الفصل الحادي عشر

من دروس الحياة

أول ما علمتنيه الحياة أن أتلقى كل حال بالتسهل والرضى، وأن أكون في كل ساعة كما تشاء الساعة، وأن أقصر همي على ما أنا فيه، ولا أكر بالطرف إلى ما خلفته ورائي، ولا أحاول أن أمده إلى ما تحجبه أستار غيب الله فأنا أحيا من يوم إلى يوم كالعامل الفقير يكسب رزقه بكدحه ولا ذخيرة له من مال يتكئ عليها ويحور إليها عند الحاجة، ولكنا إذا اعتبرنا الحقيقة فقير، ونصيبنا من الحياة تقتير، وإن عظم الجاه وكثر الوفر، وما تأملت وجوه العيش وأحوال الدنيا إلا تبسمت سخراً من نفسي، ومن الناس، وإلا بدا لي أننا أطفال صغار أغرار، وإن ارتفعت السن وشاع الأبيض في الأسود، تعاملنا الحياة كما نعامل نحن صغارنا فتسرنا تارة، وتؤدبنا طوراً، وتهزل معنا مرة، وتجد أخرى، وما رأيت طفلاً يلبس في يوم عيد ثوباً جديداً يختال فيه مزهواً إلا قلت لنفسي «ما أشبهنا نحن الكبار في نظر الحياة بهذا الطفل الغرير الذي لا تكاد الدنيا تسعه من فرط سروره بهذه الحلة الجديدة.

وسنرى هذا الطفل بعد قليل يبكي ويعول لأن كرته ضاعت أو خطفها طفل آخر، فيذهله الأسى لفقد لعبة رخيصة لم تكن على كل حال بالدائمة، عن جديد ما اكتسى في عيده، كما نأسى نحن الكبار لأن شيئاً من عرض الدنيا فاتنا أو خسرناه».

أي نعم، علمتني الحياة أن أهمل العرض وأجعل بالي إلى الجوهر على قدر ما يدخل ذلك في طوقي، وأن أعد نفسي وأعد الناس جميعاً أطفالاً أغراراً، عبثهم أكثر من جدهم، ومطالبهم فوق قدرتهم وعقلهم دون إحساسهم أو أهوائهم، وجدهم أبعث على الضحك من لهوهم.

وتعلمت شيئاً آخر. هو أنه ما من شيء في هذه الدنيا يستحق أن نقيم له القيامة، أو نغالي به ونهول على نفوسنا، فقد مر بي خير كثير، وشر كثير، وما كنت أراني إلا شقياً في الحالتين، لأني كنت إذا أصابني خير أسر به، ولكني كنت مع ذلك أشفق أن يزول وأخشى أن لا يتكرر فأعذب نفسي بما لا موجب له من القلق، وإذا أصابني سوء شق عليّ واستكبرته، وخفت أن يطول أمده، وكبر في وهمي أني سألقى مثله مرة بعد أخرى، ونسيت ما فزت به من خير، وأشفقت أن لا يطول احتمالي لما أنا فيه من الضراء، وتجلدي عليه، فصارت الحياة كالجحيم، ثم رأيت كل شيء يزول، وتبينت أن الإنسان أوتي من المرونة قدراً كافياً وأنه ما من حال إلا وهو قادر على رياضة نفسه على السكون إليه، وأن الخوف من ازدياد الألم نفسياً كان أو بدنياً، ومجاوزته حد الطاقة، ليس إلا وهماً كما أن الماء إذا بلغ درجة الغليان لا تتجاوز حرارته المائة ولو أوقد عليه نار جهنم، كذلك الألم لا تطرد زيادته إلى غير نهاية، لأن الإنساني يقف شعوره به عند حد معين فكل زيادة فيه تجاوز ذروة الطاقة الإنسانية على الاحتمال، تذهب بغير إحساس بها، والأيام لا تزال تنتقل بالإنسان من حال إلى حال، وكل شيء يمضي وإن خيل في وقته أنه سرمد، فخير للإنسان وجلب لراحته أن يستقي تعذيب نفسه في غير طائل فيشتهي ولا يتلهف، ويتشدد ولا يجزع.

وتعلمت من أجل ذلك كله أن أحاسب نفسي وأنصب لها الميزان، أنفة من الغرور المضحك، وزهادة في مغالطة النفس، وإيثاراً لمواجهة الحقيقة السافرة، وأفادني ذلك أن صرت لا يكربني أو يثقل عليّ، سوء رأي الناس فيّ، لأن رأي في نفسي أسوأ، وميزاني لها أدق وأضبط.

ومحاسبة النفسي عسيرة، ولكنها واجبة، حتى لا يتكرر الخطأ، ويطول الجهل، ويتمادى المرء في الضلال، وهي على أهون وأخف من محاسبة الغير.

وتعلمت ألا أكون أسير رأي أو كتاب فإن مؤدى هذا الأسر الإفلاس العقلي والعاطفي. وفائدة الكتب أن يقرأها الإنسان ويدرسها ويفكر فيها، ويضيف عقول أصحابها إلى عقله، لا أن يظل أسيرها، ولست أحتاج إلى مثل هذه الوصية، لأني أنسى ما أقرأ والنسيان آفة، ولكن ضيره يسير. وكون المرء قد نسي شيئاً ليس معناه أنه لم ينتفع به، أو أن هذا الشيء اندثر وانمحى، فإنه يبقى وراء الوعي وإن كان لا يطفو على السطح ولا تلم به الذاكرة فلا يسعفها حين تطلبه، والفائدة العقلية تحصل على الحالين، سواء نسي المرء ما قرأ أم تذكره، كما تحصل الفائدة من الطعام وإن نسي المرء ما أكل.

والمعول على الهضم، فإن العقل ليس رفوفاً يصف عليها ما يقرأ المرء أو يدرس، وقد لقيت غير واحد في مصر وغيرها من الشرق والغرب تروعك كثرة محفوظهم، ولكني كنت إذا استطردت معهم إلى البحث يدهشني عجزهم على التفكير السديد، فهؤلاء قد حفظوا كثيراً، وزادت ذاكرتهم قوة بالمرانة، ولكنهم لم يهضموا ما قرأوا ولم يثقفوا به، فصاروا أشبه بمكتبة متحركة، لا خير فيها لنفسها، وما من أحد يستطيع أن يحفظ كل ما يقرأ، غير أن ما من أحد يعينه أن يفهم ما يقرأ، إلا إذا كان بليداً غبياً أو كان الموضوع من غير بابه، فيجيء فهمه ناقصاً، وقدرته عليه محدودة. والفهم هو المهم، والرياضة العقلية هي التي عليها المعول، وهي الغرض من قراءة الأدب ودرسه. وأعني بالرياضة العقلية تزويد المرء بالمعارف اللازمة وتوسيع أفقه، وشحذ قريحته، وإرهاف حدها، وتعويده التفكير المستقيم وتدريبه على التأمل والنظر.

وتعلمت ألا أطالب أحداً بأن يذهب مذهبي أو يصدر عن رأيي، فإن هذا مطلب بعيد المنال، ولو كان قريبه لما ارتضيته، ذلك أن شر آفة تصيب جماعة إنسانية، هي أن تصب عقولها في قالب واحد، فتغدو الجماعة كأنها نسخ متعددة من كتاب مفرد أو صحيفة واحدة، ولا تعود غنية أو قوية بكثرة العدد لأنها ليست إلا فرداً مكرراً، ولا نبقى ثم مجال للانتفاع بالمواهب الخاصة والملكات الفردية، لأنها كلها على غرار واحد، ونسق لا يختلف أو يتفاوت أو يتعدد. والأدب فردي، وهو لا يحيا وينمو ويرتقى إلا في ظل الحرية التامة في التفكير والارتياد.

وصحيح أنه كان في بداية نشأته من عمل الجماعات حين كانت على الفطرة، ولم تأخذ من المدنية بنصيب، ولم تقسمها الصفات الشخصية والملكات العقلية طوائف، ولم يفرق بينها اختلاف المراتب وتباين الأعمال وتعدد الآراء.

في هذه الجماعات يكون كل امرئ أشبه بجاره ورفيقه، وتكون حدود الفرد هي حدود التقاليد المشتركة بين الجماعة كلها.

فإذا نشأ فيه الشعر كانت نشأته عملاً من أعمال الجماعة كلها وملكاً لها لا للفرد، فلا حقوق للتأليف، والشعر أسبق من النثر الفني، وهو يظهر تالياً للرقص والغناء وتابعاً لهما ومتفرعاً عليهما وغير منفصل منهما.

وأقول أن الشعر يتلو الرقص في الظهور والنشوء لأن الحركة أسبق من اللغة في تاريخ الإنسان، فإن الإنسان استطاع أن يتحرك ويمشي ويقفز ويعدو قبل أن ينطق ويعرف أن له لساناً يمكن أن يكون أداة لإخراج أصوات تنقل الإحساس أو الخاطر إلى زميله. والشعر قوامه الوزن الموسيقي، وليس الوزن إلا انتظام الحركات، فهو أوثق ارتباطاً بحركات الجسم ومساوقة لها، ومازالت الإشارات وحركات الوجه من متممات التعبير اللفظي، ولا تنسوا ما قاله بعض علماء العرب من أن بعض علماء العرب من أن بعض أوزان الشعر مستمدة من سير الإبل.

وفي كل جماعة إنسانية بدائية كان الرقص يسبق الشعر، ومتى انتظمت حركات المجتمعين واتسقت على مقتضى العاطفة المشتركة كان من المعقول بعد ذلك أن تخرج الألفاظ مستوية في ترتيبها على وزن هذه الحركات. فأول ما عرف الإنسان من الأدب هو الشعر، وكان الشعر في بدايته عبارة عن لحن موزون يند عن أفواه المجتمعين إذا كان جارياً على ما تتطلبه وتؤدي إليه الحركات التي يشتركون فيها ويؤدونها معاً على نسق واحد وعن عاطفة عامة شائعة بينهم على السواء.

وليس من الضرورى أن يكون لهذا اللحن معنى معقول لأن كونه معقولا أو غير معقول مرجعه إلى الفكر والعاطفة أسبق في تاريخ النشوء الإنساني من الفكر ثم يحدث التميز تدريجياً بين أفراد الجماعة ويقوى الشعور بالذات، ويزداد الإحساس بالاستقلال، ويبرز الفرد شيئاً فشيئاً ويأنس من نفسه ما لا يأنس غيره من نفوسهم فلا يقنع بأن يبقى في حلقة الجماعة يردد ما يقولون، ويندفع مجترئاً على التقاليد، ويعلو صوتهم أصواتهم فيروعهم فتخفت أصواتهم قليلاً ويستحدث ما لا عهد لهم به، ثم تتوالى الخطوات متتابعة فيتضاءل عمل الجماعة من حيث الاشتراك في التأليف إلى الاقتصار على معاونته بحركاتها للمحافظة على الوزن، على نحو ما نرى الآن في حلقات الذكر وما إليها.

ولا تزال الجماعات تتطور ويختفي أثرها ويظهر الفرد حتى إذا تألفت تأليفاً سياسياً ظهر الشاعر الفني المستقل عن الجمهور، وصار أمر الشعر كله إلى الفرد. ثم يظهر النثر الفني بعد ذلك على الأيام.

فالأدب فردي، وقوامه خصائص الفرد، ومواهبه ومبلغ حريته في التعبير عن نفسه. ولا غنى عن شرط الحرية، وإلا ذبل ومات.

ولقد فرضت ألمانيا وإيطاليا في هذا العصر فلسفة معينة على شعبيهما وجعلتا من البلدين ثكنتين، ومن الأمتين جنوداً يسير أبناؤهما خطوة واحدة، ويفكرون على نسق واحد، ولا يؤذن لهم في رأي يخالف الرأي المقرر، أو فلسفة تشذ عن الفلسفة المفروضة، فكانت النتيجة أن صارتا دولتين حربيتين، ولكنه لم ينبغ فيهما شاعر واحد من الطبقة الأولى، ولا كاتب عظيم، ولا فيلسوف عبقري. من أمثال الذين نبغوا في العصور السابقة أو في الأمم الأخرى التي ينعم فيها الفرد بحريته الشخصية، ولا يحول فيها حائل دون التعبير الصادق عن النفس.

وما دام أن هذا هكذا فإن من حق الإنسان أن يغتبط إذ يرى لرأيه مخالفين — لا عن تعنت بل عن تفكير وتدبير، ولما كان من المتعذر أن نتبين حقيقة البواعث على المخالفة في كل حال، فيحسن أن نحترمها وندع للناس حقهم فيها لأنها في خير حالاتها مظهر اجتهاد وآية إيثار لحرية الارتياء، ودليل على أن الأمور لا تؤخذ مأخذ التسليم والآراء لا نقبل بغير اقتناع.

هذا بعض ما تعلمته وحذقته ورضوت نفسي عليه من دروس الحياة، وقد كانت التجربة طويلة وشاقة وكثيرة الرجات والصدمات، ولكني غير آسف لأن الثمرة التي خرجت بها تستحق العناء، وحسبي من ذلك سكينة النفس وصحة الإدراك، وعسى أن لا أكون مخدوعاً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤