها على الشاطئ، ثم نصب عليها حجرًا وكتب عليه بفحمةٍ «بمبيوس الكبير!» سنة ٤٨ق.م.

وبعد ذلك بقليل وصل قيصر إلى الإسكندرية مطاردًا بمبيوس، فوفد عليه أصحاب الملك وقدموا له رأس بمبيوس فاقشعر بدنه من رؤيته وحزن عليه كثيرًا وأمر بدفنه مكرمًا، وقد أراحه بطليموس الأصغر ورجال مجلسه من جريمة قتل حميه.

ولم يكن مع قيصر عند وصوله الإسكندرية إلَّا ٣٢٠٠ من المشاة و٨٠٠ فارس، وقد ظنَّ أنه بعد انتصاره الباهر على بمبيوس في فرساليا لم يبقَ له حاجة إلى قوَّةٍ أكبر، وأن لوسيوس سبتيميوس ومن معه من العساكر الرومانية في مصر ينضمون إليه، ومع ذلك فقد أرسل إلى الكتائب التي تركها في آسيا أن توافيه إلى مصر، ولما كان قد أصبح بعد انتصاره على خصمه القنصل الوحيد لرومية، ادَّعى الحق بفضِّ الخلاف بين كليوبترا ملكة مصر وأخيها، فأمرهما بصرف جيوشهما من بليوسيوم، وكان بطليموس الأصغر قد رجع إلى الإسكندرية، فمال إلى إطاعة الأمر ولكن وصيُّه بوثينس لم يرق له ذلك، فأرسل سرًّا إلى أشيلاس قائد الجيوش المصرية في بليوسيوم أن يحضر بجيشه إلى الإسكندرية ليتمكن من إصدار الأمر إلى قيصر بدلًا من استماع أوامره، وأرسل بطليموس الأصغر بأمر قيصر اثنين من أخصَّائه إلى أشيلاس ليبقى في بليوسيوم، وكان أشيلاس من رأي بوثينس فقتل رسولي بطليموس، وزحف على الإسكندرية ومعه من الجيوش ٢٠٠٠٠ من المشاة و٢٠٠٠ من الفرسان.

وكانت كليوبترا لا تزال مع جيشها وراء بليوسيوم، ولما كانت بارعة جدًّا في الجمال رأت — وكان رأيها في محله — أنها تؤثر على قيصر بجمالها أكثر مما تؤثر عليه بكتبها للحكم لها على أخيها، فأتت متخفية بقارب صغير ومعها رفيق من أخصائها من أهالي جزيرة سيسيليا، وقد رأت أنه يستحيل عليها أن تدخل القصر مكشوفة، فلفَّت نفسها في سجادة وأمرت رفيقها فحملها على ظهره كأنها طرد بضاعة وأتى بها إلى قيصر، ففتنته بجمالها ونالت منه ما تمنت.

ثم وصل أشيلاس بجيشه إلى الإسكندرية، فاعتصم قيصر في القصر الملكي الحصين قرب المرفأ، ومعه من الرهائن ابنا أوليتس وأختهما أرسينوي وبوثينوس الخصي، فحصره أشيلاس في القصر وواقعه في عدة وقائع كان النصر فيها يتراوح بين الفريقين.

ثم فرت أرسينوي من القصر ولجأت إلى جيش أشيلاس، وأرسل بوثينس إلى أشيلاس يعلمه أن قيصر يعوزه الزاد ويحثه على استمرار الحصار، فعلم قيصر بذلك فقتله.

ووقع خلاف بين أرسينوي وأشيلاس، فأمرت بقتله وولت خصيها جانيميدس قائدًا عامًّا على الجيوش مكانه، واستبدت بملك مصر، فشددت الحصار على قيصر وهاجمته برًّا وبحرًا، وقيصر يردُّ هجماتها حتى كلَّ الفريقان من القتل وعقدا هدنة، وملَّ الإسكندريُّون تحكم أرسينوي وخصيها قائد جيشها، وطلبوا من القيصر ملكهم بطليموس الأكبر فأرسله إليهم ظنًّا منه أنه يريحه شرَّ أرسينوي وينهي هذه الحرب التي لم تكن تخطر له على بال، ولكن بطليموس خيَّب أمل قيصر، فشدد عليه الحصار ووضع بعض المراكب في فم النيل الكنوبي لمنع وصول الزاد إليه من سوريا، فأرسل قيصر عمارته من الإسكندرية لتشتيت هذه المراكب فرجعت خائبة خاسرة.

(١١-١٤) واقعة بليوسيوم العاشرة

وفي هذا الوقت قدم متريدات ملك برغامس بجيش من سوريا وسيليسيا لنجدة قيصر، ونزل تجاه بليوسيوم وحمل على أسوارها وافتتحها عنوةً يوم وصوله، ثم زحف نحو ممفيس حتى أتى هليوبولس فحاول أن يعبر النيل هناك، فتصدى له اليهود القاطنون تلك الجهة وحملوا السلاح في وجهه، ولكن متريدات أتاهم بكتب من أبناء جنسهم في أورشليم، فلما اطلعوا عليها انقلبوا إلى معونته، وكان الوالي على اليهودية إذ ذاك من قبل الرومان هركانوس الثاني، فأرسل أنتيباتر الأدومي المار ذكره بجيش مؤلف من ٣٠٠٠ من السوريين اليهود والعرب لنجدة قيصر، فوصل في وقت الحاجة إليه.

وكان بطليموس قد علم بقدوم متريدات فأرسل قوة إلى الإسكندرية لمنعه من عبور النيل، ثم لحقها بجميع جيشه، وبذلك ارتفع الحصار عن الإسكندرية، فسار قيصر لمعونة متريدات وتمكن من الانضمام إليه قبل انتشاب القتال مع جيش بطليموس، فواقع بطليموس في عدة وقائع عند رأس الدلتا فغلبه، فامتنع بطليموس في معسكر حصين وراء ترعة عميقة، فحمل قيصر عليه وكسر جنوده، ففرُّوا بلا نظام إلى مراكب لهم في النيل، وغرق مركب بطليموس من كثرة اللاجئين إليه، وكان هو بين الغرقى، ووقعت أرسينوي أسيرة في يد قيصر، وبعد هذا النصر أسرع قيصر بفرسانه إلى الإسكندرية فدخلها بلا معارض، وأصبح الآمر الناهي فأمر بتنفيذ وصية بطليموس أوليتس كما هي، ولما كان الابن الأكبر من ابني أوليتس قد مات عيَّن بطليموس الأصغر وسنه إذ ذاك ١١ سنة شريكًا لكليوبترا في الملك، وعاد إلى رومية آخذًا الأميرة أرسينوي أسيرة معه، وترك في مصر حامية من العساكر الرومانية تنفق عليها كليوبترا، وتكون اسميًّا تحت أوامرها، ولكنها فعلًا تحفظ مصر تحت طاعة رومية.

وكانت كليوبترا قد ولدت لقيصر ابنًا وسمته قيصر الصغير، فلما بلغ من العمر أربع سنين ذهبت به إلى رومية فأحسن قيصر استقبالها وأسكنها قصرًا له على نهر التيبر، وفي ١٥ مارس سنة ٤٤ق.م قُتِل قيصر في الندوة غيلة بمؤامرة أخص منشئيها كاسيوس وبروتس الذي غمره قيصر بنعمه، ووقعت رومية بيد ثلاثة من قوادها وهم أغسطس قيصر ومرقس أنطونيوس ولبدس، فسُمَّيت حكومتهم بالحكومة الثلاثية، فطلبت كليوبترا من مجلس الأعيان الاعتراف بجعل ابنها من قيصر شريكًا لها في ملك مصر بدلًا من أخيها، ولكن رجال السلطة إذ ذاك لم يسعفوها على ذلك فعادت إلى مصر وهي تنوي إنفاذ عزمها بالقوة عند سنوح الفرصة، ولما كان بطليموس أخوها زوجها الثاني دون البلوغ لم يكن يهمها بقاؤه فلما دخل في سن الخامسة عشر وصار يمكنه أن يطلب المساواة بها أمرت بعض عبيدها فقتلوه، فحكمت وحدها وسمت ابنها شريكًا لها في العرش، وأرسلت من مصر جيشًا مؤلفًا من أربع كتائب رومانية إلى سوريا لينصروا مرقس أنطونيوس على قاتلي قيصر، فلما وصلت هذه الكتائب إلى سوريا حازها كاسيوس وضمَّها إلى القوة التي جمعها لمحاربة مرقس أنطونيوس.

ولكن مرقس أنطونيوس تغلَّب على جميع خصومه، وأرسل أمرًا إلى كليوبترا لتوافيه إلى طرسوس فوافته إليها في زورق مجاذيفه من فضة وقلوعه من حرير مدبَّج ومفروش بأنفس الرياش، وارتدت أفخر ثيابها وأحاطت نفسها بجواريها، فأدهشته بغناها كما فتنته بجمالها، وقد أرسل بطلبها وهو لها السيد الآمر فأصبح العبد الطائع، وكان أول ما طلبت منه أن يقتل أختها أرسينوي ليخلو لها الجو في مصر، فقتلها في هيكل ديانا في إفسس.

ثم سألته أن يأتي معها إلى الإسكندرية، فحضر وأولدها بنتًا ثم توأمين صبيًّا وبنتًا، ثم بلغه أن خصمه أغسطس قيصر طرد امرأته وأخاه من رومية، فأسرع إلى رومية، وقبل وصوله كانت امرأته قد ماتت، فتزوج بأخت أغسطس تقويةً لحزبه، ومع ذلك فإن الوحشة قد ازدادت بين أنطونيوس وأغسطس حتى أدَّت إلى حرب بينهما في أكسيوم سنة ٣١ق.م كان أغسطس الفائز فيها، ففرَّ أنطونيوس إلى الإسكندرية وعاش مع كليوبترا عيشة الرخاء والترف التي اعتادها من قبل.

(١١-١٥) واقعة بليوسيوم الحادية عشرة

فتبعه أغسطس مطاردًا له حتى أتى بليوسيوم وحارب جيش مصر بالبرِّ والبحر، فسلمت له بليوسيوم وزحف على الإسكندرية فخرج أنطونيوس لمصادمته برًّا وبحرًا، ولكن قوَّاد أنطونيوس خانوه وفتحوا الطريق لأغسطس، فدخل المدينة، وعند ذلك استل أنطونيوس سيفه وجعل رأسه على صدره ثم انثنى عليه فاخترق قلبه وخرَّ قتيلًا.

أمَّا كليوبترا فقد أمر أغسطس فقُبض عليها حية، وكان يحب أن يأخذها أسيرة إلى رومية ليتباهى بها، ولكنها لما علمت بانتحار حبيبها أنطونيوس شربت سمًّا وماتت، والمشهور أنها أفلتت على صدرها حية أُتيَ بها إليها في سلَّة ثمار فلسعتها فماتت، وهي في اﻟ ٣٩ من عمرها، وقد ملكت ٢٢ سنة ودفنت في قبرها باحتفال ملكي، وبها انتهت دولة البطالسة، وبدأت دولة الرومان على مصر وذلك سنة ٣٠ق.م.

(١٢) دولة الرومان في سوريا (سنة ٦٤ق.م–٦٣٨ب.م)، وفي مصر (سنة ٣٠ق.م–٦٤٠ب.م)

هذا ومنذ استولى الرومان على سوريا ومصر أخذوا يرسلون إليهما الولاة من أبناء جنسهم، وما زال هذا حالهم إلى انقضاء ملكهم، ومما يلفت النظر في تاريخ هذين القطرين أنه منذ الفتح الروماني أصبح سيد القطرين واحدًا إلى تاريخ الحرب الحاضرة، فإنهما خرجتا من يد الرومان إلى العرب المسلمين، ثم إلى الأتراك العثمانيين، لذلك ولما كانت الملاحة قد تقدمت في مصر والشام منذ الفتح الروماني؛ أصبح الاتصال بين البلدين من ذلك العهد بحرًا أكثر كثيرًا منه برًّا، وها نحن مثبتون هنا أهم ما كان من تلك العلائق وما كان من أمر اليهود مع الرومان استطرادًا لتاريخهم، فنقول:

(١٢-١) اليهود تحت حكم الرومان

قدمنا أن الرومان ملكوا اليهودية على يد بمبيوس الكبير سنة ٦٣ق.م، وثبَّتوا هركانوس الثاني على اليهودية تحت سلطة رومية، وكان قد هاد في عهد إسكندر أبي هركانوس رجل أدومي اسمه أنتيباتر، فولَّاه إسكندر على أدومية وبقي إلى عهد ابنه هركانوس الثاني، فأرسله أولًا نجدة لبطليموس أوليتس سنة ٥٥ق.م، ثم أرسله نجدة إلى يوليوس قيصر عندما كان محصورًا في الإسكندرية، فكان له فرجًا عظيمًا كما مرَّ، فلما استتب الأمر لقيصر أمر أن يُسَّمى هركانوس رئيس الكهنة، وجعل أنتيباتر نائبًا له في اليهودية وذلك سنة ٤٨ق.م، فصار مُلك اليهود إلى هذا الأدومي وبنيه من ذلك الحين.

وكان لأنتيباتر أربعة أولاد: منهم فسايل وهيرودس، فجعل فسايل واليًا على أورشليم، وهيرودس واليًا على الجليل وذلك سنة ٤٤ق.م، وفي هذه السنة قتل قيصر غيلة في رومية، وأنتيباتر في اليهودية، فتولى هيرودس ابن أنتيباتر مكان أبيه، وكان داهية طاغية سفَّاكًا للدماء، فتغلب على جميع خصومه من اليهودية واستبد بهم.

(١٢-٢) مجيء المسيح إلى مصر وعوده منها

وفي آخر سنة من حكم هيرودس وُلد يسوع المسيح في بيت لحم من مريم العذراء، والسنة التي وُلد فيها المسيح سابقة للتاريخ المسيحي المستعمل الآن بأربع سنين؛ لأن منشئ التاريخ المسيحي وهو دانيس الصغير أحد كهنة رومية المتوفى سنة ٥٤٠ب.م بدأه خطأ بعد ميعاده الحقيقي بأربع سنين، فالسنة الحالية سنة ١٩١٦م مثلًا هي في الحقيقة سنة ١٩٢٠م.

ولما وُلد يسوع المسيح، إذا مجوس من الشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له، فلما سمع هيرودس اضطرب، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم، وكان هيرودس عالمًا بانتظار اليهود رئيسًا سياسيًّا وفقًا لنبوءات التوراة، ولم يشأ أن يقوم من اليهود ملك من غير نسله، فنوى على قتل المسيح؛ فدعا المجوس سرًّا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له، فذهبوا وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي، فأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخرُّوا وسجدوا له، ثم أُوحي إليهم في حلم ألَّا يرجعوا إلى هيرودس فانصرفوا إلى بلادهم في طريق أخرى، وإذا ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك؛ لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس، ولما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًّا، فأرسل وقتل جميع الصبيات الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون، فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل؛ لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي، فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى إسرائيل. (متى ص٢)

وقد كانت الدعوة التي جاء بها المسيح روحية ديموقراطية خلاصتها: «محبة الله والقريب، ومقابلة الشر بالخير رغبةً في الخير وترفُّعًا عن الشر»، وأول ما ترمي إليه تجديد القلب وتنقية الضمير، وهي لا تقف بعاطفة أبنائها عند حدِّ الجنس أو الدين، بل تبسطها على البشرية كافة، وآيتها الذهبية: «افعلوا بالناس ما تريدون الناس أن يفعلوا بكم.»

وكان الناس قد ملُّوا من عبادة الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم، وتعبوا من تقديم الذبائح البشرية والحيوانية للآلهة؛ فلبُّوا دعوة المسيح واعتنقوا ديانته بكل رغبة وحماسة، وكان أول من بشَّر بالمسيح في مصر، حسب تقاليد الكنيسة، مرقس الإنجيلي، وقد قاوم أباطرة الرومان دين المسيح واضطهدوا أصحابه أشد الاضطهاد في كل جهة، ومع ذلك فقد انتشر في العالم الروماني كله انتشارًا عظيمًا، ولما قام قسطنطين الكبير سنة ٣٢٣–٣٣٧م اعتنق الدين المسيحي، وجعله الدين الرسمي للمملكة الرومانية، فسطعت شمس المسيح إذ ذاك في الشرق والغرب، وما زالت.

وكان نجم اليهود قد بدأ بالأفول في سوريا ومصر منذ عهد الإمبراطور طيباريوس سنة ١٤–٣٧م، فإنه في عهد هذا الإمبراطور كان في مصر نحو مليون يهودي، وكان ثلث سكان الإسكندرية منهم، ولهم شيوخ ومجلس ملي خاص، وكانوا يذهبون في أعيادهم الكبيرة إلى هيكلهم في أون «هليوبولس». على أن بعضهم كانوا خاضعين لمجلس الملة في أورشليم، ويعتقدون أن هيكل أورشليم هو الهيكل الوحيد لليهود، وكان من عادة هؤلاء في الأعياد الكبيرة أن يرسلوا إلى أورشليم من ينوب عنهم في تقديم الذبايح والصلوات، إلَّا أنه بالرغم عن إصدار القيصر أمره العالي الذي نقش على عمود الإسكندرية بأن لليهود حق مدينة الإسكندرية كاليونان، فإن حكومة الإسكندرية واليونان بل المصريين أنفسهم لم يعطوهم هذا الحق، فقد كان الحق في ذلك العهد للقوة، ومن الأسف أنه لا يزال كذلك إلى اليوم! وسيبقى كذلك أجيالًا بعد!

ثم انقضى عهد طيباريوس وأتى عهد جاليغولا ٣٧–٤١م، ثم قلوديوس سنة ٤١–٥٥م، فبدأ اضطهاد اليهود في مصر وسوريا، واشتدت المظالم عليهم في أيام نيرون سنة ٥٥–٦٨م، فتألبوا للدفاع عن حريتهم واستقلالهم، وبقوا إلى عهد فسباسيان سنة ٦٩–٧٩م فأرسل قائده تيطس بجيش لقمعهم فاتخذ الطريق الآتية:

سار من الإسكندرية ميلين ونصف ميل فأتى نيكوبولس، فركب النيل إلى ثميوس قرب مندس، ثم سار اليوم الأول إلى تانيس، والثاني إلى هيرقليوم، والثالث إلى بليوسيوم، وهناك عبر النيل، والرابع إلى القَلْس، والخامس إلى أوستراسين، وهناك قابلوه بماء للشرب، والسادس إلى «رينوكلورا» (العريش)، والسابع إلى رفح بلدة الحدود، ومنها إلى أورشليم فحصرها، وبذل جهده لافتتاحها صلحًا، ووقع في يده يوسيفوس المؤرخ الشهير، فأرسله إلى اليهود ليعرض على إخوانه الأمان، فأبوا فشدَّد الحصار على المدينة وافتتحها عنوة في ١٠ أغسطس سنة ٧٠م بعد أن دافع أهلها عنها دفاعًا لا مثيل له في التاريخ، وخرب تيطس الهيكل وهدم أسوار المدينة إلى أساسها، وأعمل بأهلها السيف وشتت من بقي منهم في الأقطار.

وبقي اليهود لا يحركون ساكنًا في السياسة إلى عهد الإمبراطور هدريان سنة ١١٧–١٢٨م، فثاروا على النائب الروماني في سوريا، وكان زعيمهم رجل يدعى «باركوكب» أملوا أن يكون المسيح المنتظر ويحررهم من العبودية، وجمع يهود مصر جيشًا صغيرًا وأرسلوه نجدة لإخوانهم، فأرسل هدريان عليهم جيشًا قويًّا شتت شملهم، وقتل منم خلقًا كثيرًا، وأتى بقوم من رومية فعمَّر بهم أورشليم، فأقاموا فيها عبادة آلهة رومية لينفروا منها اليهود الباقين، وأصبحت من ذلك العهد مهجرًا رومانيًّا.

وبعد هذا الاضطهاد لم يقم لليهود قائمة، فإنهم تشتتوا في أقطار العالم، ومع ذلك فلم يتركوا جنسيتهم ولا نسوا دينهم ولا بلادهم، فكانوا أينما حلوا أقاموا شعائرهم وحافظوا على عاداتهم وتقاليدهم، وأملوا الرجوع منصورين إلى أورشليم، وما زال هذا شأنهم إلى اليوم.

(١٢-٣) التلمود

ثم بعد هذا الاضطهاد اجتمع بعض علماء اليهود في طيبارية، فشادوا مدرسة علَّموا فيها فرائض دينهم وتقاليدهم وعاداتهم، وألفوا كتابهم المعروف «بالتلمود» ليكون جامعة معنوية لأمتهم؛ إذ لم تعد لهم جامعة وطنية، وهو قسمان: «المشنا» ومعناه الشريعة الثانية، وهو تفسير التوراة، «والغَمَرة» ومعناه التكميل، وهو تفسير المشنا، وللمشنا تفسيران:
  • الأورشليمي: ألَّفه علماؤهم الذين بقوا في اليهودية، وقد بدءوا بتأليفه في القرن الثاني، ولم يتم إلَّا في القرن الرابع.
  • والبابلي: ألَّفه علماؤهم الذين هاجروا إلى بابل على أثر اضطهادهم الأخير، ولكنه لم يتم إلَّا في القرن السادس.
واليهود باعتبار التلمود فريقان:
  • الرَّبانيون: وهم أصحاب التلمود، وهم جمهور اليهود.
  • والقرَّاءون: وهم ينكرون التلمود، ولا يعتقدون إلَّا بالتوراة والأنبياء، ولا يزيد عددهم على ربع مليون.

وأما «السمرة» فلا يعتقدون إلا بتوراة موسى والأنبياء إلى يشوع، ولا يصدقون بالتلمود، وعددهم الآن لا يزيد على ٢٠٠ نفس، وكلهم في نابلس، وهم لحد الآن يقدمون الذبائح وهي قربان الفصح على جبل جرزيم.

ويبلغ عدد اليهود الآن حسب تقدير بعض أعيانهم ١٢ مليونًا موزعين كما يأتي:

 ١٢٠٠٠٠٠٠  الجملة
٥٥٠٠٠٠٠ في روسيا
٢٠٠٠٠٠٠ في النمسا
٥٠٠٠٠٠ في ألمانيا
٣٠٠٠٠٠ في رومانيا
٥٠٠٠٠٠ في إنكلترا وفرنسا وبلجيكا
وهولاندا وإيطاليا
 ١٥٠٠٠٠٠  في أميركا وأستراليا
١٢٠٠٠٠٠ في العجم وشمال أفريقيا
٥٠٠٠٠٠ في تركيا أوروبا وآسيا
منهم نحو ١٠٠ ألف في سوريا
ونحو ٤٥ ألف في مصر
وقد نظَّم اليهود حديثًا جمعيتين كبيرتين:
  • الصهيونية: وغايتهم جمع اليهود كلهم في صهيون، أي فلسطين موطنهم الأصلي.
  • والإقليمية: وغايتها جمع اليهود في أية بقعة من بقاع الأرض؛ ليخلصوا من الشتات، وهؤلاء يعلمون أن غاية الصهيونية غير مستطاعة؛ لأن أهل فلسطين أنفسهم يقاومونها أشد المقاومة، والدول لا تساعدهم عليها، وهم يقولون: إنه متى ظهر المسيح فهو يجمعهم في صهيون بقوَّة الله.

(١٢-٤) الدولة التدمريَّة في بادية الشام

وفي أواسط القرن الثالث للمسيح قام في بادية الشام مملكة عربية قوية عاصمتها تدمر، وهي في طريق الشام إلى بابل على نحو ١٧٦ ميلًا رومانيًّا من الشام، ونحو ضعفي ذلك من بابل، وقد كانت تدمر الوصلة بين الرومان في سوريا والفرثيين الذين خلفوا الفرس شرقي دجلة، وكانت المملكتان تخطبان ودَّها بدلًا من أن تخضعاها.

وأشهر ملوكها «أدوناثوس»، كان محالفًا رومية، وبعد موته تولَّت زوجته «زنوبيا» عرش تدمر، فنقضت عهد رومية، وملكت سوريا وآسيا الصغرى وقهرت الجيوش التي أرسلها الإمبراطور جاليانوس الروماني (سنة ٢٥٣–٢٦٨م) ضدها، وادَّعت أنها من نسل كليوبترا ملكة مصر المار ذكرها، وسيَّرت جيشًا إلى مصر بقيادة «زبدا» لاسترجاع عرش أجدادها، وكان جيشها مؤلفًا من نحو ٧٠ ألفًا من أهل تدمر وسوريا والبجة، فالتقاهم جيش مصر، وكان مؤلفًا من نحو ٥٠ ألف جندي بقيادة بروباتس، فهزموه فانتحر من شدة قهره، ومع ذلك فإن جيش تدمر لم يفز بامتلاك مصر، فإن المصريين اعترفوا بقلوديوس إمبراطورًا عليهم.

وبعد موت قلوديوس جدَّد التدمريون غزوتهم على مصر، فملكوها سنة ٢٦٨م، واعترف المصريون بزنوبيا ملكة عليهم، «وكان ذلك هو الفتح العربي الثالث لمصر.»

ولما تولى أورليان إمبراطورًا على رومية سنة ٢٧٠–٢٧٥م منح زنوبيا اسم شريك له في الملك، وضرب النقود في الإسكندرية رأسه على وجه ورأسها على الوجه الآخر، ثم قاد جيوشه على سوريا وحاربها في واقعتين، فتغلب عليها وأخذها أسيرة إلى رومية بعد أن ملكت أربع سنين في تدمر وبضعة أشهر في مصر.

(١٣) الدولة العربية الإسلامية في مصر

وبقيت مصر بيد الرومان إلى أن افتتحها العرب المسلمون سنة ٦٤٠م على يد عمرو بن العاص كما مرَّ، وكان بينهم وبين الرومان في بليوسيوم واقعة هي الثانية عشرة من وقائع بليوسيوم، «وكان هذا الفتح هو الفتح العربي الرابع لمصر.»

(١٤) الدولة التركية العثمانية في مصر

وما زالت مصر تحت حكم العرب، وقد تقلَّب عليها عدة دول منهم ومن الأتراك المماليك والجراكسة، وقد مرَّ ذكرها جميعًا حتى فتحها الأتراك العثمانيون على يد السلطان سليم سنة ١٥١٧م.

وكانت الطريق الوحيد للجيوش والتجار بين مصر والشام «طريق الفرما» على شاطئ البحر المتوسط منذ أول عهد التاريخ إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر للمسيح، فاستجدَّ «طريق العريش»، وكان أول من سار بهذه الطريق من الفاتحين السلطان سليم، وما زال الطريقان مستعملين بين مصر وسوريا إلى اليوم.

(١٥) الدولة الفرنساوية في مصر

وامتلك الفرنساويون مصر على يد نابليون الكبير سنة ١٧٩٨–١٨٠١م، وهاجم نابليون سوريا وعاد منها بطريق العريش كما مرَّ.

(١٦) الأسرة المحمدية العلوية في مصر

واستقل بمصر الأسرة المحمدية العلوية سنة ١٨٠٥، وهاجم إبراهيم باشا سوريا وعاد منها بطريق العريش كما مرَّ، وبقيت مصر تحت سيادة الأتراك العثمانيين إلى تاريخ هذه الحرب، فزالت عنها تلك السيادة كما سيجيء.

(١٦-١) سكان مصر

وأهل مصر الآن مزيج من أقباط نصارى، وعرب مسلمين، وعرب بادية، وأتراك مسلمين، وسوريين نصارى ومسلمين، ويهود، وإفرنج نصارى يونانيين وطليان وإنكليز وفرنساويين ونمساويين وألمان وروسيين وبلجيكيين وغيرهم، وفي التعداد الرسمي الأخير سنة ١٩٠٧ بلغ عددهم ١١٢٨٧٣٥٩ نفسًا منهم:
  • ١٠٢٦٩٤٤٥: مسلمون ربما كان ثلثاهم من أصل قبطي، والثلث الباقي من أصل عربي، بينهم ٢٧٥٩١ من أتراك عثمانيين وأعجام وغيرهم.
  • ٧٠٦٣٢٢: أقباط نصارى: منهم ١٤٥٧٦ كاثوليك، و٢٤٧١٠ بروتستانت، والباقون أرثوذكس.
  • ١٧٥٣٧٠: نصارى سوريون وإفرنج من جميع الأجناس، وأكثرهم يونانيون وطليان.
  • ٣٨٦٣٥: إسرائيليون.
  • ٩٧٥٨٧: أديان أخرى.

(١٦-٢) قبائل البدو في مصر

أمَّا البدو في مصر، فقد بلغ عددهم في التعداد الأخير ٦٣٥٠٠٠ منهم ٩٧٣٨٠ قُدِّروا تقديرًا وهم قبائل شتى، وكلهم مسلمون، وينتسبون إلى عرب الحجاز، وهم لا يزالون يتمتعون بامتيازات جمَّة أهمها إعفاؤهم من القرعة العسكرية، ومحاكمتهم بموجب قانون خاص ينطبق على عرفهم وعاداتهم، وهذه هي قبائل البدو في القطر المصري كما في نشرة قانون العربان الرسمية المؤرخة ٧ يناير سنة ١٩٠٦:
  • في مديرية القليوبية: العُليقات، الحويطات «وعمدتهم سعد بك شديد»، العيايدة بحري، جهينة، الصُّهب، بلي بحري، الصوالحة.
  • في مديرية الشرقية: الهنادي، الطُّميلات، العيايدة بحري، مُطَير، النفيعات «وعمدتهم منصور بك نصر الله»، السعديين «وعمدتهم محمد بك شلبي»، السماعنة، أولاد موسى «وعمدتهم أمين بك بدران»، البياضيين، أولاد سليمان، عبس، العقايلة، الأخارسة، بني غازي، القطَّاوية، العتبيين، جهينة الشرقية، أولاد علي الشرقية.
  • في مديرية المنوفية: القدادفة.
  • في مديرية الغربية: بنو عون، البهَجة، الضُّعفا البحرية، الفواخر، الهداهيد.
  • في مديرية البحيرة: أولاد علي «وفروعها: أولاد علي الأحمر، أولاد خروف، السننا، السناقرة وعمدتهم عمر بن خير الله بك الدجن»، الجميعات، سمَّالوس، الدُّمينات، الجوابيص، النمايم، هوَّارة، الربايع، لَزْد.
  • في مديرية الجيزة: النجَمة، الترابين، النعام، العيايدة قبلي.
  • في بني سويف: المشارقة، خويلد، السعادنة، فزارة، الضُّعفا.
  • في مديرية الفيوم: الحرابي «وعمدتهم عبد الستار بك الباسل»، الصبيحات، سمَّالوس، فرجان الفيوم، الرماح، البراعصة، الحوتة.
  • في مديرية المنيا: الفوايد «وعمدتهم لملوم بك السعدي»، المعازة، الفرجان، الجوازي البيض، الجوازي الحمر، الجلالات.
  • في مديرية أسيوط: مطير، الجهَمة، السعادنة التابعة للجهمة، العطيَّات، العطيات قبلي، العطيات التابعة للجهمة، طرهونة «وعمدتهم مهنى بك سيف النصر»، أنداره التابعة لطرهونة، الطرشان وأجلاص التابعة لطرهونة، العمايم، الشنابلة، الكليبات، الأطاولة.
  • في مديرية جرجا: بلي، بنو واصل، الرشايدة، الحروبة، الصبحة.
  • في مديرية قنا: الكلاحين، العوازم، العزايزة، الهدلاو، جهينة قبلي.
  • في مديرية أسوان: العليقات، العيايدة وفروعها: العشَّاباب، الفقرا والمليكاب، العبوديين والشناتير.

(١٦-٣) قبائل الصحراء الغربية

وأما قبائل الصحراء الغربية، فقد حدثني بها الشيخ موسى صالح شيخ زاوية مريوط وغيره من الخبيرين بهم، قالوا:

يسكن صحراء ليبيا أو الغربية من النيل إلى جالو والكفرة فريقان من البدو: «المرابطون والسعادي»، والمرابطون أقدم من السعادي، ويعرفون أيضًا بالصدقان أو الأصدقاء، وأهمُّ قبائلهم: زُوي، المجابرة، الأواجلة، المنفة، الموالك، الشواعر، الجرارة، القطعان، الحوتة، القبائل، التراكي، مسراتة، الشهيبات، الفواخر، ترهونة، العوامة، الصوانعة، السلاطنة، سُعَيط، القدادفة.

والسعادي فريقان: فريق يسكن الصحراء من حدود النيل إلى بني غازي، قيل إن هؤلاء نسل أولاد سعدى، وفريق يسكن الصحراء من بني غازي إلى حدود جالو.

أمَّا أولاد سعدى، فهم ثلاثة: عقار، وجبريل، وبرغوث، وكل منهم رئيس قبائل وأفخاذ شتى.
  • (١)

    فمن ذرية عقار: أولاد علي، الحرابي، الهنادي، بني عونة.

    ومن فروع أولاد علي: علي الأحمر، ومنهم القنيشات والعشيبات والكميلات، وعلي الأبيض، ومنهم السناقرة وأولاد خروف والسننا، ومن السننا عروة ومُحَيفظة، ومن فروع الحرابي: البراعصة، والخاسة، والدرَسة، والعبيدات.

  • (٢)

    ومن ذرية جبريل: العواقير، والعريبات، والمغاربة، والجوازي.

  • (٣)

    ومن ذرية برغوث: العبيد، والعرفة، والفوايد.

ومن السعادي الذين لا ينتمون لأولاد سعدى ويسكنون الصحراء الغربية من بني غازي إلى جالو والكفرة: الفرجان، الحُسون، أولاد أبو سيف، ورفلا، المحاميد، المقارحة، أولاد سليمان، الرماح.

ومن ذلك ترى أن بعض قبائل السعادي والمرابطين كأولاد علي والمنفة وغيرهم قد انقسموا قسمين، فقسم سكن القطر المصري والقسم الآخر بلاد برقة وطرابلس الغرب.

وكل قبيلة من المرابطين هي في حمى قبيلة من السعادي، وتدفع لها جعلًا سنويًّا، ولعل السبب في ذلك أن السعادي جاءوا البلاد فاتحين، فضربوا على المرابطين جزية لا تزال إلى اليوم، وفي رواية العرب المرابطين أن سعدى أم الإخوة الثلاثة وفدت على بيت مناف جد المنفة، وكان أشهر المرابطين وعمدتهم، فجعل على كل قبيلة من المرابطين جعلًا يدفعونه لسعدى لتربي أولادها اليتامى، فسرى هذا الجعل عليهم، وصار السعادي يحسبونه حقًّا لهم إلى اليوم، يطالب به إذا قصَّر مرابطوهم بأدائه، ومن ذلك أنه إذا ضاف السعادي أحد المرابطين ولم يحتفل بضيافته؛ رفع الأمر إلى مجلس عرفي وألزم القاضي المرابط دفع غرامة للسعادي حسبما يتراءى له، وإذا ظلم سعاديٌّ مرابطًا شكاه إلى صديقه الذي يحميه، فإذا لم يحصل له حقه ترك صداقته واتخذ له صديقًا آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤