دميانة

خرجتْ دميانة من منزل أبيها بقرية «طاء النمل» بمديرية الدقهلية — في أصيل يومٍ من أيام سنة ٢٦٤ للهجرة، ومشتْ تسترقُ الخُطى في البساتين، تلتمس كنيسةً هناك بُنيت لصلاة أهل تلك الناحية والقُرى المجاورة. وكانت دميانة تذهب للصلاة فيها كل صباح — وخاصة أيام الآحاد والأعياد — لكنها أرادت الذهاب في ذلك الأصيل لتخلو بقسيسها وتسر إليه أمرًا خالج ضميرها وأقلق راحتها، وهي ترى في الاعتراف راحةً أو مشورة أو مؤاساة، ولو كانت أمها على قيد الحياة لاستغنت بالشكوى إليها عن مُكاشفة القسيس. وأما أبوها مرقس فلم تكن ترتاح لمصارحته بما يَجُول في خاطرها؛ لاختلاف ما بين ميولهما وطباعهما؛ إذ كانت هي تقيةً ورعة تصلي كل صباح وكان لا يعبأُ بالصلاة ولا يدخل الكنيسة إلا نادرًا وكانت تكره الخمر في حين يتعاطاها هو مسرفًا في المجون لا يهمه إلا متاع دُنياه والتأنق في الطعام والشراب.

وكانت دميانة طفلةً حين تُوفيت أُمها. فلم يتزوج أبوها بعدها لا احتفاظًا بعهد الزوجة الوفية ولا مراعاة لوحيدته؛ ولكنه رأى الزواج قيدًا شاغلًا فعمد إلى التسري واقتناء الجواري اقتداءً بسراة المسلمين في ذلك العهد — عهد البذخ والترف والقصف شأن بعض الأقباط من أهل الثروة في ذلك الحين.

كان مرقس من مُلَّاك الضياع وأهل الثروة، لا يشغله طلب الرزق عن شيء من ملاذ الحياة. فيقضى نهارَه في الأكل والشرب بين الأصدقاء والخلان الذين هم على شاكلته، وكان العقلاءُ ينتقدونه ويقبحون عمله، ولا سيما الذين عاشروه منذ الصبا وعرفوا حداثة عهده بالثروة؛ لأنه نشأ متوسط الحال لا يزيد دخلُهُ على الكفاف، ثم جاءته الثروةُ فجأة فصادفتْ قلبًا شرهًا ونفسًا ضعيفة فاتجه وجهة المتاع الجسدي.

أما دميانة فربيت في حجر أُمها حتى الثامنة من عمرها وأخذت عنها كثيرًا من الفضائل؛ كالتقوى والصراحة في القول وصدق اللهجة والاتكال على الله والمحافظة على الصلاة اليومية، وماتت أمها فجأة وهي غائبةٌ ولو شهدت نزعها لسمعت منها حديثًا يهمها ذا شأن في مستقبل حياتها، فأصبحت وحيدة لا أنيس لها في تلك القرية؛ لأن أكثر سكانها من الفلاحين العاملين في أرض أبيها وهم تابعون للأرض ينتقلون معها من مالك إلى مالك، أو من متقبل إلى متقبل؛ على نحو ما كانت عليه الحالُ يومئذ في أكثر البلاد. ففي المملكة الرومانية بأُوروبا كانت الأرض تنتقل من بارونٍ إلى بارون وينتقل فلاحوها معها، ويسمونهم سيرف.

وهو ما يعبر عنه بالعربية بالقن؛ أي العبد المملوكُ بالوراثة، وجَمْعُهُ أقنان.

فلم تكن ترتاح إلى معاشرة بنات الفلاحين، ولم تخرج في علاقتها بهن إلى أكثر من الإحسان والبشاشة، وكُنَّ يتقربن إليها بالهدايا والخدمة، غير أن ذلك لم يكن ليشبع ما في نفسها من الميل الغريزي إلى المصادفة والمكاشفة على عادة بنات المدن مع الصواحب أو الجارات أو ذوات القُربى فكانت إذا طرأ عليها أمرٌ يقتضي الترويح عن النفس انصرفت إلى الصلاة فتتعزى إلى حين.

أما في ذلك اليوم فشعرت بانقباض. وضاقت ذرعًا بكتمان ما في نفسها وهي تحسبه مخالفًا لشروط التقوى والتدين فقضت معظم النهار في التفكير منفردة في غرفتها، حتى إذا مالت الشمس إلى الأَصيل لاح لها أن تبوح بسرها إلى الأب منقريوس قسيس القرية؛ وكانت تأنس به لطول عهده بخدمة الكنيسة ولكبر سنه. هذا إلى أن الاعتراف للقسيس قاعدة متبعة عندهم.

وخرجت دميانة تمشي في البساتين كأنها تتمتع بمناظر الطبيعة، وتنظر في الأغراس وصبيان الفلاحين وبناتهم يقفون احترامًا لها أو يفرون خجلًا منها. وبعضهم في شاغل عنها بثور يسوقه على مربطه أو حمار يحمل عليه قضبانًا أو فاكهة إلى بيت مولاه.

•••

مشت دميانة متظاهرة بأنها مهتمة بتلك المناظر، وهي في الحقيقة في شاغل عنها بما يتردد في ذهنها من الأمر الذي تهم بكشفه للأب منقريوس، فلم تكن تسمع غناء الغلمان وهم يحصدون الزرع ولا صياح الأدياك ولا رفرفة الأطيار التي تلتقط الحب. ولما دنت من الساقية الكُبرى على ضفة النيل لم تنتبه لأنينها أو طقطقة أخشابها أو خوار ثورها والغلام يستحثه على الدوران.

وكانت دميانة في نحو العشرين من عمرها ربعة القامة سمراء اللون مع صفاء ونضرة، كبيرة العينين سوداء الحدقتين مع ذكاء ووداعة، صغيرة الأنف والفم، ممتلئة الشفتين، لها ميسم ينم عن صدق طويتها ورقة إحساسها وفي أذنيها قرطان من ذهب يمثلان أبا الهول وقد ضفرت شعرها الأسود ضفيرة واحدة أرسلتْها على ظهرها وغطت رأسها بنقاب من الحرير — نسج دمشق — أهدتْه إليها أمها في طفولتها، وقد طرزت لها حواشيه ببعض الدعوات والآيات باللغة القبطية وارتدت ثوبًا رقيقًا من القاطي واسع الأردان التفت فوقه بمطرف من الخز مما كان يحمله تجار فارس إلى الفسطاط واحتذتْ نعلًا من الجلد والخوص وفي عُنُقها قلادةٌ من الذهب في وسطها صليب.

•••

كانت المسافةُ بين المنزل والكنيسة نحو ميل، قطعت دميانةُ معظمه على ضفة النيل وعيناها تنتقلان بين الماء واليبس، فمرت بها قواربُ تحمل تبنًا أو حبوبًا أو غير ذلك من الغلال — وهي لا تعيرها انتباهًا ولا تكاد تسمع صراخ ملَّاحيها أو نقر الريح على أشرعتها — ولكنها انتبهت فجأة على سفينة لم تشاهد في النيل مثلها ضخامة وإتقانًا، بناء وزخرفة وكبر شراع. وكانت لِما احتوت عليه من غرف ونوافذ كأنها بيت سابح فوق الماء يشبه ما يعرف اليوم (بالذهبيات)، فعلمت أن مثل هذه السفينة لا تخلو من أن تنقل بعض السراة، وربما كان فيها بعض أصدقاء أبيها وهي لا تحب أن يراها أحد منهم.

وكانت قد أشرفت على الكنيسة فأسرعت إليها تتوارى بين جذوع الشجر وأغصانها، حتى دنت من باب الكنيسة فاستترت وراء نخلة ضخمة عند الباب القديمة العهد والتفتت إلى النيل لتعيد نظرها في تلك (الذهبية) لعلها تعرف أصحابها، فتفرست في الراية المنصوبة في مقدمها فرأتْ عليها كتابةً بالعربية وهي لا تقرأها؛ لأن أهل القُرى كانوا إلى ذلك العهد لا يعرفون العربية؛ لقلة اختلاطهم بالعرب، ولأن المسلمين كانوا منذ الفتح يقيمون بمعزل عن أهل البلاد. إما بالفسطاط مقر رجال الدولة ومن يلحق بهم من الحاشية والأعوان وإما في أطراف البلاد بالمضارب والخيام ولم ينزلوا القرى إلا بعد قُدُوم المأمون إلى مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة لإخماد ثورة نشبت بها، فأمر المسلمين بنزول القرى فابتنَوا فيها القُصُور وحوَّلوا بعض الكنائس إلى مساجد.

فلما رأت دميانة الراية علمت أنها لبعض رجال الدولة، أو بعض الخاصة، أو الجباة من القبط؛ قد خرجوا لجمع الخراج والجزية، ولولا علمها بمنزلة أبيها من صاحب الخراج لخافت أن يمسه ضر من أصحاب تلك السفينة. ولو كانت تقرأ العربية لَقرأت على الراية اسم «أحمد المارداني» متولِّي الخراج وأحد ذوي النفوذ الكبير عند ابن طولون صاحب مصر.

وانتبهت لِما جاءت من أجله فتوجهتْ نحو الكنيسة ودخلت بابها الغربي.

•••

كان لتلك الكنيسة في أول أمرها بابان: أحدُهما غربيٌّ والآخر شمالي. فلما نزل المسلمون القُرى بعد قُدُوم المأمون واحتاجوا إلى أماكن للصلاة ابتنى بعضُهُم المساجد واغتصب آخرون بعض الكنائس وجعلها مساجد. أما قرية دميانة فنزلها رجلٌ من الشيعة العلوية اسمه «أبو الحسن البغدادي» جاء من بغداد في حملة المأمون، ثم أحب المقام بمصر فاستأذنه في البقاء فيها فأذن له. وظل زمنًا يقضي فُرُوض الصلاة في منزله. وكان معتدلًا منصفًا فلم ير أَن يسلب أهل تلك الناحية كنيستهم، فاتفق مع صاحب القرية وهي يومئذٍ مارية القبطية المشهورة على أن يقتطع من الكنيسة جانبًا يتخذه مسجدًا يصلي فيه كما فعل المسلمون بالجامع الأموي لما فتحوا دمشق فأذنت له. وقسم الكنيسة شطرين وأصبح الباب الشمالي خاصًّا بدخول المسلمين وليس منهم هناك إلا أبو الحسن البغدادي وحاشيته، وظل الباب الغربي مدخلًا للنصارى.

دخلت دميانة من ذلك الباب ومشتْ في الدهليز باحترامٍ وخُشُوع حتى أقبلتْ على واجهة الهيكل وعليها الأيقونات الملونة والأستار المصورة، فرسمت علامة الصليب وعرجت على أيقونة مريم العذراء في جهة اليمين وهي تمثل العذراء تحمل طفلها في شكل جميل، وقد جلبت هذه الصورة من القسطنطينية، فجثت دميانة أمامها وأخذت تصلي بحرارة وخشوع وتمثل لها الأمر الذي جاءت من أجله، فخفق قلبها تهيبًا من الخوض فيه ولكنها تجلدت وأخذت تتضرع إلى العذراء أن تقويها وتسدد خطواتها ولمست وجه الصورة بأناملها ثم مسحت بها وجهها تبركًا.

وفيما هي في ذلك سمعت تمتمة القسيس بالصلاة التي اعتاد إقامتها بالهيكل قبل الغروب في كل يوم — ويندر أن يحضرها أحد — وشمت رائحة البخور ورأت ضوء الشموع فازدادت خشوعًا وتهيبًا وهي وحدية في ذلك المكان المقدس ولم تر القسيس؛ لأن باب الهيكل مغطًّى بستارة من الديباج المزركش من صنع دار الطراز في تنيس.

ولما فكرت فيما قدمت من أجله أكبرته، وحدثتْها نَفْسُها بأن تعدل عن مكاشفة القسيس بسرها وهَمَّتْ بالرُّجُوع وإذا بالقسيس قد أزاح الستار ووقف بباب الهيكل وبيده الصليب والإنجيل وهو يتلو الصلاة، فلم تتمالكْ عن التقدُّم نحوه وإحناء رأسها تحت الكتاب، فقرأ فصلًا من الإنجيل بالقبطية — على عادته — فتشددت ورجعت إلى عزمها على الاعتراف.

فلما فرغ القسيس من الصلاة مد يده إليها فقبلتها، وأحس القسيس ارتعاش أناملها. وكان الأب منقريوس شيخًا طاعنًا في السن، عرف دميانة منذ طفولتها إذ كان هو الذي عقد إكليل أمها وعَمَّدَها هي وكان عطوفًا عليها طيب السريرة صادق التدين مع سذاجة وصفاء طوية. وقد اطلع على أسرار اعترف له بها أصحابها زادته حنوًّا على دميانة ورعاية لها.

وقسيس الشعب الذي يطلع على أسرار رعيته إذا كان صادقَ التديُّن طيب السريرة كان ميمونَ الطالع؛ لأنه يستخدم تلك المعرفة للتوفيق بين بنيه وإزالة ما يكدر صفوهم من سوء التفاهُم أما إذا كان طماعًا منافقًا فإنه يكون شرًّا عظيمًا عليهم؛ لأنه يستخدم تلك الأسرار لسلب الأموال والتمتُّع بالسيادة وغيرها من مطالب العالم.

وكان الأب منقريوس شيخًا جليلًا قد ابيضَّ شعره واسترسلت لحيته، لا مطمع له في شيء من حُطام الدنيا، وإنما هَمُّهُ خدمةُ رعيته والتوفيق بينهم، فلما رأى دميانة على تلك الحال في ساعة لم يتعودْ أن يراها بالكنيسة فيها ابتدرها بالكلام ليجرئها فقال: «كيف أنت يا ابنتي؟»

فهَمَّتْ بالكلام فسبقتْها العبراتُ فأطرقت حياءً ووجلًا فقال: «ما بالك تبكين؟ إن من كان في مثل حالك مِنَ التقوى والإيمان بالسيد المسيح لا ينبغي له أن يحزن أو يخاف.»

فتشددت وقالت: «نعم يا سيدي صدقت وأنا قد جئت الآن لاعترف لك بأمر أتعبني وأقلق ضميري فهل تسمعه؟»

قال: «كيف لا؟ تعالَي إلى كرسيِّ الاعتراف.»

قال ذلك واتجه إلى كرسيٍّ بجانب الهيكل يقعد عليه لسماع أقوالِ المعترفين، وأشار بأنْ تقعد على كرسيٍّ بين يديه، وبعد أن تلا الصلوات أو الطقوس التي تتلَى في مثل هذا الموقف قال لها: «قصي خبرك يا دميانة ولا تخافي؛ فإنك تخاطبين نفسك، ومهما يكن من خطورة سرك فإنه يبقى مكتومًا لا يعلم به أحدٌ كأنك تناجين الله في ضميرك.»

فأطرقت دميانة خجلًا وقد بدا الاصفرارُ في وجهها وسكتتْ، فقال: «قولي يا ابنتي.»

فرفعتْ بَصَرَها إليه وتناولتْ يَدَهُ وقَبَّلَتْها وبَلَّلَتْها بدموعها، فاجتذب يده منها وقال: «قولي يا دميانة لا تخافي يا ابنتي، ولا أظنك تقولين شيئًا أجهله؛ لأننا معشر القسيسين لا يخفى علينا شيء من أسرار الرعية؛ وذلك بما وهبنا السيد المسيح من سر الاعتراف، وعلينا أن نستخدم هذه المعرفة في الإصلاح بين الناس وتخفيف متاعبهم، وأنت تعلمين أني بمنزلة أبيك وقد عرفتك طفلة وعرفت أمك من قبلك، ولا تَخفى علي خافية من أحوالك.»

فلما سمعت منه ذلك قالت: «تعرف ما في نفسي؟ كيف؟ قل — بحياة قدسك — قل ما تعلمه وخففْ عني مشقة القول».

فتنحنح القسيسُ ومسح فمه ولحيته بمنديله وقال: «لا يا ولدي لا يجوز أن أبدأ بالقول ولكنني قلت لك ذلك؛ لأيسر عليك التصريح.»

فقالت: «أتعرف جارنا أبا الحسن البغدادي نزيل هذه القرية؟»

قال: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو صاحب القصر الذي بجانب قصر أبيك؟»

قالت: «نعم وإنه — والحق يقال — لَعَلَى خُلُق عظيم وأراه يحب القبط ويلاطفهم ويحاسنهم، خلافًا لسواد أهل الدولة».

فلم ير القسيس رابطةً بين ما سمعه وما كان يتوقعُ أن يسمعه، ولكنه ظنها تندرج في الحديث فقال: «أراك تحسبين اضطهاد أهل الإسلام للأقباط قاعدةً من قواعد حكومتهم، والواقع أن ذلك يختلف باختلاف الرجال؛ فقد كان المسلمون في أوائل دولتهم بمصر أكثر الناس رعايةً لنا ورفقا بنا واحترامًا لعاداتنا وطقوسنا، وتخلل ذلك اضطهاداتٌ نأى الحق في بعضها بجانبه عنا لطمع كبارنا في أموال الدولة والإمساك عن دفع الخراج أو الجزية، ومن ذلك ما وقع في العام الذي جاء فيه المأمون إلى مصر وعاقبنا أشد العقاب مما لا محل لتفصيله الآن، أما أبو الحسن فرجل عاقلٌ معتدلٌ، عرفت اعتداله من تساهله في معاشرتنا واقتناعه بجزء من هذه الكنيسة لصلاته، وقد رأينا غيره يحولون الكنائس على جوامع.

وهناك سببٌ آخرُ لتقربه منا لا أظنك تعرفينه، وهو أن أبا الحسن هذا ينتمي إلى طائفةٍ من المسلمين يُقال لها الشيعةُ، يضطهدها رجال الدولة؛ لأنها تُخالف مذهب الخليفة وأمرائه. كما كان حالنا قبل الإسلام إذ انقسمت الكنيسة إلى ملكية ويعقوبية، وكانت دولة الروم تَنصر الملكية؛ لأنهم على مذهبها وتضطهد اليعاقبة، حتى تَمَنَّى هؤلاء خُرُوج هذه البلاد من حوزتها، وقد حصل. ألا تذكرين يوم جاء أمر المتوكل خليفة بغداد إلى قبط مصر منذ بضع عشرة سنة؟ أظنك لا تذكرين ذلك؛ إذ كنت طفلة.

إنه بعث إلى عامله بمصر أن اهدم الكنائس المستحدَثة بعد الإسلام، ونهى عن الاستعانة بالنصارى في الأعمال أو أن يُظهروا الصُّلبان في شمانينهم. وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب وأن يلبسوا الطيالسة العسلية ويشدوا الزنار ويركبوا السروج على بكر الخشب بكرتين في مؤخرة السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب قدر كل واحدة أربع أصابع ولون الواحدة غير لون الأُخرى، وأن تخرج كل من نساؤهم لابسة إزارًا عسليًّا. وحرم عليهم لبس المناطق وغير ذلك مما بَقِيَ معمولًا به حتى تولى ابن طولون فأبطله.»

وسكت قليلًا ثم استأنف الكلام فقال: «وقد أصاب الشيعة في ذلك الوقت من الاضطهاد مثل ما أصابنا، فإن ابن الخليفة — الذي نحن بصدده — كتب إلى عامله بمصر ألا يقتني علويٌّ ضيعة ولا يركب فرسًا ولا يسافر من الفُسطاط إلى طرفٍ من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ أكثر مِن عبد واحد ومَن كان منهم له خصومة قُبل قول خصمه فيه ولم يطالَب ببينة.»

«ومن طبيعة الأشياء يا ابنتي أن الذين يقاسون الذل معًا يتآلفون ويتحابون ولو بعدت أصولهم وتباينت مذاهبهم.»

•••

كان القسيس يتكلم ودميانة تنظر كمن يُصغي وذهنها يعمل في تهيئة عبارة تبدأ بها شكواها أو تبث بها غرامها فلما فرغ من كلامه قالت: «وسعيد المهندس ضيف أبي الحسن، أو ابنه أو مولاه هل تعرفه؟»

فنظر القسيس إليها خلسة فوجد سحنتها قد تغيرت ولونها امتقع وأبرقت عيناها. فأدرك أَنَّ ظنه لم يكن مخطئًا، فأراد أن يشجعها على التصريح فقال: «وأنت ألا تعرفينه يا دميانة؟»

فلما سمعت سؤاله نزلت عن الكرسي وجثت بين يديه وأخذت تبكي وتهم بالكلام فيمنعها البكاء، فصبر حتى هدأ روعها وقال: «أظنك تحبينه. إنه شاب حميد الخصال بارع ماهر.»

فتنهدت دميانة ومسحت دموعها وقالت: «نعم يا أبتي إني أحبه. وهذا هو الأمر الذي جئت للاعتراف به وأستغفر لذنبي. لقد أحببته عفوًا ومحض اتفاق يا سيدي وأنا لم أكلمه بعدُ وإنما كنت أراه داخلًا إلى منزله أو خارجًا منه وربما حَيَّانِي بكلمة أو إشارة لا تتجاوز الكلمة وجوابها. ولكنني كنت أسمع بخصاله ومَنَاقبه ومهارته في الهندسة. ولم يتفقْ لي أن اجتمعتُ به في مكانٍ؛ لأن أبي يحجبنا عن أبي الحسن كما يحجب هذا نساءه عن رجالنا وحسنًا فعل؛ فإن في ذلك دفعًا للشر. وكثيرًا ما حاولتُ البعد وغض الطرف لعلي أنسى فلم أقدر.» قالتْ ذلك وعادتْ إلى البكاء.

فقال القسيس: «أتبكين لأنك أحببت سعيدًا؟ وهل الحب محرم؟»

قالت: «إنما أبكي لأني أحببت رجلًا لا سبيل إليه، فإني وإن كنت لم أسع إلى حبه أحسبني أخطأت خطيئة كبيرة؛ لأني أحببته وهو مسلم.»

ففهم القسيسُ سِرَّ اضطرابها، فأَنْهَضَها وأجلسها على الكرسي بجانبه وهو يبتسم. فلما رأته يبتسم خف اضطرابها ولبثت تنتظر ما يقوله. فقال: «وما الذي جعلك تحسبينه مسلمًا؟»

قالت: «لأن اسمه سعيد ولم أعرف أحدًا سُمي بهذا من غير المسلمين، وقد سمعت أنه يلقَّب بالفرغاني، وهذا أيضًا من ألقاب المسلمين وزد على ذلك أني لم أره في الكنيسة ورأيته مقيمًا مع أبي الحسن كأحد أولاده.»

قال: «أما اسمُهُ فإن أبا الحسن سماه به، وليس ما يمنع تسميته سعيدًا. وكذلك اللقب فإنه لُقب به نسبة إلى أحد أساتذته المسلمين الذين أخذ الهندسة والرياضيات عنهم في بغداد مدينة العلم؛ لأنه سافر إليها مع أبي الحسن وتلقى العلم فيها. وقد يكون نسبة إلى قرية مصرية اسمها فرغانة. وأما الصلاة في ا لكنيسة فإنه لم يتخلف عنها إلا أثناء غيابه عن القرية في عمل أو سفر، ولعله كان يأتي متأخرًا فلا ترينه».

قالت والدهشة بادية في محياها: «أليس سعيد مسلمًا؟»

قال: «كلا يا ابنتي إنه مسيحي مثلك.»

فلما سمعت قوله وثبت من مجلسها وحملقت في القسيس وقالت: «مسيحي؟ نصراني مثلنا؟» قال: «نعم مسيحي يا ابنتي؟»

قالت: «هل أنت على يقين من ذلك؟»

قال: «لا ريب عندي في ذلك وقد جلس على هذا الكرسي واعترف لي مرارًا.»

قالت: «جلس على كرسي الاعتراف؟ واعترف لك؟ أطلعك على مكنونات قلبه؟ آه هل اعترف لك بأنه؟»

وهَمَّتْ بأن تسأله إذا كان قد اعترف بحُبه لها، ثم أمسكت خجلًا، وعلمت أن سؤالها يُخالف أُصُول الاعتراف، فأطرقتْ وسكتت.

فقال: «يكفي أنك عرفت أنه مسيحي.»

فتنهدتْ وقالت: «نعم يكفي.» ثم رفعتْ رأسها إلى السماء وقال: «أشكر الله على ذلك.» وغلب عليها الفرح حتى ضحكتْ والدمع يقطر من عينيها وهي تردد قولها: «مسيحي؟ سعيد مسيحي؟» ثم انتبهتْ إلى أن مسيحيته لا تكفي وحده ليطمئن قلبُها فسكتت وجعلت تتشاغل بمسح عينيها وإصلاح نقابها، ثم قالت: «وهل يعد حبي له خطيئة يا أبانا؟»

فأجاب القسيس: «إن الحب الطاهر يا دميانة ليس خطيئة بل هو من الفضائل التي يُثاب الناس عليها، ونظرًا لِما أعلمُهُ مِن تقواك وتعقُّلك لا أخاف تورطك وخروجك عن الحدود التي وضعتها الكنيسة.»

فقالت: «معاذ الله أن أفعل ما يخالف تعاليم الكنيسة ولكن هل تظن أبي …» ومنعها الحياء عن تتمة الكلام.

فأدرك أنها تسأل هل أبوها يمانع في زواجها منه فقال: «إن أباك صعبُ المراس ولا أدري هل يرضى به بعلًا لك أم لا.»

فقالت: «إذا كنت أنت مكان أبي هل ترى سعيدًا كفئًا لي؟»

قال: «نعم؛ فإنه من خيار الشبان تعقلًا وذكاء ومهارة، ولاسيما الآن، فإنه قد أحرز ثقةَ صاحب مصر أحمد بن طولون لمهارته في فن الهندسة فآثره على جميع مهندسي مصر. وأظنك تعلمين السبب.»

قالت: «كلا ما هو؟»

قال: «لما أفضت حكومة مصر إلى ابن طولون هذا وهو تركي الأصل وجنده أتراك كان عرف الفسطاط (قصبة المسلمين بمصر) لا يقبلونه إذ يرون أنهم أصحاب الدولة وفيهم ظَهَرَ النبيُّ صاحب الشريعة الإسلامية، وكانوا في أول الإسلام يعدون الأتراك والفرس ومن إليهم من الأمم أقل منهم ويسمونهم الموالي. فلما تغلب العنصر التركي في بغداد على أيام المعتصم انحطَّ شأنُ العرب وخرجتْ مقاليدُ الدولة مِن أيديهم وتولاها الأتراك والفرس وغيرهم وصار العرب ينظرون إلى هؤلاء بعين البُغض والحسد ولم يعد ابن طولون يأمن القيام بينهم، فعزم على أن يبني لنفسه بلدًا يجعله معقلًا له ولجنده، فابتنى بين الفسطاط والمقطم قطائع أنزل فيها رجاله وبنى بها قصرًا له فأعوزه الماء؛ لأن القطائع بعيدة عن النيل ومرتفعة عنه، فأراد أن يُجري الماء إليها فلم يجد من يستطيع ذلك سوى سعيد فإنه تعهد له بجره وقد وضع له رسمًا هندسيًّا لم يستطعْه سواه، وباشر العمل وأظنه فرغ منه الآن وجرى الماء إلى القطائع، فإذا رأى العمل متقنًا كافأ سعيدًا مكافأة يحسده عليها كثيرون.»

فسُرَّتْ سُرُور المحب بما ينالُهُ حبيبه من التقدم، ثم انقبضتْ نفسها مخافة أن يحول ذلك الرقي دون مرادها وهي لم تعلم رأيه فيها بعد وإن كان قلبها يدلها على الحب المتبادل، فأصبحت في شوق إلى مقابلته لترى ما يبدو منه ولا تعرف وسيلة للاجتماع به؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه في الفسطاط والقطائع.

وانتهت من الاعتراف فوقف القسيس ورفع يده على رأسها وباركها وصلى ودعا لها، فقبلت يده والصليب الذي يحمله وخرجت، وانصرف هو إلى غرفة يقطنها ملاصقة للكنيسة. ولم يعرض عليها أن يوصلها إلى بيت أبيها وقد أمسى المساء؛ لعلمه أنها لا تخرج إلا وخادمها العم زكريا معها، ولم يدر أنها أتت وحدها خلسة في ذلك اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤