آدم سميث١

إن معظم الاقتصاديين في هذا الزمان يقولون بأن آدم سميث هو مكوِّن علم الاقتصاد الحديث، وهم يستندون في قولهم هذا بأنه منذ انتشر كتابه المسمى بثروة الأمم Wealth of Nations قد نسيت كل الكتب التي وضعت قبله في هذا الفن، أو بعبارة أخرى أنه كسف من كان قبله من علماء الاقتصاد وفاق عليهم، أما أسباب ظهور كتابه على غيره من الكتب، فهي ما يأتي:
  • أولًا: أنه كان لكتابه في عهده قيمة أدبية كبرى.
  • ثانيًا: أن آدم سميث اقتبس من آراء من سبقوه من علماء الاقتصاد أهمها وكلون منها، ومما استفاده بالخبرة أو وصل إليه بالدرس نظامًا جديدًا شاملًا. ويظهر أن المؤلفين الذين كان لهم عليه تأثير كبير في حياته، أو كانت أفكارهم من دواعي سلوكه الطريق التي سلكها هم هتشون وهيوم وماندفيل.
  • ثالثًا: أنه استفاد كثيرًا من آراء الفيزوقراطيين، وقد عاشر أثناء إقامته بباريس عام ١٧٦٥ اثنين من أقطاب المبدأ الفيزوقراطي، وهم تيرجو وديكناي، وقد اقتبس من الفيزوقراطيين رأيًا من أهم آرائهم وأثمنها، وهو ما يتعلق بتقسيم الثروة ولكنه فاق عليهم بنظره الشامل في العلم وتفوقه يرجع؛ لأنه ترك النظامات الاقتصادية المفككة، ودخل بالاقتصاد في دائرة العلوم؛ أي إنه صيره علمًا قائمًا بذاته. وإنني أريد في هذا الدرس أن ألخِّص لكم كتاب سميث الشهير وهو ثروة الأمم، فأقول: إن أول ما يلاحظه القارئ الواقف على مبدأ الفيزوقراطيين، هو الفرق العظيم بين سميث وبينهم في ما يتعلق بقيمة العمل، فقد رأيتم في الدرس السابق أن الفيزوقراطيين الذين كانوا لا يعلقون أقل أهمية على العمل، إنما كل اهتمامهم كان قاصرًا على الأرض، ولكن آدم سميث على عكسهم يؤكد لنا في أول كتابه أن العمل Travil هو مصدر الثروة الحقيقي. هذا هو الفرق الأول وهناك كذلك فرق أساسي بينه وبين الفيزوقراطيين قد جعله أساسًا لكتابه، وهذا هو تقسيمه العمل، وجعل تقسيم العمل عاملًا جديدًا في الحياة الاقتصادية، بل يقول العلَّامة ريست الاقتصادي الفرنسوي الشهير إن نظرية تقسيم الأعمال هي الفكرة الأساسية الجديدة في تعاليم آدم سميث. ولآدم سميث صحيفة مشهورة وصف فيها تقسيم العمل في صناعة الدبابيس، وقد نقلها كل علماء الاقتصاد في مؤلَّفاتهم. قال: إن عاملًا واحدًا لو كان يعمل في معمل الدبابيس بمفرده، لا يمكنه أن يعمل أكثر من عشرين أو ثلاثين دبوسًا على أن نحو عشرة لو اشتغلوا معًا في معمل واحد، يمكنهم في يوم واحد أن ينجزوا نحو ٤٨ ألف دبوس، وينسب سميث قوة تقسيم الأعمال إلى ثلاثة أسباب أولية:
  • أولًا: أن العامل إذا اختص بعمل فاز فيه بطول العمل وسهل عليه.
  • ثانيًا: أن العامل إذا اختص بعمل اقتصد كثيرًا من الوقت.
  • ثالثًا: أن كثيرين ممن يختصون بعمل من الأعمال تطرأ على بالهم اختراعات تسهل عليهم مشاق العمل، وبذا تكثر الاختراعات المفيدة.
ولكن آدم سميث لم يخف عليه أن للإخصاص في حرفة من الحرف أضرارًا كثيرة، كما أن له منافع، فمن أضراره مثلًا ما يأتي:
  • أولًا: جهل العامل المختص بصنع رأس الدبوس بأمور كثيرة في الحياة؛ لعدم انقطاعه عن صنع رءوس دبابيس معظم أوقات حياته.
  • ثانيًا: بلادة العامل وانتقاله من الإنسانية للوحشية لانعكافه على عمل خاص.

ولكن كما يظهر لكم أن المضار أقل بكثير من المنافع، وهي شخصية والمنافع عامة. والقاعدة هي أنه إذا كثرت منافع شيء عن مضارِّه لزم العمل به؛ لأنه لا يخلو شيء من مضار. ثم إن آدم سميث قد فطن وأوصى بعلاج يزيل تلك المضار، وهو تعميم التعليم وأن تقوم بنفقته الأمة والحكومة.

ولأجل تشجيع تقسيم الأعمال ينصح آدم سميث بتوسيع أسواق التجارة، وسبب ذلك واضح؛ لأنه لا يمكن انقطاع ألف رجل لصنع دبوس إذا لم تكن الدبابيس تباع بألوف الملايين؛ لذا كانت المتاجرة مع المستعمرات والممالك الأجنبية التي توسع دائرة الصناعة الوطنية من أهم المشجعات على تقسيم العمل.

وقد امتاز آدم سميث على الفيزوقراطيين بأنه ينظر إلى المحصول الاجتماعي — أي إلى كل ما يخرجه الناس — نظرًا شاملًا، وأن هذا المحصول هو نتيجة سلسلة مشروعات متكافلة ومتضامنة مرتبطة بعضها ببعض بحلقة التبادل التجاري؛ لذا كان تقدم كل فرع من فروع الحركة الإنسانية مرتبطًا بتقدم الفروع الأخرى.

وقد نشأ عن هذه النظرية نتيجة عملية، وهي ضرورة تقسيم الضرائب على سائر طبقات الأمة، وفي هذا ما ترونه من مخالفة مبادئ الفيزوقراطيين الذين كانوا يقولون بتوحيد الضرائب. وتقسيم الضرائب هو ما يسمى بنظام الضرائب المتعددة؛ أي أن الضرائب تؤخذ على الأرض من المزارع، وعلى رأس المال من أصحاب المال وعلى العمل ذاته من العمال، ولكن لم يزل هذا التقسيم مطلقًا إنما قد وضع له آدم سميث نظرية مهمة، كان لها شأن عظيم، وهذه النظرية هي نظرية التناسب بين الأصل والضريبة؛ أي احتمال نفقات الحكومة بالنسبة لطاقة الفرد، لا كما كانت الحال في فرنسا قبل الثروة؛ أي إذ كان الفقراء يدفعون معظم الضرائب والأغنياء لا يدفعون شيئًا.

وقد قال آدم سميث في هذا المعنى جملة مشهورة نصها: إن رعايا كل حكومة ينبغي لهم أن يشتركوا في نفقاتها على قدر ما يمكنهم، وبنسبة مقدرتهم الخاصة ودخلهم الذي يحصلون عليه تحت ظل الحكومة وحمايتها.

وآدم سميث يقسم العمال إلى فريقين:
  • (١)

    فريق العمال المخرجين.

  • (٢)

    فريق العمال غير المخرجين.

وهو يعد الأعمال غير المخرجة تلك الأعمال التي تزول بعد تمامها، ولا يبقى لها أقل أثر مثل أعمال الخدم المنزلية، ولا تدهشوا إذا ذكرت لكم أنه يعد من الأعمال غير المخرجة أعمال القضاة والمحامين والمعلِّمين والأطباء، وسائر الصناعات الحرة. ولعلكم فطنتم أن هذا التقسيم قد سرى إليه من تأثير الفيزوقراطيين، بل إنه يسمي تعاليمهم أقرب تعاليم إلى الحقيقة.

وقد شاع رأي بين بعض الاقتصاديين قائل بأن آدم سميث هو أول الاقتصاديين الصناعيين؛ أي الذين قالوا بأهمية الصناعة على الزراعة، وبذلك يقارنون بين آدم سميث وبين الفيزوقراطيين، ويدعون بأنه مخالف لهم على خط مستقيم؛ لأن الفيزوقراطيين معروفون بأنهم حماة الزراعة، فيكون سميث زعيم حماة الصناعة. وهذا الرأي مردود؛ لأن الثروة الصناعية ابتدأت في وقت ظهور كتاب سميث، كما أننا عند مطالعة الدروس التي كان يُلقيها في مدرسة جلاسجو الجامعة عام ١٧٥٩، لا يمكننا أن نجد أقل علاقة بين أفكاره الجوهرية، وبين الأفكار التي دعت لظهور الصناعات الإنجليزية.

إن آدم سميث لم يختلف كثيرًا في بعض المسائل المهمة عن الفيزوقراطيين، فإنه يوجه انتقادًا مرًّا وسخرية مؤلمة نحو التجار والصناع، تذكرنا بانتقادات الفيزوقراطيين، ومع ذلك هو يدافع بقوة عن أصحاب الأملاك العقارية وعن العمال.

وإذا ورد ذكر العمال وأرباب الأموال أمام سميث؛ فإنه لا يتردد لحظة في إظهار عطفه على العمال، وهو كذلك يقول برفع أجور العمال؛ لأن الأجور المرتفعة تنفع الهيئة الاجتماعية بأسرها، لأن أغلبية الأمة من الأجراء، ولا يمكن لأية هيئة اجتماعية أن تكون سعيدة ما دام أغلب أعضائها فقراء وبائسين. وهو يرد على القائلين بأن الأجور المرتفعة ترفع قيمة نفقات الحياة بأن مكاسب أرباب الأموال الباهظة ترفع قيمة نفقات الحياة أكثر.

ومن الغريب أن آدم سميث قد تنبَّأ بما سوف يقوم بين العمال، وأرباب الأموال من الخلاف، فأشار على الطرفين بطريقة تريحهم إذا استحكم الخُلف، وهذه الطريقة هي التحكيم، يقول آدم سميث: كلما قام خلاف بين العمال وأرباب الأموال، وقام القضاة بفصل هذا الخلاف كان مرشدوهم هم أرباب الأموال، فيجورون على الدوام على العمال، وبناءً على ذلك ينبغي لنا أن نعتبر الحكم عادلًا كلما كان في مصلحة العمال، ولكن إذا كان الحكم في جانب أرباب الأعمال، فيمكننا أن نشك في رأي المحكمين.

أما حب آدم سميث للزراعة، فيماثل حب الفيزوقراطيين لها، وهو يقول عنها إنها أصعب الفنون والصنائع ما عدا الفنون الجميلة، والفنون الحرة (القضاء والتعليم)، وهو ينصح لأصحاب الأموال والأعمال أن يضعوا أموالهم بحسب ما يقضيه القانون الطبيعي؛ أي أولًا في الزراعة، وثانيًا في الصناعة، وثالثًا في التجارة الخارجية.

ومما يدهشنا في مبادئ سميث أنه رغمًا عن نظرية تقسيم الأعمال التي وضعها نراه إذا تكلم عن الزراعة لا يقدر، أو لا يريد أن يساويها بمصادر الثروة الأخرى، بل هو يضعها على رأس سائر الفنون، وهذا لا شك راجع إلى تأثير الفيزوقراطيين، وقد امتاز آدم سميث عدا عن تقسيم العمل بمبدأين آخرين: الأول رأيه في طبيعة الأشياء، ورأيه الثاني في حسن الظن بالأشياء.

ونقصد برأيه في طبيعة الأشياء قوله بأن النظامات الاقتصادية لا تأتي بعد تدبير إنما هي تأتي بطبيعتها عفوًا وبدون تعليل، ونقصد بحسن ظنه بالأشياء رأيه القائل: بأن كل النظامات الاقتصادية والاجتماعية ترمي إلى غايات حميدة.

إن آدم سميث كان يظن أنه متى أثبت أن وجود النظامات الاقتصادية أمر طبيعي، أمكنه في الوقت نفسه أن يثبت اتجاهها في سبيل الخير الإنساني. وأنتم ترون أن هذا غلط واضح من الأستاذ العظيم؛ لأن إثبات صدور أمر من الطبيعة أمر، وإثبات اتجاه هذا الأمر نحو الخير أمر ثانٍ، ولكن آدم سميث ما كان يفصل بينهما، ولكن العلماء الاقتصاديين الذين جاءوا بعده اتخذوا الرأي الأول؛ أي وجود النظامات الاقتصادية بطبيعتها، ورفضوا الرأي الثاني؛ أي اتجاه تلك النظامات نحو الخير العام.

إن آدم سميث يقول إن النظامات الاقتصادية الحالية لم تخرج عن عقل مدبر سائد ذي نظر شامل جميع الأشياء، أو عن فكرة هيئة اجتماعية أرادت تنفيذها بعد طول التفكير والإمعان، إنما النظامات الاقتصادية الحاضرة قد وجدت من تكوين عدة أعمال مختلفة وخطط متباينة قام بها الأفراد مطيعين غرائزهم التي تريد بهم الوصول إلى غرض معلوم، هذا هو منشأ النظامات الاقتصادية في نظر آدم سميث، وها هو يضرب لنا الأمثال ليثبت لنا صحة قوله. يقول: خذ لذلك مثل تقسيم الأعمال فإنه نتيجة غريزة مشتركة بين سائر البشر دفعتهم إليها رغبتهم في تبادل المصالح، ثم إن تبادل المصالح والتجارة هي أيضًا نتيجة غريزة مشتركة في البشر، دفعت إليها غريزة النفع الذاتي.

ويضرب لنا مثلًا آخر بالمال — أي النقود — فيقول: إن الإنسان منذ القدم رأى صعوبة التبادل النوعي؛ لذا نشأت في ذهن الرجال فكرة تكوين مادة لا تُرفض في أوقات ما، وتكون على الدوام قابلة للتبادل، وإن الهيئة الحاكمة لم تتداخل في أمر النقود وتضربها باسم الحاكم أو الجمهورية إلا بعد زمن طويل؛ أي بعد أن انتشرت النقود المعدنية في سائر أنحاء العالم.

ومن الغريب كذلك أن يقول آدم سميث بأن المال هو سيد الصناعة؛ أي إنه بدونه لا يتم شيء، مع أنه هو الذي قال في بداية كتابه بشرف العمل على كل شيء سواه، وأنه هو مصدر الثروة المهم. على أنه يظهر لنا أنه لم يقل بذلك إلا ليثبت أن تكوين رءوس الأموال بصفة كونه نظامًا اقتصاديًّا ليس إلا مظهرًا من مظاهر الطبيعة؛ لأن الأموال الكثيرة لا تتكون إلا عند أفراد رأوا مصالحهم في الاقتصاد ولو قليلًا.

ولكن فكرة صدور النظامات الاقتصادية عن الطبيعة لا تظهر بجلاء ووضوح إلا عندما يتكلم آدم سميث عن الأخذ والعطاء، أو الطلب والتوريد Offre et demande، فقد ردوا عليه بأن كل صانع أو زارع يزرع ويصنع وهو لا يدري مقدار ما يُطلب منه في السوق، إلا أن سميث يقول: إن قيمة المتاجر تقدر بمقدار العمل الذي احتاج إليه العمل، أو المشقة التي تكبدها العامل.
فالعمل هو مقياس القيمة المتبادلة، هذا هو كما ترون منشأ الفكرة التي اعتمد عليها كارل ماركس في القرن التاسع عشر، عندما قال بأن عمل الإنسان هو المقياس الوحيد لكل شيء، وأخذ سلاحًا قاتلًا ضد مبادئ أنصار المال، ولكن كيف يمكن قياس العمل الذي ينفق على محصول من المحصولات؛ فإنه قد يتألم صانع دقي في ساعة أكثر مما يتألم صانع آخر له حرفة سهلة في ساعتين؛ ولذلك آدم سميث نفسه يعترف بأنه هذا مستحيل لأنه لا يمكن قياس الصعوبة ولا قياس المهارة، ولذا يقول بأن الهيئات البشرية الأولية هي وحدها التي كان العمل فيها بمفرده مقياسًا لقيمة الأشياء، وهنا بدأ سميث يكوِّن نظرية جديدة خلاصتها أن قيمة إخراج الشيء هو المقياس الصادق لقيمة تبادله، وهو يسمى الثمن الذي تكلفه الأشياء ثمنًا طبيعيًّا لها، وبذا ترون أن سميث قد أوجد أداتين لتقدير أثمان الأشياء، الأولى: العمل الذي يستدعيه الشيء، والثانية: الثمن الطبيعي الذي يتكلفه الشيء. وقد اتخذ علماء الاشتراكية رأيه الأول وبنوا عليه مبادئهم، واتخذ كبار الاقتصاديين رأيه الثاني إلى عهد جيفونز الاقتصادي. أما آدم سميث فإنه لم يأخذ أحد الرأيين ويقل به قولًا قطعيًّا بل بقي مترددًا بينهما، ولكن يظهر أنه مال أخيرًا إلى الرأي الثاني، ووضع للأشياء ثمنين: الأول قيمة تخريجها الطبيعية، ثم وضع ثمنًا آخر سمَّاه ثمن السوق؛ أي الثمن الذي يباع به الشيء، وقد يكون هذا الثمن إما أكثر وإما أقل من الثمن الطبيعي، وإما مساويًا له. والأمر في ذلك راجع إلى الكمية التي يمكن وجودها من الشيء المعروض، فإن قلت ارتفعت قيمته وإن كثرت انحطَّت قيمته، وهذه هي نظرية الثمن، وبها يمكننا أن نقول: إن سميث أثبت كون النظامات الاقتصادية طبيعية المصدر؛ لأن سميث يقول إن كل كمية من المتاجر يؤتى بها إلى السوق تسير بطبيعتها نحو ثمن معلوم مقيَّد بالكمية وبالمطلوب. وهذه النتيجة المدهشة يقول عنها آدم سميث إنها نتيجة المصلحة الذاتية، وهذا القانون يجد تطبيقه في معظم الأحوال لا فيها كلها، وهذه النظرية تسمى نظرية التوفيق بين المطلوب وبين الكمية، وهي أساس نظرية التخريج Production التي يعول عليها سائر علماء الاقتصاد في الوقت الحاضر.

وقد طبق آدم سميث نظريته هذه في مسألتين مهمتين: الأولى مسألة النسل، والثانية مسألة النقود. فقد قال عن السكان إن الناس ككل المتاجر يمكن تقليل طلبها أو تكثيره، فإن كثر طلب الناس كثر الناس وإن قل قل.

أما عن النقود فإن آدم سميث يقول: بأنها ليست إلا تجارة ككل المتاجر، بل إنها أقل قدرًا من غيرها. إن ثروة البلاد الحقيقية لا تقدر بالمال إنما تقدر بما فيها من الأرض والعمارات والأشياء التي يمكن الانتفاع بها. أو بعبارة أخرى ثروة البلاد هي المحصول السنوي من أرضها وعملها، أما النقود فهي لا ينتفع بها كما ينتفع بالقمح، إنما هي أداة لتداول الثروة ليس إلا؛ لذا يقول آدم سميث بأهمية الأوراق المالية البنك نوت لأنها بوجودها وباستغناء الناس بقطع من الورق عن مقادير وافرة من الذهب والفضة، أمكن للأمة الانتفاع بما عندها من الذهب والفضة بإرساله خارج البلاد لزيادة الثروة الحقيقية. وخلاصة القول في هذا الباب أن السياسة التي تعمل على تكويم المال في بلد من البلاد هي مخالفة لفكرة ثراة الأمة؛ لأن المقدار الكثير من المال لا يزيد ثروة الأمة إنما هو على العكس يضايقها. وما يصدق على النقود المعدنية يصدق على الأوراق المالية؛ لذا كانت تلك الأوراق المالية تابعة لقانون ثابت، يقضي عليها بأن لا تزيد عن المطلوب وإلا هبطت قيمتها.

ما هي إذن هذه القوة الخفية التي تحرك الناس نحو هذه الأعمال الكبرى ونحو حياة التقدم؟ الجواب على ذلك هو المصلحة الذاتية، ورغبة الإنسان في تحسين حاله، وغريزة الفرد التي لا تفتأ تحثه على التقدم.

فخلاصة فكر آدم سميث في هذا الباب هي وجود نظامات اقتصادية بطبيعتها، وأن هذه النظامات محفوظة بمصالح الأفراد وشهواتهم ورغباتهم المختلفة.

فالفرق الأساسي بين آدم سميث وبين الفيزوقراطيين هو واضح جلي، فإن الفيزوقراطيين يقولون بنظام طبيعي ينبغي اكتشافه وتطبيقه بواسطة ملك مستبدٍّ عالٍ. أما آدم سميث فيقول بأن هناك نظامًا طبيعيًّا موجودًا لا نحتاج للبحث عنه لأنه أمامنا ونشعر به في كل لحظة، وهو المصلحة الذاتية، وأن أمام هذا القانون عقبات كثيرة، ولكنه يفوز على كل عقبة.٢

وبقي علينا الفكرة الأساسية الثانية التي تظهر في مبادئ آدم سميث، وهي قوله بأن سائر النظامات الاقتصادية التي صدرت عن الطبيعة عفوًا ليس لها وجهة إلا الخير المحض، فهو يجمع في جملة واحدة رأيين مختلفين: الأول صدور النظامات الاقتصادية عن الطبيعة، والثاني اتجاه تلك النظامات نحو سعادة الإنسان.

فإن النفع الذاتي لكل شخص يكون الحالة الاقتصادية ويحتفظ بها، ثم إنه يضمن مسير الأمة نحو التقدم والثروة، وبعبارة أخرى يريد سميث أن يقول إن النظامات الاقتصادية الطبيعية صادرة عن العناية الإلهية؛ لأن خيرها كما رأيتم لا يحد.

قال آدم سميث في نبذة تكلم فيها عن استعمال رءوس الأموال: إن الإنسان وهو يتبع نفعه الذاتي ترشده يد خفية إلى الوصول إلى نتيجة لم تكن في الحسبان. وهذا ما يطرأ له في شئون كثيرة.

(ثروة الأمم الجزء الأول ص٤٢١ الكتاب الرابع الفصل الأول).

ومما ينبغي لنا ملاحظته أن الأمثلة التي أعطاها آدم سميث كلها تتعلق بنظامات اقتصادية، يظهر فيها الخير المحض حقيقة، ولا ريب في أنه اختار أمثالًا من المسائل الاقتصادية التي يتوفر فيها الشرطان اللذان فرضهما، وهما صدور الشيء عن الطبيعة واتجاهه نحو الخير المحض، وغاية سميث من هذا واضحة؛ لأنه يريد أن يتأثر من يطالع كتابه برأيه، فذكر تقسيم الأعمال اختراع النقود تكون رءوس الأموال وما يشبه ذلك، وفي كلامه عن رءوس الأموال نراه يقول إن المال إذا تكوَّن يبحث بذاته عن المصارف التي تكون ذات النفع الأعم للهيئة الإنسانية. وقد بلغ هنا المنتهى من الرغبة في الإدلال على رأيه؛ لأنه متى ذكرنا واعتقدنا صحة رأيه — أي إن المال إذا تكون يبحث بذاته عن المصارف التي تكون ذات النفع الأعم للهيئة — فهذا كذلك يدل على أن التحصيل كله (أي إخراج سائر الصناعات والزراعات والأعمال) مرتب ومنظم على أحسن نظام كافل لإسعاد البشر وإنجاحهم.

وقد ميَّز سميث أربعة مصارف للأموال: الأول الزراعة، والثاني الصناعة، الثالث التجارة بالجملة، الرابع التجارة بالقطاعي، وفي التجارة بالجملة يميِّز ثلاثة أنواع: التجارة الداخلية والتجارة الخارجية وتجارة النقل، وقد فضل سميث الزراعة على سائرها، ثم تلتها الصناعة ثم التجارة الداخلية وهكذا.

فإذا أرادت أمة أن تنتفع أعظم انتفاع بثروتها، فعليها أن تصرف أموالها في تلك المصارف حسب الترتيب الذي ارتآه سميث، فينبغي عليها أولًا الاشتغال بالزراعة، ثم لا تضع أموالها في المصارف الأخرى إلا إذا احتاجت لذلك.

وقد ظهر لسميث أن هذا هو ما يفعله أصحاب الأموال بطبيعتهم؛ أي إنهم لا يخاطرون بأموالهم إلا في الزراعة أولًا، ثم تتلوها سائر المصارف على التدريج، وبعبارة أخرى يظهر لنا أن رغبة أصحاب الأموال المزدوجة في حفظ الأموال أولًا على مقربة منهم، وفي الانتفاع بأكثر ما يمكن الانتفاع به ثانيًا هي التي تسيرهم في الطريق التي اختطها آدم سميث.

ولكن هذا الرأي الذي بنى آدم سميث عليه العلالي والقصور مردود لمن يُمعن النظر فيه، وذلك أنه يعين أفضلية مصارف الأموال بكثرة ما فيها من الأموال، أو بعدد العمال الذين يعملون بها. ولكن المتأمل يرى انصراف رءوس الأموال واتجاه عدد عظيم من العمال نحو صناعة أو مصرف ما يدل على توفُّر الطلب، ومتى كان أيها الإخوان توفُّر الطلب دليلًا على النفع الاجتماعي؟! إننا إذا رأينا بمصر ألف عبد يشترى، ثم رأينا ارتفاع أثمان الخصي، فهذا لا يدل — على الإطلاق — على شدة نفع الرق، وإن كان يدل على شدة الرغبة في الحصول على العبيد.

على أن الذي يعضدنا في ردنا على آدم سميث هو ما نراه أثناء تقريره هذا المبدأ من إبدائه ببساطة كنتيجة لأبحاثه ومشاهداته لا كأنه نظرية ثابتة لا تقبل الطعن. مثال ذلك أنه يقول في أغلب الأحيان: «يتفق النفع الذاتي والنفع العام.» أو يقول في معظم الأوقات يحدث الانسجام بين نفع الفرد ونفع المجموع، كما أنه لم يتردد لحظة في ذكر الأحوال التي لا يتفق فيها النفع الفردي والنفع العام، وهي حال التجار وأصحاب المعامل.

ثم إن سميث لا يقول بإطلاق هذا المبدأ في كل الأشياء، وأنه قاصر على تحصيل الثروة، ولكن لا يشمل توزيعها، بل إنه لم يدع مرة في كتابه أن توزيع الثروة يتم على أعدل وأحسن حال. وقد قال عن الملاك وأصحاب رءوس الأموال إنهم يحبون أن يحصدوا حيث لم يغرسوا. ثم إنه ذكر نبذًا كثيرة من كتابه أن الربح والإيراد مأخوذة من محصول العمل، ومجرد التصريح بهذا الرأي يكفي أن يكون داعيًا لوصف سميث بأنه أول من قال بالأفكار الاشتراكية.

حرية التجارة

والنتيجة العملية لنظريات آدم سميث هي لا شك حرية التجارة؛ لأن سميث لم يَرُقْهُ أي نظام اقتصادي يقضي بالتفاضل أو التقييد؛ لذا كان نظام الحرية المطلقة في التجارة هو النظام الذي تصبو إليه نفسه، وما دام الإنسان لا يخرق قوانين العدل فينبغي أن يترك وشأنه باحثًا عن منفعته التي وجدها ومزاحمًا بماله وحذقه مال وحذق من يشاء من الناس. وبعبارة أخرى آدم سميث ينصح بعدم تداخل الحكومة في المسائل الاقتصادية، ومعزاه هو رأي الفيزوقراطيين بعينه إلا أن سميث وصل إليه بطريقة علمية أكثر وضوحًا وتساهلًا من طريقة الفيزوقراطيين. بل إن سميث يشرح حقيقة مهمة، وهي أن الحكومة غير صالحة بذاتها وبطبيعتها للقيام بالأعمال الاقتصادية، وقد استند على حججه في هذا الباب كل علماء الاقتصاد المخالفين لتداخل الحكومة في الحياة الاقتصادية.

وحيث إن سميث يطلق الحرية للفرد، ويمنع الحكومة من التداخل في الحياة الاقتصادية القومية، فقد امتاز بآراء خاصة به عن الفردية individualisme، فهو يقول: إنه لا بد لأي مشروع خاص يراد أن يعم نفعه المجموع من شرطين:
  • الأول: أن يكون وراءه باعث النفع الذاتي الفردي.
  • الثاني: أن تحيط به المزاحمات المطلوبة والضروري وجودها.

فلو عدم أحد هذين الشرطين من مشروع ما كانت العاقبة على الجمهور منه سيئة سوء عاقبة المشروعات التي تقوم بها أو تتداخل فيها الحكومة.

والذي نراه من مبادئ سميث أنه يبغض بعض المشروعات الخاصة الجماعية collectivist مثل الشركات المساهمة؛ وذلك لأن النفع الشخصي الفردي غير موجود فيها. ويستثني من هذه الشركات بعض المشروعات ذات النفع العام مثل المصارف (البنوك) وشركات التأمين على الحياة وشركات المياه، وهذا لأن المشروعات يقل فيها التغيير؛ لأن أعمالها تتحول إلى شكل دائم ثابت routine.

ثم إن سميث حارب الاحتكار الذي يعطي امتيازه لفرد أو لشركة، وقد وقف فصلًا كاملًا من كتابه الممتع على محاربة الشركات الكبرى ذات الامتيازات الباهظة التي تأسست في القرنين السابع والثامن عشر لاستغلال المتاجر الاستعمارية، وأشهرها شركة الهند الشرقية.

ذكرت لكم أن سميث مخالف لتداخل الحكومة في الشئون الاقتصادية الداخلية، إلا أن هذا التحريم له حدود، فهو يبيح تداخلها في إدارة بعض المصالح التي لا يمكن انتظامها بدون هيمنة السلطة العمومية، وهي مصلحة البريد والتعليم الابتدائي الإجباري، وامتحانات الحكومة الضرورية للالتحاق بالوظائف العمومية.

ومن الغريب أن آدم سميث قد تنبَّأ بما سوف يقوم بين العمال وأرباب الأموال من الخلاف، فأشار على الطرفين بطريقة تريحهم إذا استحكم الخلف وهذه الطريقة هي التحكيم. يقول آدم سميث: كلما قام خلاف بين العمال وأرباب الأموال، وقام القضاة بفصل هذا الخلاف؛ كان مرشدوهم هم أرباب الأموال، فيجورون على الدوام على العمال؛ وبناءً على ذلك ينبغي لنا أن نعتبر الحكم عادلًا كلما كان في مصلحة العمال، ولكن إذا كان الحكم في جانب أرباب الأعمال، فيمكننا أن نشك في رأي المحكمين.

أما حب آدم سميث للزراعة فيماثل حب الفيزوقراطيين لها، وهو يقول عنها إنها أصعب الفنون والصنائع ما عدا الفنون الجميلة والفنون الحرة (القضاء والتعليم)، وهو ينصح لأصحاب الأموال والأعمال أن يصرفوا أموالهم بحسب ما يقتضيه القانون الطبيعي أي: أولًا في الزراعة وثانيًا في الصناعة، وثالثًا في التجارة الخارجية من الخارج أقل قيمة من البضائع التي تصنع في الوطن؛ ولذا شراؤها بأثمان تافهة فيه خسران؛ لأنها لا تعادل أثمانها. وأما أن تكون الصنائع متأخرة في الوطن فينبغي أولًا خلق الصنائع غير الموجودة، ثم تشجيعها ولو تكلفت الأمة مهما تكلفت في أول الأمر؛ لأنها بعد ذلك تعود فتربح من مصانعها ولا تحتاج للغير، ومثال ذلك ما حدث لليابان في تجارة الورق. فإن هذه الأمة الجليلة رأت أنها تنفق أموالًا باهظة في شراء الورق من الخارج فقام بعض رجالها بتأسيس معامل للورق، ولما كانت الصناعة حديثة العهد كان المعمل الياباني يخرج ورقًا أقل حسنًا من الورق الخارجي، ولكنه أغلى ثمنًا فقام بعض المتشرعين وأبدى الرأي الذي أبداه آدم سميث، فردوا عليه بأنه لا بد من تشجيع الصنائع الوطنية في أول الأمر، وفعلًا كان هذا ولم يمضِ زمن طويل حتى أصبحت المعامل اليابانية تخرج ورقًا أحسن في النوع، وأرخص في الثمن من الورق الخارجي، واقتصدوا كذلك ثمن النقل والسمسرة.

وقد تكلم سميث عن التجارة الدولية، فدافع عنها وشجعها، وذلك في مصلحة المخرجين الأصليين، ومن العجيب أن أثر تعاليم خصومه التجاريين مركنتيلست ظاهر في هذا الدفاع؛ لأنهم هم أول من اهتم بمصلحة المخرجين دون سواهم.

ثم ذكر قوانين الملاحة التي أصدرها كرومويل Navigation Acts، وغايتها مزاحمة الأساطيل الهولاندية والقضاء عليها، فقال عنها إنها ربما أفادت التجارة ولكنها بقطع النظر عن هذه الإفادة، فإنها أعقل القوانين التجارية الإنكليزية؛ لأن غايتها كانت حماية الأوطان وحماية الأوطان أعظم نفعًا من حماية التجارة.

ومن النصائح العلمية المفيدة التي أبداها سميث بشأن حرية التجارة، هي إقلاع إنكلترا من وضع حقوق جمركية على سائر الواردات والصادرات، واكتفاؤها بوضع حقوق مرتفعة على بعض الواردات المهمة الكثيرة الورود، والتي لا يضر تغريمها كثيرًا مثل الدخان والخمور والكاكو والسكر، وهذه الحقوق هي مالية لا جمركية.

وقد اتبعت إنكلترا هذه النصيحة، ولا تزال سائرة عليها من عهد آدم سميث إلى الآن.

ظهر لكم ممَّا تقدم أيها الإخوان أن آدم سميث قد حاول فعلًا في هدم النظامات الاقتصادية القديمة بما رتبة أهمها مثل الحماية الجمركية وما يشبه ذلك، ولكن يظهر لنا أن حوادث التاريخ ذاتها هي التي تحوِّل الأشياء وتهدم المبادئ، وتفعل العجائب وتأتي بالمعجزات، فإن الحرب التي قامت بين أميركا وإنكلترا المسماة بحرب الاستقلال هي التي أظهرت فساد النظامات الاقتصادية القديمة، وساعدت على تغييرها أكثر ممَّا فعلت مؤلفات آدم سميث؛ لأن انفصال ولايات أمريكا الشمالية عن إنكلترا أظهر أمرين جليين:
  • أولًا: فساد النظامات الاستعمارية التي تدعو المستعمرات الناجحة إلى الثورة.
  • ثانيًا: عدم نفع نظام الحماية الجمركية؛ لأن تبادل التجارة بين إنكلترا والولايات المتحدة نما وزاد بعد استقلال الولايات بما لم يسبق له مثيل، وقد دل هذا على أن علاقة إنكلترا السياسية بالولايات المذكورة لم تكن هي الداعي لوجود العلاقة التجارية؛ لذا كتب جان باتيست ساي في ١٨٠٣ أنها لم تعد خسارة على أمة بربح، مثل الربح الذي عادت به خسارة الولايات المتحدة على إنكلترا.

وقد ظهرت آثار مبادئ سميث في حياته؛ فإن اللورد نورث رئيس وزراء إنكلترا في عهده انتفع بآرائه، ولما كان في حاجة إلى أموال وضع ضرائب على منازل السكنى وغيرهما، مما أشار به سميث، ثم إن سميث أثر في بيت الوزير الإنكليزي الشهير، فعقد أول معاهدة تجارية بين فرنسا وإنكلترا وغايتها حرية التجارة.

وهذا ختام القول على آدم سميث

١  محاضرة بتاريخ: الاثنين ١٦ يناير سنة ١٩١١.
٢  محاضرة بتاريخ: ٢٣ يناير سنة ١٩١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤