خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم

تربي المعاشر أبناءهم
ويشقى الأنام بما ربتوا
وما الناس إلا نبات الزما
ن فليحصد القوم ما نبتوا
أبو العلاء المعري
إذا كنت قد عملت بالوصية، كما في صدر هذا الكتاب، وطالعته بكل تَمَعُّنٍ، وكنت مع ذلك قد تمكنت من التغلب على مؤثرات تربيتك السابقة لضبط نفسك عن الاندفاع مع عوامل الهوى،١ غير مداجٍ أو متوارٍ، رغبة أو رهبة، أو مصادٍ بدعوى الحكمة،٢ مستقلًا في أحكامك،٣ غير مستهوًى بكثرة تغالبك،٤ أو منقادٍ لقول ليس من صميم العلم،٥ ولو أن قائله عالم عظيم،٦ فالعلم مباح لك كما هو مباح لسواك،٧ منقادًا في تساؤلك٨ لأحكام العقل لا لرغائب القلب،٩ وفي علمك لاختبارات الطبع لا لأحكام الوضع،١٠ ناظرًا إلى الحقيقة عارية عن كل ملابسة،١١ فلا يسعك إلا الاعتراف معي مضطرًا بما يأتي:
  • أولًا: أن علوم الأقدمين علوم نظر١٢ أكثر منها علوم عمل، أو فلسفتهم عقلية١٣ أكثر مما هي محسوسة، مجردة أكثر مما هي مادية، متحكمة مفارقة أكثر منها لازمة ملازمة، موضوعة أكثر منها مطبوعة، روحانية أكثر منها جسمانية، كلامية١٤ أكثر منها اختبارية، متمنيات مرغوبة أكثر مما هي حقائق مقررة.
  • ثانيًا: أن علوم الأقدمين وفلسفتهم انتقلت إلينا وبقيت زمانًا طويلًا كل علومنا وفلسفتنا، ولا تزال حتى اليوم روح فلسفتنا وعلومنا العقلية والأدبية والدينية.
  • ثالثًا: أن حالة الإنسان الاجتماعية ونظاماته وشرائعه وقوانينه، حتى استعداد عقله، وأميال نفسه، وغرضه في أبحاثه مستفادة كلها في كل أطواره في التاريخ من علومه ونظره الفلسفي في الكون.
  • رابعًا: لا يُنْكَر أن العلوم الاختبارية المادية الطبيعية قد ارتقت اليوم جدًّا عما كانت في الماضي، ولا يُنْكَر أن علوم الكلام قد انحطت اليوم، وقل الميل جدًّا إلى مباحثها، وتغير كذلك ما ترتب عليها من النظريات الاجتماعية والأدبية والدينية، ولا يُنْكَر أيضًا أن حالة الإنسان الاجتماعية في الماضي كانت أتعس جدًّا منها اليوم.
  • خامسًا: إذا قابلنا بين الشعوب والأمم والحكومات اليوم في أقطار المسكونة كافة نجد بينها تفاوتًا عظيمًا جدًّا بالنظر إلى كل ذلك، ونجد أيضًا أنه حيثما كانت علوم الكلام والنظريات المترتبة عليها منتشرة أكثر كانت العلوم الطبيعية منحطة، وكان الإنسان منحطًّا متقهقرًا، وحالته الاجتماعية سيئة كذلك، والضد بالضد.
وللحكم في هذه القضايا لا نصعد إلى العصور الأولى للإنسان الأول، لننظر إليه من خلال آثاره١٥ المبعثرة في طبقات الأرض كشهب متناثرة ذات لمعان ضئيل يحيط بها ضباب كثيف، ولا ننزل إلى أعماق التاريخ غير المدون الضائع في ليل من الغموض دامس،١٦ حتى ولا التاريخ المدون الذي حاكته قرائح القوم الشعرية في العصور الميثولوجية١٧ أم نسجته أميالهم الوحشية في العصور الحماسية،١٨ بل ننظر إلى ذلك من عهد التمدن اليوناني القديم١٩ الذي بنينا عليه تمدننا الحديث، بل من عهد الأديان المعتقد أنها موحاة في نظر الأمم التي تأتمر بها في أكثر المسكونة،٢٠ فالأقدمون كانت أكثر علومهم من موضوعات العقل الاجتهادية أكثر مما هي من معلومات الطبع التقريرية، وإنما كثرت عندهم هذه العلوم لأن قلة اختبارهم في أول الأمر لم تمكنهم في تعرُّف الأشياء التي حولهم والتي فيهم، من الوقوف على النسبة الحقيقية فيها، التي تربط الأسباب بالمسببات؛ لاختفائها أحيانًا كثيرة في سلسلة من المتلازمات طويلة، فتبدو لهم كأنها متفاكة منفصلة حيث هي مترابطة متصلة،٢١ فغلب فيهم حيال هذا الجهل القول بالأسباب الغريبة المفارقة المتحكمة، التي لا تفع في أفعالها تحت ضابط،٢٢ ونظروا إلى الطبيعة كلها من خلال ذلك، وجدُّوا في تعرف هذه الأسباب الغريبة وانتقلوا فيها من تجريد إلى تجريد حتى المبدأ،٢٣ وهكذا وضعوا علومهم الفلسفية ونظرياتهم في الكون والاجتماع على مراقبة ناقصة، وما بُني على الناقص فهو ناقص ضرورة.
وقلَّ من شذ منهم عن ذلك، ولو أنَّ به ميلًا إلى المحسوس أو حدسًا بأن الإضافة ليست إلا في الأحكام المستفادة منه؛ لقلة المستندات الاختبارية التي كانت له لدفع الوهم، فيضطر هو نفسه أيضًا إلى التعويل على علوم الكلام نفسها، فيدفع المثل بالمثل، مما كان يجعل كلامه مضطربًا لا يفرق كثيرًا عن كلام مخالفيه في الغرابة والإبهام؛٢٤ لأن جميع الفلاسفة في القديم نظروا في مباحثهم في الكون إلى السبب والغاية المجردتين لا إلى تعرف الكائن المحسوس، فلم يدركوهما، وانصرفوا بهما عن الواقع.

•••

فلهذه الأسباب استتبت الغلبة في علوم الأقدمين للنظر المجرد على النظر المقيد، وللفلسفة الروحانية على الفلسفة المادية، ولعلوم الكلام على علوم الاختبار، واعتُبِرَتْ — نظرًا إلى موضوعها٢٥ ووعورتها — من العلوم العالية٢٦ التي استغرقت فيها العقول الراقية، واستنفدت فيها قواها، وصرفتها عن سواها، وباتت إلى عهد قريب روح العلوم الاختبارية نفسها أيضًا.٢٧
وهذه الفلسفة وعلومها هي التي انتقلت إلينا بكتب أرسطوطاليس،٢٨ حتى غلب عليها اسم الفلسفة الأرسطوطاليسية، فبنينا عليها علومنا العقلية والأدبية والدينية، وسائر نظاماتنا الاجتماعية، ونظرياتها رسخت فينا حتى مازجت عندنا كل شيء، ولا يزال مفعولها يعمل في عقلنا حتى اليوم.

وإذا تحرينا العلوم الموضوعة وغاياتها المقصودة من عهد أرسطو إلى اليوم، ونظرنا إلى مباحث الذين اشتهروا بعده من العلماء والفلاسفة ظهرت لنا هذه الحقيقة بأجلي بيان، بل ذكر أسماء هذه العلوم يغني عن بيان حقيقتها، ويدلنا دلالة كافية على أنها من موضوعات العقل المنصرف إلى المباحث التجريدية، لا من معلومات الطبع المستفادة من البحث في المحسوس؛ كالعلم الإلهي، وعلم النفس، والعلم الطبيعي نفسه الذي هو مرادف العلم الإلهي عندهم في المعنى، والعلوم العقلية، والعلوم الآلية، وهي كالعلوم العقلية في التجرد، وتحت كل علم من هذه العلوم الأصلية علوم فرعية كثيرة جدًّا؛ كعلم المنطق، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، والفقه الأكبر حتى الأصغر، والعلم اللدني، وسائر علوم الأدب: كالبيان والبديع والمعاني إلخ.

•••

وقد زاد شأن هذه العلوم استقلالًا بعد اليونان؛ حيث كانت الإحاطة بها مقرونة بالإحاطة بسائر فروع العلوم الاختبارية أيضًا، وزادت تجردًا كذلك، وزادت فروعها، وتَسَفَّلتْ أيضًا إلى المباحث السخافية المبتذلة، وشيدت لها المعاهد الخاصة،٢٩ حيث صارت كل هذه العلوم النظرية الكلامية الاعتقادية — الشاغلة للعقل على كثرة مشاغله، والمُضَيِّعة للوقت على قِصَرِهِ، والصارفة للفكر عن الاهتمام بالمحسوس المفيد، والتي لا تشيد كوخًا، ولا تقلي بيضة٣٠ وحدها بضاعة العالم والفيلسوف والإمام، فيلبس الجبة، ويطيل الأودان، ويقرن القلنسوة، ويُكوِّر العمامة، ويتهادى في مشيته اختيالًا كأنه اكتشفت سر الخلود، وما اكتشف حقيقة سوى سر الخبط والخلط، حتى إذا حاك قصة أراك الحبة قبة، أو أراد التعليل عن قضية نظرية كلامية أمكنه أن يروغ ما شاء؛ إذ هو غير مقيد في برهانه المتقلقل تَقيُّد الرياضي والميكانيكي في برهانهما المحكم.
وإذا ألقيت نظرة إجمالية على المؤلفات الكثيرة التي تعد بمئات مئات الألوف في هذه الموضوعات المختلفة الفلسفية العقلية الأدبية، وما صرف فيها من القوى الراقية ضياعًا، وما رسخ بسببها في العقل والطبائع من الميل إلى المباحث الفارغة، والانصراف بها عن العلوم النافعة، وما أحدثته في الأمور الاجتماعية من التضليل والتغرير، فلا أعلم إذا كان يجوز لك أن تكون مُمْتنًّا كثيرًا لأرسطو الذي أورثنا هذه الفلسفة، ولابن سينا الذي نقلها إلينا بعده.٣١

بل اقرأ فصلًا من تهافت الفلاسفة للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد، وقل لي: ماذا تفهم؟ بل ألفت نظرك إلى المباحث العقيمة الجدلية المقامة على القضايا المنطقية، وقل لي: إنْ كان يجوز أن يصدر كل ذلك عن عقول سليمة.

بل حاول إن استطعت قراءة المجلدات الضخمة في مسائل سخافية استحالية وتحليلية وتحريمية، وقل لي: إذا كان ذلك يفرق كثيرًا عن الهذيان!

بل انظر إلى هذا السبيل الجارف الذي طما اليوم حتى كاد يبتلع فيه كل قوى الإنسان، ولا سيما أنَّ الاعتقاد فيه لا يزال راسخًا في العقول أنه من منتجات العقل الراقية، ولم يتطرق إليه الريب بعد كما تطرق إلى العلوم الفلسفية والعقلية والدينية نفسها، أريد به سيل كتب الأدب الرائجة سوقها اليوم جدًّا، وهي عبارة عن أقاصيص موضوعة خيالية ارتقت مع الإنسان من حكايات ألف ليلة وليلة الطافحة بكل غريب٣٢ إلى الأقاصيص المتناهية اليوم بالتأنق في السبك، والدقة في الوصف، والرقة في الخيال مع بعدها في كلا الحالين عن الحقيقة، ثم انظر إلى سلطانها على العقول حتى الراقية، وقل لي: ما هي منفعتها العلمية بل الأدبية نفسها؟ أليست في جملتها تبذيرًا لقوى الاجتماع وتضليلًا للعقل في آن واحد؟
وينقلب ترددك في القضاء على هذه الفلسفة، وكل ما بني عليها من التعاليم الموضوعة إلى السخط إذا علمت أنها كانت السبب لوقوف الإنسان عن التقدم في علومه الصحيحة٣٣ قرونًا عديدة، ولا يزال أثرها فينا شديدًا حتى اليوم، وطيفها لا يزال حالًّا حتى على علومنا الطبيعية نفسها، سواء كان في تأييدها٣٤ أو في أسلوب بسطها، ولا نزال حتى اليوم نُصَعِّب فهمها بإدخالنا عليها كل تعقيد لفظي٣٥ ووصفي، مما لنا من ذلك التراث القديم، كأن الحقيقة إذا وصفت بسيطة تضحى مبتذلة.
وناهيك بما في هذا الالتزام في البحث، دون الالتجاء إلى العمل والاختبار من تعويد العقل وتربيته على حب الإغراب، ولا شيء أسهل عليه حينئذٍ من ركوب متن السفسطات المنطقية، حتى في العلوم المادية نفسها، ألا ترى العلماء أنفسهم وأصحاب العقول الراقية في المسكونة قاطبة كيف أنهم يميلون حتى اليوم إلى مباحث فارغة، ويصرفون أثمن أوقاتهم في التنقيب عن هذه الآثار الأدبية القديمة،٣٦ ويعيرونها من الالتفات ما لو صرفوا بعضه في العلوم الصحيحة،٣٧ والاشتغال بما أمامهم؛ لأفادوا الاجتماع فوائد لا تُحْصى، ووقوهما من زيادة التضليل.

ولم يقتصر ضرر هذه الفلسفة المجردة على العلوم الصحيحة والطبيعية، بل تناول كل شيء حتى الأديان نفسها.

خذ مثالًا شريعة القرآن، فإنها بين الشرائع الدينيةِ الشريعةُ الوحيدة الاجتماعية العملية المستوفاة٣٨ التي ترمي إلى أغراض دنيوية حقيقية، بمعنى أنها لم تقتصر على الأصول الكلية الشائعة بين جميع الشرائع، بل اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالأحكام الجزئية، فوضعت أحكام المعاملات، حتى فروض العبادات أيضًا، وهي من هذه الجهة شريعة عملية مادية، حتى إن الجنة نفسها لم تخرج فيها من هذا الحكم من أشجار وأثمار وأنهار إلى آخر ما هنالك.
وطالما جرى اتباعها عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم بالقياس إلى حالة البشر في تلك العصور؛ لأن كل شيء نسبي في هذا الوجود، حتى دخلت عليهم علوم اليونان الفلسفية ومباحثها المجردة، فمالوا بها إلى العلوم الكلامية، وأطلقوها على الدين، ووضعوا الفقه الأكبر؛ فكثرت البدع بينهم، وشرُّها في تمكين هذا النوع من النظر الصوفي، فانصرفوا بذلك عن غاية الدين العملية المادية إلى المرامي المجردة، والمنازع النظرية، وسائر علوم الجدل الأدبية المقامة عليها، حتى إلى ما لا علاقة له بالدين مطلقًا.٣٩
وحل ذلك حتى على شعرهم نفسه؛ فانقلب من خطته الوصفية التقريرية، كما كان الغالب فيه في الجاهلية إلى هذه الصورة الخيالية الواهية، وتبذلوا فيه بأن صار أكثره لسان حال تهتكهم في غزلهم، ومرمى ذل نفوسهم في تزلفهم، وإغراقهم في اختلاقهم مدحًا أو ذمًا فتقهقروا، وما زالوا متقهقرين حتى اليوم. ولو بقيت وجهتهم في مجتمعهم شريعة القرآن وحدها كما هي فيه، لما قام في وجههم حائل يصدهم عن الارتقاء، إلا ما يقوم من كل شريعة اجتماعية جمدت على الأيام،٤٠ غير أن الشارع الحكيم نفسه وضع لهم مخرجًا من ذلك الجمود بآيات النسخ نفسها التي آتاها في قرآنه في حياته لعلهم يتدبرون.٤١

وقد كان لروح هذه الفلسفة أسوأ وقع في أحوال الإنسان الاجتماعية أيضًا، ولا أكلفك الوقوف في الماضي البعيد، بل انظر إلى الماضي القريب، فقد كانت أوروبا — حتى إلى عهد قريب «١٥٠ سنة» — مِلكَ الأُمراء يَحكمونها بحق السيادة المطلقة، ويستولون عليها كما يستولي المالك على ملكه، ويضمونها أو يقتسمونها بالميراث أو بالزواج، وكانت السلطة تسري من فوق إلى تحت، من الأمير الذي كان كل شيء إلى الشعب، الذي لم يكن شيئًا مذكورًا، فلم يكن له أدنى صوت، ولم يكن شأنه في التاريخ إلا شأن المتاع يُباعُ ويُشْرَى، ولم يكن له حق في اشتراع الشرائع التي تحكمه، أو سن النظامات والقوانين التي تسوسه، وبالجملة لم يكن له وجود أدبي مطلقًا، ومع ذلك فقد كانت تلك المبادئ الفلسفية والعلوم الكلامية، ولا سيما الدين القائم عليها، في زهوتها وإبَّان مجدها.

بل انظر إلى الحاضر اليوم لترى كيف أن أثر كل ذلك في شرائعنا ونظاماتنا وحكوماتنا، وسائر معاملاتنا، وغايتنا في حياتنا لا يزال يتنازعنا في مجتمعنا، ويصرفنا عن تعاوننا، ويدفعنا إلى تمزيق بعضنا بعضًا، وكيف أن الحكومات لا تزال تؤيد التعاليم المبنية عليها بالقوة والمظاهرات، فتقيم لها المعاهد الخاصة٤٢ لتطمس بها على الشعب؛ لحفظ السيادة العمياء عليه،٤٣ بل انظر إلى هذا الشعب الجاهل نفسه كيف أنه ينتصر بها لسواه على نفسه، فإن حاولت أن تخرجه من جهله قام عليك كأنك امتهنته كما في هذا القول:
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
انظر إلى كل ذلك لا في الشرق السخيف بأممه وحكوماته وملوكه؛ حيث غاية كل هذه العلوم تفوق كل غاية في مجتمعه،٤٤ بل انظر إليه في أرقى الممالك اليوم على ما هي عليه من الفرق الجسيم عما كانت عليه في الماضي عزة ومنعة، فمع معرفتها أن ارتقاءها إنما كان بهجرها كثيرًا من ترهات الماضي فهي لا تتنازل عن الباقي برضاها،٤٥ بل انظر إلى الجنايات الكثيرة التي تُرتَكَبُ كل يوم بحق الجموع والأفراد تحت طي هذه المبادئ القائمة عليها مرامي الأديان٤٦ والأوطان،٤٧ كما هو شائع بين الناس حتى الآن، ولا تستغرب بعد ذلك إذا كان المجتمع لا يصلح صلاحًا تامًّا بها.٤٨

•••

وإذا نظرنا إلى الاجتماع نظرًا عمليًّا من حيث ذلك كله لزمنا القول: إن الشرقي فيه اليوم على نوع خاص فَضْلة لا عُمْدة، وهو في علومه حتى اليوم حالم، أي إن علمه نظر أكثر منه عمل، والمدارس التي تعلمه العلوم الحديثة لا تخرج في تعليمها عن هذا الحد، فهو في الاجتماع شريك سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل لها، بل هو يقتسمها مرغمًا في ورودها إليه من الخارج، ويقوم في سبيلها معارضًا من الداخل، وإذا استثنينا اليابان نوعًا نقول: إن هذا الحكم يشمل اليوم أهل الشرق الأقصى والأدنى وسواهم ممن شاركهم في جمودهم من الأمم التي لا شأن لها اليوم في العلم العملي الراقي، ولو أطلقنا عليهم شريعة «شو»،٤٩ وهي كشريعة النحل في الإبقاء على النافع وقتل غير النافع،٥٠ لوجب أن يهلكوا عن آخرهم، بل لوجب أن يُباد أكثر البشر في المعمورة كلها باعتبار هذا النافع منطبقًا على مرامي أرقى فكر اليوم؛ لأن القسم العامل لصلاح المجتمع حتى في البلاد الراقية ليس إلا دون الطفيف، لولا أن هذه النظرية من حظ الاجتماع غير ممكنة؛ لأن الاجتماع مدفوع إلى الصلاح بطرق عملية أصح ليس فيها شيء من هذا التبذير. ولو أمكن العمل بهذه الشريعة لما درينا أين يكون مقام «شو» وأمثاله في هذا التنازع العنيد؛ لأن الأقوى ليس الأصلح دائمًا، ولا هو واحد في كل حال.٥١
و«شو» يزعم، وزعمه فاسد، أنه يستند إلى مذهب دارون في بقاء الأنسب، لا بالانتخاب الطبيعي فقط، بل بالانتخاب الصناعي أيضًا، ومن رأيه أن هذا الانتخاب الأخير المعقول يجب أن يكون غرض الاجتماع البشري العاقل إلى أن يبلغ الغاية من ارتقائه بخلق الإنسان الأسمى أو «السبرمان»، كما يسميه بلغة الإنكليز،٥٢ وشو متفق في ذلك مع الفيلسوفين الألمانيين «شوبنهور» و«نتشه»، في أن شريعة الاجتماع كشريعة الطبيعة نفسها، لا يجب أن تعرف شفقة ولا رحمة، فتقتل العاطل أو تمنع تناسله، ولا تُبقي إلا على الأنسب.٥٣
ولكن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الحالمين — القانطين كما أُسمِّيهم — لم يقولوا لنا: متى يجب العمل بشريعتهم اليوم أو غدًا؟ وهل كان يجب العمل بها منذ البدء؟ لأن الإنسان ليس واحدًا في طبيعة هذا التفوق، ولا في علمه هو نفسه لتقديره، ولو صح العمل بها في كل العصور عن إرادة ومقدرة لغلب على الاجتماع منذ البدء التقهقر حتى يعود ويندمج ثانية في الحيوان الأعجم، ولبقي في صورة همجية هائلة لا عقل له ولا علم، كأنه الوحش الأكبر؛٥٤ لأن الإنسان إنما ابتدأ متوحشًا جاهلًا، وتفوقه حينئذٍ إنما كان بقوته البدنية وكثرته، بل ماذا كانت حالة الاجتماع لو عمل بها بعد ذلك أيضًا، كما في عصور الحماسة في أوروبا يوم كانت صناعة الحرب أرقى الصناعات في نظر الناس، وصناعة الكتابة أحقرها، يوم كان الأمير لا يفخر إلا بالسيف، ويهزأ بالقلم، ويحتقر العلم؟ لو عمل بها حينئذٍ لعمل بناءً على أن ذلك هو الأنسب، والأقوى كذلك، ولما كان قدر أن يعلم شيئًا، أو يعمل شيئًا مما نعتبره الأصلح اليوم.
على أن النظرية وإن كان يستند بها إلى مذهب دارون كليًّا، إلا أنها ناقصة في جزئياتها لاختلاف العوامل الداخلة فيه، مما يحصل الارتقاء فيه نتيجة عمياء، سواء كان ذلك في الطبيعة الصامتة، أو في الاجتماع العاقل، ولولا ذلك لما ارتقى الاجتماع، وعمل الارتقاء وإن كان الدافع فيه «الأنانية»، إلا أنها هي نفسها خاضعة لناموس التكافؤ والتكافل،٥٥ الذي بموجبه يتم الارتقاء قسرًا، ولو بعد التذبذب الطويل، باعتبار أنه الأنسب والأصلح لمصلحة المجموع، لا لفئة من هذا المجموع، والاجتماع نفسه العاقل لا يستطيع التصرف بهذا النظام إلا في حدود معلومة مهما تعاظم شأنه، وقويت إرادته، إلى أن يصبح فيه ذلك بالعلم الكثير في حكم المطرد اضطرارًا أيضًا لا عن إرادة غالبة.

وهذا يجعل نظرية أمثال هؤلاء الفلاسفة حلمًا قاسيًا لا حقيقة عملية، ويا ليته مع ذلك حُلْمٌ لمصلحة الاجتماع، ولكنه حُلْمٌ لو صح لسار به القهقري، حتى وهو في أرقى حالاته؛ لأن ارتقاء الإنسان ليس له حد، كما أن علمه ليس له حد أيضًا حتى يقف عنده، ويقصر ارتقاءه وعلمه عليه دون الأخذ بسواه.

ولا يبقى عندك أدنى ريب في كل ما تقدَّم إذا علمت أن أوروبا نفسها لم تبتدئ تصطلح إلا منذ القرن الثامن عشر، حين بزغت شمس العلوم الطبيعية ضئيلة في أول الأمر، وأخذ ضياؤها ينتشر بين الناس، ويبدد غيوم تلك العلوم المظلمة، فتنبهت الأمم حينئذٍ، وأخذت تتغير في نوع أحكامها، تارة بالثورات، وتارة بالنشوء التحولي، تارة بالحروب وتارة بالسِّلم، ولكن الاجتماع لم يَخْط الخطوة الصائبة في سبيل ارتقائه الحقيقي حتى صار ارتقاؤه أسلم، إلا مِن بَعدِ ما تأيَّد مذهب التحول الطبيعي،٥٦ وركَّز على قواعد ثابتة، وتحولت به قوى العقل من التخبط في دياجير الخيال إلى الدرس الاختباري، فارتقت حينئذٍ العلوم الطبيعية ارتقاءً عظيمًا كاد يربط أطراف العالم بعضها ببعض، وسوف تجعله وطنًا واحدًا،٥٧ فغلبت حينئذٍ قوى التحول الارتقائي٥٨ في الاجتماع غلبة ظاهرة على قوى الاحتفاظ التقهقري، وصار كل عمل اليوم في قُطْرٍ يرن صداه في الأقطار الأخرى بالانصياع لا بالمقاومة.٥٩

•••

وقد قل الميل إلى تلك المباحث العقيمة عن ذي قبل، وقل الاعتناء بالعلوم العقلية والفلسفية في المدارس الراقية،٦٠ مجردة كانت أم مادية، وإذا كان العلماء الطبيعيون في القرن الماضي لجئوا إلى الفلسفة أحيانًا لرَدِّ غارات مقاوميهم، فإنما فعلوا ذلك اضطرارًا لدَفْعِ المثل بالمثل مع انصياعهم في برهانهم إلى الدليل الحسي الراهن، وإذا كان لعلوم النظر شأن كبير في العلوم الطبيعية نفسها حتى اليوم؛ فلأن العلوم الطبيعية نفسها لا تزال في أولها، ولم تنتشر الانتشار الكافي بعد؛ ولأن مجرى الأفكار أيضًا لا يزال متأثرًا جدًّا بتلك المبادئ النظرية العريقة فيها منذ القدم،٦١ ولكنه سيأتي يوم — وما هو في تاريخ الاجتماع ببعيد — تسقط فيه قيمة هذه المباحث الكلامية الفلسفية، بل يُنظر إلى أصحابها كأنهم صبية يلعبون، أو مصدعون يهذون؛ إذ يصبح العلم كله علم اختبار، ويتمرن العقل عليه بالمزاولة، ولا يعود يستعذب سواه، فيقل النظر ويكثر العمل، ويقوم البرهان الرياضي والميكانيكي مقام البرهان العقلي والقياس المنطقي، ولا يعود يصدق إلا بمعجزات العلم وحده، وينتفي من العالم كل ما ليس من العلم على حد ما في هذا القول:
لو كان ربُّكم كمركوني٦٢ لما
ضقتم وضاقت بالغريق نجاةُ٦٣
رصد السفينة ثم نجَّى قومها
في حين لم تفدِ النجاة صلاةُ
علمٌ عجائب هديه مشهودة
لا علم غيب تدعيه هُداةُ
هذا الصحيح وليس ما أوحى به
سيناء أو طابور أو عرفات
وهكذا إلى أن تزول سائر العقبات التي أقامتها تلك العلوم الكلامية الفلسفية في سبيل ارتقاء الإنسان في اجتماعه، والتي أشدها هولًا الحاسة الدينية٦٤ والحاسة الوطنية،٦٥ على أن هاتين الحاستين آخذتان — اليوم — في الضعف، ولو مهما تَقَوَّلَ فيهما المتقولون، وترقق فيهما المترققون، والفضل في ذلك للعلوم الطبيعية من جهة الاختراعات الصناعية التي تربط العالم بعضه ببعض، ولعلم درس الأحياء من جهة معرفة نسبة الكائنات بعضها إلى بعض، ونسبة أفعالها إلى الطبيعة، وستزولان تمامًا كلما ارتقت هذه العلوم وانتشرت بين الناس، أو أنهما لا تبقيان بسطوتهما — كما هو اليوم — فتسقط حواجز الأديان،٦٦ وتُمْحى حدود الأوطان، وهكذا يصير الإنسان إنسانًا حقيقيًّا، ويكون الإنسان اليوم الحلقة الواصلة بين الإنسان الحقيقي والحيوان.

•••

والعقبة التي يقدَّر لها عمر أطول من سواها هي عقبة التفاهم؛ أي اللغة، ولكن العلوم الطبيعية نفسها بجعلها العالم كأنه مدينة واحدة، بتقريبه المسافات بينه، ستجعل التنازع شديدًا جدًّا بين اللغات٦٧ حتى يُقضى على الكثير منها، الذي لم تكن له في هذه العلوم شأن يذكر،٦٨ وكأن البقاء اليوم غير مقدور إلا للغات ثلاث، سيقتصر التنازع عليه في المستقبل بينها، وهي: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وكان الراجح حتى الربع الأول من القرن الماضي أنْ يكون الفوز للفرنساوية؛ لأنها أسبق اللغات، وأُمَّتها أسبق الأمم إلى المبادئ الاجتماعية الراقية، لولا أنه سطا عليها بعد ثورتها الشهيرة عاملان قويان، كانا كالغل في عنقها، والقَيد في رِجلها، وهما: تيار كتب الأدب المجونية الخيالية التي بلغت صناعتها بينهم مبلغًا برزوا فيه على سائر الأمم، واستغرقت فيها أعظم العقول الراقية، وهوَّست بها الآخرين،٦٩ وتيار علم آخر هو: علم الحقوق،٧٠ الذي أورثه نبوليون لأمته وللعالم أيضًا، بعد أنْ كبح ثورتها، وردها عن غايتها النبيلة، وحوَّلها إلى مطامعه الخاصة، وصرفها إلى ما صارت إليه في زمانه وبعده. فهذان العاملان الصارفان للأفكار الراقية عن الاشتغال بالعلوم الصحيحة، سيكون ضررهما على العالم أجمع، وعلى فرنسا خاصة، أشد من ضرر النظريات الدينية، التي ما كادت تتخلص من شراكها في ثورتها الأولى، حتى وقعت من ذلك في شراك أخرى أشد وأدهى،٧١ على أنَّ كل ذلك اليوم عقبات صغيرة في سبيل ارتقاء الإنسان الكلي٧٢ في العمران؛ لسرعة ارتقاء العلوم الطبيعية وسهولة انتشارها.

•••

وأنا أسمع من هنا غمغمة، وأرى أناسًا يقومون ويقعدون، وخاصة وعامة يهزءون أو يسخطون، وربما قام منهم متحمسون تُحدِّثهم نفوسهم لو أنهم لا يصبرون، وكلهم يقولون: كيف تريد أنْ تعيضنا بعلمك المقيد، وفلسفتك المحدودة عن ذلك العلم المطلق، وتلك الفلسفة التي لا تقف في سبيلها عند حد، بل تخرق حجب المادة، وتتطلع إلى ما وراء المنظور؟ بل كيف تريد أن تصرفنا بماديتك الأرضية وتصوراتك الترابية — ولو أنها حقائق — عن تلك المصابِّ العالية، والأفكار السامية، التي يناجي الإنسان بها أمانيه، بل آماله، بل نفسه وربه؛ إذ يصعد بالخيال إلى سماء المآل، ويراها بذلك الجمال في فراديس الآمال — ولو أن ذلك تنقُّل في بروج الأوهام، وتطلُّع إلى صروح المحال — وهل يجد العقل فيها تلك اللذة التي يجدها في هذه؟ أم هل يجد وجدانه٧٣ فيها تلك الراحة التي يرتاح إليها؟ وأين عظمة كتب العلماء من عظمة كتب الأنبياء؟ بل أين جمال مصنوعات تلك المشهودة من جمال موضوعات هذه الموعودة؟ بل أين مقدرة علوم أولئك المقيدة من مقدرة مواهب هؤلاء المطلقة: من غرائب عجائب العصور الميثولوجية، وما تخلف لنا عنها من مأثورات التجلي الموعود بين البروق والرعود، فنزول اللوح المسطور على ذلك الطور بين النار والنور، فذلك الوجود والصعود المخالفين لطبيعة الوجود، إلى ما سال من العجائب على لعاب العناكب؟! أم هل تقاس كتب القصاصين الطبيعيين اليوم، أم أي مؤلف آخر يؤلفه أي عالم في الهواء والماء والتراب لتقرير ما فيها من الحقائق، أو في المحراث والمعول والعمل؛ لبيان ما فيها من المنافع بكتب أساطين الأدب، ولا سيما القصاصين الفرنسويين، الذين أحرزوا قصب السبق اليوم في ميدان «الرومان»، حتى بلغ منهم التأنق في السبك، والدقة في الوصف، والرقة في التصور، أنهم وصفوا الخيال بارق من الخيال؟!

بل أين أشعار المعري التقريرية التي تكاد تنقصم صلابةً من أشعار الفارض الخيالية التي تكاد تذوب رقة؟ بل أين وقعها في النفس من أشعار شكسبير الموضوعة، وما يتخللها من الخيال الرائع، الذي يستفز الطبع، ويستهوي العقل؟ بل أين جمود قولك هذا:

لازم الموت في الوجود حياة
لازمت في وجودها الموت قسرا
حاول الناس منعه وبمنع الموت
منع الحياة في الكون طرَّا

من لِينِ قولك هذا:

وحكيم من يزدري بحياةٍ
كل يوم تزداد بالطول قصرا؟

بل أين فتور كل ذلك من حرارة هذا القول الحماسي:

إذا استل منا سيد غرب سيفه
تفزَّعت الأفلاك والتفت الدهر؟

بل أين جفاف مثل قولك هذا العلمي:

وما الحب من أدنى فأعلى إلى الرجا
فما فوق إلا الشوق في كبد السُّهَى
ترقى بنا حتى النهى وهو دونها
كما في نيوب الليث أو في حشى الثرى

من طلاوة مثل هذا القول الخيالي:

وهززته بقصيدة لو أنها
تليت على الصخر الأصم لأغدقا؟

بل اسأل أي فتى متعلم، أو أية فتاة متعلمة أنْ تقرأ فصلًا في مخترعات الكهرباء قبل أن تقرأ رواية من سقط الوضع، بل اسأل عالمًا اليوم أنْ يقرأ مقالًا في تحولات المادة قبل أن يقرأ كتابًا في مناجاة الأرواح؛ فأنك لا تفلح، ولماذا؟

لأن لتكيفات الطبع والعقل الشأن الأول في إعداد ما فيها من القابليات، وأثر الخيال في هذه القابليات أعرق في القدم من أثر الحقائق، فالإنسان لم يعرف الحقائق في أول الأمر، وما عرف إلا الأوهام، فانطبع فيها، وتكيف لها، وشاد بنيانه العقلي والأدبي عليها، ونسج كلامه على منوالها، فصارت نفسه لا ترتاح إلى مباحث الحقائق، ولا تلتذُّ بها كما تلتذُّ بموضوعات الخيال؛ لأن اللذة والراحة إنما هما المطابقة بين فعل الفاعل وقابلية القابل، حتى إن لغته نفسها تضيق بهذه المباحث، فليس لها فيها تلك السلاسة، ولا تلك السعة التي أحرزتها في المباحث الأدبية، وحتى إن عقله يتعب منها.

فالقول أن تصورات الأحلام يلزم الاستمساك بها لأنها تبدو لنا أجمل من تصورات الحقائق، وأنها أصح كذلك؛ لأن الوجدان يرتاح إليها، وأن ترويض العقل بمباحثها الكلامية التافهة أنفع لنا من تدريبه على البحث في المحسوس المفيد؛ لأنها أعذب له، وأسهل عليه، يقتضي منه أن يكون الخيال أصدق من الحس، وأن يكون كذلك الكذب على النفس أنفع من الصدق لها، وأن تكون الأوهام نفسها أنفع لنا من الحقائق، وأن يكون الاشتغال بالكلام الفارغ والمناقشات العقيمة أفضل من العمل،٧٤ وأن تكون إضاعة الوقت بتنميق المقالات الخلافية في مسائل جدلية؛ لترسيخ الميل في العقل إلى المباحث النظرية المجردة أفضل من الاشتغال باختراع آلة لجر الأثقال، وأن يكون الطيران بمناطيد الخيال في قبب الأحلام أنفع من الطيران بمناطيد الصناعة في فسيح هذا الفضاء، فكيف لا تسوء حال الإنسان الذي لا ترتاح نفسه إلا إلى ذلك في العمران؟ فلا الحياة مما يُزدرَى به، ولا الأفلاك تتفزَّع، ولا الدهر يلتفت، ولا الصخر يغدق، حتى ولا المروج نفسها تورق بمثل هذا الكلام، وما هو إلا زيادة تضليل للعقل، وتبذير في قوى الاجتماع على غير طائل، ولكن ذلك نشأ في الإنسان اضطرارًا على هذه الكيفية، وسيتحول عنه اضطرارًا أيضًا، وما التنبيه إليه إلا حثٌّ للإسراع في هذا السبيل.
فكما أنَّ ذلك نشأ في العقل والطبع بغلبة الغريب، والبحث في الماهيَّات والحقائق المجردة أولًا، فهو سينقلب ضرورة متى تمكَّن الضد فيهما بغلبة المحسوس، والبحث في الطبائع والكيفيات، وهو آخذ اليوم بالتحوُّل كلما أخذ نظر الإنسان المادي يتقرر فيه أكثر، وسوف يبدو له ذلك الجمال سخيفًا قبيحًا، وتصير الحقائق البسيطة التي لا صبر لنا اليوم على التبحر فيها، أو أننا نريدها مبهرجة،٧٥ مما يستحب إلينا جدًّا، وتجلب مطالعاتها لنا الراحة المطلوبة، واللذة المرغوبة، وتتحول لغاتنا٧٦ إليها، ويتغير منهجنا في بسطها من المركب المعقد إلى البسيط الصريح،٧٧ حينئذ يجد الإنسان في مطالعة كتب الحقائق لذة لا تدانيها اللذة التي يجدها اليوم في كتب الخيال الموضوعة، وموضوعات الأدب المصنوعة،٧٨ ويجد كذلك في الأرض التي صبا عنها، فأهملها فردوسًا موسويًّا٧٩ حقيقيًّا مشهودًا، فيهتم به ليجعله لنفسه كذلك، ويستعني به عن ذلك الفردوس الخيالي الضائع؛ إذ لا يعود يرى الحقيقة إلا في مثل هذا القول:
لا يصلح الإنسان مجتمعًا
ما دام فيه الدين والوطن
ولم يزل من علمه خطلٌ
يضيع فيه العقل والزمن
مُحلِّقًا في الغيب مختبلًا
كأنما الغيب له عَطَن
ويهمل الأرض وما كنزت
وإنما الأرض له سكن
وعلمه إن لم يكن عملًا
يرتاض فيه العقل والبدن
يستخرج الأسرار ما خفيت
وتصدق العين بها الأذن
وشرعه إن لم يكن شرعًا
وسنة الكون له سنن
يقتسم الأعمال مشتركًا
لا واسنٌ فيه ولا وسن٨٠
وليس فيه مرهِق نهمٌ
وليس فيه مرهَق يَهنُ
موطنه العالم أجمعه
ودينه السلام لا الفتن

•••

لكنما القوم الأُلى ظعنوا
لغيبهم هم الأُلى ضغنوا٨١
حبائل الدين لهم شركٌ
لصيد قوم دونهم غُبِنوا
إن لم يكونوا مركبًا لهم
أخنى على أيديهم الثَّفَنُ٨٢
ظلم عليهم منهم وبهم
من جهلهم في رأسهم رسن
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهَن

وما هو حلمٌ ما أقول، ولكنه الحقيقة لو أنك تنظر إلى الاجتماع في الدهور الطويلة، فتقابل ما كان بما هو كائن؛ لتعلم ما سيكون، والبعض القليل الذي حصل يدل دلالة كافية على الكل المنتظر. وما الأجيال والدهور في عمر الاجتماع بالشيء الكثير.

١  الإنسان ابن التربية، وهو فيها ابن هواجسه قبل أن يكون ابن علمه.
٢  فإن الجبن والكذب منشؤهما عن مثل هذا السبيل، وهما أصل كل الشرور.
٣  أنت تظن أنك تحكم لنفسك، والحقيقة أنك غالبًا تنطق عن أحكام سواك.
٤  العدد ليس دليل الإصابة، أو هو برهان القوة الوحشية دائمًا.
٥  كقول العالم الطبيعي أو ليفرلودج اليوم «بنفق» الأرواح، وهو يعبر في ذلك عن هوى في النفس لا عن مسوغ في العلم.
٦  فللعلماء أحلام كالعوام من أثر التربية، والعقل خزانة كثيرة الأدراج.
٧  عساك أن تتولد فيك الثقة بالنفس، فتنظر أنت وتحكم لنفسك، ولا يكون كل علمك قال فلان وفلان، والثقة بالنفس غير الاعتداد بها، فهي خمير عن رَوِيَّة، وهي فطير عن استسلام.
٨  الإنسان مهما كان لا يقف أمام الحوادث صامتًا مهما كانت، وذلك أظهر في الطفل الفطري حتى يقف على تعليل ولو مصطنع.
٩  للتعرف والاستجلاء بالاختبار لا لتحقيق ما بك من الرغائب لهوى في النفس:
إذا ما تَرامَى العقل يَجلو حقائقًا
شكا القلب أن الغبن في ذلك الجلا
وما الغبن إلا أن يرى القلب هائمًا
وتَخفَى على العقل الحقائق في الدُّنا
١٠  أي للعلوم التقريرية المستفادة من مراقبة الطبيعة؛ لتقف عند الحد الذي تفرضه لك لئلا إذا تخطيتها تنصرف عنها، فيعسر استجلاء الغامض منها، لا للعلوم الاجتهادية الموضوعة التي انصرفت إليها لما انصرفت عن البحث في الطبيعة نفسها.
١١  غير ناظر فيها إلا إلى كونها حقيقة، وأما ملابساتها فيسهل الانطباع فيها، والحقيقة وإن جرحتك أحيانًا — في اعتقادك — إلا أنها أنفع لك في كل حال في دنياك.
١٢  يراد بالنظر هنا ما اصطلحوا عليه وجاريناهم فيه فيما كتبنا، وهو علوم التجرد أو علوم الكلام على الإطلاق، وهو ما نقصده في هذا القول على نوع خاص، وإلا فالنظر بمعناه الحقيقي أعم من أن يختص بطائفة من العلوم، وهو لازم في كل علم، وله شأن عظيم في العلوم الصحيحة، مثال ذلك القول: بأن كل شيء في الطبيعة منها وبها وإليها نظر، ولكن دليله عياني محسوس، وإذا رأينا تفاحة سقطت من الشجرة إلى الأرض، فإذا قلنا: إنها سقطت بناموس الثقل، ثم قلنا: إن ذلك يدل على وجود ناموس في الطبيعة شامل للأجسام كافة يفعل على شرائط معينة، فهذا نظر أيضًا، ودليله العيان، ويسقط أو يتأيد بالامتحان، وأما إذا رأينا جسمًا تكون في الطبيعة من موادها وبقواها، وأخذ صورة معلومة ثم انحلَّ وذهبت صورته، وشاهدنا مواده بما فيها من القوى تفككت ورجعت إلى مصادرها العيانية، فإذا قلنا: إن عين هذا الشيء لم تفقد، وإن احتجبت عنا، وأنها انتقلت إلى مكان آخر غير منظور، ثم قلنا: إن غير المنظور هذا ليس في الطبيعة، بل فوقها أو تحتها أو أمامها أو وراءها، مما لا يُدرك ولا بالتصور، ولا دليل عليه سوى الوهم الذي نشأنا فيه، أو الخبر الذي يحتمل الكذب، أو التمني الذي يطابق الهوى، فهو نظر أيضًا، ولكن على عكس الأول نظر سلبي، أي مجرَّد بَحْت، ومن مباحث علوم الكلام فقط.
١٣  من معنى العقل الذي هو كالنفس عندهم جوهر مجرد. ولقد كانت هذه النفوس أو العقول مترادفات مبثوثة في الكون كالقوى، ولكل طائفة من العوالم والأعمال نفسها عقل أو نفس أو قوة تسير بها كما تشاء حين تشاء.
١٤  علوم الكلام تبحث في النظر العقلي المجرد، منقادة في ذلك إلى أحكام العقل وحده؛ للبحث في الحقائق والماهيات والجواهر، لا لأحكام الاختبار الذي ينظر إلى الكيفيات والطبائع، وذاك يقتضي تجردًا في النظر، وهذا تَبيُّنًا للعمل، على أن كل هذه التقسيمات ليست بالحصر طبيعية، بل اجتهادية، وإلا فالأحكام العقلية نفسها هي اختبارية كلها، وإنما هي في الأول اكتفاء باختبار ناقص، وتعويل على علم موهوم، وفي الثاني تقيد بالمعلوم من هذا الاختبار المتزايد كل يوم.
١٥  كما في علم الأحافير الذي يبحث في تسلسل الإنسان والحيوان في العصور الجيولوجية، والذي يُسْتَدَلُّ منه على أن الإنسان مضى عليه دهور طويلة، وهو أقرب إلى الحيوان منه إلى نفسه اليوم في تكوينه الطبيعي، ولا تزال قبائل منه حتى اليوم في أحوالها المعيشية ليست أرقى منه بكثير.
١٦  كما كان في حقبة طويلة من عهده المسمى بما قبل التاريخ، والمُسْتَدَل عليها بمصنوعاته القليلة الشأن؛ كالعصر الحجري أو العصر الصواني، الذي كان الإنسان يصنع فيه سلاحه وسائر آلاته في معايشه من الحجارة الصلبة.
١٧  حيث كان كل شيء في الطبيعة إلهًا أو مظهر إله، فكانت الآلهة عندهم كثيرة جدًّا تتحكم في نظام كل شيء، طبيعيًّا كان أو أدبيًّا، فتثير الرياح، وتهيج البحار، وتجلب الأمراض، وتقسم الحظوظ، وترمي البشر بسهام العشق، وتساكنهم في أرضهم، ولها معهم مواقع شهيرة مدونة في أشعارهم.
١٨  حيث كان كل الفخر في الغزو والقتل والحروب، كما تشهد بذلك أشعارهم، ولا يزال روح هذه المفاخرة في الأمم حتى اليوم، ولكن على قلَّةٍ، وكأن آخر عهد هذه الحروب الحماسية الحروب النبوليونية.
١٩  الذي هو لا شك أرقى تمدُّنٍ وصَلَنا عن الأقدمين اجتمع فيه العمل بالعرفان.
٢٠  الأديان الشائعة اليوم ليست الوحيدة التي قامت بين البشر، بل هي بقية راقية من معتقدات كثيرة كانت شائعة في القديم، ثم اندثرت، وكلها موحاة في نظر أتباعها، أو هي متحولة عنها لغاية اجتماعية أو سياسية.
٢١  مثال ذلك الزهري فهو غير مذكور في الطب القديم كمرض قائم بنفسه، وفي نظرنا أنه قديم جدًّا، وطبيعته النوعية تدل على أنه عريق في القدم، وهي وإن لم تجعله قديمًا كالسرطان والسل — لأسباب أوردناها في المقدمة — إلا أنها لا تدعه دون الجدري والحصبة الموصوفين منذ القدم. وإذا تحرينا البحث جيدًا لا نعدم أدلة على أن أعراضه المتفرقة مذكورة في كتب الطب القديم، أو أنه مذكور فيها ما ينطبق عليها، ولكن الذي لم يكونوا يعرفونه هو نسبة هذه الأعراض بعضها إلى بعض، فلا يخفى أن لهذا المرض ثلاثة أطوار ممتازة، قد تكون الهجعة بينها طويلة، فكان يصعب عليهم بعد هجوع الأعراض الأولية أن يجعلوا للأعراض الثنائية علاقة بها، وللأعراض الثلاثية علاقة بهما، فيذهب عليهم أنها مرض واحد.
٢٢  لا يخفى أن أبقراط هو أول من قال بأسباب الأمراض الطبيعية، ومع ذلك لما اعترضته الأمراض العصبية، وشاهد ما فيها من الغرائب الخارجة عن القياس المعروف لم يستطع أن ينفي عنها الأسباب الروحانية، وهو معذور في أنه لم يتجشم مشقة نفي روحانيتها لنقص العلوم الطبيعية، ومنها الطب في عصره، نقصًا يتعذر معه إقامة الدليل العلمي، كما كان يحب أن يفعل دائمًا في برهانه، فضلًا عما كان يراه من شدة غرابة ظواهر هذه الأمراض، كما لا تزال تبدو لنا اليوم، فيسمع الإنسان ولا مخاطب منظور، ويرى ولا مرئي، ويحس ولا ضاغط، سواء كان في النوم أو اليقظة، ويعمل أحيانًا أعمالًا غريبة يعجز عنها وهو بحال الصحة. ولكن ما عذرنا — حتى لا يزال كثيرون من علمائنا اليوم يتخبطون في هذه المسائل — مع أن العلوم الطبيعية بلغت شأوًا سهَّل علينا حل أكثر هذه المعضلات، ولا سيما أن علم الأمراض انجلى لنا انجلاء نفى كل غريب، كما فعل أوليفرلودج في كتابه الحديث في البعث، كما لخصه المقتطف حتى أتانا بهذا القول الأغرب عن «نفق الأرواح»، مع أنه من العلماء الطبيعيين، ولو كان مع ذلك طبيبًا لما غلب على أمثال هذا القول.
٢٣  لما نظروا إلى المبدأ اضطروا أن ينظروا إلى الغاية أيضًا؛ للزوم القصد حينئذٍ في كل عمل، وجروا فيها مجراهم في المبدأ نفسه، وقضوا فيها بالتجرد أيضًا، مع أن كل أشياء هذا العالم كما هي تنفي كل ذلك؛ إذ لا استقلال في الطبيعة مطلقًا، ولا غاية إلا الضرورة.
٢٤  شأن الفلاسفة الماديين أنفسهم في القديم أيضًا.
٢٥  البحث عن المبدأ والغاية؛ أي القصد.
٢٦  باعتبار أنها علوم عقلية، وهي فوق علوم الحواس.
٢٧  الأجرام السماوية والأحداث الجوية وسائر الحوادث الطبيعية كان لها نظام في علمهم مقرر، ومع ذلك فلم يكن يصعب عليهم التسليم بمخالفة هذا النظام في بعض الأمور من غير أن يتغير النظام كله؛ كتوقيف حركة الشمس أو الأرض — مثلًا — مع بقاء سائر العوالم على حالها.
٢٨  ويسمى شيخ الفلاسفة أو رئيسهم، وقد أحاط بكل علوم عصره، وترك فيها كتبًا هي عبارة عن أنسيكلوبيذية حقيقية «موسوعة»، ولكنها ضربت بها حدًّا للعقل، فوقف يشتغل فيها أجيالًا عديدة، وهو يبني عليها ولا يتجاسر أن يتخطاها حتى في العلوم الصحيحة نفسها، وقد بقي كبلر خمس عشرة سنة يرى أن الحركة الأهليليجية للكواكب هي الصواب، ولا يتجاسر أن يصرح بها احترامًا لحركة أرسطو المستديرة.
٢٩  عدا عن الجامعات كما كانت في أول عهدها في أوروبا، وعدا عن المدارس الدينية كما هي اليوم في عاصمة الكثلكة وعواصم المسلمين؛ فإن المدارس الأخرى، حتى العلمانية المقامة لتعليم الشعب العلوم اللازمة، لا تزال حتى اليوم قليلة الاعتناء بغير تلك العلوم، وهي يَصرِفُ بها التلميذ زهرة شبابه وهو يحشو الفارغ بالفارغ، حتى إذا امتلأ بها يخرج إلى الدنيا مثقل الدماغ منفوخه كالطبل، وهو في أمور الحياة العلمية أجهل من هبنقة، ولكنه يصف لك ثوب كليوبطرا وعشقها، وحلم فرعون، وغرام ديانا وصفًا بديعًا، ثم يقول لك مثلًا: «والفضيلة، وما أدراك ما الفضيلة؟» ويملأ صفحات طويلة ليقول لك: إنها غير الرذيلة، ثم يشكل عليه الأمر في تحديد الرذيلة إطلاقًا وتخصيصًا: هل هي في الشيء نفسه مجردًا، أم فيه هنا أو هناك مقيدًا؟ ثم يقول لك متشامخًا: إن هذا البيت يعني كذا، ويُعرَب كذا، بل كذا، وهو لفلان بل فلان إلى آخر ما هناك من الآداب العالية في اصطلاح القوم؛ لأنها تترفع عن الاتساخ بأوساخ المادة، وسواء عنده أفاد أو لم يفد؛ فإنه ملأ الصفحات، وأتى بالمعجزات، وهو يحسب أنه يُروِّض العقل … ولكن على السخافات.
٣٠  ما أسرع ما يقوم المعترضون عند سماعهم ذلك ويقولون: إن الحياة ليست كلها أكلًا وشربًا، وإلا كانت الحياة حيوانية، فإذا كان البدن يتطلب غذاء ماديًّا فالعقل يتطلب غذاء أرق أيضًا، ولهؤلاء نقول: إن ذلك لا يوجب أن يكون هذا الغذاء الرقيق للعقل أوهامًا وأحلامًا وخيالات، وهي لا تشبعه إلا إذا بقي يمرح في الجهل. وفي بحثه في العلوم الصحيحة، ووقوفه على أسرار الحقائق المادية، والتوصل بها إلى الاختراعات النافعة في معايشه، وتطبيقها على مصالح الاجتماع غذاء شهي، وأكل طيب، ولذة لا تعادلها كل اللذات الموعودة، فأرخميدس لما اكتشف الثقل النوعي، وغليلي لما اكتشف دوران الأرض، وكبلر لما اكتشف الحركة الأهليليجية، ونيوتون لما اكتشف ناموس الجاذبية شعروا بلذة عقلية لا تضاهيها كل اللذات الجسمانية — وهي لذة جسمانية أيضًا — حتى إنهم نسوا أنفسهم وعرضوها للسخرية، وبعضهم استعذب الموت في سبيلها.
٣١  ابن سينا وأبقراط وأرسطوطاليس يتشابهون في أنهم تركوا كتبًا جمعوا فيها علوم الأقدمين، حتى نسبت إليهم كأنهم واضعوها، فأرسطوطاليس جمع علوم الأقدمين وفلسفتهم على ما فيها من التباين؛ لذلك كثرت المناقضات في الكتب المنسوبة له، فبينا تراه يثبت مادية الكون إذا هو يفسح المجال للقوات السرية، وبينا تراه يحاول وضع نظام الاجتماع على مبادئ الاشتراك والتعاون تراه يؤيد سلطان الأثرة والاسترقاق، ولكن الغلبة إنما كانت لعلومه العقلية وفلسفته المجردة.
وأبقراط جمع الطب القديم، ولكنه هذبه حتى جعله علمًا طبيعيًّا، وهو قلما اعتنى بالفلسفة. وهذا فضل له عظيم يضعه فوق سائر الذين تقدموه. أما ابن سينا أو أبقراط العرب وأرسطوطاليسهم معًا، فقد جمع فيه الاثنين، وفي الفلسفة مال إلى فلسفة أرسطو، حتى كان الناشر لها في الشرق والغرب.
٣٢  كحكايات الشياطين والجن والعفاريت والغيلان، واستنطاق الحجار، وفهم لغات الحيوان والأطيار. ولا يزال هذا الميل إلى الغريب العريق في الطبائع غالبًا على البشر، حتى بين أرقى الأمم، بدليل اللغط الذي أحدثته رواية «شنت كلار» للشاعر الفرنسوي «روستان»، التي جعلها على لسان الحيوانات، وألبس الناس جلودها؛ كيف أنها أقامت عالم الأدب في أوروبا وأميركا حتى أوفدوا لها الوفود، وأشغلوا بها الأسلاك البرقية، وعقدوا لها الفصول الطوال، وتنازعوا سبق الفكر فيها كأنها ليست من حكايات كل عجوز شرقية لأطفالها، واهتم الباريسيون أنفسهم بها أكثر من اهتمامهم بغرق مدينتهم باريس بالطوفان، ولا غرو إذا طغى نهرهم وتهددهم بالغرق، وغفل مهندسوهم عن أخذ الحيطة دونه؛ فإنهم فى شاغل عنه بما هو أهم مما يتدفق من أقلام كُتَّابهم من السيل الجارف الذي لا يقف اليوم في سبيله سد.
٣٣  خذ مثالًا لذلك الطب؛ فإن الأطباء أنفسهم مع أن علمهم يفرض عليهم درس المرض على المريض نفسه، لم يكن لهم همٌّ حتى القرن الثامن عشر سوى إجادة العلوم الكلامية للحصول على جواز يجيز لهم العمل بصناعتهم، فكانوا يقضون وقتهم في المدرسة أو الجامعة وهم يفسرون كتب أبقراط وجالينوس كأنها مُنزَلة، ويُؤَوِّلونها، ويُخطِّئون الطبيعة بها ليطبقوها على المبادئ الفلسفية والدينية معًا، لا أنهم يحققونها ليصلحوا فاسدها، فكانوا يصرفون وقتهم في التدريب على المشاغبات الجدلية، حتى إذا أجادوها بخطاب ينمقونه بالألفاظ المقعرة، والجمل الطويلة العريضة المعقدة العويصة على الفهم، اعتبروا حينئذ أنهم أكفاء، وسيموا أطباء من يد رئيس الجامعة الديني نفسه سيامة دينية كما يسام الكهنة والأساقفة، وتقلدوا الجبة والقلنسوة كما يتقلدهما قضاتنا والمحامون اليوم، فكان كل علمهم مخرقة، أي صناعة جدل وذرابة لسان، كما هو شأن كثيرين اليوم.
٣٤  الذين ينظرون إلى هذه العلوم ربما خفي عليهم ما أوجب تأييدها من العناء، وما عهدنا بالمشاحنات التي أوجبتها مسائل تبدو لنا واضحة في الحاضر ببعيد، من مثل نفي السوائل غير القابلة الوزن، وإثبات تحول القوى، ونفي المبدأ الحيوي، وتأييد مذهب النشوء والتحول إلخ، مما يعد اليوم في حكم المقرر، واضطرار الطبيعيين أنفسهم في تأييدها أحيانًا إلى استعمال براهين منسوجة على نول تلك الفلسفة.
٣٥  هذا التعقيد منه أصيل من أثر خطة مباحث علماء الكلام فبينما لسلوك السبل المعقدة، ومنه لعدم انطباق الكلام المألوف على الحديث من العلوم.
٣٦  إذا وجد فيها أحيانًا بعض الفائدة فهي كما في المثل: «درهم دبس على قنطار خشب».
٣٧  إذا علمت أن المشتغلين حتى اليوم في العلوم الصحيحة ليسوا إلا أجزاء كسرية من ملايين تشتغل في سواها، ورأيت الفوائد الكثيرة التي نجمت عن ذلك؛ أدركت الفوائد الكبرى التي كانت تحصل للاجتماع من تناصر كل هذه القوى لو انصرفت إلى العمل وإلى ما يؤدي إليه.
٣٨  شريعة موسى مادية عملية أيضًا، ولكنها غير مستوفاة، وشريعة عيسى — وإن كانت حِكَمًا ومواعظ — تعتبر أصولًا كلية، إلا أنها في جملتها نظرت إلى العالم الروحاني أكثر من الحياة الدنيا، بخلاف شريعة محمد فإنها نظام اجتماعي عملي مادي قانوني حقيقي.
٣٩  إن الأسئلة السخيفة التي ترد على مجلة المنار من أطراف العالم الإسلامي، والتي تتجشم صاحب المنار المفضال مشقة الرد عليها مضطرًّا تدلُّك على مبلغ تقهقر القوم في فهم الدين، من مثل جواز تأخير دفن الميت للتحقق من موته، والتشبه بالإفرنج في الزي، وغروب الشمس والإفطار، وعدة الوفاة، وجواز ذكر الله بالرقص والتواجد، وعذاب القبر، والتجزؤ عند الصوفية، وإباحة الغناء إلخ، وهذه الأسئلة مأخوذة من عدد واحد من المجلة، وغير ذلك من الأسئلة التي تضطرب لها عظام النبي في قبره، والقرآن وشريعته بريئان منها لو أنهم يفقهون.
٤٠  قانون نابوليون كان آية في زمانه، ولكنه ككل القوانين المسنونة فيه من الجمود، ولو أنه خالٍ من الصبغة الدينية، ما يجعل تحويره على مدى الأيام بطيئًا، فلا يلجأ إليه إلا بعد تفاقم الضرر، ويا ليت ذلك! بل هو اليوم بما أُدخل عليه من النظامات المرتبكة المشتبكة، وبما صار إليه من وجوب الالتجاء إلى التخريج في التأويل والتفسير كسائر علوم الكلام قَيدٌ في رجل الاجتماع يذهب بالغاية أحيانًا كثيرة.
٤١  الذي نفع المسلمين في الأول فأرشدهم؛ إذ صرفهم إلى الحياة العملية، هو الذي أضرهم بعد ذلك إذ قيدهم بشريعة، والذي أضرَّ النصارى في أول الأمر؛ إذ أصباهم فأمالهم عن الحياة الدنيا، هو الذي نفعهم بعد ذلك؛ لأنه لم يُقيِّدهم بشريعة؛ إذ لا بد لكل شريعة من أن تتغير مع الإنسان بحسب الزمان والمكان.
٤٢  المعاهد الدينية لا يجوز أن يكون للحكومات الراشدة يدٌ فيها مطلقًا، لا لنصرها ولا لخذلها، بل هي من حقوق الجماعات تشيدها بمالها الخاص على ما تهوى، ومدارس الحكومات المُشادَة بمال الأمة لا يجوز أن تُشاد فيها معاهد دينية، ولو كانت الأمة كلها من دين واحد، فكيف وهذا محال؟ لأن الغاية الأولى منها تعليم العلم لا تعليم الدين، فالدين يجب أن يُعلَّم في معاهده الخاصة فقط، والحكومات لا يجوز أن يكون لها دين طالما هي تحكم أقوامًا من معتقدات مختلفة يُطلب منها أن تجمعهم في مصالح اجتماعية واحدة مشتركة، وإلا كانت هي العاملة على الدمار، وهي لسوء حظ المجتمع حتى الآن كذلك في أكثر المسكونة، كما هي في هذا المثل: «حاميها حراميها.»
٤٣  الحكومة الفرنسوية الجمهورية اليوم تحارب الجمعيات الدينية في بلادها من غير حق، وتنصرها في الشرق من غير حق أيضًا. نزعم أنها هناك تقاوم زرع سمومها، وهنا تنصر بها نفوذها، فلتحاربها هناك بنشر التعليم الصحيح لا بالمصادرة، ولتنصرها هنا بما أُعطِيَته من الحقوق السياسية لحمايتها، لا بالتصدر في حفلات أعيادها.
٤٤  الجامعة الدينية في شرقنا لا تزال فوق كل جامعة، وبها تذكر المصالح الاجتماعية في وطننا الواحد، وهي سبب كل الاختلافات الداخلية حتى اليوم، نحشرها بيننا في كل شيء حتى في كتاباتنا الأدبية، وفي جرائدنا السياسية، فقلما تخلو كتابة من كلام البسملة والحمدلة، والصلاة على هذا، والسلام على ذاك، مما هو خاص بكتب الدين، حتى لا يفتر هذا العرق ينبض فينا، وتغم عواطفنا على عقولنا، وتزيدنا عمًى على عمانا في مصالحنا الاجتماعية.
٤٥  أمة الإنكليز مع أنها أرقى الأمم بعد الأميركان لا تتنازل عن تقاليدها السخيفة، وامتيازات حكومتها المجحفة إلا بهزَّة تصل إلى أعماقها كمجلس الأعيان والألقاب وحفلة التتويج، وغير ذلك من السخافات الحريصة عليها جدًّا، وكأني بهذه الثورة الاجتماعية قد بدأت اليوم.
٤٦  من مثل مذبحة سنت برتلمي في فرنسا، وديوان التفتيش في إسبانيا، ومذابح الأرمن، ومجازر أطنة في تركيا.
٤٧  كم صدَّت الأوطان — كما هي مفهومة اليوم — غوث المدينة للاعتصام بحبل الهمجية!
٤٨  كيف ترجو هذا الصلاح وجرائدنا حتى اليوم تتغنى بمشي الإمام المسلم أو النصراني في جنازة ميت ليس من دينه، كأن الأمر غريب في نفسه، وهل يصلح مجتمع مؤلف من هذين المختلفين في الاعتقاد، المتنابذين المتخاذلين، وهما يجب أن يكونا فيه أخوين متعاونين متفقين.
٤٩  هو «برنارد شو» الإنكليزي، وهو يذهب إلى وجوب تقييد الزواج، وقتل الذين لا خير يرجى منهم لمصلحة المجتمع.
٥٠  في النحل شريعة لا تتغير، وهي أن الذكور منه بعد أن تقضي وظيفتها التلقيحية، ولا يعود لها نفع مطلقًا، بل تصبح عالة على القفير تقوم عليها الإناث، وتفتك بها وتقتلها عن آخرها. ولولا أن عسلها الذي ضنت به على ذكورها وجد الإنسان به غذاءً شهيًّا له جعله يعتني بها لانقرضت بشريعتها هذه، التي كل فائدتها لها كانت حفظ تفوق إناثها بالقوة البدنية على ذكورها؛ لأن المحافظة في كل شيء وقوف يدعو إلى التقهقر في هذا التنازع مع الغير.
٥١  الأصلح المرغوب فيه ليس واحدًا في نظر الاجتماع في كل الأحوال؛ فقد يكون الجمال أو القد أو صغره، والقوة قد تكون في جانب القوة البدنية، أو الحيلة العقلية، وقد تكون حسنة صالحة اليوم، وترى غير ذلك غدًا، وكل ذلك يجعل شريعة «شو» نظرية ناقصة، والعمل بها غير ممكن لخير الاجتماع، وإلا وقف ولم يرتقِ البتة.
٥٢  طالع مقدمة سلامة موسى في ذلك، المنشور حديثًا في اللغة العربية.
٥٣  هؤلاء الفلاسفة الثلاثة يقولون — وقولهم حق: إنَّ الشريعة الطبيعية السائدة في نظام الطبيعة كلها من صامت وحي، كما في مذهب النشوء هي «الأنانية» أو حب الذات، ولكنهم بعد هذا القول الصحيح يقعون في الوهم، ولا سيما في تطبيق ذلك على الاجتماع البشري، فيقولون: إنَّ الشرائع الإلهية والاجتماعية نفسها لا تنطبق تعاليمها على هذا المبدأ؛ لأن تعاليمها الوضعية مبنية على الرحمة؛ ولذلك كانت عيوب الاجتماع وشروره كثيرة، وما قالوا قولهم هذا إلا لأنه ذهب عليهم أنَّ شريعة الأنانية هذه خاضعة لشريعة أخرى طبيعية، تجعل هذه الأنانية مقيدة تمنعها هذه المنفعة إلا إذا شاركها فيها مشارك، وهي المصلحة المتبادلة، وسواء كانت الأنانية عالمة كما في الاجتماع البشري، أو جاهلة كما في الطبيعة، فهي مقسورة على هذه المشاركة التي تبدو لها مزاياها أكثر كلما زادت علمًا بمصلحتها، فإن كانت الأنانية تحمل الكائنات على جذب النافع إليها، فالمصلحة تدعوها إلى توفير مصلحة سواها حبًّا بنفسها وعملها. هذا ليس رحمة أو تفانيًا في حب الغير، بل عن ضرورة، ولو اضطر إلى استعمال هذه القسوة أحيانًا في ظروف خصوصية جزئية لا كلية.
٥٤  والمرجح أنه كان انقرض؛ لأن قوته البدنية لم تكن كافية وحدها لتسمح له بالبقاء بين خصومه وهي تفوقه بهذه القوة.
٥٥  التكافؤ والتكافل يراد بهما أنَّ كل عمل في الطبيعة لا يمر من دون صدًى، وهما يتكفلان وحدهما بإزالة عيوب الاجتماع: كالأمراض، وتقليل الجنايات بمقاومة كل أسبابها المحدثة لها لا بقتل أصحابها في المجتمع على نوع خاص.
٥٦  أي مذهب النشوء والارتقاء الذي رقى العلوم الطبيعية، ومهد السبيل للسير بها؛ لفهم شرائع المجتمع فَهْمًا أصحَّ.
٥٧  كلما اختلطت المصالح بين الأمم بالاختراعات قلت الفواصل بين الأوطان، وأصبح شأنها في المجتمع العام كالمدن إلى الوطن، أو كالبيوت إلى المدينة.
٥٨  أي بالسلم خلافًا لمذهب «شو» العنيف.
٥٩  لا كما في الماضي يقف الوطن بإزاء الوطن ويتفانيان بالحروب.
٦٠  ما عليك إلا أنْ تقابل بين التعليم في المدارس القديمة والحديثة لترى هذا الفرق، ولترى كذلك إضاعة الوقت الطويل في الأول، مع قلة الفائدة بالنسبة إلى عظم هذه الفائدة، مع قصر الزمان في الثانية، ولا ريب عندنا أنَّ مدارس المستقبل ستكون أعظم فائدة جدًّا، وأسهل تحصيلًا للعلوم على الطلبة كذلك، وبمقدار ما سنسقط علوم الأدب النظرية ستقوى علوم العمل الاختبارية، وتتغير كتب التدريس بحسب ذلك.
٦١  أكبر شاهد على ذلك تأليف العالم الطبيعي أوليفرلودج كتابه في البعث، بناءً على ريح ساكنة في النفس أثارها اليوم الكاتب المستهوى ستيد، وخزعبلات المشعوذة أوسابيا، والمرجحات التي ساقها لبقاء الأرواح خالدة مستقلة لا تخرج عن أشباه حكاية عرافة التوراة، وهي كلها دليل على متمنيات في النفس؛ لرسوخ اعتقاد بالتربية لا على تقرير حقائق مدعومة بمبادئ العلم الطبيعي، وخصوصًا علم الطب. وقد لا يشك في صدق ستيد في مروياته، ولكن لا شك كذلك في أنه هو نفسه مخدوع ومستهوًى في آن واحد — كما بينا ذلك في مقالات نشرت في الصحف والمجلات، وأثبتناها في الجزء الثاني من مجموعتنا. ولا ريب في أنَّ أوسابيا هذه من أقدر عرافات هذا العصر، ولكن لا ريب عندنا في أنَّ كل أعمالها شعوذة راقية لا يصعب كشف الدجل فيها على المراقب البصير، كما قلنا عن أمثال ذلك من عهد بعيد في رسالة بعثنا بها من الآستانة إلى جريدة الأهرام، ونشرت فيها سنة ١٨٧٦ تحت عنوان «إنَّ من العلم لسحرًا»، وقد أثبتناها في الجزء الثاني من مجموعتنا.
٦٢  إشارة إلى التلغراف اللاسلكي.
٦٣  إشارة إلى حادثة الباخرة التي غرقت ونجا ركابها بواسطة هذا التلغراف، الذي لولاه لما اهتُديَ إليهم في مجاهل البحر، ولذهبوا طعامًا للسمك.
٦٤  أنا لست متعصبًا ضد الأديان بمعنى الكلمة، الموجب لكراهة من لا يشاركك في اعتقادك الخاص، وفي إمكاني أنْ أمازج كل إنسان مهما كان معتقده وبمنتهى الإخلاص، ولكنني متعصب جدًّا لقول الحق، أو ما أعتقده كذلك، وحتى اليوم لم يمنعني عن هذا القول محذور ولا مصلحة، فإذا شددت النكير على الأديان، فليس قصدي أنْ أُحرج أحدًا في إيمانه، ولولا ما أشاهده كل يوم في معاملاتنا من الشرور المستعصية المُبتلَى بها المجتمع؛ بسبب هذه الحاسة، ولا سيما في وطننا الخاص، لما قمت قومتي على الأديان وأصحابها في كل ما كتبت حتى اليوم، وهي بحد ذاتها شرائع ليس فيها من الأصول الاجتماعية ما يخالف مصلحة الاجتماع، لولا أنها ككل الشرائع التي تصلح اليوم ولا تصلح غدًا، وخصوصًا لولا أنَّ الصبغة الإلهية التي لها تُكسبها جمودًا في نظر أتباعها لا تتزحزح عنه إلا بثورات هائلة تجري الدماء فيها أنهارًا، وأصحابها من المصلحين الكبار في عصورهم، ويستحقون كل تعظيم، لولا أنها أصبحت بعدهم في أيدي الرؤساء وسيلة للإرهاق، وفي أيدي الجهلاء سلاحًا للتفريق حتى في الوطن الواحد، فانقلبت البَرَكة المقصودة منها بأيديهم لعنة جنَى بها الخلف على السلف، فإذا أضفت إلى كل ذلك أنها من الوجهة العلمية متحولات أوهام وأضغاث أحلام، وهي مع ذلك لا تستطيع أنْ تضبط المجتمع لولا الوازع المدني، فلا أرى «لاختراعها» بعد ذلك أدنى منفعة قبل كل هذه الأضرار للإغضاء عنها.
٦٥  لقد كانت الأوطان في أوروبا إلى عهد قريب علة الحروب يثيرونها بينهم لأقل سبب، وأما اليوم فقد قل الميل إلى إضرام نارها لأجل ذلك، ولا سيما بعد أنْ عرفت الأمم أنَّ الحروب لا تخدم مصالحها غالبًا، وإنما تخدم أغراض أناس قليلين من المتولين قيادها، بل الأمم اليوم ميالة إلى التصافح من فوق حدود الأوطان؛ سعيًا وراء مصالحهم العامة. والاشتراكية الصحيحة ليس لها غاية أخرى، والأرجح أنَّ حرب السبعين الهائلة هي خاتمة الحروب الوطنية الكبرى بين الأمم المتمدنة.
٦٦  لقد كانت الثورة الفرنسوية خاتمة الثورات الكبرى لفصل المصالح الدينية عن المصالح المدنية، ولتأييد هذه الأخيرة على حقوق الاشتراكية، على أنَّ الأديان لا تزال سبب القلاقل الكثيرة في الشرق الأدنى خاصة، وحتى اليوم ليس فيه جناية عامة خارجة عن هذا السبب ولو ضمنًا.
٦٧  من يوم تَحَوُّل علم الطب في مدارس مصر وسورية إلى الإنكليزية والفرنسوية، فقدت اللغة أقوى أركانها العلمية، حتى صار من الصعب عليها جدًّا اللحاق بالعلوم الطبيعية في سيرها السريع.
٦٨  اللغات تحيا بحياة الأمم، وحياة الأمم إنما تكون بعلومها وصناعاتها، وحياة العلوم والصناعات بالعلماء والصناع منها، فإذا خلت أمة منهم ذهب استقلالها وكان القضاء عليها أمرًا محتومًا.
٦٩  لا يرجى الخلاص من هذا الشر إلا بغلبة كتاب الأدب الطبيعيين، لا ليقوموا مقامهم، بل لتحويل الأفكار بهم أولًا، ولكن المقاومة حتى الآن عنيفة جدًّا، والغلبة لا تزال في جانب الكُتَّاب الخياليين.
٧٠  لقد بلغ هذا العلم اليوم من السعة في النظر والتقييد في العمل مبلغ علوم الكلام في الماضي، وهو للعقول الراقية اليوم لاهوتٌ ثانٍ. هذا عدا ما يلحق الاجتماع بسببه — كما هو اليوم — من الأضرار البالغة ماديًّا بالنفقات الباهظة، وإضاعة الوقت، وأدبيًّا بما يتسرب منه إلى الأخلاق، فيربيها على ضروب التفنن في تبديد هذا الوقت، والانصراف بذلك عن العمل بما هو أنفع للمجتمع.
٧١  أود لمصر اليوم أنْ يخفض شبانها الراقون من تحمسهم في التهافت على هذه العلوم الكلامية التي لا تُنيل استقلالًا، ولا تقي من ضرٍّ، وليَنصبُّوا بكُلِّيتهم على العلوم العملية والصناعات التي لا ترتقي بلادٌ حقيقةً بدونها.
٧٢  الباحثون في طبائع العمران لا يهمهم قيام أمم وسقوط أمم في المجتمع البشري، ولا ينظرون من خلال ذلك إلا إلى النتيجة الكبرى الكلية، ولقد كان من شأن هذه النتيجة في الماضي التقهقر والوقوف في غالب الأحيان، وقيام أمم جديدة على أطلال أمم قديمة بعامل الحروب لمنازعات الباعث عليها الدين والوطن. وأما اليوم وقد ارتقت العلوم الطبيعية، وأخذت بمصنوعاتها ومخترعاتها تربط أطراف العالم بعضها ببعض، فصار الارتقاء مطردًا كليًّا في العمران تدمج فيه الأمم الضعيفة، أو تنقرض بعامل النشوء التحولي غالبًا، لا بالحروب والثورات الوحشية — كما كان في الماضي — ولا تنحط إليها الأمم القوية.
٧٣  الفلاسفة الأدبيون لما يذكرون لك لفظة الوجدان فقط يخال لهم أنهم أفحموك، فيبتسمون ابتسامة ظفر، كأن الوجدان خاص بالإنسان، ولو تحروا البحث لوجدوا أنه عام على الحيوان والنبات حتى الجماد، فكما أنَّ الأعيان تموت بموت الأجسام، هكذا يموت الوجدان بموت الأعيان أيضًا، أو هو لا يموت حقيقة، بل يعود إلى شأنه الأول البسيط، ويتوزع في قوى موادها المنحلة هي إليها، ولو كان الوجدان حجة لما اقتضى أنْ يتعدد أحيانًا في الجسم الواحد لمرض يطرأ عليه، اللهم إلا أنْ يعودوا بنا إلى القول بالمخالطة، ويرجعوا إلى طرد الأرواح المشاركة بالرُّقى والطلاسم:
ووجداننا هل أنت ألفيت أنه
يقوم بغير الجسم إنْ حلَّ ما استوى
ألم ترَ أنا فيه تحت طوارئ
تعدد فيها أو تعد له الرقي
٧٤  قال روزفلت في خطابه في الخرطوم على متخرجي المدارس الأميركية: «إنني أكره المجادلات والمتجادلين، فاصرفوا قواكم إلى العمل بدل الجدل، ودعوا تلك البضاعة للعالم القديم.» ولعل مثل هذا القول أفضل ما نجاوب به الذين لم يفهمونا، أو لم يريدوا أنْ يفهمونا، لما أردنا التنبيه إلى ما هو متأصل فينا من التهافت على المباحث الكلامية، التي تصرف العقل عن العمل إلى الاسترسال في التدرب على مباحث الخيال.
٧٥  الناس حتى اليوم يكرهون البساطة في كل شيء — سواء كتبوا أو تكلموا أو عملوا — ويدخلون هذا الخيال الغريب لا في مباحثهم العلمية والأدبية والدينية فقط، بل في سائر أمورهم الاجتماعية حتى التافهة جدًّا أيضًا، فإن تصوروا ملكًا أو حكامًا أرادوهم بكل مظاهر الأبهة، ولو ظهروا فيها بمظاهر المساخر كأنه لا يصح أنْ يُكوِّنوا ببساطة أزياء العامة؛ ولأجل ذلك هم يميلون إلى تعظيم علمائهم الغابرين أكثر من المعاصرين، ويتصورونهم بهالة من المجد ترفعهم فوق سائر الناس طبقات، وربما جرَّدوهم من عيوبهم، ويعظمون الذين يسمعون بهم أكثر من الذين يرونهم؛ وما ذلك إلا لأنهم يحبون أنْ يدخلوا هذا الخيال الغريب على كل شيء، ويسهل عليهم ذلك فيمن لا يرونه أكثر ممن يرونه.
٧٦  المحافظون على اللغة لا يدرون أنهم لو استطاعوا ذلك لوقفوا بها متقهقرين، على أنَّ سنة التحول أقوى منهم، وهي تسير باللغات ضرورة كما تسير في تحول كل شيء في الطبيعة والاجتماع، وما ارتقاء اللغات إلا انطباقها على حاجات الاجتماع يأخذونها من أفواه العامة كما يأخذونها من مباحث العلماء في اصطلاحاتهم؛ للتعبير عن الأدوات والأعمال والأفكار، وكأن اللغات الواقفة يحار كتابها المبرزون إذا جروا مع الزارع أو الصانع أو العامل أو المفكر اليوم، فيلجئون إلى البحث والتقعر ليقولوا غير المفيد.
٧٧  انظر إلى أسلوبنا في الكتابة، ولا سيما نحن الشرقيين، فإن أحدنا ما عدا انصبابه على المباحث الكلامية إذا أراد بسط قضية اعتلى ربوة خياله، وطار في الأجواء، وملأ صفحات كثيرة ليقول شيئًا قليلًا.
٧٨  يروى عن غودري، صاحب المباحث الشهيرة في تسلسل علم الحيوان في العصور الجيولوجية، أنه لما ظهر كتاب دارون في أصل الأنواع قال: «إني قرأته بإعجاب وولع، وإذا جاز لي هذا التشبيه أقول: إني شربته متلذذًا كما يساغ الشراب اللذيذ نغبة نغبة.»
٧٩  فردوس موسى ليس إلا الوعد بالخلاص من العبودية، والحصول على الحرية والرزق الواسع في أرض الميعاد كما يستفاد من كل كلام التوراة.
٨٠  لا يقظ ولا خامل.
٨١  مالوا إلى الدنيا.
٨٢  يراد به العمل الشاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤