تمهيد

مصر مَدينةٌ للنيل بثروتها وحياتها. حقيقة أفرغها أبو التاريخ «هيرودوتس» منذ أربعة وعشرين قرنًا في قالب بديع بقوله: «مصر هبة من النيل.»

إذا فاض ذلك النهر فأرواها اكتست أرضها سندسًا أخضر، وإن غاض فأظمأ تحولت بغتة إلى صحراء مجدبة، فكان القحط والجوع للفلاح المسكين الذي يرزح تحت أثقال الديون، وشلت الحركة الاقتصادية في البلاد شللًا مفاجئًا. هذه الأزمات التي تطرأ على أثر كل فيضان ضعيف — ومن فضل الله أن الفيضان الضعيف لا يأتي إلا نادرًا — تزداد خطورتها؛ لأنها تصيب البلاد في مبعث حياتها؛ أي في زراعتها.

أليست مصر بلادًا زراعية محضة ولا شأن فيها للصناعة إلا ما كان من إنتاج المهن الصغيرة؟ وهذا بلا التفات إلى بعض الصناعات الزراعية كمحالج الأقطان، ومعامل السكر، ومضارب الأرز، ومعاصر الزيوت؛ فإنها لا تخرج مصر من حكم أن أكبر صناعة للمصريين هي زراعتهم.

فرفاهة البلاد مترتبة أولًا على حالة النيل، وعلى الإدارة التي تستطيع بالأشغال العمومية النافعة والتدابير الحكيمة أن تستخدم هذا النهر العظيم، وتوجهه في مرافقها. وإن شأن الإدارة في هذا الباب هو في المكان الأول من الأهمية؛ إذ النيل ملك للحكومة في كل تفاريعه، وكل الترع والجداول التي تستمد ماءها منه لا يقع منها شيء في ملكية أحد من الأفراد، على عكس ما هو جارٍ في فرنسا مثلًا من تملك الأفراد للترع التي لا تصلح للملاحة.

فالحكومة هي المسيطر الأعلى على المياه، وهي التي تتولى تصريفها واستعمالها، تُحرِّم أحيانًا زرع أصناف معينة، أو تحظر الري في مواقيت معينة تبعًا لنظام يعرف بنظام المناوبات تضعه وزارة الأشغال العمومية في كل سنة.

وعلى هذا، فالإدارة قابضة بيدها القوية على أعظم مرافق الفلاحين، فتستطيع باستبدادها — إن هي تحيزت في توزيع المياه — أن تجحف بفريق من الأهلين لمصلحة الفريق الآخر؛ لذلك قال نابليون الأول: «لا يوجد بلد في العالم للإدارة فيه ما لها في مصر من السلطان على الثروة العامة، فإذا كانت الإدارة حسنة، والترع وافية بالحاجة، مطهرة مصونة كما يجب، وقوانين الري نافذة بعدل؛ شمل الري كل المناطق. أما إذا كانت الإدارة سيئة أو فاسدة أو ضعيفة، أصبحت الترع مسدودة بالطمي، والجسور غير معتنًى بها، وقوانين الري غير نافذة، ونظم المناوبات مختلة بسبب الفوضى، أو بسبب معارضة المصالح الفردية شخصية كانت أم محلية.»

ومن جهة أخرى، فإن أهمية الزراعة في حياة مصر الاقتصادية تبدي لنا بحكم الضرورة أهمية الفلاح الذي يقوم على الأرض ويستغلها؛ فهو الذي يعطي تلك الحياة الاقتصادية كل نشاطها حتى ليُعَدُّ هو والنيل كلاهما الدعامتين اللتين ترتكز عليهما الثروة العامة.

قال مسيو ألفريد ميرَرْج في كتابه «والي مصر والفلاح» — طبعة باريس سنة ١٨٦٩: «لولا الفلاح لماتت مصر حتمًا؛ إذ النيل والفلاح عاملان يكمل أحدهما الآخر، وبهما معًا قامت الثروة المصرية إلى هذا اليوم.» ويجدر بنا أن نضيف إلى ما تقدم لتبيين كل الأهمية التي للفلاح باعتباره منتجًا: إنه لا يوجد زارع آخر يحل محله ويحمل عبئه. «وهذا الفلاح على اختلاف منشئه هو الوحيد الذي يستطيع زرع الأرض بمصر، وهو الذي يقف عاريًا تحت الشمس المحرقة بجانب شادوفه يرفع به الماء كما كان يفعل أجداده معاصرو سيدنا إبراهيم.» «كتاب ميررج».

•••

رأينا من المفيد أن ندرس الحالة الاقتصادية والاجتماعية لهذا الذي ينتج الخيرات بلا كلال مع بقائه فقيرًا معدمًا. ومن أجل استكمال هذا البحث، يتعين أن نلقي على الشأن الذي كان له منذ أخريات أيام المماليك إلى هذا الوقت نظرًا إجماليًّا يجمع إلى ما له من الفائدة بذاته فائدة أخرى، هي أن تبين كيف ترتب على تمادي الظلم سنين طوالًا أن تعود الفلاح معاناة عيشة البؤس، وكيف هونت عليه تلك الحالة تعاسته الحاضرة التي لا تقاس إليها تعاسة أي زارع في أوروبا، فاستعذب عذاب اليوم إزاء ما كان آباؤه يعانون من الشقاء قبلًا.

وقد شرح أتيين دي لا بويسي بكتابه «خطاب في العبودية الخيارية» كيف يتأتى أن أمة تتحمل الذلة والمسكنة دهرًا مديدًا؛ لأن الأجيال العتيدة لم تألف إلا حالة آبائها على علاتها، فتنتهي بها العادة إلى اعتبارها حالة طبيعية.

ولقد قرر هذا المؤلف الفيلسوف أن الاستبداد يلين صلابة النفوس، وينتزع منها العزيمة التي تثيرها عليه، وهذا هو سر استكانة الفلاح وصبره على كل المكاره والمظالم الماضية، وذلك أيضًا هو سر التواكل والمكر وعدم التبصر، مما ظنه بعض المؤلفين غريزيًّا فيه، مع أنه ليس في الواقع ونفس الأمر إلا نتيجة ذلك الاستبداد الذي عاناه آمادًا.

قال مسيو ميررج في كتابه السالف الذكر: «إنه ليس فيمن تظل سماء مصر مخلوق أجدر بالعطف وأخلق بالرفق من الفلاح؛ فإنه طيب السريرة، وديع، وذكي، كما أنه منتج لا يألو عن الجهد في الإنتاج مع أنه ينوء بجمهور من المرتزقة الطفيليين الذين يعيشون من كدحه، ولم يدر في خلده إلى الآن أن يلقي هذا العبء الثقيل عن كتفه.

الفلاح هو الزارع في أجمع معاني الكلمة، وهو الإنسان الفطري كل الفطري، يجمع إلى الصفات الحسنة التي غرستها فيه الطبيعة عيوبًا ونقائص تولدت من الحِطَّة التي عاش فيها زمنًا طويلًا. إنه مضغوط عليه، مُستغَلٌّ، مُفتَرَس؛ فهو يدفع عن نفسه بما في وسعه لاجئًا إلى ضروب المكر والخداع.»

فمدار بحثنا في الجزء الأول من هذا الكتاب سيتناول حالة مصر والفلاح في أواخر حكم المماليك، وسنرى فيه ما فعلته الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها بسبب الاستبداد وإهمال المرافق الجُلَّى التي هي حياة الشعوب ومصدر سعادتها؛ لأن تلك الفوضى طوحت بالبلاد في وهدة البوار والشقاء.

بعد أن أباد محمد علي دولة المماليك وأخذ بيده أزمَّة الحكم أفرغ ما لديه من جهد، وسخر كل ما عنده من عبقرية لبعث مصر إلى الحياة الاقتصادية. فمن مطالب هذا الكتاب أن نبين كيف أنه مع تولي هذا المجدد العظيم، وما حدث من الأعمال العمومية الجليلة، وما تم من التحسين في أساليب الزراعة قد تيسر للفلاح أن يواجه مستقبله بعين التفاؤل، وأن يجتلي فجر نهضته ورفاهته، فلم يبق على الذين خلفوا محمدًا عليًّا إلا أن يقتفوا آثاره بعد أن مهد لهم السبل وذلل الصعوبات؛ ليوطدوا دعائم النجاح في البلاد على أسس ثابتة، غير أن أحد أولئك الأمراء تنكب الطريق، وهو عباس الأول، ثم خلفه سعيد باشا، فسار على الدرب بعزيمة ماضية، وصرف حياته مشتغلًا لسعادة شعبه. أما عهد إسماعيل باشا، الذي كان بدؤه جميلًا مبشرًا بالخير، فما لبث أن نكب بالعوامل التي أفضت إلى تدخل السلطة الأجنبية، وكان الفلاح أشقى من تحمل نتائج ارتباك المالية وسَرَف الحكومة.

فلما خلف توفيق باشا أباه، وكان عاقلًا رزينًا، أخذت الديار تتنسم السلام والراحة، غير أن الحركة العرابية جاءت على الأثر فجلبت الاحتلال العسكري البريطاني.

وهنا ينتهي الجزء الأول من كتابنا؛ إذ إن هذا الوقت هو الوقت الذي بدأ فيه دخول الفلاح في العهد الجديد من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذا العهد سيدور بحثنا في الجزء الثاني، وفيه سنقف على شئون الفلاح في معيشته الخصوصية، ونرى ما إذا كان حائزًا للصفات الأسرية والاجتماعية التي هي الشرط الأساسي لرقي الأمم؛ فقد أشكل الأمر على أناس وغرتهم الظواهر فظنوا أن نفس الفلاح عارية من تلك الصفات، فحكموا عليه بالانحطاط الخالد. وهذا — على ما سنبينه — خطأ كبير يوجب الأسف؛ فإن الفلاح صالح بالفطرة للرقي، ولكن يجب أن يعان على الخروج من تلك الحالة الاستعبادية التي عاش فيها أدهارًا.

على أنه مع ما قطعته مصر من مراحل التقدم في الأزمنة الأخيرة لم تزل حالة الفلاح تعسة، وسنتكلم على هذا التناقض الجارح الأليم.

ومما سينساق إليه بحثنا النظر إلى الفلاح ذي الملك الصغير؛ نشهد استغلال المرابين إياه، ونوضح أيضًا ما بذلته الحكومة من الجهد لإنقاذه، ونفصل ما نرتئيه من وجوه الإصلاح العاجل لشئونه.

بعد ذلك ننتقل إلى الفلاح عاملًا زراعيًّا، ونطالع ما يقع بينه وبين أصحاب الأرض من المعاقدات التي لا يكون له منها بلا استثناء إلا قسمة ضيزى لا تتناسب مع حاجاته، ولا سيما في مقابلة العمل الذي يُطلب منه.

وسنبين أيضًا أمر الفلاح من جهة اشتغاله بأعمال المنافع العامة؛ فهنا نلتفت ابتداءً إلى ما كان من تسخيره في القرون الأولى حتى اليوم، ذلك التسخير الذي حلت محله طريقة المقاولات، بحيث إن الفلاح أصبح يؤجر على عمله، ولكن الأجر الذي يصيبه في هذا النوع من العمل كالذي يصيبه من الزراعة غير متكافئ مع الجهد الذي يبذله.

وختامًا سننظر إلى الفلاح تجاه القضاء، ونرى مغتبطين أن الشارع والقاضي في كثير من الأمر قد اتفقا على حماية هذا المخلوق الضعيف الجاهل المستباح على الدوام.

مثل هذا الموضوع المتشعب الأطراف يتطلب علمًا واسعًا لا ندعيه، فعسى القارئ أن يسبل ذيل العفو على ما يقع من تقصيرنا في عمل ابتدائي هو باكورة الشباب، نستشفع له لدى أهل الذكر وأولي الألباب بحسن النية ونبل الأمنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤