الحياة والجاذبية١

إن تأييد القول في كون الحياة جاذبية، وكون المادة ذات حس باعتبار الحس في أبسط ما يكون عليه؛ لا بد فيه أولًا من تجريد الحياة من كل قوة فوق الطبيعة؛ لكي يمكن حصرها في القوى الطبيعية، أي في قوى المادة نفسها. وهذا هو السبب الذي جرَّنا في المباحثة إلى الكلام في ملازمة القوة للمادة، وفي التولد الذاتي وما يتضمنه من تكون الأنواع الحية متسلسلة عن بعضها على سبيل الاستحالة، مما تبرأ منه جناب المعترض بقوله: إن تلك مسائل لا يعنيه أمرها في هذا المقام، مع أنه يستحيل حصر الكلام في الحياة والجاذبية إلا بعد الاتفاق على نسبة الحياة إلى المادة لتعرف أعارضة هي أم لازمة، وبغير هذا الاتفاق يكون البحث في الحياة والجاذبية ضربًا من العبث، فكل واحدة منها مقدمة ونتيجة معًا للباقي، فلا يصح أن يُعَدَّ النظر في هذه المسألة على هذه الصورة شرودًا أو عدولًا.

ولقد تقدم بيان ذلك فيما سبق جُملةً على قدر الإمكان، فقال: إنه لا يزال غير وافٍ بالمقصود، لا في إثبات الحس للجماد، ولا في كون الحياة جاذبية، ولا في غير ذلك؛ لأن الجماد لا يصدق عليه الانفعال الحيوي؛ إذ لا يؤثر الأيثير في انفعاله، ولا تفعل الجاذبية فيه ما تفعل الحياة في الحي، ولا يخفى ما في ذلك من المؤاخذة، مع أن القوة التي تفعل في التبلور على قياس معلوم تختلف في عملها كثيرًا عن سواها من القوى الطبيعية كالحرارة مثلًا.

فعلى مقتضى قياسه يجب أن يكون بينهما فاصل في الطبع، فإن سلم هذا سلم له ذلك أيضًا، فإذا كان الأيثير لا يظهر فعله في الجماد، فذلك لا يتخذ حجة على اختلاف طبع ما يفعل في انفعاله عن طبع ما يفعل في الأجسام الحية؛ لأن القوة تختلف ظواهرها بحسب مظاهرها، والحس نفسه غير متساوٍ في طبقات الأجسام الحية، ولا انفعاله بالأيثير فيها على حدٍّ واحد، وقد لا يؤثر فيما كان منها بسيطًا جدًّا، أو لا يظهر لنا تأثيره كما في المركبات الآلية.

ومن المعلوم أن من خصائص المواد الحية سرعة انحلالها، فأين انحلال بعض المواد الحيوانية من انحلال بعض المواد النباتية التي تكاد تكون في ثبوتها كالجماد؟ أيمنع ذلك النسبة الكائنة بينها؟ أو لا يعتبر هذا الفرق بينها نسبة متدارجة؟ فلماذا لا يعتبر هذا الفرق في الجماد كذلك نسبةً لانحطاطه في طبقات الكوائن؟ ألعله لا يقر باستحالة المواد والقوى، فأين الفكر المركب من الحس البسيط؟ وأين الكهربائية من الحركة؟ فالقوة العامة في الكون، والتي اصطلح العلماء على تسميتها بالجاذبية — سواء أفاد هذا الاسم شيئًا أو لم يفد — هي القوة التي ترجع مركبات القوى إلى بسيطها، وهي التي ترجع الحياة إليها أيضًا، وقوله: إن اعتبار الانفعال في الجماد حسًّا بسيطًا شيء جديد لا يراه موافقًا لآراء العلماء، ولا منطبقًا على تعاريفهم، قلت: إن بحثنا ليس فيما هم متفقون عليه، بل فيما هم مختلفون فيه، وإلا لما كان داعٍ لذلك كله.

وأما قوله: إن العلوم غير الطبيعية تعلمنا بأن القوة قد تنفك عن المادة، فنجيبه: إن العلوم الطبيعية لا تعلمنا ذلك، وبحثنا فيها لا في تلك، قال: إن وجود قوة لا تلازم المادة ممكن، وضرب لذلك — مثلًا — ملازمة الحياة للمادة إلى زمن محدود، قلنا: متى مات الجسم الحي أين تذهب القوة الحيوية: أتبقى كامنة في مواده أم تفارقها أصلًا؟ أما نحن فنعلم أن المادة لا تتلاشى، والقوة لا تتلاشى كذلك، فلا شيء من مواد الجسم الحي يتلاشى من العالم المادي متى مات، ولا شيء يتلاشى من القوى التي فيه، فمواد الجسم الحي متى انحلت تتغير كثيرًا في الصورة عما كانت عليه فيه، كذلك الحياة تتغير في الخاصة أيضًا، فهذا ما نذهب إليه ويذهب إليه أكثر الطبيعيين، ونحن لا ننكر بأن كيفية ذلك تخفى علينا، ولكن تخفى علينا أمور أخرى كثيرة طبيعية أيضًا، إلا أننا لا نستطيع إلا الإقرار بأن ما نعلمه من تكوُّن الأنواع بالاستحالة طبقًا لنواميس عامة لا تتغير بردِّ كلِّ شيء إلى المادة ونواميسها، التي هي هي ثابتة غير متزعزعة، تفعل مضطرة غير مختارة على قياس معلوم على حد سوى في الجماد والنبات والحيوان.

ولكن لماذا تظهر في الحي على خلاف ما تظهر في الجماد، فعلى حد قولنا: لماذا يعوم الخشب ويغرق الحديد؟ فلا يقتضي أن ينمو الجماد ويغتذي كما ينمو الحي ويغتذي، وإلا صار حيًّا، وهل تقتضي القوى إذا كانت من طبع واحد أن تكون أعمالها واحدة، كيف كانت؟ وأين كانت؟ ألا ترى أن ذلك يفضي بنا إلى أن يكون الكون واحدًا متساويًا في الصورة، حيوانًا واحدًا، أو نباتًا واحدًا، أو جمادًا واحدًا، والواقع هو بخلاف ذلك؟

أما ما قاله من اختلاف جواهر العناصر في التركيب بين الحي والجماد، وما فيه لنا من المسامحة الظاهرة، فيحق لنا أن نسامحه عليه لا لأن الاختلاف المذكور غير موجود، ولكن لاعتماده عليه فاصلًا بين طبيعة وطبيعة، كأن الجواهر المذكورة غير مادية، أو كأنه لا يمكن الحصول على مثلها في الطبيعة، وفي المعامل الكيماوية بواسطة القوى المادية.

وأما قوله: إن كون الحياة لا تفرق في الطبع عن القوى الطبيعية والكيماوية يلزم منه تبيين إمكان تركيب العناصر والقوى تركيبًا جديدًا يظهر ظواهر الحياة فيها؛ فإن كان المقصد منه إمكان ذلك طبيعيًّا، فهو حاصل، وبيانه في المواد الطبيعية المركب منها الحي بقوة ملازمة غير مفارقة إلا مفارقة عارضية. وأما إن كان مقصده أن نخلق له بالوسائط التي لنا في بواتقنا رجلًا أو فيلًا؛ فهذا لا يمكن، وهو شرط غير ضروري، وأما إيضاح الأعمال الحيوية بالقوى الطبيعية المعروفة، فأظن أن البيولوجيا والفيزيولوجيا فيهما من ذلك ما يكفي للاقتناع.

وأما قوله: إن التولد الذاتي لا يمكن بحجة أنه لم يعلم إلى الآن متولد ذاتي متفق عليه، فهذا على فرض صحته لا يوجب كونه لم يمكن، وقوله: إن الباثيبيوس لم يكن إلا راسبًا من كبريتات الكلس، وأن السفينة تشالنجر لم تعثر عليه، فمردود عليه، أولًا: بما أظهر هكل فيه من تلونه بأحمر إذا أضيف إليه راسب الدودة، وبأصفر إذا أضيف اليود وحامض النتريك، وذلك لا يحصل في راسب بسيط من كبريتات الكلس، وثانيًا: أن السفينة بولارس التي سارت بعد تشالنجر قد اكتشفت مادة بروتوبلاسمية تختلف عن الباثيبيوس بعدم وجود شيء من التجمعات الكلسية فيها، وسماها الدكتور إميل بسلس بروتوباثيبيوس، فإن كان هذا محور الخلاف — ولا أظنه كذلك — فهذه ضالتنا قد وجدت، وما ذكره من أقوال العلماء لا يستفاد منه سوى أنهم يتعجبون ولا يدركون كيف تحصل الحياة، وأي سر من الأسرار الطبيعية يدركونه، أو لا يتعجبون منه ولا يستفاد منه؟ إنهم يوافقون الحيويين فيما يقولون.

وأما قوله: إن الأجسام الأولى الحية على افتراض تولدها من الجماد بواسطة القوة الطبيعية المحضة فلا يتم لها ذلك؛ لأنها لا تقدر أن تغتذي من المواد الجمادية رأسًا، فلو تأمل قليلًا لوجد أن تغذية الأجسام الحية — على فرض صحة افتراضه — تحصل من المواد الآلية التي تتكون رأسًا من الجماد كالألبيومن والفيبرين وغيرهما، وربما كانت هي نفسها التي تظهر فيها الحياة أولًا، ويجب أن يكون كذلك، وهي بالحقيقة حلقة تولد الحي من غير الحي، فمن يرى ذلك كله ربما يحسب جسورًا مقتحمًا إذا تنبأ بأن العلم سيصل بعد خمسين سنة، بل خمسمائة سنة إلى أن يخلق حيًّا يسعى.

ولكن بلا شك يحسب جبانًا مرتعدًا إذا كان لا يعتقد بأن الأنواع متكونة بالاستحالة لا بالجراثيم، وأن الحي متحول عن غير الحي، ويستحيل غير ذلك، فلو افترض أن الحياة مجردة عن المادة لوجب أن تكون هي العامل في تركيب محلها وتحليله، والحال أن وجودها فيه متوقف على وجوده، وهو لا يكون قبل تركيبه لتوقفه عليه، ولا بعد تحليله لانتقاضه به، فلو كانت هي العامل فيهما لكان عملها — والحالة هذه — قبل وجودها في الأول، وبعد عدمها في الثاني، وهو محال.

وأين الحكم في تجريد القوة الحيوية عن المادة، بعد علمنا أن كل ما هو كائن خاضع لنواميس أزلية في مادة هي كذلك؟ بل الحكمة في إلحاق هذه القوة بغيرها من القوى الطبيعية، والعلم أكبر شاهد على ذلك. وعليه فالقوة ملازمة للمادة، وكل قوة ملازمة للمادة طبيعية، والحياة قوة، فالحياة ملازمة للمادة، إذن الحياة قوة طبيعية، وتسميتها حيوية لا يغير شيئًا من طبعها كتسمية بعض ظواهر القوى المعروفة في الطبيعة كيماوية، وعندنا أنها الجاذبية باعتبار الجاذبية أعم القوى، وباعتبار الحياة في أبسط ما تكون عليه.

هذا وإن الحياة مسألة من ضمنها مسائل لا يفي فيها النظر الإجمالي؛ لأنها تحتمل شرحًا طويلًا يضيق عنه ما خصص لمثلها في الجريدة، فربما ذكر الواحد شيئًا وفاتته أشياء، فلا بد فيها من التفصيل والتبويب على الترتيب الذي يقتضيه الموضوع للوصول إلى إجماع معلوم، غير الإجماع على الإقرار بالقصور المشكور الذي هو أعم من أن يختص بالحياة، بحيث نتكلم أولًا في الأنواع: أجرثومية هي أم تحولية؟ وفي الحياة: أقوة هي أم غير قوة؟ وفي القوة: أملازمة للمادة أم غير ملازمة؟ وفي المادة: أأزلية هي أم فانية؟ وفي الحياة كقوة ملازمة للمادة: أيصح أن تكون الجاذبية أم لا؟

فربما لم يكن بيننا خلاف في الواقع أو كان، ولكن لم يكن جوهريًّا، ونحن نتوهمه كذلك، إلا أن البحث هكذا ربما يطول، وأخاف أن يملنا القراء فنسأل لهم صبرًا جميلًا، ولنا عفوًا كريمًا، ولكن ربما كان يطول أكثر بغير ذلك، وأنا متيقن بأن جناب الخصم في المباحثة، والصديق في المودة، يُسرُّ بذلك لما يعهد فيه من الذكاء، فموعدنا إذن إلى العدد الآتي. والسلام.

١  نشر في مقتطف السنة السادسة سنة ١٨٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤