الفصل الرابع

في حروب البدو في سيناء

في عهد الأسرة المحمدية العلوية

تقدم لنا — في الكلام على سكان سيناء — ذكر الحروب التي قامت بين قبائلها منذ هاجر إليها العرب المسلمون إلى أن استقرت على قبائلها الحاليين قُبيل عهد الأسرة المحمدية العلوية على مصر، ونذكر هنا أهم ما جرى من الحروب بين هذه القبائل بعضها مع بعض وبينها وبين قبائل سوريا والحجاز في عهد الأسرة المحمدية العلوية أو قبلها بقليل كما أخذناها عن تقاليدهم وأشعارهم ورجومهم وقبورهم فنقول:

(١) حروب البدو في بلاد الطور

(١-١) حرب الطورة العليقات والكعابنة، في عهد أجداد الجيل الحاضر

  • واقعة الفهدي: جاء في تقاليد الطورة أن عرب الكعابنة القاطنين «الفرعة» جنوبي الخليل هاجموا بلاد الطور في عهد أجداد الجيل الحاضر وخطفوا إبلًا للعليقات وبنتًا من بناتهم وانقلبوا راجعين إلَّا بلادهم، ففزع العليقات وراءهم حتى أدركوهم في وادي الفهدي شرقي جبل إخرم، فأوقعوا فيهم موقعة دموية كتب فيها النصر لهم، فاستردوا إبلهم وبنتهم، وأقاموا لهذه الواقعة تذكارًا ثلمًا في الأرض عن كل من جانبيه صف من الحجارة لا يزال محفوظًا إلى اليوم، وقد تقدم وصفه، وقال البعض: إن هذه الواقعة حدثت بين بني واصل من عرب الطور والظلَّام من عرب الشام، وإن الإبل التي خُطفت من إبل بني واصل والبنت من بنات العليقات، وفي ذلك قال شاعرهم:
    لحق طُلَيبك يا سُليمى
    عليقات فوق اللقاح
    هم برَّكوا ونحن قرعنا
    لما الدم تغارف بالقداح

(١-٢) حرب الطورة القرارشة والتياها، في عهد أجداد الجيل الحاضر

حدثني الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة السابق قال: «نشبت حرب بين قبيلتنا القرارشة والتياها في عهد جدِّي الأسبق «نصير» دامت سنين، ثم توسط العرب بالصلح فاجتمع كبار القبيلتين عند جدِّي وعقدوا صلحًا وانصرف التياها إلى بلادهم، وعند انصرافهم أهدى لهم جدِّي جرابًا من البلح وجانبًا من الزبدة وأرسل غلامه وراءهم، وقال له: أوهمهم أنك تفتش عن إبل لنا وأنصت إلى ما يقولون، فلما خرج التياها من أرض الطور أتوا بالبلح والزبدة ليأكلوا فقال كبيرهم: «بارك الله في السيف والدبوس اللذين أطعمانا البلح والزبدة»، فرجع الغلام إلى جدِّي وأخبره بالذي قاله كبير التياها، فأعلن على التياها حربًا ثانية دامت سبع سنين، ثم عادوا إلى الصفح فعقدوا «حلفًا» ما زالوا مقيمين عليه إلى الآن.» ا.ﻫ.

(١-٣) حرب الطورة والجيش المصري، في عهد أجداد الجيل الحاضر

  • واقعة برَق: حدثني الشيخ موسى أبو نصير قال: «كان جدِّي «صالح» من المشايخ المشهود لهم بالبسالة وأصالة الرأي، وكان شيخ مشايخ الطورة كما أنا الآن، وتجري له «صُرَّة» سنوية من الرزنامة المصرية قدرها ٤٠٠٠ غرش، ففي عهده حضر بعض التجار من الحجاز ببضاعة من البن إلى السويس بالمراكب، ومن السويس حملوها على الإبل وسارا بها قاصدين مصر، وكان جماعة من عرب الطورة يراقبونهم، فلم يبعدوا عن السويس حتى انقضوا عليهم فسلبوهم البن وفرُّوا إلى جبالهم، فأرسلت مصر سرية من العساكر في أثرهم، فتجمع الطورة برئاسة جدِّي في وادي برَق فأقاموا هناك سورًا من الحجارة وتترسوا به، فانقسمت السرية فرقتين: فرقة نزلت في الوادي تجاه العربان، وفرقة علت أكمة تشرف عليهم من الوراء وأشعلت فيهم النار من الجانبين، فأجاب العرب نيرانهم وثبتوا لهم برهة قتل فيها جانب من الفريقين، ثم لم يعد للعرب طاقة على تحمل نيران العساكر فانهزموا ولجئوا إلى الدير، فتبعهم العساكر ونزلوا في سهل الراحة، وأرسل قائدهم الأمان إلى الشيخ صالح، فحضر وصالحه على أن يُرجع البن ويُعفى عنه وعن عربانه، فجعل عنده الرهائن حتى أرجع البن كله أو معظمه، ولكن مصر قاصَّته بقطع نصف راتبه وبقي النصف الآخر يجري له إلى أن مات.

    فخلفه على المشيخ عمي موسى، ومات قبل الثورة العرابية بست سنوات، فسميتُ شيخًا على الطورة في مكانه، وكان عمي قد وكَّل أبو شعير شيخ الصوالحة المقيمين بمصر في قبض الصرة فلم يجد ملبِّيًا من الحكومة، ولما توليت المشيخة ذهبت إلى السويس ومعي ستة من مشايخ الطور وطالبت بالصرة فلم أستفد شيئًا، فبقيت إلى أن ضمت الحربية بلاد الطور إلى نخل سنة ١٨٩٣ فعينت لي راتبًا قدره ٤٨ جنيهًا في السنة لا يزال يجري لي إلى اليوم.» ا.ﻫ (سنة ١٩٠٧م).

(١-٤) حرب الطورة العوارمة والمعازة، في عهد أجداد الجيل الحاضر

  • واقعة الهَبج: قالوا: «نجع العوارمة أجداد الجيل الحاضر في ربيع بعض السنين إلى بلاد المعازة في العريش، ثم انقلبوا راجعين إلى بلادهم، فلحقهم المعازة ومعهم العيايدة حتى أدركوهم في الهَبج في أسفل وادي سدر، فذبحوهم شر ذبحة، فأفلت واحد منهم وأبلغ الطورة ما كان، فساروا في أثر المعازة حتى أدركوهم في صعيد مصر وأوقعوا فيهم وقعة دموية، ثم اجتمع الفريقان في قلعة مصر وعقدا صلحًا لا يزالون عليه إلى اليوم.»

(١-٥) الطورة وحرب الحويطات وبلي في الحجاز، سنة ١٩٠٤

إنه في سنة ١٩٠٤ نشبت حرب بين حويطات ضبا شياخة عليَّان أبو طقيقة وبلي الوجه شياخة سليمان باشا عفان، فأرسل الشيخ عليَّان أخاه أحمد إلى الشيخ موسى أبو نصير يطلب نجدة من الطورة؛ لأنهم مرتبطون معهم بحلف قديم، فلم يرَ الشيخ موسى مصلحة للطورة في الدخول بهذه الحرب، وكانت السردارية قد أصدرت أمرها إلى قبائل سيناء كافة تحذِّرهم الدخول فيها، فأجاب الشيخ موسى رسول الشيخ عليَّان: «كنا نوَّد كثيرًا أن ننجدكم، ولكننا لا نستطيع أن نسير ضد أوامر حكومتنا»، فنظم الحويطات قصيدة بكَّتوا فيها الطورة لتقاعدهم عن نصرتهم وهم حلفاؤهم، ومنها:

أحسبك يا طوري تعز القبيلة
تراك حصيني لابِد في خميلة

فأجابهم الطورة بقصيدة طويلة وجهوها للشيخ عليَّان قالوا:

اللي فتح باب الحرب يسدُّه
وإلَّا يعطي الحكم راعيه

(٢) حروب البدو في بلاد التيه

(٢-١) مكون وادي الراحة، بين اللحيوات والتياها، في عهد أجداد الجيل الحاضر

  • مكون الراحة: وقعت حرب بين اللحيوات والتياها في عهد أجداد الجيل الحاضر، سببها أن تيهيًّا يدعى «لقلوق» اغتصب بنت سليم قردود من اللحيوات الخناطلة، فهبَّ اللحيوات جميعًا وأعلنوا الحرب على التياها، فقتلوا شيخهم حمد بن عامر — جدُّ الشيخ حمد مصلح — رميًا بالرصاص، فجمع التياها جموعهم وقصدوا بلاد اللحيوات حتى أتوا بئر الثمد، فوجدوا اللحيوات قد جلوا عنها إلى وادي فيران، ومن هذا الوادي أرسلوا ركبًا إلى جبل شويشة العجمة، فساقوا ٣٠٠ جمل للتياها غنيمة، فجاء ابن نصير شيخ مشايخ الطورة إلى اللحيوات وقال لهم: إنكم دخلتم بلادي وغزوتم منها بلاد التياها، فعيب عليَّ أن أسمح لكم بالبقاء في أرضي ومعكم إبل التياها، وأصرَّ على ردِّ الإبل أو يعلن عليهم الحرب، فردُّوا الإبل وقصدوا فرج أبو طقيقة شيخ الحويطات في مصر للاستنصار به، ولما وصلوا السويس أرسلوا الظعن لأبي طقيقة وغزوا التياها في وادي الرواق، فساقوا نحو ٢٠٠ جمل لابن ناصر وابن كيلة وانقلبوا راجعين إلى السويس، ففزع التياها وراءهم فأدركوهم في رأس وادي الراحة على نحو ست ساعات من بئر مبعوق، فنشبت بين الفريقين معركة دامت من الصبح إلى العصر كان النصر فيها للحيوات، وقد سُمِّي المكان الذي حصلت فيه الواقعة «بالمكْوَن» إلى اليوم، وكان التياها في هذه الواقعة نحو ١٠٠ رجل بقيادة حمد بن عامر، واللحيوات لا يزيدون على ٣٠ رجلًا برئاسة مسمح بن نجم، وقد قتل من التياها العُصَيبي وجرح واحد، وأمَّا اللحيوات فلم يقتل منهم أحد وقد فازوا بالإبل فأخذوها إلى مصر، فذهب ابن ناصر وابن كيلة إلى مصر لاسترجاع إبلهم، فرد اللحيوان لهما النصف «بالحسنى» وأبقوا النصف، ثم اجتمع القائدان حمد بن عامر ومسمح بن نجم في بيت أبو طقيقة في مصر فعقدا صلحًا وعاد اللحيوات إلى بلادهم، ومما قيل في هذه الحرب:
    في شأن لقلوق
    غدت اللحيوات بالنوق

    وقيل:

    تياها يا سيل طموش
    ولحيوات يا سدُّ حبوس

    قالوا: وكان التياها لما نزح اللحيوات إلى فيران أرسلوا إليهم يقولون: «إننا لم نعلن الحرب إلَّا على النجمات والخناطلة والكساسبة، وأمَّا باقي اللحيوات فليس بيننا وبينهم حرب»، وقد قصدوا بذلك شق القبيلة، ففازوا بقصدهم ورجع قسم كبير من اللحيوات إلى أوطانهم في بلاد التيه خوفًا على إبلهم من الشتات واجتنابًا لشر الحرب، فغنَّى بنات الطورة في ذلك قالوا:

    اللي قطع (الترعة) مضَّى كلامه
    والنبي شوفاني
    واللي قعد يا بنات
    والنبي كوباني (نذل)

    ومن ذلك الحين فالفريق الذي ثبت على الحرب له الميزة على الفريق الذي تخلَّف عنها، من ذلك أنه إذا شرد أحد اللحيوات ببنت من بنات القبيلة وكان من الفريق الأول غُرِّم «بمفرود»، وإذا كان من الفريق الثاني غُرِّم «بمربوط».

(٢-٢) حرب اللحيوات والمعازة (سنة ١٨٢٠ – سنة ١٨٨٥م)

  • واقعة القرِّيص الأولى: في نحو سنة ١٨٢٠م قامت حرب بين اللحيوات والمعازة دامت سنين عديدة، سببها أن المعازة غزوا بلاد التياها وساقوا منها نياقًا لعتيق البريكي التيهي وانقلبوا راجعين إلى بلادهم، فمرُّوا في طريقهم على بئر القرِّيص، واتفق أن اللحيوات كانوا إذ ذاك مخيمين قرب البئر يحتفلون بختان أولادهم، وكان بين الذين يختنون «سليمان القصير» شيخ اللحيوات الأسبق، فجاءهم منذر يقول: إن المعازة نهبوا إبلًا للتياها وهم مارُّون بها على البئر، فلزم اللحيوات حسب عُرف العرب ردُّ الإبل المسلوبة لأهلها، فطاردوا المعازة واستردوا الإبل منهم عنوة، وقد قتل منهم سليمان بن عليوية من النجمات، فهبَّ النجمات لأخذ الثأر، وكان غزاة المعازة قليلين فأطنبوا على عيد بن حسين من كبار النجمات فأصبح مجبورًا بسلو العرب أن يحميهم من قومه، فجاء إلى النجمات طالبي الثأر وسألهم ألَّا يؤذوا المعازة وهم في بيته فيجلبوا عليه العار، بل ينتظروا حتى يخرجوا فيفعلوا بهم ما أرادوا، فقعد النجمات لهم في الطريق منتظرين خروجهم من البيت، وكان عيد بن حسين واسع الحيلة سديد الرأي، فلما دخل الليل ذبح نعجة من نعاجه وعلقها أمام خيمته وأوقد النار ليوهم النجمات أنه يصنع ضيافة للمعازة، وأوعز إلى المعازة أن يتسللوا واحدًا بعد واحد تحت جنح الظلام، ففعلوا ونجوا بأنفسهم، فنقل المعازة هذا الفعل «حسنى» لعيد بن حسين إلى اليوم.
  • واقعة أبو عجارم: وفي حوالي سنة ١٨٤٠ غزا معازة الكرك التياها بقيادة «فريج أبو طيرَين» فأخذوا نحو ٤٠ ناقة لأبي فارس التيهي، وكان اللحيوات إذ ذاك نازلين شمالي «وادي العقفي» فلما دروا بالخبر انطلقوا وراءهم فأدركوهم في «وادي أبو عجارم» قرب مصب العقفي بالجرافي، فوقف لهم المعازة وحدثت واقعة دموية بالبارود أولًا ثم بالحجارة، دامت من الصبح إلى قرب الغروب، ثم تحمس أبو طيرين كبير المعازة فاستل سيفه وصاح بقومه وهجم على اللحيوات، فرماه جمعة رضوان من اللحيوات السلاميين برصاصة من بندقيته أم زناد فخرَّ قتيلًا، فوقع الفشل في المعازة فتركوا غنيمتهم وإبلهم وفرُّوا هاربين، فاسترد اللحيوات جمال أبو فارس التيهي وغنموا فوقها نحو ٣٠ ذلولًا، وفي ذلك قال شاعرهم:
    دارِس يا قلبي دارِس
    حطِّينا عَ الدرب حارس
    خليك فاكر يا تيهي
    فكِّينا إبل ابو فارس
  • واقعة القريص الثانية: وفي حوالي سنة ١٨٧٧م أيام كان محمد أفندي عبده ناظرًا على نخل والعقبة، خرجت سرية من المعازة مؤلفة من ٣٠ رجلًا بقيادة صبحي أبو هيشة بقصد غزو اللحيوات، فساروا حتى أتوا بئر القريص، فالتقوا قافلة من التجار ذاهبة إلى العقبة، وكانت القافلة خليطًا من الحويطات وأهل نخل والعقبة والسويس، وليس فيهم إلَّا لحيوي واحد، فظنَّها المعازة أنها قوم من اللحيوات فأشعلوا فيهم النار، فصمدوا لهم وأجابوهم بالمثل، فقتلوا كبيرهم صبحي أبو هيشة وجمله، وجرح المعازة ابن عصبان الحويطي في كتفه، ثم صاح صالح الكبريتي من أهل العقبة بالقوم وقال: «نحن تجار أصحاب ولسنا لحيوات»، فلما رأى المعازة أنهم يحاربون قافلة كفُّوا عن الضرب وقالوا للكبريتي: ادفن قتيلنا «بحسنى» فحمله إلى العقبة ودفنه هناك.
  • واقعة العقفي: وفي حوالي سنة ١٨٨٥ جهز معازة الكرك سرية من نحو ٢٠٠ رجل بقيادة كبيرهم الرُّطيل وأتوا وادي العُقفي، ولم يكن فيه من اللحيوات سوى ٣٠ رجلًا فباغتوهم الهجوم عند الفجر وقتلوا منهم ١٤ رجلًا وساقوا إبلهم وانقلبوا راجعين إلَّا بلادهم، فقال شاعر اللحيوات مشيرًا إلى هذه الواقعة: «يا ما صُبيَّا طاح. مع لوحة الصباح. من بندق ورماح.» قالوا: ولكن اللحيوات ثبتوا للمعازة في تلك الواقعة وقتلوا كبيرهم الرُّطيل، وأخذوا يشنون الغارة على المعازة حتى قتلوا منهم بقدر ما خسروا في موقعة العقفي، وكان الفريقان قد ملَّا الحرب فاجتمع كبارهم في بيت محمد بن جاد شيخ الحويطات العلاويين وعقدوا صلحًا لا يزالون عليه إلى اليوم، وكان حسيب اللحيوات في هذا الصلح الشيخ سليمان القصير.

(٢-٣) حرب اللحيوات والشرارات (سنة ١٨٧٣–سنة ١٨٩٥م)

  • غزوة اللحيوات الأولى للشرارات، سنة ١٨٧٣م: بيَّنا في الكلام على سكان سيناء كيف أن عرب هتيم يعيشون بين قبائل العرب «بالخاوة»، وكان الشرارات — وهم من هتيم — يدفعون الخاوة لبني عطية، فلما قوي ساعدهم أبوا دفع الخاوة؛ فقامت الحرب بينهم وبين بني عطية، واللحيوات فرع من بني عطية كما علمت، ففي حوالي سنة ١٨٧٣ جرَّد اللحيوات حملة على الشرارت مؤلفة من ٢٥٠ هجَّانًا عقدوا لواءها لسليمان بن رضوان من السلاميين، وصحبهم نفر من التياها والترابين والحويطات، فساروا حتى قطعوا طريق الحج الشامي عند «سرَغ» وأتوا وادي السرحان على يومين من سرغ، فأصابوا هناك إبلًا للشرارات الضباعين فأخذوها وانقلبوا راجعين إلى سيناء، فأنفذ الضباعين الخبر إلى إخوانهم الشرارات فتجمع منهم في الحال نحو ٥٠٠ هجَّان ففزعوا وراء اللحيوات وأدركوهم في «سَرو القاع»، فوقف لهم اللحيوات برهة ثم أفلتوا منهم وجدُّوا السير نحو سيناء، فتبعهم الشرارات حتى أدركوهم في «ودعات»، وهناك صمد لهم اللحيوات ووقع بين الفريقين وقعة شديدة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر، وكان النصر فيها للشرارت، فقد قتلوا من اللحيوات عشرين رجلًا ومن رفاقهم أربعة واستردوا إبل الضباعين وغنموا إبل القتلى وعادوا إلى بلادهم وخسارتهم ١٦ رجلًا، وقد نظموا بوصف هذه الواقعة قصيدة طويلة عرَّضوا فيها بمدح كبيرهم سطَّام أفندي، ومنها:
    يا راكب حرِّ القعدان
    حرًّا من نسل وضيحان
    يمَّك به على سطَّام
    دون أفندي لا تبات
    بيته فيه خطوط الصوف
    وصوفه ما هنَّ غبيَّات
    تشبع به الهلاليج
    في الليالي السيئات
    قل أفندي صباح الخير
    والله من قوم لفَت
    غارت قوم اللحيوات
    في الحمادة الهدَفات
    ينقلون المزانيد
    والسيوف المرهفات
    أخذوا نياق الضباعين
    معها خلج وحوارين
    وقشُّوا كل جمال الحي
    ونياق جريس المسمات
    لحقوهم طلابة الدين
    العزَّام والضبعات
    برَّكوهم «سرو القاع»
    وثاني بركة في «ودعات»
    وصار الملح العرم الزين
    بين الصفَّين المتقابلات
    أول هوشة بالبارود
    وثاني هوشة بالطبنجات
    وثالث هوشة بالرماح
    والسيوف المرهفات
  • غزوة اللحيوات الثانية للشرارات: وفي ربيع سنة ١٨٩٥ جرَّد الصفايحة والشوَّافون اللحيوات حملة مؤلفة من ١٥٠ هجَّانًا ليثأروا من الشرارات، وكان عقيد الصفايحة الحاج سلَّام أبو صفيح، وعقيد الشوَّافين سلامة بن رضوان، فساروا حتى أتوا سرَغ فسقوا هجنهم وملئوا قرَبهم واستطردوا السير إلى مشاش الطبيق قرب وادي السرحان، وكانوا يظنون فيه الماء فوجدوه يابسًا، ورأوا من الأثر في الطريق أن الشرارات كثار جدًّا لا قبل لهم بهم، فانقلبوا راجعين بطريق مختصرة تقطع درب الحج الشامي بين رسغ ومعان، فضلُّوا الطريق وساروا الليل والنهار في طلب الماء حتى أعياهم الظمأ والنعاس، فسقط منهم نحو ٣٠ هجَّانًا وأدرك الباقون مشاش «البترا» شمالي سرغ.

    ونام أحد الذين تأخروا لشدة الظمأ والنعاس، فرأى شخصًا في الحلم يقول له: قم واشرب، ودلَّه على مكان فيه ماء، فاستيقظ وذهب إلى المكان الذي دلَّه عليه فإذا هو «مشاش كِبد» على نحو ٦ ساعات من مشاش «البترا»، فروى ظمأه وعاد إلى رفاقه فأتوا وشربوا وسقوا جمالهم، واستطردوا السير فانضموا إلى إخوانهم في مشاش «البترا» وانقلبوا راجعين إلى سيناء بخفي حنين، وقد رافق هذه الحملة الشيخ ضيف الله سالم شاعر اللحيوات، فنظم في ذلك قصيدة طويلة جاء فيها:

    ونمشي على القردود والركب ساره
    ونشل على بطنان والرمل بيسيل
    الليل مآتي والليل هجرنا نهاره
    وتاه الدليل عن الروا في المشاليل
    القايلة بيبرَّكن في الظلاله
    والذل شفته في عيون الرجاجيل
    والطيح منا صار بين الجباله
    والريق يابس والمخاليق بتعيل

(٢-٤) حرب اللحيوات والسعديين، سنة ١٩٠٦

  • حادثة الغُبَيَّة: وفي يناير سنة ١٩٠٦ اتفق خمسة من السعديين والمعازة والقديرات والتياها والكعابنة التابعين لتركيا ونزلوا على جماعة من اللحيوات في وادي الغُبَيَّة؛ فقتلوا عقيدهم سلامة بن رضوان، ونهبوا جملًا وعادوا إلى بلادهم.
  • حادثة أم حلُّوف: ففتش اللحيوات على الغرماء، فوجدوا الجمل المنهوب وعباءة القتيل عند السعديين، فقصد أخو القتيل وابن عم له بلاد السعديين فالتقيا واحدًا منهم يدعى سالم بن رمَّان عند ملتقى وادي أم حلوف بالجرافي فقتلاه.

    فلما بلغ الخبر شيخ السعديين بعث برسول من البريكات إلى علي القصير شيخ اللحيوات السابق معلنًا الحرب على اللحيوات، فأرسل له الشيخ علي القصير رسولًا من الترابين يقول: إنه مستعد للتحكيم في مجلس عرفي في بيت حمَّاد الصوفي شيخ الترابين حقنًا للدماء، فأبى، وكان القومندان في سيناء إذ ذاك المستر براملي، فرفع الشيخ علي القصير الأمر إليه فألقى القبض على القاتل ثم أطلقه بضمانة قوية، وكتب إلى قائمقام بئر السبع يسأله منع السعديين عن الحرب وإقناعهم بقبول المجلس العرفي حسب سلو العرب، فلا القائمقام أجابه ولا السعديون كفُّوا عن اللحيوات.

  • حادثة الفحَّام: وفي صباح الإثنين ١١ يونيو سنة ١٩٠٦ كان المستر كيلن — أحد مهندسي اللجنة التي ندبت لتحديد التخوم بين سيناء وسوريا — مشتغلًا بتخطيط الحدود، فلما وصل ملتقى وادي الفحام بوادي الجرافي فاجأه نحو مائة هجَّان من السعديين والمعازة والحجايا، وكلهم مدججون بالأسلحة النارية أتوا من «الغَور» بنية غزو اللحيوات، وكان مع المستر كيلن رجلان من اللحيوات، فأنكرا قبيلتيهما وادعيا أنهما من الحويطات، وكان القوم قد بدءوا بنهب رجال الحملة ظنًّا أنهم من اللحيوات، فلما لم يروا أحدًا من هؤلاء ردُّوا ما كانوا قد نهبوه وعادوا إلى «الغور».

(٢-٥) حرب اللحيوات والسواركة، في عهد أجداد الجيل الحاضر

  • واقعة القُرَيعة: في أيام علي بن نجم كبير اللحيوات الذي قتل في قلعة مصر، غزا اللحيوات السواركة في القريعة عند رجم القبلين، فقتلوا منهم ونهبوا نحو مائة جمل وانقلبوا راجعين إلى بلادهم، فجمع السواركة جموعهم وطاردوا اللحيوات فأدركوهم في العَمر وقاتلوهم، ولكن اللحيوات تمكنوا من صدهم وفازوا بالغنيمة.

    وكان بين الإبل المنهوبة ناقة لأرملة من السواركة لها ولد طفل، فاستغاثت بكبير اللحيوات قائلة: «ردَّ ناقة الذي لا يعرف العذر» تعني به ولدها، فردَّ لها ناقتها وأعطاها فوقها قعودًا وخلع عليها ملايته الحريرية، وكان اللحيوات في طريقهم إلى هذه الغزوة التقوا رجلًا حسن البزة لابسًا لبس الشيوخ، فقتلوه ظنًّا أنه شيخ للسواركة ثم ظهر أنه من أولاد سليمان العرايشية، فبعد الواقعة اجتمع كبار العرايشية واللحيوات في مقعد الوحيدي في وادي غزة، فرضي العرايشية بأخذ الدية ٤٠ جملًا، فأخذوا منها عشرين جملًا وعلقوا العشرين الأخرى «حسنى» على اللحيوات.

  • وقعة الطيِّبة: وبعد هذه الغزوة بسنة جمع السواركة جموعهم وغزوا اللحيوات في وادي الطيبة — أحد فروع القرِّيص — وكان هناك من اللحيوات الشيخ علي والمسْح أبو غريقانة فشردا، فلحق بهم فارس من السواركة فوقع الشيخ علي من على هجينه، ولكنه نهض للحال وأخذ بندقيته وهمَّ بضرب الفارس فصاح الفارس قائلًا: «أنا في وجهك» فتركه، ثم ركب ناقته وصعد على قوز مرتفع وتبعه المسْح إليه فتحصنا فيه واستعدا للدفاع، ولما اقتربت غزاة السواركة منهما ظنوهما جمعًا كبيرًا، فاجتمع شيخ السواركة بالشيخ علي وعقدا هدنة سنة، ثم اجتمعا في بيت ابن فيَّاض الترباني وعقدا صلح «قلَد»، وبعد ذلك بمدة حالف مسمح بن عليَّان ابن أخي علي الترابين وحارب معهم السواركة في واقعة المكسر سنة ١٨٥٦ كما سيجيء.

(٢-٦) حرب التياها والسواركة نحو سنة ١٨٤٦

  • يوم ألبني: وفي حوالي سنة ١٨٤٦ هاجم السواركة والرميلات التياها عند جبال ألبني، فقتلوا منهم تسعين رجلًا وغنموا عددًا كبيرًا من الإبل، وفي ذلك قال شاعرهم:
    يا زين بشِّر العلامات
    تسعين بيضة صبَّحن عريات

    وتعرف هذه الواقعة «بيوم ألبني»، وكان في جملة ما غنمه السواركة نياق خواوير أي حلَّابة. قالوا: كانت الناقة تحلب باطية كبيرة في الصبح وباطية في المساء.

(٣) حروب البدو في بلاد العريش

(٣-١) حرب الرتيمات مع الجيش المصري، سنة ١٨٣٠

  • واقعة المقضبة: ومن محفوظات الجيل الحاضر في العريش «واقعة المقضبة»، قالوا في نحو سنة ١٨٣٠ في عهد محمد علي باشا على مصر خرجت قافلة من غزة ومعها بضائع كثيرة من الأقمشة الحريرية والصابون والسكر، وسارت في الدرب المصري قاصدة مصر، فالتقاها عرب الرتيمات وسلبوها مالها، قيل فكثر السكر والحرير في بلاد الرتيمات حتى جدلوا لإبلهم قيودًا من الحرير وسقوها ماء السكر وهم يغنون: «سمحه ذوقيه. طعم السكر مميوص فيه»، فأخذت حكومة مصر تترقبهم حتى علمت بتجمعهم يومًا في المقضبة، فساقت إليهم العساكر فرقتين وحصرتهم بين نارين، فقتلت منهم خلقًا كثيرًا وما زالت تطاردهم حتى أتى كبارهم إلى العريش طالبين الأمان، فأعطيَ لهم.

(٣-٢) حرب الترابين والجبارات في عهد أجداد الجيل الحاضر

من الحروب الشهيرة التي جرت في بلاد العريش في عهد أجداد الجيل الحاضر ولا يزال هذا الجيل يذكرها حرب الترابين والجُبارات، قالوا: كان الجبارات قبيلة قوية تسكن القسم الشرقي من بلاد العريش، وكان ينسب إليهم الرتيمات والسواركة، فأشهر عليهم ترابين سوريا حربًا دامت نحو عشرين سنة، جرت في أثنائها وقائع دموية في جهات وادي المغارة، والمويلح، والحسنة، والعَمر، وغيرها، وكانت الخسارة فيها جسيمة من الجانبين، وأخيرًا انتصر ترابين مصر لإخوانهم في سوريا، فأرسلوا لهم نجدة بقيادة الشيخ أبو سرحان، ففازوا بطرد الجبارات والرتيمات من بلاد العريش إلى بلاد غزة، وهناك أوقعوا فيهم وقعة فاصلة على نهر الشريعة وعقدوا بعدها صلحًا جعلوا فيه «قنان السرو» — وهي طريق شهيرة شرق غزة — الحدَّ بينهم وبين الجبارات ما زالوا عليه إلى اليوم. قالوا: ولو لم ينجد ترابين سوريا أبو سرحان من مصر لم يتسنَّ لهم الفوز على الجبارات، وفي ذلك قال الجبارات:

ترباني جيت من التربة
لولا أبو سرحان ما صحَّت لك بلاد غزة

وقيل إن «قبور الرتيمات» بين وادي البروك ووادي الحسنة هي قبور قتلى هذه الحرب، وإن قبور أولاد علي على ماء الروافعة بوادي العريش هي قبور أجداد الترابين وأوليائهم، والترابين يزورون هذه القبور ويذبحون لها الذبائح.

(٣-٣) حرب الترابين والعيايدة، من عهد أجداد الجيل الحاضر إلى سنة ١٨٨٥م

هذا وقد حل بعض بدنات الترابين بعد هذه الحرب محل الجبارات، فشغلوا قسمًا في الجنوب الشرقي من بلاد العريش يشبه السفين، وأصبحوا يحادُّون السواركة فبلي فالعيايدة من الشمال والتياها من الجنوب، وما عتَّموا أن وقع بينهم وبين العيايدة خلاف على الحدِّ أدى إلى الحرب، وكان حسيبهم إذ ذاك سليم بن فياض وحسيب العيايدة صباح بن سبيع، فدامت الحرب سنين إلى أن عُيِّن الحد وأصبح حد الترابين الشمالي يتمشَّى على الدرب المصري من حجر السواركة قرب صنع المنيعي إلى البواطي، فينحرف غربًا إلى رجم القبلين، فجبل ريسان عنيزة، فجبل المزار، فجبل الريشة، فجبل قديره، إلى أن ينتهي برجم العمرات على نحو عشرين ميلًا غربي جبل المغارة، فهم يحادُّون السواركة من صنع المنيعي إلى رجوم القبلين، وبلي من رجوم القبلين إلى الشيخ حميد، والعيايدة من الشيخ حميد إلى رجوم العمرات.

قالوا: وكان العيايدة والسواركة مدققين على الحد مع الترابين حتى كانوا لو اضطروا إلى المرور في أرضهم يكمُّون أفواه إبلهم لئلا ترعى عشب الترابين، وهكذا كان يفعل الترابين لو مرُّوا بأرض العيايدة والسواركة، ولكن هذه الحال قد زالت الآن، واشترى السواركة كثيرًا من أراضي الترابين شرقيهم وعاشوا معهم على صفاء تام.

  • حادثة الحوار: ودام السلام بين الترابين والعيايدة إلى سنة ١٨٨٥، فوقع ما كان يؤدي إلى الحرب؛ وذلك أنه في تلك السنة اختلف سليمان القديري العيادي مع أنسباء له بسبب «حوار»، فأطنب على حسَّان الحسينات الترباني في جبل المغارة للحصول على حقه، فذهب حسَّان إلى أنسباء سليمان وسألهم أن ينهوا الخلاف مع نسيبهم بسلو العرب، فأبوا وأصروا على التنكيل به وأغاروا على إبله فأخذوها، فلما درى حسَّان الترباني بذلك جمع جموعه وقصد أرض العيايدة وأخذ يفتِّش عن إبل سليمان حتى وجدها فاستردَّها عنوة، فاستاء سليمان بن سبيع حسيب العيايدة من ذلك فقوَّض خيامه وعبر الترعة إلى مصر وأخذ يغزو الترابين من هناك حتى كلَّ وأضرَّ الذباب إبله، فطلب الصلح، فاجتمع الفريقان في بيت خضر الشنيبات شيخ الترابين الحرَرة، فحكم على العيايدة بإعطاء الحق لنسيبهم سليمان فاجتمعا في قَطْيَة لهذا الغرض وسمَّوا قضاة حق ثلاثة وهم: أول حق: سلَّام الحاج بن صفيح من الصفايحة اللحيوات، ثاني حق: مصلح أبو قردود التيهي، ثالث حق: مغنم أبو الريش العيَّادي، فحكم أول حق بالأمر فلم يرضَ الترابين بحكمه، فحكم ثاني حق فرضوا وانتهى الخلاف.

(٣-٤) حرب الترابين والسواركة، من عهد أجداد الجيل الحاضر إلى سنة ١٩١٤م

  • يوم القرارة الأول: كان الرميلات في عهد أجداد الجيل الحاضر يسكنون أرض «القرارة» شمالي خان يونس، وهي مشهورة بخصبها، فقامت بينهم وبين الترابين حرب فاز فيها الترابين وطردوا الرميلات من القرارة وسكنوها مكانهم وطاردوهم حتى أدخلوهم أرض السواركة في بلاد العريش، وكان السواركة قد ورثوا عداوة الترابين من إخوانهم الجبارات فرحَّبوا بالرميلات وأسكنوهم على الحدِّ الشرقي، وكان يفصل بينهم وبين الترابين درب الحجر الذي ينشأ من حجر السواركة وينتهي ببئر رفح، وقد شقَّ على الرميلات جدًّا خروجهم من أرض القرارة فقال شاعرهم:
    لا صوم عن كل الطعامات
    واقطع بلاد القرارة في الظلامات

    إشارة إلى أنه لا يطيق أن يراها بيد أعدائه، وأنه لا بدَّ من استرجاعها منهم.

  • يوم الحناجرة: وما زال الرميلات والسواركة يترقبون الفرص للأخذ بالثأر من الترابين حتى كانت سنة ١٨٤٨، فلاحت لهم فرصة فهاجموا عرب الحناجرة القاطنين على الحد شرقيهم تحت حماية الترابين فاكتسحوا بلادهم، وتقدموا إلى أرض الترابين فهاجموا محلة من محلاتهم وحملوا كل ما استطاعوا حمله من الأثاث والغفور وساقوا أمامهم الإبل والأغنام والخيل والحمير وعادوا إلى بلادهم، وكان بين غزاة السواركة رجل يقال له: عوَّاد البعيرة، ففيما هو راجع من الغزوة وجد نساء «أبو ستة» كبير الترابين يحمِّلن الغفور على جمل لهم، فأخذ عوَّاد الجمل بما عليه وترك النساء وشأنهن.
  • يوم القرارة الثاني: وفي نحو سنة ١٨٥٥م وقع خصام بين صرَّار أبو شريف من الخناصرة السواركة وبعض أقربائه فاضطهدوه، فلجأ إلى أعدائهم الترابين فجمع السواركة والرميلات جموعهم وهاجموا الترابين في أرض القرارة وسط النهار، فطردوهم حتى أدخلوهم خان يونس وقتلوا منهم وألقوا القبض على قريبهم صرار أبو شريف، فقتلوه ثم بقروا بطنوه وحشوه رملًا وقالوا: «هذا جزاء من يخون أهله وينضم إلى أعدائهم.» وقال شاعر الرميلات في ذلك اليوم:
    طاح السيف من كفِّ الوحيدي
    سيف الشيخ صارت له رنَّة
    قوطرت به زعوب الخيل حمرا
    زقاق الخان ما بتزل عنَّه
  • واقعة المكسر، صيف سنة ١٨٥٦: وقد تقدم لنا أن الترباني يتحاشى الشر جهده، حتى إذا لم يعد يرى منه مهربًا نهض نهضة الأسد واستنصر بحلفائه واندفع بكليته على خصمه حتى يقهره، فلما رأى الترابين ما كان من مناهضة السواركة والرميلات لهم قاموا قومة رجل واحد وجمعوا جموعهم واستنصروا بحلفائهم العزازمة والحويطات واللحيوات وغيرهم، وحملوا كالسيل الجارف على السواركة في بلادهم حتى أتوا مقام الشيخ زوِّيد فذبحوا له جملًا، وكان السواركة والرميلات قد علموا بزحف الترابين فجمعوا قواتهم في الخرُّوبة في منتصف المسافة بين العريش والشيخ زويد.

    وكان حسيب الترابين إذ ذاك الشيخ جمعة أبو ماسوح وعقيدهم الشيخ «أبو ستة»، وحسيب السواركة وعقيدهم الشيخ سبيتان أبو عيطة وعمدتهم الشيخ سلامة عرادة عم سلَّام عرادة عمدة السواركة الحالي، فبعث حسيب الترابين إلى حسيب السواركة يقول: «اكفونا شرَّ الحرب واقنعوا ببلادكم وحدِّكم» فأجابه أبو عيطة: «دع عنك هذا الهذر فلا بدَّ من استرجاع بلادنا حتى القرارة.»

    فشرع عقيد الترابين إذ ذاك في تنظيم جيوشه وإعدادها للهجوم، فجعلها ثلاثة جيوش وأرسل جيشًا بطريق البحر وجيشًا بداخل البر وسار هو بالجيش الثالث في الطريق المعتادة قاصدًا الخرُّوبة، فخرج السواركة لملاقاته حتى صاروا على نحو نصف ساعة من الخرُّوبة، فما شعروا إلَّا وجيوش الترابين الثلاثة قد انقضت عليهم من اليمين والشمال والأمام، فوقع فيهم الفشل، فأعمل الترابين فيهم السيف حتى أفنوهم تقريبًا ولم يسلم منهم إلَّا طويل العمر، ففرُّوا إلى العريش واحتموا بقلعتها وقليل ما هم، وكانت هذه الواقعة في صيف سنة ١٨٥٦. وقد سُمِّي المكان الذي وقعت فيه «بالمكسر».

    ولما كنت على الحدود سنة ١٩٠٦ قابلت بعض من حضر هذه الواقعة من السواركة وفيهم حسين سلامة، وهو رجل قديم الأيام، فقال: «كان انكسارنا بواقعة «المكسر» عظيمًا حتى إنه لم يبقَ فينا من الذكور إلَّا نفر معدود لا نملك شيئًا، فإن الترابين عادوا إلى بلادهم بإبلنا وأغنامنا، وبعثنا نطلب الصلح من حسيب الترابين ونستأذنه في العودة إلى بلادنا فأجابنا: «عليكم وجهي، ارجعوا إلى بلادكم»، ثم اجتمع كبارنا وكبار الترابين في بيت سالم بن مصلح من الحناجرة؟ وعقدوا بينهم صلح «قلَد» على أن يعود كل فريق إلى بلاده»، وبذلك بقيت «القرارة» التي هي أصل الحرب بيد الترابين، وقال شاعرهم:

    حرب بنوه الرميلات
    يا ويلهم من عقابه
    بطيخهم أكلوه اللحيوات
    ونحن نقشقش عقابه

    وكان قليد الترابين في هذا الصلح جمعه أبو ماسوح، وكان «أبو عيطة» قليد السواركة قد قتل في الواقعة، فسمَّى السواركة ابنه سالم البكر قليدًا عليهم، فكان قليدهم في الصلح مع الترابين، وعاش بعد ذلك سنتين ثم مات، وكان أخوه «صُبح» غير مرشد، فولى السواركة «زيتون عوَّاد» قليدًا عليهم فتوفي سنة ١٨٨٥.

  • تجديد الصلح: فاجتمع كبار السواركة والترابين في بيت الحاج حماد بن مصلح، واختاروا «صبح بن أبو عيطة» المشهور قليدًا عن السواركة في ٢٥ ربيع أول سنة ١٣٠٣ﻫ/١ يناير سنة ١٨٨٦م، وعودة سويلم جرمي قليدًا للترابين؛ فجدَّد القليدان العهود والمواثيق «للسير بموجب الأساليب المرعية عند العربان، وعدم تعدِّي فريق على فريق في نفس أو مال أو عقار، ومنع كل قليد عربانه عن النزاع.»

    وفي أوائل سنة ١٨٨٩ — أيام كان محمود بك محافظًا للعريش — وقع خلاف بين الترابين والسواركة، فلجأ كل فريق إلى أخذ جمال الفريق الآخر بالوثاقة، وكاد الأمر يفضي إلى «فضِّ النقا» بينهم وإعلان الحرب، فتدارك محمود بك الأمر بحكمته وعيَّن مندوبين من محافظة العريش، وأرسل إلى قائمقامية غزة فأرسلت مندوبين من قبلها، فاجتمعوا في بيت مهيزع الترباني بحضور قليدي السواركة والترابين وأعيانهم، وعقدوا صلحًا في ٣ جماد الثاني سنة ١٣٠٦ﻫ/٤ فبراير سنة ١٨٨٩م لا يزالون عليه للآن.

  • حادثة الفرَس: وفي سنة ١٩٠٤ ساق بعض الترابين ومعهم عساكر من خان يونس تسعة رءوس بقر للرميلات، وكان المحافظ على العريش إذ ذاك محمد بك إسلام، فكتب إلى قائمقامية بئر السبع في ردِّها، ومضى ستة أشهر بلا نتيجة حتى فرغ صبر الرميلات، فركب عشرة من فرسانهم إلى بلاد الترابين المغاصبة، فأخذوا فرسًا للشيخ «قعود المغاصيب» وأتوا بها إلى بلادهم، ففزع المغاصبة وراءهم فلم يدركوهم، وبعد ذلك بأيام أرسلوا خبرًا للرميلات يقولون: «لاقونا لبيت سلام عرادة عمدة السواركة في الخروبة في يوم كذا للتقاضي عنده»، فاجتمعوا في الميعاد فردَّ الترابين البقر للرميلات واستردُّوا فرسهم، فنظم فرج سليمان شاعر الرميلات قصيدة طويلة في ذلك جاء في ختامها:
    جنَّك عشر فرسان في رايق الليل
    حامت عليك الخيل زي الحديَّات
    خذوا الفرس منك والعين بتشوف
    تبكي عليها بالدموع السخيَّات
    لازم تجيب الحق وتدور دورين
    لتذوق من ضرب السيوف الطريرات
    لازم تحط الحق يا بو مغيصيب
    ما يضيع حق يطلبوه الرميلات

(٣-٥) حرب الترابين والتياها، سنة ١٨٥٦–١٨٧٥

  • واقعة بطيح ربيع سنة ١٨٥٦: وفي أوائل سنة ١٨٥٦ وقع بين الترابين والتياها في سوريا حرب، سببها أن عودة من التياها العطيات طعن بعرض أخيه عامر، وانتصر له التياها، فأطنب عامر على الترابين، فاشتبك القبيلتان في قتال قرب بطيح وراء نهر الشريعة، قتل فيه من الترابين عشرة رجال، فعاد الترابين وجمعوا جموعهم وأوقعوا بالتياها وقعة في بطيح فكسروهم شر كسرة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان ذلك في ربيع سنة ١٨٥٦ فجاءت بعدها وقعة «المكسر» بين الترابين والسواركة في صيف تلك السنة كما مرَّ.

    وكان التياها في سوريا قد حرَّضوا السواركة على محاربة الترابين ووعدوهم بنجدتهم، وعلم الترابين ذلك فتركوا قسمًا من فرسانهم لدرء شر التياها ومنعهم من الاجتماع بالسواركة، ثم لما علم هؤلاء الفرسان بدنو الواقعة أوهموا التياها أنهم يستعدون لمهاجمتهم فشغلوهم في الاستعداد للدفاع، وفي أثناء ذلك انسلُّوا إلى ساحة القتال، فحضروا الواقعة وشاركوا إخوانهم في النصر وعادوا إلى مكانهم في صدد التياها.

    ثم لما صالح السواركة الترابين صالحوهم هم أيضًا، وكان الصلح في بيت سالم أبو سنجر من الترابين النبعات.

  • تجدُّد الحرب: وفي نحو سنة ١٨٧٥ تجددت الحرب بين الترابين والتياها بشأن الحدود، ونصر العزازمة الترابين ففازوا، فنظم شاعرهم في ذلك قال:
    يا ريح قل للقديرات
    حمَّاد وفَّى كلامه
    «بيرين» لابن كريشان
    و«العَمر» لابن جهامه

    وقال أبو عرقوب الشاعر العزَّامي المشهور ينوِّه بهذه الحرب ويمدح «حربة» بنت حسين أبو ستة وزوجها حمَّاد الصوفي:

    حربة بلُّور تضي زِ النور
    في الليالي العتمه
    بتمشي هز يبراها العز
    عيونها سمر بلا كحلِ
    أبوها سور يقود صقور
    حمَّاي الحور عن الذلِّ
    سيفه روباص بيقطع راس
    يوم الفراس مثل النحلِ
    ربعة حمَّاد ملم جياد
    وفي ذمتي أنه فحلِ
    هذا حمَّاد بيعطي جوخ
    ألبس عجبان في بيت أهلي
    هذا حمَّاد يذبح خرفان
    يقري الضيفان مع الهشلِ
    صقر الغالي عزَّ التالي
    يركض عَ النار وهي شعلي
    يوم الله عاد جانا حمَّاد
    ردَّ الأخواد من الدَّحلِ
    شفت الصبيان يهزوا الزان
    ينخُّوا نوران وأولاد علي
  • اللحيوات والبريكات: ونصر اللحيوات في هذه الحرب حلفاءهم الترابين، فطردوا البريكات التياها من بلادهم واحتلوا مكانهم، ثم لما عقد الترابين والتياها الصلح، عقد اللحيوات والبريكات صلح «قلَد» في بيت سليمان أبو عصا العزَّامي في المقراة، لا يزالون عليه إلى اليوم، وكان البريكات قد قتلوا من اللحيوات الغريقانيين ثلاثة رجال؛ فدفعوا لهم الدية ١٢٠ جملًا وعادوا إلى بلادهم.

(٣-٦) حرب الترابين والعزازمة في نحو سنة ١٨٨٧

وفي حوالي سنة ١٨٨٧ وقعت حرب بين الترابين والعزازمة بسبب قطعة أرض زراعية في جهة الخليل، فاستنصر الترابين إخوانهم وحلفاءهم في جزيرة سيناء، فنصرهم ١٥٠ رجلًا من الترابين و١٠٠ من التياها؟ و٨٠ من اللحيوات الصفايحة، ودامت هذه الحرب نحو ثلاث سنوات، ففتك الترابين بالعزازمة وضيقوا عليهم، فلجئوا إلى بطرك القدس فحمل الدولة على التوسط في الصلح، فتصالحوا بعد حرب دامت نحو ٣ سنوات كانت فيها خسارة العزازمة نحو ١٢٤ قتيلًا وألف جمل وكثير من الخيل والمعز، وخسارة الترابين ١٦ قتيلًا و٤٠ جوادًا.

هذه هي خلاصة حروب البدو الحديثة في سيناء، استخلصتها بعد جهد جهيد، فعلمت منها حال الحِلف والقلَد بينهم في وقتنا الحاضر، وقد تقدم ذكرها في الكلام على شرائعهم، فلتراجع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤