تاريخ نابليون

(١) حياته المدرسية

وُلد نابليون بونابارت في أجاكسيو، إحدى مدن جزيرة كورسيكا، في الخامس عشر من شهر أغسطس سنة ١٧٦٩، وكان أبوه شارل بونابارت من رجال المحاماة الطليانيين، خدم في الجندية أيام كان أهل هذه الجزيرة يدفعون عنها غارة الفرنسيين على أن هؤلاء قد تغلَّبوا عليهم في سنة ١٧٦٨. وكانت أمه تُدعى لييزيا رامولينا، وكان نابليون ثاني إخوته.

لم يكَدْ نابليون يبلغ العاشرة من عمره حتى دخل مدرسة برين الحربية، وقضى بها خمس سنوات ونصف، كان في غضونها يقدَّم اسمه في تقرير المدرسة إلى الملك، ومما ذُكر في هذا التقرير عن نابليون أنه كان ممتازًا في دروسه الرياضية واسع الاطلاع على التاريخ والجغرافية، أما اللغة اللاتينية فكان فيها متأخرًا عن أقرانه تأخرًا كبيرًا كما كان في أدب اللغة وغيرها، أما هو فكان محبًّا للدرس، حسن السيرة والمسلك، تام الصحة.

في سنة ١٧٨٤ غادر نابليون مدرسة برين ودخل مدرسة باريس الحربية، قضى بها ما يقرب من سنة، ثم نال رتبة ملازم ثانٍ في المدفعية الفرنسية.

(٢) حياته العمومية

مال نابليون إلى الجانب السائد في الثورة الفرنسية، وهو الذي أطلق مدافعه في شوارع باريس على العساكر الوطنية فمزقهم كل ممزق، وبذلك انتهى عهد الثورة الفرنسية وجاء عهد آخر في التاريخ الفرنسي، كان هو روح ذلك العهد، أَبَدَ عشرين سنة؛ لأنه لم يمضِ قليل على فعلته هذه حتى عُيِّن نابليون، بفضل المسيو براس أحد الديركتوارت (أو المديرين) الخمس الذين حكموا فرنسا في ذلك العهد بالتضامن، قائدًا عامًّا لجيش فرنسا الداخلي وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين ربيعًا. تزوج بعد ذلك بجوزفين بوهارنز أرملة أحد أشراف فرنسا الذين ذهبوا ضحية مقصلة الثورة الفرنسية، وكانت أكبر منه سنًّا، ولكن نشأ بينهما حبٌّ ذهب بتلك الفروق، وتزوجها في سنة ١٧٩٦، وقبل زواجه بقليل عيَّنه ناظر الحربية قائدًا عامًّا لجيش إيطاليا فذهب في تلك الحملة.

(٣) الحملة الإيطالية سنة ١٧٩٦

لما وصل نابليون إلى مدينة نيس وجد سهول إيطاليا الشمالية تموج بالعساكر النمساوية تحت إمرة الجنرال بوليو.

لم تكن الجنود الفرنسية شيئًا مذكورًا أمام النمساويين؛ إذ كانوا لا يمتازون عن سوقة الناس في شيء؛ كانت ملابسهم رثَّة، وأطعِمتُهم رديئة، لم يتدربوا التدريب العسكري اللازم، وكانت أجورهم قليلة لا يُدفع لهم أكثرُها، أما الخيل التي كانت في خدمتهم فلم يكن يربو الصالح منها على مائة بين أربعين ألفًا من الرجال. وعلى الجملة، فلم يكن فيهم شيء يُرتضى إلا صغر سنهم؛ إذ كانوا جميعًا من الشبان، كما كان قائدهم. على أنه كان يُظن أنه من خرق رأي الحكومة وضعف سياستها أن تكل أمر هذه الحملة إلى فتى لم تكن له الخبرة العسكرية التامة التي يعتمد عليها قبل اليوم، ولكنه استطاع أن يجعل من هذا الجيش غير النظامي جيشًا به أمكَنَهُ أن يُخضع إيطاليا جميعها في اثني عشر شهرًا. وقف في ميليسيمو وقفة صد بها النمساويين وقطعهم عن محالفيهم من السردينيين، فكان من وراء ذلك أن نزل ملك سردينيا، وهو حاكم تلك الأصقاع يومئذٍ، عن كل استحكاماته على ممرات الألب لفرنسا.

(٤) قنطرة لودي

بعد أن عبر نابليون نهر البو جنوب بافيا ردَّ نابليونُ قائدَ النمساويين بوليو المذكور، فتقهقر هذا إلى نهر «أدَّا»، وكانت عليه قنطرة تُسمى «قنطرة لودي»، ما ذكرها الفرنسيون حتى يومنا هذا إلا وثار الدم في عروقهم! هنالك نُصبت المدافع النمساوية على مدخل تلك القنطرة تقذف جللها كأنها رسل الموت إلى صفوف الفرنسيين المتقدمين الذين اخترقوا ذلك الطريق الموحل حتى كانوا بين مدافع النمساويين يقصدون رجال المدفعية بسنكياتهم قبل أن يتمكن القائد بوليو من إرسال المشاة لإنقاذ رجاله، وبذلك سقطت مدينة ميلان العظمى في قبضة نابليون. وتلا تلك الموقعة العظيمة تلك الموقعة الدموية التي حدثت في «آركول»، ومثلها في «ريفولي»، وتسليم مدينة «مانتوا»، وكذلك أصبحت إيطاليا تحت أقدام شابٍّ لم يتجاوز الثامنة والعشرين.

(٥) معاهدة كامبو فورميو سنة ١٧٩٧

بعد أن اخترق نابليون جبال الألب وهو يطارد الأرشيدوق شارل قدم بجيشه إلى ﭬﻴﻨﺎ، ولكنه وجد مؤخرة جيشه يهددها جنود «التيرول» و«بوهيميا»، فرأى أن يعقد صلحًا، ثم عاد إلى فنيس وأدال حكومتها القائمة.

كانت تلك المدينة فداء للنمسا وكفَّارة عن ذنوبها في كل حين. نزل نابليون بها فسلبها ما كان فيها من تماثيل الخيل البرونزية التي نُصبت في كنيسة سَنت مارك، كما أخذ منها كل ما كان عليها من حلي الذهب وغيره. أغرق أسطولها وشتَّت مراكبها، وبذلك سقطت عروس الأدرياتيك في قبضة نابليون بونابارت، ومما يروى عن دوق فنيسيا الأخير أنه سقط مغشيًّا عليه حين لفظ يمين الخروج من طاعة إمبراطور النمسا. ثم انتهت هذه الحرب بمعاهدة كامبو فورميو بين فرنسا والنمسا، نالت فرنسا بها الأراضي الواطئة النمسوية والجانب الأيسر من نهر الرين وجزائر أيونيان ومقاطعات (ميلان) و(مانتوا)، وهذه جُعلت جمهورية تُدعى جمهورية السيسالب.

(٦) نابليون في مصر سنة ١٧٩٨

فكَّر نابليون بعد مدة قضاها في راحة أن ينزل بمصر، فنزل بها في صيف سنة ١٧٩٨ وغلب المماليك في واقعة الأهرام. وكان غرضه من احتلال مصر أن يسلخ الهند من إنجلترا، ولكن لم يساعده المقدور على ذلك؛ فقد كان الأميرال نلسون الإنجليزي يتعقبه في البحر الأبيض المتوسط، حتى إذا تلاقى بمراكب نابليون في خليج أبي قير هشَّمها وأغرقها (أول أغسطس سنة ١٧٩٨)، فذهب نابليون بعد ذلك إلى عكا يريد احتلال تلك البقاع، فما استطاع امتلاك حصن عكا الحصين، فانقطعت آماله يومئذ من مناهضة سلطة إنجلترا في الشرق فعاد إلى فرنسا هو وقليل من ضباطه، وغادر أكثر جيشه في تلك السواحل على ما ألمَّ به من المرض والنصب والمجاعة يحاول عبثًا أن يتغلب على تلك الديار.

قضى نابليون في تلك الحملة سبعة عشر شهرًا (من ٩ مايو سنة ١٧٩٨ إلى ٨ أكتوبر سنة ١٧٩٩) سقطت فيها حكومة الديركتورين في حمأة الفساد، واضطربت مالية الحكومة واستردت النمسا فيها أملاكها في إيطاليا.

(٧) القنصلية سنة ١٧٩٩

اتجهت الأعين جميعها إلى نابليون، وقد عزم على أن يُحدِث في الحكومة تغيرًا ظاهرًا؛ ذلك بأن أحد المديرين المدعو (سياس) وضع لفرنسا مشروع دستور كان على بونابارت وجيشه أن ينفذه، فنقل المجلسين إلى (سَنت كلود) لئلا يرهبهم الشعب بأفعاله، وصادف مرور نابليون من مجلس الشيوخ إلى مجلس الخمسمائة، فلما كان بينهم صاح صائح: «لا نريد (Dictator)»؛ أي لا نريد أن نخضع لسلطة فرد متصرف. وعزَّزه غيره من أعضاء ذلك المجلس، ثم التفوا حوله يصيحون ويلغبون فاضطر أن يدخل المجلس جملة من الجنود لحماية نابليون من أذاهم.

وكان أخوه لوسيان رئيس ذلك المجلس، فقام عن كرسيه وآذن بانحلال الجمعية.

وعقبه القائد (مورات)؛ إذ سار في عرصات المكان بفرقة من الجند معهم طبولهم يضربون عليها وهم يُخرجون أعضاء ذلك المجلس وسنكياتهم مشرعة استعدادًا لكل حادث، فخرج الأعضاء يتعثرون، ومنهم من قذف بنفسه من نوافذ المكان وجلًا ورهبة.

تهدَّم بذلك أساس حكومة المديرين، وقامت في فرنسا حكومة أخرى اسمها حكومة القناصل؛ لأنها كانت تحت ثلاثة رجال يدعون بهذا الاسم. كانت مدة حكم القنصل عشر سنوات، وكان أكبر هؤلاء نابليون، وله السلطة كلها. أما رفيقاه، ومنهما سياس صاحب المشروع، فلم يكن لهما من الأمر إلا سلطة استشارية، وتتألف باقي الحكومة من ثلاثة مجالس: مجلس الثمانين، ومجلس الشورى وعدد أعضائه ٣٠٠ شخص، ومجلس آخر عدد أعضائه مائة. كان العمل يوزَّع بين هذه المجالس بحيث لا يقترع مجلس على مشروع من الحكومة إذا كان هذا المجلس قد بحثه، ولا يبحث هذا المشروعَ مجلسٌ يكون قد اقترع عليه.

ابتدأ نابليون بعد ذلك أن يمثل دور الملك، فكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا يومئذ يقترح عليه عقد صلح بين القطرين، فرفض الملك هذه الفكرة، وكان نابليون قد أخرج الروسيا من الاتفاق الذي حصل بين الدول ضده، وكان حتمًا عليه أن يقضي عليه، فانصرف نابليون في داخلية البلاد إلى تدريب جيش جرار من أبناء فرنسا، فلم تمضِ عليه برهة من الزمان حتى اجتمع لديه ربع مليون من الجنود النظامية، ثم عمد إلى الصحافة فقيَّدها وكمَّ أفواهها، ونشر من الجواسيس والعيون في أنحاء فرنسا جيشًا آخر جرارًا كانت ويلاته عليها لا تطاق، ثم لما علم من طبيعة أمته أنها تميل إلى الزهو واللهو والظهور كان يعقد في سراي التويلاري حفلات الرقص يجمع إليها أجمل نساء باريس وأرشق شبانها من الضباط، فكانت هذه الحفلات أزهى مما كان في أيام الملوك البريون.

(٨) واقعتا مارنجو وهوهنلندن

عمد نابليون إلى الاقتصاص من النمسا مرة ثانية، فذهب إلى شمالي إيطاليا في ستة وثلاثين ألف رجل وألفَي مدفعٍ، ثم صعد جبال الألب ذلك الصعود الذي لا يزال يذكره التاريخ حتى يومنا هذا بالإجلال والإعظام. صعد نابليون بعسكره جبال الألب وأصعد معه مدافعه يجرها في أعجاز الشجر على ثلج تلك الجبال وجليدها، ثم انساب على السهول بجيشه انسياب الجارف الهاري، وسار به إلى ميلان حتى لقيه طرفَا جيشه: هذا قد اخترق جبل سان جوتارد، وذلك قد جاز جبل سامبلون. ثم بعد أسبوعين التقى بالقائد النمساوي ميلاس على سهول مورنجو بالقرب من الساندريا، وكان جيش الفرنسيين يعدل ثلث جيش النمسا، فلم يستطع المقاومة، ولكن جاءه القائد الفرنسي (ديسيه) معزِّزًا، فنزل بفرقته — وكانت آخر ما عند الفرنسيين من الاحتياطيين في تلك الموقعة — على صفوف النمساويين فمزَّقهم شرَّ ممزق، ولكن سقط القائد على الأرض ميتًا في ساعة النصر المبين. وتعقَّب الفرنسيون بعد ذلك أعداءهم حتى أجلوهم عن مواقعهم، وردوهم فيما وراء الحدود.

وفي شهر نوفمبر من تلك السنة كان القائد مورو الفرنسي قد أُرسل إلى نهر الرين، فالتقى بالنمساويين وبدَّد شملهم في تلك الموقعة المشهورة المعروفة بواقعة هوهنلندن.

وانتهت هذه الوقائع بعقد صلح يسمى بمعاهدة لينيفيل، على أن شروط هذه المعاهدة لم تخرج عما جاء في معاهدة كامبو فورميو السابقة.

(٩) عودة المسيحية

عادت المسيحية إلى فرنسا بعد تقلُّص ظلها، ورحب الناس بتلك الأصوات التي كانوا يسمعونها كل سبعة أيام؛ أصوات النواقيس في الكنائس، وأصدر نابليون بعد ذلك عفوًا شاملًا لمن أدى يمين الطاعة للحكومة الجديدة في أيام معدودات، فعاد إليها مائة ألف أو يزيدون، واسترد كثيرٌ ممتلكاتهم التي سُلِبوها، وأنشأ نابليون الوسام المعروف بوسام لجيون دونور؛ أي وسام الشرف، وكان يُعطى للجنود والمدنيين على حد سواء.

(١٠) مؤتمر الشمال سنة ١٨٠١

كانت بريطانيا العظمى الدولة الوحيدة التي يخشاها بونابارت حتى عقد اتفاقًا بين ملوك أوربا الشماليين وبينه، فانضمت روسيا إلى فرنسا انضمامًا تحالفيًّا ضد إنجلترا ومراكبها، ولكن نلسون كان قد ذهب إلى كوبنهاجن فضربها وأغرق مراكبها، وحدث أن تآمر بعضهم على قيصر الروسيا فخنقوه، وبذلك انحلَّ ذلك الوفاق.

(١١) معاهدة أمين سنة ١٨٠٢

وفي ذلك العهد أيضًا ذهب جيش تحت إمرة السير رالف أبركرمبي إلى مصر، وشتَّت ما كان فيها من بقايا جيش الفرنسيس، فلما رأى نابليون كل هذه الخسائر لم يسَعْهُ إلا أن يتطلَّب الصلح، فعُقدت معاهدة أمين الشهيرة في سنة ١٨٠٢. كان مضمونها أن تبقى بلجيكا لفرنسا، ويبقى لها أيضًا الجانب الأيسر من نهر الرين، واستعادت جزرها الغربية الهندية، وأخذت هولندا رأس الرجاء الصالح مرة أخرى، وبقيت جزيرة سيلان لإنجلترا، ولكن نابليون لم يكن يريد السلام ولا ينويه إنما كان يريد أن يحصل على مدة من الزمن يستطيع في أثنائها أن يتنفس قليلًا حتى يمكنه أن يعدَّ نفسه مرة أخرى لحملة أعظم ونصر مرضٍ في الخارج، وكان الفرنسيون قد أُعجبوا بما نال قائدهم من النصر والفتوحات المتوالية، وأعجبهم ما في حكمه من الرفق والصلاحية، فصدر قرار من مجلس الشيوخ يقضي بجعل نابليون قنصلًا أولًا مدى حياته، وكان قد بلغت الحماسة من نفوس الفرنسيين مبلغًا عظيمًا، فصادف هذا القرار من نفوسهم كل الإقرار والدعاء.

(١٢) قانون نابليون

من الأعمال العظيمة التي فعلها في هذا الزمان ذلك القانون الذي سُمي بقانون نابليون؛ فإنه قد عهد إلى ستة من رجال القضاء في حكومته بتدوين مواد هذا القانون، كلٍّ فيما اختُص به، حتى إذا جُمعت كانت قانون نابليون المعروف الذي لا تزال تنعم به فرنسا وتفتخر، والذي نحا نحوه كثيرٌ من أمم أوربا في وقتنا هذا، بل اتخذوه أساسًا لمقاضياتهم. أما المدارس في أيامه فقد كانت عسكرية الصبغة، وكان أهم ما يُعنى به المعلم اللغة اللاتينية والرياضيات والتمرين العسكري.

(١٣) تجديد الحرب سنة ١٨٠٣

قلب الإنجليز لنابليون ظهر المجن بدعوى أنه كان كثير الإهانة لهم في أقواله وأفعاله، فعمدوا إلى المراكب الفرنسية المطمئنة في موانيهم فقبضوا عليها، فهاج ذلك من سخط نابليون، ولمَّا لم يجِدْ إلى الثأر سبيلًا معجِّلةً أَرسل فَحَبس كل إنجليزي على ظهر فرنسا في السجون، ثم أرسل جيوشه فنزلت بمدينة هنوفر واستعدوا لغزو إنجلترا، وكان هذا أقصى آماله، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلًا؛ فإن إنجلترا وضعت على شواطئها السفلى كل ما كان لديها من عدد وعدة؛ مائة وستة وثلاثون ألف بحار قد لزموا مدافعهم عن كثب، وضِعْفُ هذا القدر من المشاة وقفوا كأنما هم يطرزون ساحل إنجلترا على المنش بملابسهم الحمراء، فلما رأى نابليون ذلك أعرض عن غزو إنجلترا تاركًا مراكبه البحرية في بولون على ساحل فرنسا من جهة إنجلترا، وسار بعسكره إلى نهر الدانوب.

(١٤) تلقيب نابليون إمبراطورًا سنة ١٨٠٤

قبل أن يحوز نصره العظيم على الدانوب اقترف نابليون جريمة فظيعة؛ ذلك أنه كان قد تآمر عليه بعض ضباطه، ومنهم بيتيجرو ومورو، واكتُشفت المؤامرة فزُجَّ الأول في السجن ونفي الثاني، ولكن ذهب ضحية هذه المؤامرة رجلٌ برئ هو دوق أنجني من بيت كندي المشهور، اتهموه بالاشتراك في المؤامرة، على أن جريمته الحقيقية لم تكن إلا أنه كان من البربون الذين يكرههم نابليون. هناك قبضوا على الرجل وحبسوه في قلعة (فنسن) بعد محاكمة أشبه بالأضاحيك، ثم قُتل رميًا بالرصاص ودفن حيث كان، ولم يمضِ قليل بعد ذلك حتى أصدر المجلسان قرارًا بجعل نابليون إمبراطورًا على الفرنسيس، والظاهر أن الأمة لم تكن موافقة يومئذ على هذه التسمية؛ فإنه لما أُخذ أصوات الشعب الفرنسي لم ينَلْ نابليون إلا ثلاثمائة ألف صوت، على أنه لم يحفل بذلك، بل أُعِدَّت حفلة التتويج وصدر بها الأمر من سان كلود.

وكانت حفلة تتويج نابليون إمبراطورًا حافلةً؛ دُعي إليها البابا (بيوس السابع) لإجراء رسوم التتويج في كنيسة (نُتردام)، ولكن نابليون أبى أن يطأطئ رأسه للبابا عند التتويج، فأخذ التاج من حيث كان وألبسه رأسه، ثم ألبس زوجته (جوزفين) تاجها أيضًا بيديه.

(١٥) ملك إيطاليا، مايو سنة ١٨٠٥

وكانت الجمهوريات الإيطالية قد اتحدت فيما بينها على تكوين مملكة تسمَّى بالمملكة الإيطالية، وقد تم ذلك لهم. دُعي نابليون ليكون ملكًا على هذه المملكة الجديدة، فسار إلى ميلان في أبهة الملك والعظمة.

ولما كان اليوم السادس والعشرين من شهر مايو دخل كنيسة ميلان وألبس نفسه تاج لمباردي الحديدي وهو يقول: إن الله قد وهبني هذا التاج، فالويل لمن يحاول لمسه بيديه. ثم جعل أوجني بوهارناس ابن جوزفين الذي تبنَّاه واليًا ونائبًا عنه في مملكة إيطاليا.

(١٦) واقعة الطرف الأغر سنة ١٨٠٥

لما رأت بريطانيا والروسيا والنمسا أن نابليون قد هدَّد السلام العام في أوربا وخشيت منه على ممتلكاتها وعلى نفسها، اتفقت فيما بينها على مناهضة نابليون، ومن المؤرخين مَن يعزو هذا الاتفاق إلى نقض نابليون ما كان بينه وبين أكثر هذه الدول من العهود والارتباطات، فجهزوا جيوشهم وساروا لملاقاة جيوش نابليون برًّا وبحرًا، فكانت الحروب في إسبانيا من طرف والنمسا من طرف آخر، وذهب الأميرال نلسون الإنجليزي إلى الطرف الأغر حيث المراكب الفرنسية فنشبت بينها موقعة تاريخية عظيمة تهشَّمت فيها مراكب نابليون والإنجليز أيضًا، ولكن كان النصر في النهاية للأميرال نلسون العظيم، على أنه قضى نحبه في ساعة ذلك النصر. أما الجيوش البرية فلم تصادف من جيوش نابليون مقتلًا، بل تعقَّبت جنوده جيوش المحاربين في إسبانيا وهزموهم هزيمة ألقت الرعب في قلوب أوربا جميعها، وسار نابليون يتعقب جيش (ماك) القائد النمسوي حتى اضطره إلى التسليم، وكان جيشه يربو على ثلاثين ألفًا من الرجال (١٧ أكتوبر)، ثم سار الجيش الفرنسي بعد ذلك إلى ﭬﻴﻨﺎ يقوده نابليون حتى بلغ أبوابها ففرَّ الإمبراطور فرنسيس إلى مدينة (المتن).

(١٧) واقعة أُسترلتز سنة ١٨٠٥

وحدث بين الجندَيْن معركة دموية لم يعرف التاريخ قبلها ما هو أنكى وأشأم، تلك موقعة أُسترلتز التي نال فيها نابليون النصر المبين. هنالك تقابل الجيشان وجهًا لوجه، وكان جيش النمسا — يعززه جيش قيصر الروس — ثمانين ألفًا تُقاتل مثلها من النفوس، فلما دقَّت الطبول مشى الملوك الثلاث: إسكندر الروسي وفرنسيس النمسوي ونابليون الفرنسي، كلٌّ يقود جيشه بيديه، وكان اليوم من أيام الشتاء في ديسمبر فلم تشرق الشمس وغشيت الأرض غبرة أشبه بغبرة الموت، فمشى نابليون بجيشه ومشى إسكندر بجنوده، فألقى نابليون على أجنحة الروس من جيشه ما ألقى فإذا صفوفهم خطوط كأنما هي على ورق، فمن نجا منهم فقد شتتهم الرعب، حتى إذا وجدوا أمامهم بحيرة كان الثلج على ظاهرها حسبوها منجاة من الموت، فإذا نابليون قد أطلق أفواه مدافعه عليها تصب الحمم واللهب لتتطاير حتى أفنتهم عن آخرهم، والتقى بقية جيشه بالنمساويين فأجلوهم عن مواقعهم وتعقبوهم بالسيف والمدفع حتى لم يبقَ لهم على الأرض ظلٌّ. بذلك انتهت تلك الموقعة الدموية وتم النصر فيها لنابليون. فَقَدَ فيها الجيش المتحد ثلاثين ألفًا من رجاله، وفقد نابليون اثني عشر ألفًا، وعُقدت بعد ذلك معاهدة في السادس والعشرين من شهر ديسمبر بين النمسا وفرنسا.
figure
نابليون في واقعة أُسترلتز.

(١٨) جمهورية الرين

نشأ من ذلك النصر الذي ناله نابليون تغيُّر عظيم في دستور ألمانيا، فرقَّى نابليون منتخب باﭬﺎريا ملكًا، ورقَّى منتخب ورتبرج ملكًا أيضًا، وجعل من كثير من حكوماتها الصغرى جمهورية سمَّاها اتحاد الرين، وكان فرنسيس الثاني إمبراطور ألمانيا قبل ذلك في سنة ١٨٠٤ قد سمَّى نفسه فرنسيس الأول إمبراطور النمسا، ولكن انفصال النمسا عن ألمانيا تم رسميًّا في سنة ١٨٠٦، وهو اليوم الذي دالت فيه الدولة الرومانية المقدسة، ومن ذلك العهد ابتدأ نابليون يهَبُ الممالك للناس، فقضى على نابولي في سنة ١٨٠٦ وجعل أخاه يوسف ملكًا عليها، ثم حول جمهورية بتافيا إلى مملكة سماها مملكة هولندة، وجعل أخاه لويز ملكًا لها، وأطلق على نسيبه مورات، أشهر فارس ركب الخيل في أوربا في ذلك الزمان، جراند دوق إيالة برج.

(١٩) واقعتا أوراستات وجينا سنة ١٨٠٦

أهم ما في سنة ١٨٠٦ ما حدث فيها من تذليل بروسيا. كانت بروسيا تمثل دورَيْن مختلفين فنالت جزاء هذا الرياء؛ كانت تدَّعي أنها صديقة بريطانيا العظمى، على أنها لم تفعل شيئًا للحصول على هانوفر من الإمبراطور مع علمها بأنه أعدى أعداء إنجلترا، وكان نابليون قد غيَّر من سياسته نحوها؛ لأنه لم يكن محتاجًا يومئذ إلى ممالأتها على السكوت، وكان قد ساءه من ريائها أمور فوجَّه إليها عساكره وحاربها في واقعتين في يوم واحد؛ هما أوراستات وجينا. هنالك قاتل عسكر البروسيين الذين كان فردريك الأكبر قد دربهم أَبَدَ نصف قرن على الأعمال العسكرية حتى كانوا مثالًا للجندية إلى أن هزمهم الهزيمة التي جعلت بروسيا ذليلة تحت قدميه.

(٢٠) قرار برلين سنة ١٨٠٧

لمَّا كان نابليون في برلين التي دخلها بعد أسبوع من حدوث واقعة جينا أصدر قرارًا مؤداه أن تُقفل أبواب أوربا في وجه البضاعة الإنجليزية، وأعلن أن الجزائر البريطانية في عزلة تامة، كما أنه حرَّم على أوربا أن تكاتب إنجلترا في شيء ولا تعاملها مطلقًا، وعدَّ كل مصنوعات إنجلترا وحاصلاتها في حكم المهرَّبات، كما أنه اعتبر الأملاك البريطانية نهبة محللة. وأصدرت إنجلترا من جانب آخر أمرًا يحرِّم الاتجار مع فرنسا ومحالفيها، ولكن لم يكن يمكن استمرار العمل بتلك القرارات؛ لأنها كانت تحرم أوربا من كثير من ضروريات الحياة، لا سيما وأن مصنوعات إنجلترا من قطنية وحديدية وغيرها إنما كانت تعتمد عليها أوربا كل الاعتماد؛ لذلك كانت ترد إليها كلما استطاعت سفينة إنجليزية أن تقف في أي شاطئ من شواطئ تلك البلاد.

(٢١) معاهدة تلست سنة ١٨٠٧

كأن الروس لم تكفِهِم تلك الهزيمة المخجلة التي لقيها جيش القيصر في أُسترلتز، وكأن الألمانيين رأوا أن ما بقي لهم بعد فضيحة جينا إنما هو كثير على أنفسهم، فعرضوا أنفسهم مرة أخرى لنابليون فأرسل عليهم هذا من عساكره ما بدَّد شملهم في الطرفين، وقتل من الروس ستين ألفًا من الرجال في واقعة فريد لاند التي حدثت في منتصف شهر يونية سنة ١٨٠٧، فاضطر القيصر إسكندر أن يعقد صلحًا في تلست، وهي مدينة واقعة على نهر نيامن. أما إسبانيا فقد فقدت البقية الباقية لها من الرعاية عند نابليون.

(٢٢) حرب الجزيرة ١٨٠٨ إلى ١٨١٣

لم تُرِد البرتغال أن تتبع نظام نابليون في أوربا، فأرسل نابليون إليهم قائده (جونوت) فاحتلها وطرد بيت براجانزا المكوكي منها، فهاجروا إلى البرازيل، وعاد الجيش الفرنسي بعد ذلك إلى إسبانيا فسَلَّ عرشها من مالكها البربوني ليتبوأه يوسف بونابارت ملك نابولي، فلما خلا عرش نابولي منه رقَّى نابليون نسيبه دوق برج ملكًا لها.

اضطرب الإسبانيون لذلك فاستغاثوا بالإنجليز، فجاءوهم ونشبت بينهم وبين الفرنسيين مواقع لم يغلب الإنجليز فيها إلا في واقعة (فيتوريا) سنة ١٨١٣، وكان يرأسهم في تلك الموقعة (ولنجتن) القائد الإنجليزي المعروف. لم يحضر نابليون هذه الوقائع، بل إنما كان قواده القائمين بها، ولم يزُر إسبانيا إلا في السنة الأولى من نشوب الحرب؛ قال وهو ذاهب إليها: «إني ذاهب لأنظِّف أرض الجزيرة من تلك الثعالب الإنجليزية التي غشيتها.»

قضى نابليون ثلاثة أشهر غلب فيها الإسبانيين في واقعة طليطلة (توليدو)، ودخل مادريد عاصمة الإسبان فاتحًا منتصرًا، ثم غادرها بعد ثلاثة أشهر حين بلغه أن جيشًا نمساويًّا قد تحرَّك يريد محاربته.

(٢٣) الحرب النمساوية سنة ١٨٠٩

في هذه السنة جمع النمساويون نصف مليون من الجنود يريدون أن يمسحوا بها العار الذي لحق بهم بعد واقعتَي مارنجو وأُسترلتز، واضطربت البلاد اضطرابًا لهذا العمل، فقام الأرشدوق شارل ودعا الأمة الألمانية للقيام في وجه نابليون وتكسير ذلك النير الفرنسي الثقيل، فاخترق نابليون إليهم نهر الرين وقهر شارل المذكور في باﭬﺎريا، وضرب ﭬﻴﻨﺎ، وسار بأعلامه يخفق في شوارع تلك المدينة العظيمة، تدق طبوله وتعزف بوقاته عزف المنتصر القدير، كل ذلك في تسعة أيام (٣ أبريل إلى ١٢)، ثم اخترق نابليون بعد ذلك نهر الدانوب وحارب في واقعة لم تكن نهائية، ذلك بأن النمساويين كسروا الكُبرِي من ورائه بأن ألقوا كتلًا كبيرة من الخشب في النهر، فاضطر نابليون أن يحمي جيشه في جزيرة مدة ستة أشهر.

(٢٣-١) واقعة واجرام ٥ يولية ١٨٠٩

كان اليوم يومًا عبوسًا قمطريرًا أرعدت السماء فيه إرعادًا أسكت أصوات المدافع، ووقف الناس ولدانًا شيبًا فوق سطوح المنازل في ﭬﻴﻨﺎ وقد ملك الرعب قلوبهم حتى يكاد يتدفق الاصفرار منها وهم ينظرون إلى ملتحم الجيشين. وقف أربعمائة ألف من الأرواح في حومة الوغى حتى إذا انتصف النهار سقط قلب الجيش النمساوي وتشتت، فلما رأى الإمبراطور النمساوي ذلك، وكان يشاهد تلك المناظر المفزعة من جبل بجوارها، فَقَدَ رشده فحوَّل بصره عن مشهد الدماء والهزيمة وغادر مكانه إلى حيث أراد.
figure
نابليون في واقعة واجرام.

بذلك انفضَّت الموقعة العظيمة، ثم عقد صلح يعرف بمعاهدة شونبرون التي نال فيها نابليون أرضًا عليها مليونان من النفوس.

(٢٤) ثاني زواج لنابليون سنة ١٨١٠

لم يكن نابليون من هذا النصر ليريد أن يقضي على النمسا وعائلة هابسبرج الحاكمة، بل شاء لها البقاء وشاء لنفسه أن يتصل بها؛ رغبة منه في أن يكون نسبه متصلًا ببيت ملكي، فطلق امرأته الأولى جوزفين زوجته المخلصة؛ لأنها لم تكن من بيت إمبراطوري، ولم تكن تلد، ثم تزوج بماري لويز ابنة إمبراطور النمسا على أمل أن تلد له ولدًا. وقد حقق الله أمله؛ فإنه لم تمضِ سنة على زواجهما حتى ولدت له في مارس ١٨١١ ولدًا سماه ملك روما، ولكن لم يقدر الله لهذا الملك أن يقبض على صولجان الملك؛ فإنه عند سقوط أبيه أخذه بيت هابسبرج وظل فيه حتى مات في سنة ١٨٣٢.

(٢٥) القبض على البابا سنة ١٨١١

قبل زواج نابليون بسنة حدثت حادثة في روما من أغرب ما روى التاريخ؛ وذلك أن نابليون لما ضم إلى سلطته الواسعة أملاك البابا، وكانت قبل ذلك مستقلة، أصدر البابا منشورًا قضى بحرمان نابليون من الكنيسة، فلم يهتم نابليون بهذا القرار الصارم الذي كان أفظع ما في يد الباباوات من آلات الانتقام، وأتى بما هو أنكى وأشد؛ فإنه أرسل إلى روما بعضًا من رجال الجندرمة تسلقوا جدران سراي البابا وأخذوه منها في الليل أسيرًا إلى فرنسا، فأبقاه نابليون في فونتنبلو.

(٢٦) ذروة مجد نابليون ١٨١١

في هذه السنة بلغ نابليون ذروة المجد؛ فقد امتدت الإمبراطورية الفرنسية من حدود الدانمرك إلى حدود مملكة نابُلي، فكان على هولاندة ملك من أهل نابليون وآخر على نابُلي وثالث على واستفاليا، وكان أخوه يوسف ملكًا على إسبانيا، وكان برنادوت أحد قواده العظماء ملكًا على السويد.

وبما أن نابليون كان حامي جمهورية الرين فقد كانت ولايات ألمانيا طائعة له، وكانت النمسا وبروسيا أطوع إليه من بنانه بعد ما أصابهما من الخذلان المتوالي، كما أنه كان حاميًا أيضًا للجمهورية الهلفيتية التي أدخل فيها أقاليم سويسرا، أما الروسيا فكانت محالفة له.

كل هذه الإمبراطورية الواسعة، كل هذه السلطة العظيمة، لم تمضِ عليها أربع سنوات حتى تبدَّلت فكأنما هي لم تكن، وقسم لنابليون من قصوره العظيمة ومنازله الواسعة منزل صغير ذو حديقة صغيرة على صخرة في جزيرة صغيرة من المحيط الأطلانطيقي العظيم. فسبحان مذل الملوك!

(٢٧) أفول نجمه

(٢٧-١) غزو الروسيا سنة ١٨١٢

كانت الروسيا قد اتفقت مع نابليون على أن لا تعامل إنجلترا، ولكنها نقضت ذلك العهد فشاء نابليون أن يقتص منها جزاء ذلك، فجهز إليها جيشًا يبلغ عدده نصف مليون، وسار إلى الروسيا بالرغم من نصيحة الناصحين، فاخترق بجيشه نهر نيامن وتقدم صوب موسكو، وكان جيش الروس يربو على ثلاثمائة وستين ألف مقاتل، ولكن هؤلاء لم يعتمدوا على قوتهم وسلاحهم كما اعتمدوا على برودة الطقس في بلادهم، فنشأت بينهم مواقع ليست بذات شأن كبير كانت الخسارة واقعة فيها على رءوس الروس، ولم يزل نابليون يتقدم بجنوده نحو مدينة سمولنسك حتى ضربها بمدافعه، ولكن لم تكن المقذوفات تؤثر فيها، ففر أهلها عنها ثم دخلها نابليون فلم يجد بها مأوى، فتقدم بعد ذلك إلى موسكو وحدثت بينه وبين كوتوسوف القائد الروسي موقعة برودينو (٧ سبتمبر)، ظلت من أول النهار إلى منتصف الليل، وكان عدد كل فريق يربو على مائة وثلاثين ألفًا من الجنود، وانتهت الموقعة بانسحاب الروس إلى الشمال صوب موسكو بعد أن قتل في هذه الموقعة ٩٠ ألفًا أو يزيدون.

(٢٧-٢) حريق موسكو في ١٤ سبتمبر سنة ١٨١٢

مضى أسبوع على موقعة برودينو ونابليون لا يجد لعسكره مأوى بعد إذ أصاب الروماتزم أرجلهم، فسارع في السير إلى موسكو، ولم يكد يرى الجندُ مآذنها العالية، وقد اتصل بعضها ببعض في سلاسل مذهَّبة، حتى هللوا فرحًا، وكانت المدينة عندما دخلوها هادئة ساكنة لا أثر للروس فيها، ولكن شبَّت في الليلة الثانية من بقائهم فيها نار حامية، وشبت ثانية وثالثة حتى أصبحت كأنما هي أتون عظيم، فلم يستطع نابليون المقام فيها فعاد منها إلى مدينة كريملين وبقي بها قليلًا، وأرسل إلى القيصر يطلب الصلح معه فأبى القيصر ذلك، فلم يجد نابليون بعد ذلك بدًّا من سرعة العودة إلى فرنسا.

(٢٧-٣) العودة

ابتدأت عودة نابليون إلى فرنسا في التاسع عشر من شهر أكتوبر سنة ١٨١٢، فتبعهم الروس من الوراء وظلوا يناوشونهم، ولكن لم يكن السوء كله ناشئًا مما فعلوا، بل مما بلتهم به الطبيعة يومئذ من زمهريرها وثلجها؛ فقد كانوا يسيرون على أرض مغشاة بالصقيع، ثم يهطل عليهم الثلج من كل جانب فيوقفهم في مكانهم لا يتحركون، بل كانت الصفوف تخترق الصفوف؛ هذه متحركة إلى أجل وتلك جامدة بعد ذلك الأجل، وما زالوا كذلك ينقص البرد من رجاله والجوع من خيله حتى نزل بمدينة سمولنسك فوجد فيها مطعمًا قليلًا ومرعى ضئيلًا على شاطئ نهر بريسينا، هنالك قُطع عليهم خط الرجعة؛ إذ جاءهم الروس من أمام هذا النهر وناوشوهم فقتلوا منهم وأغرقوا أربعة وعشرين ألفًا، فلم يسَعْ نابليون بعدها إلا أن يسافر هو إلى باريس على زحافة، فوصلها ووصل الجند بعده لم يبقَ منه إلا بضعة آلاف أهلكهم الجوع والبرد.

هلك من جنود نابليون في هذه الحملة المشئومة مائة وخمسة وعشرون ألفًا في ميادين القتال، ومثلها نصبًا وجوعًا، ومائة ألف أُخذوا أسرى. منذ ذلك الحين أفل نجم نابليون.

(٢٧-٤) واقعة ليبزج ١٨١٣

عاد نابليون إلى باريس في منتصف ليلة الثامن عشر من ديسمبر، وكان يعلم أن أوربا كلها متحفزة للوثوب عليه، فسرعان ما جمع حوله جيشًا يربو على ثلاثمائة وخمسين ألفًا من الرجال في أربعة شهور، ثم نشأت حروب اشتركت فيها أوربا ضده، حتى إن برنادوت نفسه، وهو الذي جلس على عرش السويد بفضل نابليون، انضم إلى هذا التحالف! وكان نهر الألب مشهد تلك الحروب، ففاز نابليون بالنصر في موقعتَي لوتزن وبوتزن في شهر مايو سنة ١٨١١، ولكنهما لم توقفا أوربا عند حدها، بل جرَّأتهم خسارته الأولى على استمرار الحرب، فاجتمع مندوبو الدول في مدينة براج وقرروا أن تترك النمسا جانب نابليون، ثم استمروا في الحرب واقعة بعد موقعة حتى قاتل نابليون الواقعة الأخيرة؛ واقعة ليبزج، هنالك وسط القتال خانه عشرة آلاف من السكسونيين فتركوا مواقعهم وانضموا إلى أعدائه، وبذلك انقطع خط السير الذي رسمه نابليون (١٨ أكتوبر) فضاع النصر على الإمبراطور.

(٢٧-٥) غزو فرنسا

عزمت الدول على غزو فرنسا فساروا بجيوشهم نحو باريس، وكان ولنجتون القائد الإنكليزي في الجنوب، فجمع نابليون كل ما كان لديه من قوة وذكاء واستعداد فطري، فكان مجموع ما جمعه من العساكر لا يزيد عن مائتي ألف رجل، وكان قد خان عهده كثير من ضباطه، حتى نسيبه مورات. تقدم جيش أوربا المتحالف نحو باريس فخرج إليهم نابليون يقاتلهم فانتصر عليهم في عدة وقائع كادت تقضي على آمال أوربا جميعًا، واستمر كذلك شهرين كاملين تزداد القلوب فيها وجلًا من الاندحار حتى غلط نابليون غلطة كانت القاضية؛ وذلك أنه أراد أن يهاجم مؤخرة جيوش أوربا ففعل، وكان قصده من ذلك أن ينزل الرعب في قلوبهم، ولكنهم أسرعوا إلى الأمام فدخلوا باريس من غير تعب، وكان تسليمها على يد القائد مارمونت.

(٢٧-٦) نفي نابليون إلى جزيرة ألبا

دخل البراطرة عاصمة نابليون يمشون فيها ريحة وجيئة، وكان نابليون بعيدًا عنها، فلما وصلها ذهب من فوره إلى فونتينيلو، وبعد ذلك بيومين أصدر مجلس الشيوخ قرارًا بعزل نابليون، ثم أمضى نابليون إعلان نزوله عن ملك فرنسا وإيطاليا في الرابع من شهر أبريل. وفي العشرين من ذلك الشهر وقف نابليون وألقى على بعض جنده خطبة وداع مؤثرة أسبلت دموع الحاضرين وصعَّدت زفراتهم، ثم غادرهم بعد ذلك إلى فريجوس، ومنها نقلته مركب إنجليزية إلى جزيرة ألبا الواقعة في البحر الأبيض المتوسط في مياه إيطاليا العليا بالقرب من شواطئ تاسقونيا. وقد حُفظ لنابليون لقب الإمبراطور، ومُنح مرتبًا سنويًّا قدره ستة ملايين من الفرنكات، ولم يكد نابليون يستقر في ألبا يومين حتى توفيت زوجته المخلصة جوزفين، فلما بلغه نعيها حزن عليها حزنًا كثيرًا.

(٢٧-٧) عودة البربون إلى فرنسا

بعد نفي نابليون إلى جزيرة ألبا رأت الدول أن تعيد عائلة البربون إلى فرنسا، فعادوا إليها وجلس على عرشها لويس الثامن عشر أخو لويس السادس عشر الذي من أجله قامت الثورة الفرنسية، والذي قتله الوطنيون في شوارع باريس. عاد هذا الملك إلى عرش فرنسا وعادت تلك العائلة ومبادئها الأولى.

لم يتعظ بما أصاب أخاه من قبل، بل آذن في البلاد بأن أملاك هذه العائلة يجب أن ترد إليها، وكان قد امتلك أكثرها كثيرون آمنين هادئين، فقام الشعب لذلك وقعد، فلما رأى الملك ذلك أراد أن يهدئه فأصدر قرارًا ضمن لأمته به ثمانية امتيازات عدَّها هبة من لدنه، بيد أن هذا الشعب لم تهمه هذه الامتيازات ولم تُكبر الملك في عينيه؛ لأنها كانت مقررة من قبل فلم تكن إلا من قبيل تحصيل الحاصل. تلك الامتيازات هي: المساواة أمام القانون – حق الدخول في الوظائف – وحدة الإدارات – حكومة دستورية – الضريبة لا تقرر إلا بالاقتراع – الحرية الشخصية – حرية العبادة – حرية المطبوعات.

(٢٧-٨) البنفسج المتجسد

انتشرت في هذه الأثناء جنود نابليون متفرقة في بلدانهم وقراهم، وانتشرت فئات الجنود الأوربية الغرباء في مدنها، فتذمر الأولون وقالوا إن فرنسا لا تستطيع أن تطعم أولئك الجنود منها بلا عمل يؤدونه لها، ولا يصح أن يظلوا يأكلون وينامون بين العيون الساهرة من أبناء جلدتهم، وتذكَّر الناس بأفعال الملك الجديد مصايب العهد القديم، فانتشرت في فرنسا جميعها نبوَّة غريبة؛ ذلك أنهم قالوا إنه إذا جاء ربيع هذا العام ظهرت في البلاد زهرة بنفسج في صورة إنسان. فأخذ الناس يتوقعون ظهور هذا البنفسج الغريب، على أنه لم يكن الأمر إلا فتنة تدبر لم يحِنْ أوان اشتعالها، فكانت مغطاة بأوراق ذلك الزهر اللطيف لفظًا ومعنى؛ فقد اتضح أن النساء كن يتزينَّ بهذا البنفسج، فإذا فتشت أوراقه ظهر من تحتها صورة الإمبراطور نابليون المحبوب.

قضى نابليون في جزيرة ألبا حوالي عشرة أشهر (من ٣ مايو سنة ١٣ إلى ٢٨ فبراير سنة ١٤) وكان حوله بعض عساكره الأقدمين فئة تستحب الموت في سبيل رضاه، وكان يصل إلى هؤلاء من أقاربهم في فرنسا ما ينبئهم بقرب اليوم المنشود، فكانوا يبلغون ذلك إلى نابليون، فاشتد تفكُّر نابليون بهذا الأمر وأخذ يدبر للأمر عدته.

(٢٧-٩) مؤتمر ﭬﻴﻨﺎ في سنتَي ١٨١٤-١٨١٥

بعد نفي نابليون إلى ألبا أرسلت الدول مندوبيها إلى مدينة ﭬﻴﻨﺎ لحضور مؤتمر ينظر في طريقة إعادة الأمن والنظام إلى نصابهما في أوربا، فقضوا لذلك أشهر الشتاء لم يفعلوا شيئًا، بل المرويُّ عنهم أنهم كانوا يقضون الليل في الرقص مع الحسان ومعاقرة بنت الحان ثم إذا جاء الصبح ذهبوا إلى حيث يتكلمون، وظلوا كذلك حتى جاءهم نبأ بأن نابليون قد عاد إلى فرنسا، فصرخوا في المكان صرخة مدهشة كادت توقع جدران ذلك المكان.

(٢٧-١٠) عودة نابليون إلى باريس مارس سنة ١٨١٥

في صباح يوم من أيام مارس سنة ١٨١٥ ركب نابليون زورقًا قام به من جزيرة ألبا إلى ناحية بجوار بلدة (كان) على الشاطئ، وكان معه من رجاله الأقدمين ستمائة رجل وانضم إليهم أربعمائة من أهل بولانده وكورسيكا، فلما بلغ مدينة جرينوبل انضم إليه سبعمائة من جنود لويس الثامن عشر، وكان هذا الملك قد سمع بهروب نابليون فأرسل إليه المارشال (ناي) أحد قواد نابليون المشهورين «وأشجع الشجعان» كما كان يسميه نابليون نفسه. ذهب المارشال لملاقاة نابليون وأَسَرَه في قفص من الحديد كما وعد بذلك الحكومة الفرنسية، ولكنه إذ رأى وجه سيده المحبوب ورأى الجيش الذي معه يضطرب ويهز أجزاء السماء بدعائه Vive l’empreur (يحيا الإمبراطور) لم يسعه إلا أن يردد الدعاء مع الجنود. وقصة هذا الدعاء أنه لما التقى نابليون بهؤلاء الجند وعلم أنهم إنما أتوا للقبض عليه وقف أمامهم على ظهر جواده ثم قال: «يا عساكر أُسترليتز وأبطال أوربا، هل جئتم لتقبضوا على قائدكم؟!» قالوا جميعًا بصوت المتحمس: «ليحيَ الإمبراطور!» ثم نادى عليهم نداءه المحبوب واجتمعوا وراءه في مشهد عظيم حتى بلغوا باريس في ليلة العشرين من شهر مارس، وكان الملك لويس قد غادرها قبل وصولهم بساعة.

هنالك بين صهيل الخيل وصلصلة السيوف ومجر العربات تقدم نابليون في عربة حتى وصل إلى قصر التوليري، فصعد إلى غرفة المطالعة، وهناك أخذ يباشر الأعمال كعادته كأنما كان في فسحة قصيرة ثم عاد إلى العمل. هنالك أخذ يشتغل ليل نهار بعزيمة لم يعرف لها حد، ولكن نابليون كان يستعد للزمان. أخذ نابليون يفحص ما جدَّ بعده ويدقق البحث ثم وافق على القرار الذي أصدره لويس، ثم لم يدخر من وسعه شيئًا ولم يضِعْ من زمنه لحظة من غير عمل لتجهيز جيش جرار، فجمع حوله مائة وعشرين ألف جندي للحرب.

(٢٧-١١) واقعة واترلو

قضى نابليون مائة يوم في باريس قبل أن تستطيع أوربا جمع شملها، وأخيرًا حشدت أوربا مليونًا من الجند لمقاتلة جنود نابليون.

فرأى نابليون أن ينقضَّ على جيش بروسيا وإنجلترا في أراضي بلجيكا ثم يتوجه بعد ذلك لمقاتلة باقي الجيوش على شواطئ الرين، فسار بجيشه إلى (شارل روا) فالتقى بقائد الجيش البروسي، وما زال به حتى أجلاه عن مواقع القتال وانصرف إلى الجيش الإنجليزي فأصلاه نارًا حامية حتى لم يبقَ من جيش ولنجتون إلا معدود اضطر أن يصفَّه أفرادًا متباعدة جدًّا. وعند ساعة النصر لنابليون، بل عندما ابتدأت الهزيمة تقع في النهاية على رءوس الإنجليز، التفت نابليون فإذا جيش بلوتشر البروسي قد عاد من الوراء يعزز أفراد الجيش الإنجليزي، فعلم نابليون أن هزيمته محققة، وأنه لا شك مقهور، فترك ميدان القتال وركب مركبًا إنجليزية، وعاد إلى باريس، وهناك أمضى وثيقة النزول عن المُلك لابنه (ملك روما) في الثاني والعشرين من شهر يونية، ولكن جيش المتحدين أبى أن يقرها فألغاها، وأعاد لويس الثامن عشر إلى المُلك في السابع عشر من شهر يولية.

(٢٧-١٢) التسليم

أسرع نابليون بالرحيل إلى (روثفورت) يقصد السفر إلى أمريكا، ولكنه لم يستطع ذلك لأن المراكب الإنجليزية كانت تراقب الشواطئ. في الخامس عشر من شهر يولية ركب نابليون سفينة إنجليزية تسمى (بللروفون) أوصلته إلى بلدة تورباى من بلاد إنجلترا، وهناك أبلغه قبطانها أن الحكومة الإنجليزية قضت له بالنفي إلى جزيرة سنت هيلانة.

(٢٧-١٣) سَنت هيلانة

وصلت السفينة (نورثمبرلند) بنابليون إلى هذه الصخرة القائمة في بحار المحيط الأطلسي في الخامس عشر من شهر أكتوبر، وهناك قضى الإمبراطور العظيم ست سنوات كان فيها كثيرَ القراءة كثيرَ التفكير، وكان حارسه في هذه الجزيرة السير هدسون لو شديد المراقبة عليه كثير الإهانة له، حتى قضى نحبه في الخامس من شهر مايو سنة ١٨٢١.

فدُفن إلى جانب غدير صافٍ كانت تظلله أشجار الصفصاف والسرو وتُظلُّ نابليون من حر تلك الجزيرة، وبقيت جثته هناك حتى قامت بعثة من فرنسا لنقله إلى الوطن الذي حنَّ إليه وأوصى بنقل جثته إليه «بين الأمة الفرنسية العزيزة التي أحبها حبًّا جمًّا».

ذهبت هذه البعثة في شهر أكتوبر من سنة ١٨٤٠ فحملته إلى فرنسا حيث أقيم له مأتم لبس فيه الناس عليه الحداد.

وقد أخذ لنقل الجثة من ميناء الهافر إلى باريس خمسة أيام؛ وذلك لأن فرنسا كانت تحتفل بها في كل مكان وصلته، وقد بلغ من حب الناس له أنهم مع علمهم بموته لم يشاءوا إلا أن يقولوا Vive l’empreur ليحيَ الإمبراطور إيذانًا بأنه حي في قلوبهم على الدوام، وأنه ما عجل بموته إلا ما فعلته به إنجلترا حتى حرمت عليه رؤية زوجته وابنه الوحيد من يوم سفره. فقضوا للرجل إلا أن يموت بعيدًا عن فلذة كبده ومشتكى حزنه قبل أن يلم به المشيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤