الفصل الرابع

الفلاح عاملًا زراعيًّا

إذا قابلنا الأرقام الواردة في الإحصاءات الرسمية التي عملت في سنتي ١٨٨٢ و١٨٩٧ تحت إدارة مسيو بوانيه بك، وجدنا أن عدد الزراع في سنة ١٨٨٢ كان ٤١٩٩٦٧١ مليون نفس، ووجدنا أيضًا سواد الزراع في إحصاء سنة ١٨٩٧ : ٦٢٠٨٠٧٣؛ أي بنسبة ٦٣٫٨٪ من مجموع السكان الذي بلغ في السنة المذكورة ٩٧٣٤٤٠٥ أنفس.

فعدد المشتغلين بالفلاحة قد ازداد في خمس عشرة سنة زيادة مرموقة، وكذلك ازدادت نسبتهم أيضًا بالمقابلة مع عدد السكان في المدن.

هذه الدلالة الناتجة من الإحصاء ذات شأن كبير من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية؛ لأنها تُظهر أن مصر لم تصب بذلك التغيير الخطير الذي طرأ على التكوين الداخلي في الشعوب الأوروبية بارتحال أهالي القرى إلى المدن وهجرهم الحقول.

وهذا الارتحال المستمر بما يحدثه من التأثير في الرفاهة العامة، وبما يفضي إليه من اختلال التوازن القومي يعد من أهم الحوادث الأليمة التي يختتم بها هذا القرن الذي كثرت علينا مفاجآته وغرائبه، كما قال بحق مسيو لويس فوارين في كتابه: أزمة القرى والمدن (راجع مجلة العالمين، عدد ١٥ يونيو، سنة ١٩٠٠).

ولإظهار مميزات هذا التطور بجلاء نقارن بين الأرقام التي جاءت بها الإحصاءات المصرية وبعض الأرقام التي نقتبسها من مقال مسيو لويس فوارين المذكور: ففي إنجلترا سنة ١٨٩١ كانت نسبة سكان القرى ٤٩٪، فنزلت في سنة ١٨٨٨ إلى ٤٠٪ فقط.

وفي ألمانيا، كانت تلك النسبة ٦٣٫٩٪ سنة ١٨٧٢، فأصبحت ٥٦٫٣٪ سنة ١٨٨٥، و٥٢٫٩٦٪ سنة ١٨٩٠، وقد هبطت هذه النسبة الآن في ألمانيا إلى ٥٠٪.

وفي فرنسا، كان عدد الزراع سكان القرى سنة ١٨٨٦ : ١٧٧٠٠٠٠٠، فهبط في سنة ١٨٩١ إلى ١٧٤٠٠٠٠٠، يقابلها ٢٠٩٠٠٠٠٠ للمهن الأخرى.

فعلام بهرجة المدن التي تجلب القرويين إليها بقوة لا تقاوم لم تُغرِ فلاحنا المصري؟

لذلك عدة أسباب؛ أولها: حب الوطن؛ وهو ذلك الحب الشديد الذي يقيد الفلاح بأرضه وأسلوب عيشته مضاعفًا بتعففه الفطري الذي يدفعه إلى ازدراء زينة المدن وصخبها، وثانيها — وهو الأهم والأولى بالتقديم: أن الزراعة هي المورد الأصلي للعمل في بلاد خلو من الصناعات الكبرى التي تجتذب القرويين بما تهيئ لهم من الأعمال السهلة المستديمة الوفيرة الكسب.

وإلى هذين السببين تنضم أسباب ثوانٍ ستؤخر هجرة سكان الريف إلى الحواضر.

إن التعليم الذي انتشر في جميع طبقات الأمم الأوروبية خصوصًا، حيث جعل التعليم إجباريًّا، وفتح تجاه الفلاحين أبوابًا رحيبة للآمال والمطامع، قد أغراه بإلقاء الفأس والتوجه إلى المدن، حيث ينفسح أحيانًا مجال الفوز للطامعين.

وفوق ذلك أن الأنظمة الديمقراطية والانتخابات العامة جعلت كل فرد مرشحًا لأعلى المناصب وإدارة شئون الدولة. وهذا السراب البراق قد أخذ مأخذه من النفوس، وأثار فيها الشهوات.

أما فلاحنا فلا يزال أميًّا قنوعًا بعيدًا عن المآرب السياسية، لا مطمع له في تولي الشئون العامة، بل كل ما يطمح إليه هو أن الذين يتولون تلك الشئون يدعونه يعيش عيشته في رضاء وسلام.

كل هذه العوامل تبين السر في وفرة سكان قرانا، وفيها أيضًا ضمان للمستقبل من حيث دلالتها على أن الزراعة المصرية إلى زمن بعيد قد لا تتأذى من قلة الأيدي العاملة، تلك القلة التي تشغل جدًّا أذهان الحكومات والاقتصاديين في أوروبا.

إن سكان القرى عندنا فريقان: ملاك يعيشون من ريع أطيانهم، ومستأجرون، وعمال، والسواد الأعظم إنما هو من العمال، وهم قسمان أصليان مقيمون على الدوام في أبعاديات الملاك يزرعونها «بالمناب» أو باليومية، ومنقطعون يكرون كدهم اليومي بأجور تختلف باختلاف الجهات، وضرورة العمال، وكثرة عددهم أو قلته.

وعلى كل حال قلما تزيد أجرة الواحد منهم في اليوم على ثلاثة قروش.

وفي القسمين التاليين سنرى ما حال هذين الفريقين من العمال الزراعيين.

العمال المرتبطون بأبعاديات الملاك

إن الملاك الذين يستغلون أطيانهم بأنفسهم، والأشخاص الذين يستأجرون تلك الأطيان منهم يستخدمون أحيانًا للأعمال الزراعية عمالًا يقيمون في المساكن المبنية عليها مع نسائهم وأولادهم، وهي مساكن ضيقة حقيرة أتينا على وصفها في الفصل الذي تكلمنا فيه على الفلاح في عيشته البيتية.

وأما العقد الذي يجري على موجبه العمل فهو شفوي دوامًا، وله أشكال تتعدد، ولكنها ترجع كلها من حيث مبادئها الأساسية إلى نموذجين:
  • (١)

    العمل بالحصة «المناب».

  • (٢)

    العمل باليومية.

  • العمال بالحصة: يجعل للعمال الذين يشتغلون بالحصة الربع أو الخمس أو السدس من جميع حاصلات الأرض، أو أقل من ذلك أحيانًا، تبعًا لخصب الأطيان التي يزرعونها، ولكن متوسط هذه الحصة يرجع إلى نحو ثمانية جنيهات، فيما عدا القطن فإنهم يتسلمون حصتهم عينًا وقت تخزين الغلال من قمح وشعير وفول إلخ.

    أما القطن وهو الجزء الأكبر في إيرادهم، فإن صاحب الأرض يستولي عليه ويبيعه بالأثمان التي يستصوبها، ويحاسب عماله على نصيبهم في الثمن، على أنهم لا يقبضون من هذا الثمن شيئًا؛ وذلك لأن العامل يتسلف «يستجر» من صاحب الأرض كل ما يحتاج إليه في السنة من ثمن كسوة وغذاء وحاجيات أخر. وهذا التسلف يرصد في دفاتر الزراعة ليخصم في نهاية السنة من ريع القطن، وإن ما يأخذه العامل من أصناف عينية كحبوب وغيرها يقدر صاحب الأرض ثمنه كما يشاء بدون مراجعة ولا معارضة من العامل، ويعلى على حسابه أيضًا ما ينفق للأجراء الذين يستخدمون لمساعدته في أعمال الغيط، خصوصًا عند جني القطن الذي يتطلب عددًا كبيرًا من الأولاد يؤتى بهم من الجهات المجاورة، وهذه الكلفة كبيرة قد تستغرق خمس حصة الزارع في القطن.

    فبعد خصم كل هذه المبالغ يندر جدًّا أن يبقى شيء للمزارع، لا سيما إذا كان صاحب الأرض ممن لا تراجعهم ضمائرهم، والغالب أن يرصد الحساب بدين يتخلف على الزارع يرحل إلى العام التالي. وكثير من الفلاحين اشتغلوا بالحصة أربع سنوات أو خمسًا وعادوا مدينين بمبلغ طائل.

    هذا يفسر لنا كيف أن العمل بهذه الطريقة لا يكون ذا ثمرة جيدة؛ فإنه وهو شبيه بعمل الأرقاء يتطلب ملاحظة دقيقة متصلة حتى تقبل الزارعة، ولا غرابة فالرجل الذي يعمل لتفادي الموت جوعًا لا لأمر آخر أميل بطبعه إلى الإهمال والكسل، ولو كان غير ذلك لكان موضع العجب؛ لأن الإخلاص في هذه الدرجة فوق فطرة الناس.

    وفي مقابل ذلك الجعل الزري ينصرف الفلاح بكليته لخدمة سيده، وحاله تكون أشبه بحال «أحلاس الأرض» في القرون الوسطى، وقد مر بك في الجزء الأول من هذا الكتاب وصف مصر في عهد المماليك، ورأيت أنها تماثل من وجوه «النظام الإقطاعي» الذي كان ساريًا في أوروبا.

    وهذا النظام قد زال الآن، غير أنه قد ترك آثارًا باقية نستشعرها في صلات صاحب الأرض بعماله الذين يؤدون له جميع الخدم والسخر، ولا يملكون لأنفسهم دونه شيئًا، ويستمدون منه كل ما يفتقرون إليه.

    وللمالك في أرضه حق المقاضاة ينتحله فاصلًا في المنازعات، متدخلًا حتى في أخص الشئون البيتية، وبالجملة فإن له جميع الحقوق والامتيازات التي كانت للسيد في العهد الإقطاعي، وإن سلطانه المطلق لا يقتصر على العامل، بل يمتد إلى زوج العامل وأولاده، يستخدمهم في الأرض أو في شئونه الخاصة كما يشاء.

    على أن القانون لا يعترف له بشيء من هذه الامتيازات التي يدعيها، وإنما هي بقايا من تلك الأساليب القديمة التي لم تقو عليها الإصلاحات الحديثة؛ لما في العادات من قوة الاستمرار؛ فإن ناموس «التطور المتعاقب» قد قرره المتأخرون من علماء الاجتماع كمبدأ قطعي. وقد وصل علم الاجتماع هذا بالتحريات المتعددة والاستقصاء الطويل إلى تقرير أن الأنظمة لا يخلف بعضها بعضًا طفرة وبلا تخلص، وأن الأساليب المتخذة اليوم فيها آثار أساليب الأمس، كما فيها أيضًا جراثيم الأساليب التي ستتخذ غدًا.

    فإذا جاء إصلاح للحلول محل نظام عتيد تقلص هذا النظام ابتداءً من الحواضر التي يقاتله الناس فيها قتالًا شديدًا، فينزح إلى القرى ويعيش فيها آمنًا أعوامًا طوالًا، ومن ثم نجم أن الامتيازات الاستبدادية في النظام القديم لما حوربت في المصالح الحكومية، وفي المدن الكبرى، لجأت إلى القرى، ووجدت فيها جوًّا صالحًا لمقامها؛ لأن فاقة الفلاحين حملتهم على قبول تلك العبودية باعتبار أنها تضمن لهم على الأقل الكفاف من القوت، وتضمن لهم أيضًا حماية صاحب الأرض من استباحات لا تحصى كانت تقع عليهم من قبل.

    فالرجاء والخوف اللذان يعلقان بأذهانهم من اسم صاحب الأرض هما مما يقضى له عجبًا؛ إذ لا تجد فيهم من يفكر في الشكوى من هذا السيد، أو في الثورة عليه إذا أوقع بهم، وقديمًا كان مثل هذا العاتي يضرب الرجال إلى نزف الدم، ويعذبهم لأوهي الأسباب تعذيبًا قد يفضي إلى الموت، ولا يبدو عليه من ذلك تأثر.

    أما اليوم فلا يمضي المالك في غلوائه إلى هذا المدى، لكنه لا يخشى رفع السوط لتأديب عامله، وله حين يشاء أن يطرده مجردًا من كل ماله، وآخر مجهود العامل الذي أرهقه الاستبداد وراء حدود صبره الجميل أن يفرَّ ليلًا مغافلًا الحراس، حاملًا ما له من المتاع، غير أنهُ إذا استطاع الهرب من مالك وقع أحيانًا في أيدي مالك أشكس منه، فيكون قد استجار من الرمضاء بالنار.

    هذه الحالة التي لا يحسد عليها العامل بالحصة قد تكون أقل مساءة من سواها؛ لأنه مضمون له فيها قوته الضروري، والمالك مجبر على تغذيته مهما ثقلت ديونه مخافة نقصان اليد العاملة وبوار الحقل، على أن الفرار لم يكن ميسورًا للفلاح من قبل؛ إذ كان سيده لا يعدم وسيلة عند حاكم له زلفى إليه فيأمر الشرطة بالبحث عن الهارب وإعادته إلى مكانه بعد أن يقتصوا منه مفظِّعين.

    أما الآن فالفلاح وإن كان رهين الأرض وصاحبها، يقدر على الابتعاد للتخلص من هذا القيد المزدوج، وليس للشرطة دخول في الأمر. للمالك أن يقاضيه مدنيًّا في استنجاز ما له عليه، ولكنه معدم لا يعبأ بالمقاضاة، والحكم الذي يصدر عليه بالدفع يذهب هباء منثورًا.

  • العمال باليومية المقيمون في الأطيان: غير قليل في التفاتيش الواسعة ما يستغل، وعامله باليومية لا بالحصة، وحالة هذا العامل تختلف عن حالة العامل باليومية الذي سيأتي الكلام عليه في القسم الثاني من هذا الفصل بأنه مقيم في الأطيان هو وعيلته.

    فالاتفاق الذي يجري عليه الاستغلال بهذه الطريقة في العادة هو أن تستأجر كل عيلة من عيلات العمال عددًا من الأفدنة بنسبة عدد أفرادها، وعليها في مقابل ذلك أن تضع تحت تصرف صاحب الأرض عددًا معينًا من العمال يستخدمه في غيطه متى شاء، ولهم أجر يومي متفق عليه لا يتغير في مدى السنة بالتبعية لوفرة الأيدي العاملة أو قلتها.

    وهذا الأجر يتراوح عادةً بين قرشين وثلاثة قروش، تخصم من الإيجار المطلوب للمالك، ومن الديون الأخر التي تكون له على العيلة، مع أن ربح العامل باليومية أقل في الغالب من ربح العامل بالحصة، وأنه خاضع لنظام صارم، وأدنى إهمال يقع منه يكون جزاؤه خصم بضعة أيام من أجرته.

    ومن البديهي أن هذا العامل الذي لا يشارك صاحب الأرض في الغلة لا يهمه من أمرها شيء، فهو لا يعمل بنشاط، بل يفرط في واجباته كلما آنس تراخيًا في ملاحظته؛ لذلك تجد في التفاتيش التي تستغل على هذه الطريقة عديدًا من المستخدمين لا عمل لهم سوى مراقبة عمال الغيط مراقبة دقيقة متناهية في الشدة. وقد تغري هذه الطريقة هؤلاء المستخدمين بسرقة المالك، وذلك بمحاسبته على عدد أزيد من عدد العمال الذين يشتغلون حقيقة في الغيط.

    على أن مجال السرقة من هذا الباب ضيق؛ لأن العرف الزراعي قد قدر لكل عمل من الأعمال الزراعية عددًا محدودًا من العمال، فإذا تجاوزه المراقبون ألزموا بالفرق.

    وبالجملة فإن طريقة استغلال الأرض بعمال اليومية تقتضي ملاحظة أدق، وعددًا أكبر من المستخدمين، ولكنها مفضلة على سواها في التفاتيش الواسعة؛ لأن أجرة العمال ومرتبات المستخدمين مهما بلغت لا تكلف المالك ما يخرجه للعمال بالحصة من حاصلات أرضه.

    وأما حالة أولئك العمال الذين يشتغلون باليومية فهي أحسن من حالة العمال الذين لا يقيمون في التفاتيش؛ لأنهم يجدون أمامهم عملًا يشغلهم طول السنة، وإذا كان أجرهم قليلًا فلهم عوض من هذه القلة في انخفاض أجرة الأرض التي يعطيها المالك لعيلاتهم؛ فإنه يتجاوز لها عن ثلث إيجار المثل، بل عن نصفه أحيانًا. وفي هذا التجاوز مصلحة له؛ لأنه يقيد به عامله، فلا يجنح إلى الهرب وترك أرض يزرعها بإيجار رخيص مهما وقع عليه من ضروب العسف وسوء المعاملة. هذا ولأن النزول عن شيء من أجر المثل يقابله رخص الأجر اليومي للعامل لا يلحق بالمالك أي غبن أو ضرر.

    لقد حاولنا في هذا القسم أن نصور حالة العمال الزراعيين المأجورين باليومية، المقيمين في التفاتيش إقامة ثابتة، وبينا شروط العقد الشفوي المعقود بينهم وبين الملاك، تلك الشروط التي تتنوع كل التنوع، والتي لا يجني من ورائها الفلاح سواء اشتغل بالحصة أم باليومية، أم بالمقاولة كما يحدث أحيانًا، سوى الجزء الزهيد الذي يفي أدنى وفاء بقوته الشظف، وبسد حاجاته القليلة جدًّا، وفي مقابلة ذلك يُسام هذا المسكين الطاعة العمياء للمالك، ويتحمل أوامره ونواهيه بلا تظلم، واقفًا نفسه على خدمته، مرصدًا لها قوى عياله.

عمال اليومية غير المقيمين في الضياع١

إلى جانب العمال الذين يستخدمهم أصحاب المزارع بالحصة أو باليومية، يُرَى جمهور من أبناء الريف لم يوفقوا إلى عمل مطرد في مكان ثابت، فهم لا ينفكون عن البحث عن عمل، وهؤلاء هم الذين يصح أن نسميهم بالمياومين الرحَّل.

هذه الفئة هي بلا ريب أتعس الفئات، ولولا القناعة المضروب بها الأمثال فيهم، ولولا الاعتدال العظيم الذي يمتاز به جو مصر لكان السواد الأعظم من هذه الفئة في جيش الغضاب الجياع، ولكن يدرأ هذا الخطب السببان الآنفان مع سبب آخر هو التضامن الذي أشرنا إلى مزاياه سابقًا، والذي يقي الجهال من العمال عذاب الموت سغبًا؛ إذ لا يعدم منهم قريبًا أو جارًا في ميسرة يبذل له عن سماح كسرة الخبز التي تحفظ رمقه. ذلك التضامن هو الذي يحل بعض الشيء محل نقابات العمال، وشركات التبصر والتعاون الموجودة في البلدان المتمدينة، والتي لا تزال غير معروفة في مصر.

يكثر هذا النوع من العمال في الوجه القبلي حيث الأرض المزروعة ضائقة بالرجال العائشين عليها، وحيث لا تستغل التربة إلا بما يسهل استنباته؛ ولهذا يقل القطن فيها، وهو من أشق الزراعات وأدعاها إلى العنايات المتصلة، ومن ثم يكون زمن العطلة في الوجه القبلي أطول أمدًا منه في الوجه البحري، ولا مصلحة للملاك في الاحتفاظ بعدد كبير من العمال الثابتين؛ إذ إنهم حين يجيء وقت الحصاد، أو تجد أشغال معجلة، يطلبون فعلة مساعدين فيستخدمونهم إلى انقضاء تلك الأشغال.

فحالة العمال الرُّحَّل هي إذن من أسوأ الحالات؛ إذ هم يتألمون في مدة العطلة الطويلة من القعود، أو من اضطرارهم إلى جوب القرى واحدة بعد واحدة في التماس شغل قد يتعذر عليهم وجوده، وهذا الانقطاع عن الشغل كثيرًا ما يجلب عليهم المضار.

ومنها تخفيض أجورهم إلى الثمالة متى صادفوا مرتزقًا، وهذه نتيجة لا مندوحة منها ينتجها ناموس العرض والطلب، ويوقعهم فيها افتقارهم وهم أشتات بائسون إلى الإذعان لما يحتمه عليهم المالك القدير.

ومن هنا قد ترتب بقاء الأجور في مصر مع غلاء العيش على انحطاطها الزري، لا يربو أجر العامل فيها على ٧٥ سنتيمًا في اليوم، ويومه اثنتا عشرة ساعة أو تزيد أحيانًا.

ذلك الأجر المنحط يناقض مناقضة ظاهرة الارتفاع المطرد في أجر اليد الزراعية التي أصبحت في أوروبا شديدة الغلاء شدة مرهقة، وبالرغم من كون فئات الأجور تختلف اختلافًا كبيرًا بالتبعية للأحوال المعاشية بلغ المتوسط العام لازدياد الأجور منذ أربعين سنة ٦٦٪، ولم يتقاعس الأجر الزراعي عن السير في هذا المعراج، اللهم إلا في جهات من ألمانيا وإيطاليا بقي فيها العامل الزراعي يتقاضى أجرًا منخفضًا جدًّا. ومن أين تأتى هذا التناقض؟

أولًا: بمقتضى المبدأ الاقتصادي القائل: «إن جميع الأمور الاقتصادية تتماسك بحيث إن زيادة الأجور في أحد الفروع تجر حتمًا زيادتها في الفروع الأخر.» وذلك عملًا بناموس العرض والطلب الذي يسيطر على جميع العوامل الاقتصادية، هذا الناموس يفعل في توازن الأجور فعل الصلة التي تصل إناءين مختلفي الامتلاء في مساواة امتلائهما.

ومما يساعد على ذلك التوازن أن تقدم وسائل الإذاعة ووسائط النقل المتقنة التي عمت بلاد أوروبا تمكن طوائف العمال من معرفة الجهات التي تكون الأجور فيها مرتفعة، ومن الانتقال إليها بسرعة، فينجم عن ذلك انخفاض يسير في الأجور حيث يتوافر العمال، وارتفاع في الأجور في الجهات التي نزحوا عنها فقلت فيها اليد العاملة. أما في مصر فجميع الأجور سواء في المدن أم في القرى منخفضة جدًّا. وهذه هي علة عدم متابعة الأجر الذي يصيبه الفلاح بالازدياد للأجر الذي يصيبه أمثاله في أوروبا.

إلى السبب العام الآنف بيانه تنضم أسباب أُخر أفضت إلى ارتفاع الأجور الزراعية في أوروبا، فمن جهة النقابات الزراعية بما بذلته من المجهودات المستمرة قد ساعدت مساعدة كبيرة على تقرير أجور أوفى بالمطالب.

ومن جهة أخرى، أعمال الحقل في أوروبا تعطل مدة طويلة من السنة بحيث إن الزراعة لا تستطيع أن توجد عملًا مستمرًّا لعمالها، فمن المعقول أن الأجر الذي يعطاه أولئك في بضعة أشهر يكون كافيًا لسد جميع حاجاته طول السنة. ومن أجل ذلك وجب أن يكون مرتفعًا، على أن مدة العطل في مصر قصيرة جدًّا، وإن كانت في الوجه القبلي أطول منها في الوجه البحري، بيد أن وفرة اليد العاملة في الصعيد على ما سبقت إليه الإشارة تعاكس اعتبار طول العطلة، ولا تسمح بارتفاع الأجور.

هذه الملاحظات ليس لها شأن علمي فحسب، بل هي توصلنا أيضًا إلى استنتاج عملي هو: أن الأجور الزراعية ستبقى عندنا زمنًا طويلًا في مستواها الحالي دون أن تقوم عليها احتجاجات قوية من جانب العمال؛ لأن عزلتهم مضعفة لهم، ومثبطة لكل نشاط وعزيمة فيهم.

فإذا كان هذا الاستنتاج مطمئنًا للذين يستغلون الأرض، وإذا كان فيه ضمان للسلم الاجتماعي، إلا أنه موجب للأسف من وجهين؛ أولهما: أن الطبقات العاملة تحتفر بينها وبين المالك هوة واسعة، وفي بلاد كهذه نظامها مرتكز قانونًا على المساواة بين جميع أعضاء مجتمعها، ولا يقبل تفاوتًا في المحتد أو الجاه تخلق أرستقراطية المال، وهي أشد صلفًا وإيذاء للنفوس من تلك.

إن ضمير الإنسان ليغضب إذ يرى بجانب ذوي الثراء جماعات وفيرة لا يعادل جهلها إلا فقرها، وليس لها أمل في تحسن حالها قريبًا، مقضيًّا عليها بشظف العيش وشقائه، وهذا الشقاء لا يستفز العواطف البشرية بانفرادها، ولا يجرح مبدأ المساواة الذي هو تاج المدنية فحسب، بل يجب أن ينظر إليه بتهيب شديد من حيث عوقه تقدم البلاد في السبيلين: الاقتصادي والاجتماعي.

وما دامت طبقة العاملين الكادحين لا تؤجر أجرًا وافيًا فهي تصرف عن الترقي العام، ولا ينتظر من ثم أن تنمو مواهب القطر الاقتصادية ومصادر الثروة فيها نموًّا معتدلًا.

على أننا وإن كنا لا نطلب لهذه الطبقة أجرًا فادحًا يثني ذوي الأموال عن استثمارها في الأراضي الزراعية التي ترزح تحت أعباء الضرائب الثقيلة، لنا أن نطلب بحقٍّ أجرًا أكثر تناسبًا مع الخدمة التي تؤديها، ومع المعيشة التي يتعين أن يعيشها كل مخلوق عاقل في هذا القرن؛ قرن الحضارة والنور.

١  الضيعة: هي المسماة عرفًا بالعزبة أو بالأبعادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤