الفصل السابع

مناظرة أصحاب الخلق وأصحاب القدم

وخالف الماديون سواهم في أصل المادة فقالوا: إنها أزلية؛ لأنهم رأوا أن المادة كالقوة لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، فهي واحدة لا تنقص ولا تزيد ولا تتغير إلا في الصورة، قالوا: ونحن لا نعلم غير ذلك، فرُدَّ عليهم أن عدم العلم بالشيء لا يجعله غير ممكن، فالحدوث ممكن، قال الماديون: ولكن ذلك ليس من باب العلم، بل من باب الإيمان، وهذا لا ننازعكم لأجله، ولا يحق لكم أن تنازعونا كذلك، فرُدَّ عليهم: بل من باب العلم العقلي؛ أي الفلسفة، والفلسفة العقلية لا ترى بدًّا من الإقرار به.

قال الماديون: إن العقل لا يعلم شيئًا غير ما أتى به الاختبار، ولا يحكم بشيء إلا بالقياس على هذا العلم، فإذا كنا لا نعلم خلق المادة ولا ملاشاتها، فكيف يمكن لنا أن نحكم بهما؟ وما الفلسفة إلا القياس العلمي بأوسع ما يقدر العقل أن يتصرف فيه — وقد تقدم أن العلم لا يدرك ذلك — فالفلسفة لا تقدر أن تدرك إلا ما يأذن العلم به، فرد عليهم: وكيف جاز لكم إذن الحكم بالجوهر الفرد وعلمكم لا يدركه؟ قالوا: إنَّا وإن كنا لا ندركه فإنمًا حمكنا به لانطباقه على الحوادث التي لا بد من الاعتراف بها، فحكمنا به من باب القياس العلمي.

فرد عليهم: «على أنَّا لو سلمنا بأن الأجسام مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلا نسلم بأزليتها بلا برهان ولا دليل على ذلك سوى الوهم، كما هو دأبكم في كل أصول مذهبكم المادي.» قالوا: أما دليلنا فعلميٌّ؛ لأن المادة — كما تقدم — لا يستطاع خلقها ولا ملاشاتها، وعقليٌّ؛ لأن العقل لا يسلم بوجود شيء من لا شيء، ولا باستحالة شيء إلى لا شيء. فيا للعجب! كيف ترموننا بعد ذلك بالوهم؟! فما دليلكم يا ترى غير الإيمان؟! وأيٌّ أقرب إلى الوهم؟! فرد بأن الشيء لا يقدر أن يُوجِدَ نفسه، ولا بد له من مُوجِدٍ سواه؛ ولهذا يُحكم بخلق المادة؛ لأنها موجودة ولا تقدر أن تُوجِدَ نفسها.

قالوا: فمن أين علمتم أن الشيء لا يُوجِدُ نفسه؟ أوَلَا ترون أنه يصح لنا أن ندفع قولكم بنفس اعتراضكم؟! ثم نحن لا نجعل للعالم بداية مطلقة، ولا نعلم له نهاية كذلك حتى يقال: إنه أوجد نفسه، فنحن نسلم به كما هو، كما أنكم تسلمون بالمبدع كما هو.

قال أصحاب الخلق: إن ما نراه في الوجود من النظام يدل على القصد، ولا بد من عقل مدرك يقصد هذا القصد، ومادتكم غير عاقلة، فهي لا تدرك حتى تقصد، فرد أصحاب القدم: إن ما تُسمُّونه قصدًا نسميه ضرورة، فالعوالم لما كان بعضها مرتبطًا ببعض بنواميس معينة كان من الضرورة أنه إذا حصل تغير في شيء يحصل تغير مطابق له في سائر الأشياء، ولذلك لم يكن العالم، ولا هو كائن، ولن يكون بعضه بالنسبة إلى بعض إلا منتظمًا، واللانظام عندنا أمر نسبي.

ثم لو كانت علامات القصد موجودة لاقتضى أن تكون هذه العلامات تامة، والحال أننا نرى أشياء كثيرة لا ينطبق القصد عليها، ولا تنطبق إلا على الضرورة، قالوا: إنكم تجعلون الهيولي واحدة؛ أي متماثلة، وكيف يمكن للشيء المتماثل أن يترتب مع نفسه ويظهر بصور مختلفة؟ فردوا عليهم: إنكم نخالكم تُسلِّمون بتحول القوة من حال إلى حال، وهي واحدة، أي متماثلة في أصلها، فكيف لا يكون للمادة ما للقوة المتصلة بها؟ ثم إن تماثل الذات لا يلزم منه تماثل الصفات، وإلا لكان العالم جمادًا واحدًا، أو نباتًا واحدًا، أو حيوانًا واحدًا، والواقع بخلاف ذلك، قالوا: وإن كنا نُسلِّم بأن القوة واحدة، ولكنا لا نُسلِّم بأنها تقدر على هذا التحول إلا بالعناصر وهي مختلفة، بخلاف هيوليكم فإنها متماثلة.

فرد الماديون: إنَّا لا نفهم معناكم، ولا نفهم كيف تفهمون أنفسكم؛ فإنكم قد ناقضتم وضع مذهبكم، ألا تعلمون أن وحدة القوة يلزم منها وحدة المادة، وإلا كانت القوة متعددة أيضًا؟ فالقوة — أو كما تسمونها أيضًا الحركة — ليست سوى اهتزاز أجزاء المادة، وكيف تكون متماثلة إن لم تكن هذه الأجزاء المادية المهتزة متماثلة كذلك؟ وكيف توفقون بين القولين؟

ثم إن المادة كيفما اعتبرت إما قديمة وإما حادثة، وهي ليست قديمة على قولكم، فلا بد لها من محدث، فإما أن تكون حادثة من شيء موجود أو من لا شيء موجود، ولا يصح أن تكون حادثة من شيء موجود؛ لأن هذا الشيء الموجود إما أن يكون نفس المحدث، أو شيئًا آخر موجودًا أيضًا فينتفي الحدوث، ولا بد أن تكون فعلًا من أفعال المحدث، وإلا لم يكن هو المحدث، فإما أن تكون نفس الفعل أو نتيجته، والفعل ونتيجته موجودان في الفاعل، والفاعل قديم فينتفي الحدوث كذلك، وإن لم يكن الفعل ونتيجته موجودين في نفس الفاعل، فيقتضي أن يكونا ليس منه وهُمَا منه وهو خُلف، وأن يكونا لا شيء وهُمَا شيء، وهو خلف أيضًا.

ثم يقتضي أن يكون الفعل واقعًا على شيء هو لا شيء، ومنفصلًا عن نفس الفعل، والفعل منفصلًا عن نفس الفاعل، وإلا كان الشيء والفعل والفاعل واحدًا، وكيف يكون الشيء منفصلًا مع هذا الارتباط؟ٍ وإن لم يكن منفصلًا فكيف يكون الشيء الحادث غير المحدث؟ فالعقل لا يقدر أن يُسلِّمَ بهذه المتضادات، وإن قلتم: إن وجودًا من نفسه لا يُعقَل، قلنا لكم: إن وجود شيء موجود من لا شيء موجود لا يُعقَل كذلك، فضلًا عن أن هذا القول — إن صح — يُطْلَقُ عليكم كما يُطْلَقُ علينا، فنحن يتعذر علينا معرفة أصل المادة كما يتعذر علينا معرفة ملاشاتها.

قيل: إن ديوجانس رأى غلامًا معه سراج، فقال له: أتعلم من أين تجيء هذه النار؟ قال له الغلام: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء. وإن قلتم: إن قدم المادة يلزم منه قدم معلولاتها، وقدم المركبات من جماد ونبات وحيوان، قلنا لكم: إن قولكم لو صح لوجب أن يطلق على الخلق كما يطلق على النشوء، فالخالقية كالناشئية بالاضطرار، وإلا فتكون القوة الخالقة قد وجدت ساكنة قبل الخلق، والسكون كالعدم لا يعقل، وهو لا يليق بالمادة المنفعلة، فكيف يليق بالقوة الفاعلة؟

على أن الاضطرار للخالقية أو سواها لا يلزم منه استكمال الوجود دفعة واحدة؛ لارتباط العلل والمعلولات بعضها ببعض، وتحولها بعضها إلى بعض، فالحياة يستحيل أن تظهر قبل أن يكون ماء، والماء قبل تَكوُّن هيدروجين وأكسجين، وهما قبل اجتماع أجزاء المادة على كون يتألف منه ذلك، فوجود الحياة متوقف على وجود الماء ولو لحظة قبلها؛ ففي قياس أي عقل يصح وجودهما ووجود سائر المركبات معًا، وهل تكون السفسطة إلا كذلك؟ وإن قلتم: ولا يرد علينا بقدم المبدع وأنه علة العلل؛ لأنه عندنا فاعل مختار يفعل ما شاء متى شاء، قلنا لكم: فبقى أن القضية ليست من باب العلم، بل من باب الإيمان، ولو وقفتم عند هذا الحد لاسترحتم أنتم وأرحتمونا من كل هذا النزاع، وكيف يُعقَلُ وجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة في صورة معقولة، ولا له قسمة في الكم ولا في الكيف ولا في المبادئ، فعله منه وليس منه، متصل به ومنفصل عنه، فلا شك أن ذلك يقتضي إيمانًا شديدًا، وحيث يبتدئ الإيمان ينتهي العلم، والإنسان حر في إيمانه، إلا أن الإيمان ليس له حق بأن يعترض العلم في سيره، والعلم لا يستطيع شيئًا ضده.

وعليه فالفرق بين أصحاب الخَلْق والقِدَم في المادة أنها مخلوقة من لا شيء عند الأولين، وقديمة عند الآخرين، ولا فرق بعد ذلك، فالمادة عند الفريقين لا تتلاشى، بل تنتقل من حال إلى حال بالتفاعل والتركيب والتحليل، والقوة عندهما كالمادة لا تتلاشى، وإنما تتحول في الأجسام تحوُّل المادة فيها؛ فالقوة المبلورة للأملاح هي نفس القوة الموجودة في البسائط المركبة منها هذه الأملاح محولة، كما أن مادة الأملاح هي نفس مادة البسائط المركبة لها محولة، ولا فرق إلا في الأحياء؛ إذ يجعل الحيويون القوة الحيوية غير القوة الطبيعية محولة، مع أنهم يسلمون بأن مادة الأحياء هي نفس المادة الطبيعية محولة. وهنا نظر؛ فإنهم يجعلون القوة الطبيعية واحدة في أصلها، وهي الحركة، وربما جعلوا المادة متعددة العناصر، ثم يجعلون المادة واحدة في بناء العوالم من جماد ونبات وحيوان، والقوة متعددة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤