مقدمة

هذا الكتاب يتناول أبعادًا ثلاثة مهمة في الشخصية المصرية؛ هي: الأسماء، والأمثال، والتعبيرات، أو التعابير كما سماها أستاذنا أحمد أمين. ربما تشكِّل جميعها، بالإضافة إلى كتابيَّ «مصر في قصص كُتابها المعاصرين»، و«مصر المكان»؛ بانوراما متَّسعة لأبعاد الحياة المصرية، من خلال خصائصها المختلفة؛ المكان والتاريخ والمعتقدات والقيم والعادات والتقاليد وغيرها، عبر وسائط مهمة، هي الأسماء والأمثال والتعبيرات، وكان من الصعب — لأسباب موضوعية — أن أتناول جوانب أخرى، مثل النكتة، والكناية، واللغز، والأحجية، والنادرة، والحكاية، والخرافة، والموال، وغيرها.

والحق أني عودت نفسي — منذ أصبحَتِ القراءة معظم حياتي — أن يكون الكتاب مصدري للحياة والمعرفة والنقاش في آنٍ؛ فأنا أقرأ، وأسجِّل ملاحظاتي، الآراء التي أُفيد منها، والآراء التي تحتاج إلى مناقشة. أضع مادة كل موضوع في ملف خاص، ضمن مشروع متكامل، هو «مصر في قصص كتابها المعاصرين»، أضيفُ — بتوالي الأعوام، وبامتداد آفاق القراءة والتجربة والخبرة — إلى قسماته وأحذف منها، هذه الموضوعات التي أفادت منها قراءاتي الإيجابية — التعبير الأدق الذي أذنتُ لنفسي باستعارته من صديقي يوسف الشاروني — بالإضافة إلى المتعة الجمالية التي أحسستُ بها وأنا أطالع هذا الكم الوفير من الإبداعات الروائية والقصصية.

اتسعتْ قراءاتي في المراجع والمصادر، وملأتُ الكثير من البطاقات، وسجَّلتُ الكثير من الملاحظات، لم أضع إطارًا أُلزِم نفسي به فلا أغادره، وإنما ملأت الصفحات دون أن يشغلني تضخُّمها، فلما تبيَّن لي — متأخرًا — أن‏ بعض الفصول قد شكَّلت كتبًا كاملة، قررت أن تكون كذلك، فأصدرتُ: «مصر … من يريدها بسوء»، و«نجيب محفوظ … صداقة جيلين»، و«مصر المكان»، و«قراءة في شخصيات مصرية»، و«آباء الستينيات»، و«سقوط دولة الرجل»، ثم هذا الكتاب؛ «مصر: الأسماء والأمثال والتعبيرات»، وربما أمدَّتْني البطاقات والملاحظات بما يشكِّل كتبًا أخرى تالية.

•••

في تعريف للتراث الشعبي أنه «عملية طبيعية تنتمي كل الانتماء إلى العملية الحضارية، فهو لم يوضع وضعًا، وإنما نشأ من خلال عملية معقدة، تتراكم فيها المعارف الحياتية والكونية، وهذه المعارف تظل تُنقَّى وتُغربَل حتى تستقر في تشكيلات فنية ذات قيم إشارية عالية».١ إن حكايات الأبطال والسير الشعبية والمواويل القصصية والأمثال والحكم والرقصات، وما يصحبها من غناء وموسيقى ورسوم ساذجة وصناعات بسيطة؛ تصوِّر كلها حياةَ المجتمع من نواحٍ كثيرة، ولا يمكن لباحث في تاريخ المجتمع أن يتجاهل هذا التراث الذي يمكن أن ينير له الطريق لكي يستطيع فهم عقلية المجتمع، وعادات أفراده، وحياتهم عامة، مما يتيح له أن يدرس تاريخهم بشكل أسهل وأكثر يسرًا.٢

التراث الشعبي هو المفتاح الأساس لفهم حضارة أي شعب؛ معتقداته وعاداته وتقاليده. والثابت تاريخيًّا أن التراث الشعبي حظي باهتمام حقيقي في كتابات ابن خلدون؛ أول عالم اجتماع بالمعنى العلمي في الوطن العربي. والتراث الشعبي المصري جزء من تراثنا الثقافي بعامة، جزء في النسيج الثقافي المصري، تتداخل الخطوط والألوان والتكوينات، فتصنع التكوين الثقافي المصري، على المستويين الفردي والجمعي. إنه يدخل في وعي — ولاوعي — الإنسان المصري، ويفيد منه، بلا تعمد ولا إرادة. يتداخل — بصورة أكيدة — في أفكاره وتأملاته، وطريقة تعامله، ومفرداته الكلامية. واللغة هي البعد الأهم في هذا التراث — والموروث، هنا، تسمية صحيحة — لأنها الوعاء الذي يضم ما يعبر به الشعب عن حضارته؛ أسماء الأفراد والأُسر، ومفردات حياتهم اليومية، من تعبيرات وأمثال.

•••

في تقديري أننا إذا لم نبادر بجمع موروثنا الشعبي، فسنقف حتمًا عند لحظة نبكي فيها على اللبن المسكوب.٣ الموروث الشعبي يواجه عملية إبادة من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية؛ اختفت السيرة الشعبية، والحكاية الشعبية، واللغز، والمثل، والخرافة. أهملنا التأمل، واستخدام الخيال، وصياغة التعبيرات التي تعبِّر — بالرمز أو باللغز — عن واقع الحال. تركنا الأمر كله للتليفزيون، هو الراوي والحكَّاء، وهو العائل والمدرس والموجِّه. هل نتذكر: كان ياما كان، وما يِحلا الكلام، إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام؟ … وهل نتذكر: وعاشوا في تبات ونبات، وخلِّفوا صبيان وبنات؟ … وهل نتذكر: توتة توتة … حلوة والَّا ملتوتة؟ … كانت هذه بداية الحكاية، ونهايتها، كما ترويها الجدات … وهل نتذكر مصير راوي السيرة الشعبية في «زقاق المدق»؟

من الخطأ إهمالُ الموروث الشعبي في دراستنا لثقافة هذا الشعب، بل ومن السذاجة وضعُه في إطار القيمة المحدودة؛ لأنه يتَّصل بصميم الشخصية المصرية؛ فهو يَصدُر عنها، يعبِّر عن خُلاصة تجارب البداية، والتواصل على هذه الأرض، ويَصدُر إلى أجيال أخرى حاليَّة، وقادمة، تُفيد من تجارب السَّلف، ويظل التواصل قائمًا.

يذهلني ذلك التصور الغريب للأدب الشعبي — والموروث الشعبي بعامة — أنه «لا يَرُوج إلا بين العامة وبسطاء العقول ومحدودي الأفهام، أما أصحاب العلم والمعرفة فليس لهم في مثله غاية، وليس فيه عندهم غَناء».٤ إن إهمال المحافظة على هذا الموروث يعني إهمال المحافظة على الهُوية، وتعريض الشخصية المصرية — بالمعنى العام — لتشوُّه الملامح. وليس خافيًا ذلك الدأَبُ الصهيوني على محاولة سرقة التراث المصري، والعربي، ونسبتِه إلى ما يَزعم أنه تراث عبري، يهودي.

إن الإنسان المصري يحيا حياته، يعانيها، ويستخلص من معاناة الحياة خبرة ورؤية وحكمة، يلخِّصها جميعًا في مفرداته اللغوية. والمثقف مواطن مصري، وُلد ونشأ في مصر، وتكوَّن ثقافيًّا — في مراحل عمره — في البيت والمدرسة والجامعة والشارع والمسجد … إلخ. من ذلك كله يتألف موروثه الثقافي، والموروث الشعبي بُعد أهم فيه، فهو لا يستطيع الزعم أنه لم يتأثر به؛ إنه يتحدث باللهجة العامية، بما تتضمنه من مفردات متميزة، مغايرة للفصحى وللَّهجات الأخرى، يلجأ إلى الخبرات السابقة، ويضمِّن أحاديثه العادية تراث هذا الشعب من أمثال وألغاز وعبر ومواعظ وحكايات وسير.

•••

بالإضافة إلى الأسماء في الأعمال الإبداعية، فإن هذا الكتاب يتناول الأمثال والتعبيرات في هذه الأعمال، ولأن الأمثال والتعبيرات في عمومها باللهجات المحلية؛ فإن الدراسة الموضوعية يجب أن ترفض التبديل والتحوير، أو الصياغة بغير اللهجة التي يُقال بها التعبير أو المثل. إن دراسة الأسماء والأمثال والتعبيرات — مع أهمية إيرادها باللغة أو اللهجة التي قيلت بها — تعني دراسة التأثير المتبادَل بينها وبين معتقدات المجتمع وعاداته وتقاليده، وحضارته عمومًا. إنها دراسة سوسيولوجية بالدرجة الأولى.

آخر ما أتصوره في هذا الكتاب أن أسيء إلى اللغة العربية، أو أن أوسِّع الشُّقة بينها وبين اللهجات العامية، وهي — كما أشرت — تتعدد في البلد الواحد. وبالتحديد، فأنا أرفض أية محاولة لطرح اللهجات العامية بديلًا للفصحى، أو استبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي، وأرفض مجرد النظر إلى اللغة العربية باعتبارها غير متوائمة مع آليات التقدم التي تحرك عالمنا المعاصر. وطالما عِبتُ على بعض المستشرقين — وبعض كبار مثقفينا أيضًا — محاولاتهم لجعل العامية بديلة للفصحى. العامية لهجة، أما الفصحى فهي لغتنا القومية التي يجدر بنا الحفاظ عليها، حفاظًا على عروبتنا، هويتنا المتميزة، والمتفردة. أتأمل أحوالنا، فأَعجَب للمحاولات التي تستهدف النَّيل من لغتنا القومية، في حين يحاول العدو — في المقابل — أن يحيي لغة ميتة!

هذه الدراسات الثلاث تتحدد في إطار اجتماعي بحت، فهي — بهذا المفهوم — ليست بديلًا للفصحى، ولا حتى موازية لها، إنها أوراق من شجرة ضخمة، هي اللغة العربية الفصحى، مثلما أن اللهجات العامية الأخرى — ربما بين أبناء البلد الواحد — أوراق من هذه الشجرة الضخمة. ولعلِّي أشير إلى قول أستاذنا عبد الحميد يونس: إن دراسة الأدب الشعبي لا تعني تغليب اللهجات المحلية، لكنها تُعنَى بدراسته كما تدرس غيره من الآداب.٥

إن دراسة العامية هنا تعني دراسة أبعاد من حياتنا الاجتماعية المصرية؛ اتصال التراث/الموروث بالآنيِّ، واستشراف صورة المستقبل.

محمد جبريل
الإسكندرية ١٤ / ٤ / ٢٠٠٠م
١  نبيلة إبراهيم: المقومات الجمالية للتعبير الشعبي، هيئة قصور الثقافة، ص٦١.
٢  بان فنسينا: المأثورات الشفاهية، ت. أحمد مرسي، هيئة قصور الثقافة، ص١٢٢.
٣  إبراهيم حلمي: أدبيات المأثور الشعبي في مولد السيد البدوي، هيئة قصور الثقافة، ص١١.
٤  فاروق خورشيد: الموروث الشعبي، دار الشروق. والكاتب يشير إلى هذا الرأي من موقف الإدانة، ويُخطِّئه.
٥  عبد الحميد يونس: الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي (مقدمة)، دار الكتب المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤