كل السر في المادة١

جاء في مقالتي «الحس وأنواعه»، المُدْرَجة في الصفحة ٢٩٤ من السنة الخامسة للمقتطف، ما يُتحصَّل منه «أن المادة ذات حس»، وأن «الحياة خاصة من خصائص المادة»، وهذه الحقيقة وإن كانت من الحقائق التي لا تقبل الرد في هذه الأيام، إلا أنه لا تزال توجد طائفة من العلماء يحاولون إنكارها، وعلى ذلك جرى صاحب مقالة «الحياة والجاذبية»، المدرجة في صفحة ٢٣٦ من السنة السادسة للمقتطف، في اعتراضه على ما جاء في مقالتي المذكورة من هذا القبيل، فبيانًا للحقيقة يترتب علينا جميعًا أن نبحث في هذه المسألة بحثًا لا يتجاوز حَدَّ العلم، وإنكارًا لما يذهب إليه هو، وإثباتًا لما ينكره يترتب عليَّ؛ أولًا: أن أثبت أن المادة ذات حس، وثانيًا: أن الحياة ليست سوى خاصة من خصائص المادة، وإذا تبين ذلك سهل علينا إلحاق هذه الخاصة بالنواميس الطبيعية، سواء كانت الجاذبية أو سواها.

(١) المادة ذات حس

الحِسُّ بالشيء في أبسط معانيه وأعم أنواعه هو الانفعال به، ولا يسع صاحب الاعتراض إلا أن يوافقنا على ذلك، وإلا يترتب عليه أن ينفي الحِسَّ عن النبات والحيوانات الدنيا التي لا شعور لها ولا إدراك. وهذا لا يوافقه عليه أحد من الطبيعيين والفسيولوجيين المعاصرين.

من المعلوم أن المادة إذا لامست جسمًا حيًّا تفعل فيه فتهيج فيه الحس، ولكن من يقول لنا: إن الجسم الحي لا يفعل في المادة ويحدث فيها تغييرًا، فبلا شك أن الحياة تفعل في بعض الأوساط، وأكبر دليل على ذلك الاختمار، فإذا تُرِكَ محلول سكري كعصير العنب مثلًا ملامسًا للهواء، فلا يلبث أن تدب فيه ملايين من الأجسام الحية الآتية جراثيمها من الهواء، فهذه الأجسام الخميرية تنمو وتكثر بسرعة عجيبة، وتُحدِث في المادة السكرية تفاعلًا كيماويًّا يتحول به السكر بعد زمن معلوم إلى حامض كربونيك وكحول، ثم الكحول إلى حامض خليك، فوجود الأجسام الحية في هذا السائل قد غير خصائصه، فلو لم يكن هذا السائل يتأثر بهذه الأجسام الحية لما كان يتحلل عند ملامسته لها، إذن هو يحس بفعلها.

ولا يصعب علينا أن نأتي بأمثال عديدة في هذا المعنى، وأن نبين أن النور والحرارة والكهربائية التي تؤثر في حسنا تؤثر في المادة، كما هو ظاهر من تأثير النور في المركبات الكيماوية المستعملة في الفوتوغرافيا، فلو لم تكن هذه المركبات تحس بالنور لما كانت تتأثر به، وكذلك إذا أجرينا مجرى من الكهربائية على قطعة حديد لين، فالحديد يتأثر بالكهربائية، أي يحس بها، وهو ظاهر من اكتسابه قابلية جديدة لم تكن له قبل ذلك، وهي اجتذابه الحديد؛ أي صيرورته مغناطيسًا.

والحرارة — كما نرى كل يوم — تغير المواد تغيرًا كليًّا فتُسيلها وتبخرها، فكل هذه الظواهر تدل على أن المادة تحس بالعوامل الخارجية. وهذا ما يراد به في تحديد «كلود برنار» للحس بقوله: إنه «تكيف في التأثير لكيفية في المؤثر.» وعلى ذلك تكون الجاذبية التي تتجاذب بها الأجسام بالنسبة إلى مادتها وبالقلب كمربع البعد بينها عبارة عن حس المادة في أبسط معانيه وأعم أنواعه.

(٢) الحياة خاصة من خصائص المادة

الحياة عند الحيويين قائمة بمبدأ حيوي قائم بنفسه، مجرد عن المادة، غير خاضع لنواميسها، مع كونه ذا سلطان عليها يدخل المادة من حيث لا نعلم، ويخرج منها إلى حيث لا ندري. وأمَّا عند الماديين فالحياة حالة من حالات المادة، أو كيفية من كيفياتها خاضعة لنواميسها. ولقد أحسن صاحب مقالة «الحياة والجاذبية» بقوله: «قد أجمع العلماء والفلاسفة على أن المذهب الأقوى دليلًا، والأبعد عن معارضة الحقائق هو الأرجح احتمالًا.» فبقي علينا أن نعرف أية الحقائق هي التي يصح أن تسمى كذلك، أتلك المقررة في الذهن أم التي قررها العلم، وأن نعرف أي دليل أقوى، أدليل الحيويين القائلين في الحياة بالقوة الحيوية المنفصلة عن المادة، أم دليل الماديين القائلين في الحياة بالقوى الطبيعية والكيماوية المتصلة بالمادة.

وأقوى دليل للحيويين على القوة الحيوية هو أن الحي لا يأتي إلا من الحي، ولا يمكن أن يتولد من المادة غير الحية بواسطة القوى الطبيعية، فعلينا إذن أن نبين أولًا: أن القوة الحيوية المزعوم بها لا وجود لها، وأن الفاعل في الحياة هو القوى الطبيعية والكيماوية، وثانيًا: أن التولد الذاتي ممكن. فإذا ثبت ذلك سقط على ظني الحاجز الحصين الذي يقيمه الحيويون بين الأجسام الحية والمادة، فتكون الاختلافات العارضة على المادة في الكيفية والكمية، أي في الصورة فقط لا في الماهية؛ إذ إن جميع الأجسام العضوية وغير العضوية مؤلَّفةٌ من عناصر المادة، وخاضعة لنواميسها التي لا تتزعزع.

القوة الحيوية لا وجود لها: إنَّنا لا نعلم الحياة إلا بالأجسام الحية المؤلفة من عناصر المادة، ولا يوجد في الجسم الحي عنصر غير موجود في العالم المادي، ونعلم أن ما يسمى قوة لا ينفك عن ملازمة ما يسمى مادة، فكلُّ ما يحصل في الجسم الحي حاصل في عناصر المادة المؤلف منها ذلك الجسم بقوى المادة نفسها التي تعمل على نسق واحد في العالم العضوي والعالم غير العضوي، كما نعلم من علمي الكيميا والطبيعيات اللذين لا يمكن الاستغناء عنهما في درس الفسيولوجيا؛ فجميع الأعمال الحيوية مرجعها إلى القوى الطبيعية والكيماوية، كما هو ظاهر في التنفس والإفراز والتمثيل والهضم والامتصاص والدورة إلخ.

فإذا كانت أهم أعمال الحياة تتم بقوى كيماوية، وعلى مقتضى النواميس الطبيعية، فأية حجة تبقى للحيويين لإثبات القوة الحيوية، أو بالحري أي لزوم لها؟ وهنا أسأل الحيويين ومن تابعهم: من أين أتوا بالقوة الحيوية: أمن عالم المادة أم من غيره؟ فإن كان من الأول فكيف أمكنهم أن يجردوها عن المادة، وإن كان من غيره فكيف أمكنهم أنْ يُدخِلوها على المادة التي لا تنفصل عن قواها ولا تقبل سواها، فما هي أدلتهم العلمية على ذلك؟ وغاية علمي أن ليس لهم أدلة موجبة، بل كل أدلتهم سالبة ينقضون بها حجة الماديين، ويطلبون منهم أن يخلقوا لهم جسمًا حيًّا من جسم غير حي، فلننظر إذا كان ذلك ممكنًا.

التولد الذاتي: أعظم حجة كان يحتج بها الحيويون على الماديين في التولد الذاتي هي عدم استطاعة القوى الطبيعية والكيماوية على تكوين مواد عضوية من مواد غير عضوية، مما كان يجعل حجتهم في القوة الحيوية قوية بحسب الظاهر؛ لأن عجز الوسائط التي للكيماويين عن تركيب مادة لا يؤخذ منه عدم إمكان تركيب هذه المادة طبيعيًّا، فإن الألماس مع كونه من المركبات التي لا خلاف في كونها طبيعية، فالكيمياء لا تزال عاجزة عن تكوينه، ولو توفرت لها كل الوسائط، ولم ينقصها سوى ذلك العامل العظيم؛ أي الزمان، الذي ألفُ سنةٍ منه في عين الطبيعة نظير أمس الذي عبَر لنقصها كل شيء.

ومع ذلك، فاحتجاجهم هذا لم يعد له قيمة من بعد ما بين دهلر سنة ١٨٢٨ إمكان اصطناع الأوريا العضوية كيماويًّا من السيانوجين والنشادر غير العضويين، ومن ذلك العهد إلى الآن قد تقدمت الكيمياء جدًّا، وصار في إمكانها استحضار أكثر المواد العضوية من المواد غير العضوية بطريقة صناعية لا دخل للحياة فيها؛ كاستحضار الكحول والحامض الفورميك وسكر العنب والحامض الأكساليك والمواد الدهنية حتى الألبيومن والفيبرين والخوندرين من مواد غير عضوية.

فإذا كان مثل ذلك مستطاعًا في المعامل الكيماوية، فما المانع من أن يستطاع أعظم منه في المعمل الذي فيه تعمل أعظم قوى الطبيعة، فيتولد الحي من عناصر المادة تولدًا ذاتيًّا، والأجسام الحية المتولدة ذاتيًّا، حسب هكل، والتي يمكن مراقبتها هي الأجسام التي أطلق عليها اسم Moneres؛ أي الحية وحدها؛ فهي غاية في البساطة، والمعروف منها للآن سبعة أنواع بعضها يعيش في المياه العذبة، وبعضها في المياه المالحة، وهي أم الأنواع، وكل منها مؤلف من بذرة صغيرة من مادة كربونية البيومينية من دون نسيج.

وبما أنه لا أعضاء لها ولا تقسيم عمل، بل جميع ظواهر الحياة فيها تتم بواسطة مادة واحدة من طبيعة واحدة لا شكل لها، فلا يمكن أن تكون أتت من جرثومة حية، فلا بد أن تكون نتيجة التولد الذاتي آتية من المركبات الكربونية الأشد بساطة، وما المانع من أن تكون كذلك، مع علمنا أن الكيمياء في إمكانها أن تكون مركبات كربونية من هذا القبيل؟ أليس ذلك أولى بالتصديق من الزعم بجرثومة طمسن المحمولة على نيزك من النيازك، أو غيرها من الجراثيم المزعوم بها؟ وما هي تلك الجرثومة، أو ما هي هذه الجراثيم الغريبة المصدر؟ ومن أي العناصر هي مؤلفة؟ وكيف تكونت؟ فإذا كانت مؤلفة من عناصر المادة؛ فهي تحت حكم النواميس الخاضعة لها المادة، فما الداعي — والحالة هذه — إلى الخروج عن المادة لتفسير أعمال المادة التي فيها سر كل الكائنات؟

فهذه خلاصة من براهين كثيرة تتأيد بها حجة الماديين، وتسقط بها دعوى الحيويين، ولكن لما كان المقام لا يسمح لنا باستيفاء كل البيانات التي جاءت من هذا القبيل؛ اجتزينا الآن بهذه العجالة، وفينا شديد أمل بالعود إلى هذا الموضوع كلما مكنتنا الظروف. ا.ﻫ.

طنطا ٩ أيلول ١٨٨١
١  نشر في مقتطف السنة السادسة ١٨٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤