الفصل الثالث

صد ورد

ولا نعلم كيف جاز لك الاعتراض على قولنا: «إنَّ الصفات الموجودة في الأجسام المركبة موجودة بالقوة في المادة البسيطة، ووجودها فيها بالقوة لا يستلزم وجودها بالفعل.» بقولك: «إنَّ ذلك غير مشبع ومناقض لرأي الطبيعيين أنفسهم.» إلا أنْ تكون قد فهمت القوة في قولنا «بالقوة» كما تتصورها أنت، وإلا فليس في كلامنا ما يوجب ذلك، ولا سيما بعد أنْ عرفناك أنَّ القوة والمادة في عرف الماديين شيء واحد، والظواهر أو الصفات أو القوى ليست سوى تغيرات مادية — كما قد تبين فيما تقدم، وكما يتضح أيضًا مما يأتي — فإنه في فحص جميع الظواهر الكهربائية المعروفة لسنا نعرف ظاهرة واحدة لا تدل على تغير في أدق أجزاء المواد المتهيجة كهربائيتها، فإنا إذا أطلقنا محمول قنينة ليدن في سلك من البلاتين؛ نرى هذا السلك يقصر حتى يتجعد لحصول تغير في أدق أجزائه.

وكذلك يحصل في سلك من الرصاص، فتتكون فيه عقد يضغط بعضها بعضًا، وسائر الأسلاك المعدنية المستعملة في الأعمال الكهربائية إذا طال استعمالها في ذلك يحصل تغير جوهري في أجزائها، فقد تتصلب، وقد تصير سهلة القصم، وكذلك مجرى المغناطيس يؤثر في مرونة الحديد والفولاذ، فإن قضيبًا من الحديد ملتويًا من ثقله يتقوم إذا تمغنط، وهكذا تفعل أيضًا سائر القوى في الأجسام كما يسهل تبيينه، فإن القوى الميكانيكية — كالتموجات التي يحدثها الصوت في الهواء مثلًا — قد تحدث تحليلًا كيماويًا في المواد المركبة تركيبًا ضعيفًا.

وأما قولك ردًّا علينا: «إنَّ وجود الزوائد في بعض الحيوان — والصحيح في عالم الحيوان والنبات — التي لا لزوم لها لا يلزم منه عدم الانتظام «ولعلك تريد القصد والغاية؛ لأننا لا نذكر أنَّا جئنا بهذه اللفظة، واللانظام عندنا أمر نسبي لا حقيقي، كما تقدم في مقالتنا السابقة» أولًا: لعدم إمكان الإنسان أنْ يُحيط علمًا بكل شيء، وربما أدرك الخلف ما لم ندركه نحن.» فعلى ذلك نُجيب أنَّ علماء طبائع الحيوان والنبات لا يدَّعون أنهم بلغوا علم كل شيء، بل هم لا يزالون يبحثون، وكل سنة بل كل يوم يكتشفون حقائق كانت غير معروفة عندهم، وما لا يثبتونه يطرحونه بين المسائل الخلافية، وهي ليست بالعدد القليل عندهم، إلا أنَّ ما لا يعلم سببه الطبيعي لا يزالون يعالجونه حتى تنجلي لهم الحقيقة فيه بجهد التنقيب والتنفير، فلا يطفرون فيه حالًا إلى ما وراء الطبيعة، كما يفعل جزافًا سادتنا الفلاسفة النظريون، الذين لا يصعب عليهم وجود سبب لكل شيء، وهم في سماء خيالهم تائهون.

على أنَّ عدم الإحاطة علمًا ببعض مفردات الأشياء لا يقتضي منه نفي ما تحقق عن أكثرها، وما يترتب عليه من الكليات، ولو جاز ذلك لكان الأولى أنْ تسقط كليات النظريين بأسرها، فإنها لا تكاد تتفق مع شيء من قضايا العلم الذي لا تزال تعترضه في سيره، وكم رأيناها مشتبكة معه في نزاع شديد، ولم نرَ العلم دان لها ولا مرة واحدة، فتلتزم أخيرًا أنْ تذل له متصرفة في المعاني والألفاظ؛ لأن دائرتها كما لا يخفى عليك واسعة فلا يضيق بها مجال، وإذا كنا نعرف من المسائل تسعين مسألة مثلًا، ولكل مسألة سببًا طبيعيًّا، وكنا نجهل أسباب عشر مسائل، أفمن العقل أنْ يحملنا جهلنا على أنْ ننتحل لهذا المجهول قوى ما فوق الطبيعة، أم من الحكمة أنْ نقيسه على أخواته ونلحقه بها أملًا بأن ينكشف لنا سره الطبيعي يومًا ما؟ على أنَّ الأعضاء الأثرية التي نحن بصددها ليست في شيء من ذلك، فقد تقرر وجودها، وعرفت الأسباب الطبيعية لكثير منها، ووضح أمرها، وقلَّ غامضها، وهي تنقض الغاية وتنفي القصد، وتثبت القربى بين الإنسان وسائر الحيوان. وربما بعدت هذه النسبة بين الإنسان والحيوان بالعلم، وقربت بالجهل، فكان أقربهم إليه أجهلهم بمعرفة أصله، وأبعدهم عنه أعلمهم به.

ومن العجب أنك أثبتَّ مذهب دارون وأنت تحاول نقضه بقولك: «وقد تكون هذه الأمور فلتات طبيعية مستفادة من الظروف والحوادث والأهوية والأقاليم ونحوها.» إذ لا يخفى عليك أنَّ الخلق على مذهبك ومذهب أنصارك كائن بالأنواع، وهذا يقتضي أولًا ثبوت الأنواع، وثانيًا اشتمال كل نوع على الأعضاء اللازمة له لا أكثر ولا أقل؛ لأن كل نوع خلق خصوصي مختصر في جرثومة قابلة للنمو، ومتضمنة كل صفاته الجوهرية، وإلا فلا يكون في الخلق معنى لحدوث نقصان أو زيادة فيه تأباهما الحكمة، وقد تنزه الصانع الحكيم عن كل عمل لا حكمة فيه.

على أنَّ معاني هذه الأعضاء الأثرية ظاهرة بنسبة التكوين المتسلسل كما يظهر لمن يدقق النظر في طبائع الحيوان والنبات، أو ينظر فقط إلى كلياتها نظرًا عامًّا دقيقًا، فلا يسعه والحالة هذه أنْ ينكر ما بين الأنواع والتباينات من النسبة الشديدة والقرابة والتسلسل، وسائر ما هو مقرر في مذهب دارون، إلا أنْ يكون سابق اقتناعه حاجبًا بينه وبين ما يرى.

وقولك: «وهي بجملتها أمور عرضية» غير سديد؛ لأنه يلزمك أنْ تعلم أنَّ الأشياء العارضة في الجسم من المعيشة والإقليم، والحاصلة عن أسباب أخرى أكثر اختلاطًا تنتقل بالوراثة والانتخاب الطبيعي، وتصير جوهرية كما في الألوان وتشقق الجلد، وازدياد عدد الأصابع، والأمراض والأميال العقلية، وغير ذلك مما لا يسعك إنكاره.

وأغرب ما في ذلك قولك: «لأنه يوجد في الطبيعة قوة مهذبة مربية، وفي بعض الأحوال مولدة بادعة.» فأنت تعترف هنا بأن الطبيعة فيها قوة التوليد والإبداع، إلا أنك تجعل هذه القوة مودعة فيها من بادع الوجود، فيا للعجب كيف جاز لك هذا القول؟! أما رأيت ما فيه من التناقض؛ فإنك زعمت أولًا أنَّ المادة البسيطة يجب أنْ يكون فيها من الإدراك الكلي ما في الإنسان من الإدراك الجزئي، وبعبارة أخرى: إنَّ الحَجرَ يجب أنْ يكون فيه قوة تدرك كالإنسان، وإنْ لم يظهر لنا ذلك فيه، ولا يجب الاعتماد على المحسوس؛ فإنه قد يضل.

ولما بيَّنا لك أنَّ البسائط لا يلزم أنْ تكون متضمنة نفس الخصائص والقوى التي في المركبات، وإنْ كانت قابلة للظهور فيها عند بلوغها مبلغها، قلت: فإذن القوى الفاعلة في البسائط ليست القوى الفاعلة في المركبات. ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب، ثم جئت لنا بتعليل آخر — أي الوجود المعنوي والوجود المادي — وقلت لنا: إنه المذهب الذي تذهب إليه هذه المرة، وقد رأيت ما له من القيمة، ثم ما لبثت أنْ هدمت كل ما بنيته بقولك: «إنَّ في الطبيعة قوة مولدة مهذبة.» فكأنك قد أثبتَّ لها ما يثبته لها الماديون؛ أي أثبت لها التوليد الذاتي، والفرق بينك وبينهم أنَّ هذه القوة عندك ليست أصلية فيها، بل مودعة فيها من بادع الوجود. وهذه العبارة الأخيرة لم أقدر أنْ أفهمها؛ لأنه كما لا يخفى عليك بعد إثباتك قوة التوليد للطبيعة لم تذكر ما دليلك على أنها مودعة، ولعل ذلك من المسائل التي تعلو فوق طور العقل، والتي لم يُعطَ حلها إلا للراسخين في العلم بطريق الإلهام والوحي، فأنا معذور إذا كنت لا أفهمها، فإنه لم يعط لي حل الرموز والاقتناع بالألفاظ المجوفة والكلام المقعر.

ومن العجب العجاب أنك لم تشترط حينئذٍ على طبيعتك ما اشترطته على طبيعة الماديين من ضرورة وجود صفات المركبات في بسائطها كما هي فيها، مع أنه لا فرق بينهما إلا من حيث الحركة الأولى أو بادع الوجود، وأما بعد ذلك فكل واحدة منها تعمل أعمالًا من نفسها على نظام معلوم، وسنن واحدة، فيا للغرابة! كيف يقع كل هذا التناقض في كلامك وأنت به مرتضٍ قانع.

على أنَّ الذكاء وحدة الذهن لا يقتضيان أنْ يكون صاحبهما في مأمن من ضلال الأفكار، بل العقل يتصرف في المعاني بحسب قوته — سواء كانت المبادئ المؤسس عليها صحيحة أو فاسدة — فالمبادئ لا تؤثر في قوة العقل، بل في مجرى أفكاره، ولا في قوة استنباطه الأدلة العقلية، بل في صحة أحكامه وعدمها؛ ففي كل عصر وفي كل مذهب نبغ رجال معدودون من أفراد الزمان لما لهم من الذكاء وحدة الذهن وسعة الصدر، ولا يصح أنْ يكون جميعهم على هدى لتباينهم في الآراء والمذاهب، فالعقل يسير في الطريق التي يألفها، وينمو على المبادئ التي ينشأ فيها — صحيحة كانت أو فاسدة — وينبغ فيها بحسب ما له من الذكاء؛ فلا غرو إذا كان ضلال الأفكار في العالم نشأ عن أناس متوقدي الذهن، كثيري التفنن في أساليب الكلام، شديدي قوة التصرف في المعاني، وإنْ كانوا كثيري الخطأ في الأحكام يسحرون العقول التي لا تقوى على مناضلتهم بما يظهر لها من ساحر بيانهم، ويفتنون الألباب التي لا قبل لها بمجادلتهم بما تراه من فاتن برهانهم، ولا يغير مجرى الأفكار إلا تغير المبادئ، وأقرب المبادئ إلى الحقيقة ما وافق الاختيار.

قال أحد الحكماء: لا ينبغي قبول آراء آبائنا كما يفعل الأولاد بحجة أنَّ آباءنا قبلوها، ونقول: إنَّ جهل الإنسان لحوادث الكون كان سببًا لانخداع عقله، واستحكام الخطأ من أفكاره، واستفحال الأوهام فيه، فإن من كان قليل الخبرة في شيء كان شديد التوهم فيه، كالطفل الذي يحاول أنْ يتناول بيديه ما يراه بعينه، فيمد يده إلى القمر كما يمدها إلى فيه، ولا يعلم أنَّ القمر بعيد المنال، ولا يتيسر له معرفة الأبعاد إلا بتكرار التجربة، فهذه المعرفة في العقل ليست أصلية، بل مكتسبة بالاختبار، وقس عليها سائر معارف الإنسان الصادرة عن سائر الحواس.

وإذا علمت أنَّ جميع معارف الإنسان مكتسبة حكمت معنا بأن أفكاره مكتسبة أيضًا، وعقله مكتسب كذلك، وإذا كان العقل مكتسبًا كان عرضة للانخداع؛ لعدم تبينه الأشياء كما هي في كل الأحوال، ولأول وهلة؛ فلا قيمة إذن للحجة التي يستند إليها النظريون بقولهم: إنَّ ذلك مطابق للعقل أو غير مطابق له، إلا إذا اتفقت هذه الحجة مع سواها من البراهين الحسية، قلنا: وإذا تكرر هذا الانخداع على العقل شبَّ عليه ونما، حتى يغدو فيه من الغرائز، فيصير عنده كل أمر مخالف لما تربى عليه خطأ وإنْ كان صحيحًا، وكل خطأ استحكم أمره صعب استئصاله؛ لأنه لا يقتصر على نفسه، ولا يقف عند حده، بل يتناول كل شيء دونه، فيتطلب في استئصاله استئصال كل ما نتج عنه، وربما اقتضى نقض بنيان الهيئة الاجتماعية نقضًا تامًّا، ولا يخفى ما دون ذلك من الموانع.

على أنَّ كل عصر لا يعدم أناسًا متقدين ذكاءً تطاول هممهم الأفلاك وإنْ بعدت، ويسبرون بثاقب عقلهم الأسرار وإنْ خفيت. ولو أردنا تعداد مثل هؤلاء الرجال الذين قاموا في كل عصر، وكان لهم في تاريخ الإنسانية يد بيضاء؛ لضاق بنا المقام، فنقتصر على أسماهم عقلًا، وأوسعهم فضلًا، وأعلاهم همة، الذين قلبوا بتعاليمهم وجه الهيئة الاجتماعية؛ إذ زجروا الإنسان من سماء الخيال، وردوه إلى أرض الحقيقة غير محترمين تقليدًا، ولا راهبين وعيدًا، لا ملاذ لهم إلا العلم، ولا دين لهم إلا الحق، ولا غاية لهم إلا تخفيف مصائب الإنسان، وتقليل ويلاته بإنهاضهم إياه من حضيض الجهل إلى سماء العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤