الفصل الرابع

في أصل معرفة الإنسان

إنَّ من الأوهام التي تقاضت الإنسان حياته زمانًا طويلًا، وكانت أعظم أسباب شقائه، ودواعي عنائه اثنين عظيمين؛ وهما: أولًا: اعتقاده القديم في الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك، وثانيًا: اعتقاده في نفسه أنه من أصل سماوي، فأهبطه الخالق من فسيح جنانه — ولماذا؟ — وأسكنه ضيق أرضه، وإنما خلق له كل شيء من منظور وغير منظور، وعلى هذين الاعتقادين نشأ الإنسان في الأخلاق والعادات والسياسة؛ فتقوُّض هذين الركنين يلزم منه انتقاض البنيان العظيم الذي شاده الإنسان عليهما، ولذلك كان انتشار الحقائق المخالفة لمألوف الناس صعبًا جدًّا.

فكوبرنيكوس وكبلر وغليلي سحقوا بتعاليمهم الأفلاك البلورية التي اختلقتها أوهام الأقدمين، وأصلحوا علم الهيئة من هذا الخطأ المبين، وقرروا أنَّ السماوات ليست قبة زرقاء مرفوعة فوق الأرض ومُرصَّعة بمسامير من ذهب، وأنَّ الجلد ليس فاصلًا يفصل المياه التي فوق الجلد عن المياه التي تحت الجلد — كما توهم أسلافنا — وإنما هي فضاء فسيح تسبح فيه الأجرام السماوية، ومنها أرضنا هذه المتحركة حول الشمس خلافًا لما كان يظن من أنَّ الأرض ثابتة، والشمس تدور حولها خدمة لها، وأنَّ العوالم خاضعة في مجراها لسنن ثابتة لا معلقة تمسكها يد خفية وتديرها كما تشاء، وبحسب ما لها من الأهواء.

ولا يخفى عنك ما اقتضى نشر هذا التعليم من العناء، وما اعترض في سبيله من الموانع، وما أوجب على ذويه من الاضطهاد حتى بلغ ما بلغ إليه من الانتشار، وقبل أنْ سكن كل ثائر ضده، وقعد كل قائم عليه، ولا يخفى عنك ما أوجب أيضًا من الثورة في تاريخ الإنسان، فشمر الإنسان عن ساعد الجد، وأرسل طرفه إلى الأفلاك يستجليها نواميسها، ويستقصيها مادتها، ومد يده إلى جوف الأرض يستلبها كنوزها، ويستكشفها أسرارها، فانجلت له غوامض الطبيعة، وانكشفت له أسرار الكيمياء، وعرف المواد والعناصر وما لها من الشرائع، وما حوته من الخصائص، ودان له النبات، وذلَّ له الحيوان، وانكشفت أسرار البيولوجيا، وبرزت دفائن البلينتولوجيا، فسأل عن أصل الحياة في آثارها.

وما الفضل في معرفة أصل الإنسان بأقل من ذلك، ومرجع هذا الفضل إلى لامرك ودارون، اللذين ردَّا الإنسان «الهابط من السماء والذي لا يزال يصبو إليها» إلى مقامه الحقيقي في الطبيعة. ولما انتشر هذا المذهب قامت عليه قيامة أصحاب التقليد، المحافظين على المقرر وإنْ كان خطأً، الكارهين لكل مُستَجدٍّ وإنْ كان صوابًا. على أنَّ سرعة انتشار هذا المذهب مع ما هو عليه من الحداثة يتبين منها ما له من القيمة الصحيحة، والحركة التي أثارها في الخواطر ليس لها مثيل في تاريخ الإنسانية، وقد ظهرت مفاعيلها وينتظر منها شيء كثير في المستقبل، فإنها لا تقتصر على تقرير هذه الحقيقة، بل لا بدَّ لها من تغيير الإنسان تغييرًا جوهريًّا، بحيث يتجدد كليًّا كأنه وجد وجودًا جديدًا، فتتغير أخلاقه وفلسفته وسياسته وشرائعه وحكوماته، وغير ذلك مما يتعلق بهيئته الاجتماعية.

ولا يسبق إلى فهمك على سبيل الجد أو المزاح أنَّ هذا التغيير تكون نتيجته رجوع الإنسان إلى الأخلاق الوحشية، أو كما قالت إحدى السيدات الإنكليزيات لدارون: «إنَّ الساعة التي يتأيد فيها هذا المذهب ينتقض بنيان الفضيلة في البشر.» كلا، بل بالضد من ذلك يقوى بنيان الفضيلة، ويستقيم أمرها عمَّا هي اليوم عليه؛ إذ هي اليوم غائية لا يعملها الإنسان إلا خوفًا من عقاب أو طمعًا بالثواب.

وأما تلك فتكون اضطرارية قياسية؛ لاستقامة أحكام العقل بميزان العلم الصحيح — ولا يوهمنك ما جاء في إحدى المجلات، وقد قسمت الصدق إلى أربعة أقسام، منها اثنان صدق بالفطرة، وصدق بالخوف من الدين، مفضلة هذا الأخير على الأول، تفضيل الشرير المغلول الذي لا يقدر على عمل الشر؛ لتقيُّده على الصالح المطلق الحرية الذي إنما يصنع الصلاح؛ لأنه تعوده، ولا أعلم كيف صحَّ في قياسها هذا التفضيل، ولعل السبب ما نحن في صدده.

ولا يخفى عليك أنَّ مصائب الإنسان الكثيرة الألوان منشؤها الجهل، ولولا الجهل لما رأينا الزارع الذي هو أهم أركان الهيئة الاجتماعية يتضور جوعًا حال كون الملك يكاد ينشق من تخم، ولولا الجهل لما سنَّ الناس الشرائع التي يهضم بها الكبير حقوق الصغير — ولما رأيت بعضهم يعربد علينا كالبعير — ولما كثر تحامل الناس بعضهم على بعض، ولما فشا الكذب في نوع الإنسان، وطال لسان الرياء، وقصر لسان الحرية، وزاد الشر في بني البشر.

فالإنسان كالشجرة لا تستقيم إذا نمت عوجاء، ولا تعوج إذا نمت مقومة؛ لأن صفات الإنسان تنمو فيه قويمة إذا استقامت بالعلوم الحقيقية، والمبادئ الصحيحة، ومعوجَّة إذا تعوجت بالمبادئ الكاذبة، فإذا كانت مبادئ الإنسان صحيحة كان صحيح القياس، صحيح الحكم، وإلا فإن كانت فاسدة كان فاسد القياس، فاسد الحكم، قضية مسلمة لا يصح فيها خلاف، وكأني بك وقد تأملت صحة هذا القول تنقبض نفسك يأسًا؛ إذ تقنط من صلاح الهيئة الاجتماعية لعلمك أنَّ الحقائق سلطانها قليل، وأنَّ السائد إنما هو سلطان الأوهام.

نعم، إنَّ صلاح الهيئة الاجتماعية صلاحًا تامًّا عامًّا لا يكون إلا إذا كان العلم الصحيح تامًّا عامًّا، ولا بدَّ منه يومًا ما إلا أن ذلك الزمان بعيد جدًّا، وربما لزم له مئات من الأجيال؛ لأن إزالة ما رسخ في العقل من المبادئ في ألوف من الأجيال ليست بالأمر السهل، على أنَّ ما لا يُنال كله لا يترك كله، والطفرة في كل شيء محال، فانتقال الإنسان من الجهل التام إلى العلم التام يستحيل في نظام هذا الكون دفعة واحدة، إلا على سبيل المعجزات. ولا أظنك تجهل مبلغ المعجزات من الحقيقة، فلا بدَّ إذن من السير البطيء في ارتقاء درج الكمال. فحال الإنسان من ذلك أدبيًّا كحاله طبيعيًّا، فهو لم يوجد كما هو الآن دفعة واحدة، بل اقتضى له ملايين من السنين حتى خرج من الحيوانية إلى الإنسانية، وهكذا لا بدَّ له في قطع المسافات البعيدة التي تفصل بين أحواله الأدبية من السير البطيء المتمهل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤