الفصل الثاني

في التولد الذاتي

اعترض الاستاذ «بتر» على الذين يجعلون الجراثيم سبب الأمراض عمومًا — والأستاذ المذكور ممن يذهب إلى أن الجراثيم قد تكون نتيجة المرض لا سببه دائمًا؛ أي ممن يذهب إلى التولد الذاتي للأحياء الدنيا — قال من مقالة، نُشرت في العدد ١٦٠ للأنيون مديكال، سنة ١٨٨٤، حاول فيها الفصل بين التدرن الرئوي والخنازيري ما نصه:

إن الكيماوي الذي يعلمني أن الألفة الكيماوية تقدر بزيادة مكافئ من الكلور أن تحول مادة غير سامة كأول كلورور الزئبق «زئبق حلو» إلى سم قتال كثاني كلوروره «سليماني»، والذي يعلمني أيضًا أن مواد متساوية المكافئات الكيماوية كالحامض البراطريك والحامض الطرطريك تقدر بموجب ناموس الأيزوميريا أن يكون لها خصائص مختلفة، بحيث إن بعضها يحول النوع المستقطب إلى اليسار، وبعضها إلى اليمين، ويعلمني كذلك أن مادة كالفسفور الأبيض المتبلور السام يتحول بموجب ناموس الألوتروبيا تحت حرارة ٢٤٠ إلى جسم أحمر عديم الشكل غير سام، يريد أن ينكر عليَّ التصديق بوجود ألفة وايزوميريا والوتروبيا حيويات قادرة على أن تفعل في جسدي كما تفعل في الأشياء التي من خارج، وتولد في حالة المرض دقائق مريضة وأنسجة مريضة كما تولد في حالة الصحة دقائق صحيحة وأنسجة صحيحة … ا.ﻫ.

إلا أن هذا القول — وإن كان معقولًا — يرد عليه اليوم اعتراضات كثيرة يصعب دفعها، وهو — وإن صح — لا يفيد شيئًا في إثبات النشوء الذاتي من الجماد رأسًا؛ لأنه إنما هو كائن في الأحياء وواقع تحت فعل الحياة نفسها، فلا بد لنا إذن من تدقيق النظر في هذا الموضوع من وجه آخر، فنقول: ذكرت النشرة الأسبوعية في العدد ٩٧ من السنة الماضية انقراض جيل من الناس من أعظم الأجيال كان يعرف بالغنش، وموطنه الأصلي جزائر كناري، قالت: وكانت علة انقراضه ما مُنِيَ من الأوبئة والعبودية وجور السبانيين في القرن السادس عشر. ا.ﻫ.

وذكر الطبيعيون كذلك انقراض كثير من أنواع الحيوان منذ التاريخ، فالدينورنيس انقرض في زيلاندة الجديدة، والأبيورنيس في مدكسكر، والدرنت وعدة أنواع من السلاحف في جزائر سكارينا، وقد قل الأرخس في أوروبا كثيرًا، وبعض أنواع البال انقرض من بحارنا، والأبتريكوس والستريكبس يقلان بسرعة في زيلاندة الجديدة،١ وانقرض كذلك أجيال كثيرة من البشر غير مَن ذُكر، وذكروا أسباب ذلك أيضًا، وليس فيما ذكروه منها شيءٌ فائق الطبيعة. ولما كان يعلم أن العصر الحالي لا يختلف عن العصور السالفة، كان انقراض الأجيال الأحفورية القديمة قبل التاريخ ينسب إلى أسباب مثل هذه الأسباب، أي إلى أسباب طبيعية كذلك.

ثم يعلم كذلك أن الأنواع الأحفورية المنقرضة قديمًا قد عوض عنها بأنواع أخرى، فلا بد إذن من التعويض عن الأنواع المنقرضة اليوم كما عوض عن تلك، اللهم إلا أن يكون عالم الأحياء سائرًا اليوم نحو الانقراض الكلي. وهذا لا يعقل ولا يُسلِّم به أحد، ولا بدَّ في هذا التعويض من أحد وجهين: إما بالتدريج، أي بتحول الأنواع الموجودة تحولًا بطيئًا متدرجًا، وإما فجأة، فإن لم يكن بالتدريج فلا بدَّ من أن يكون بالخلق أو بالنشوء، أي التولد الذاتي، وفي كليهما لا بدَّ من تكَوُّن الذكر والأنثى في الحيوانات العليا، خاصة من غير أبوين.

ولا يخفى كيف أن تعب بوشه وجولي وموست وبستيان وغيرهم لتوليد الأحياء الدنيا ذاتيًّا قد ذهب سُدًى، وكيف أن باستور قد بيَّن استحالة ذلك في الأحياء الميكروسكوبية، فمن يصدق به يا ترى في الأحياء العليا؟ واستعمال لفظة الخلق عوضًا عن التولد الذاتي لا يزيل الصعوبة؛ لأن الإرادة الخالقة لا تظهر لنا إلا بأفعالها، والعلم لا يستطيع أن يصعد إلى تحقق ما وراء هذه الأفعال.

فالخلق عنده باعتبار التعريف كالتولد الذاتي، أي نشوء حي من لا حي، ولا بد من حدوث ذلك في يوم معين ومكان معين، فما قولك فيمن يقول: إني في يوم كذا، وساعة كذا، رأيت أسدًا أو فيلًا نشأ وشب من الأرض، وهل يصدقه أحد؟ فالعقل لا يجسر أن يقول بالتولد الذاتي إلا بعد أن يسميه خلقًا، ولا بالخلق إلا بعد أن يؤخره إلى زمان تحسب معه الأزمنة الميتولوجية كأمس، فكيف يكون إذن هذا التعويض عن الأنواع المنقرضة إن لم يكن بالتولد الذاتي في الأحياء العليا كما ذهب إليه ليل؛ لأنه والحالة هذه أصعب من الخلق، ولا بالخلق المتعاقب؛ لأن انقراض الأنواع — كما يعلم — حادث بالتدرج؟ فالتعويض عنها يقتضي أن يكون بالتدريج كذلك، وليس فيما يعلم ما يؤيد به مثل هذا التعويض، فلم يبق إلا أن يكون بتحول الأحياء وتكوُّن الأنواع بهذا التحول — كما مر في الكلام على مذهب دارون — ولو لم يكن في هذا المذهب سوى إيضاح هذه القضية إيضاحًا شافيًا لكفى به فائدة للعلم.

قال «بلانشار» — من مقالة في أصل الحياة في جريدة العلم الفرنسوية بتاريخ ٧ شباط سنة ١٨٨٥ ما يأتي:

على أن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الأرض التي كانت في البدء قاحلة وغير مسكونة إنما عرضت فيها الحياة مما أتاها من الجراثيم من بعض الكواكب المصطدمة بها، وهو قول محتمل، إلا أنه غير مقنع، ويظهر لنا أنه لا يحل المسألة، وإنما يزيدها ارتباكًا، فإن لم تكن الحياة قد ظهرت على الأرض ذاتيًّا بفعل أحوال طبيعية وكيماوية، فيلزم أن تكون قد ظهرت ابتداءً على أحد كواكب نظامنا الشمسي، وخصوم التولد الذاتي الذين يتعلقون بجبال هذا التعليل كالملجأ الأخير لهم إنما يبعدون حل هذه المسألة، ولا يأتون فيها بتعليل شافٍ.

ولا يخفى أن الحل الطيفي الذي استطعنا بواسطته أن نعلم تركيب الكواكب الكيماوي أرانا أن هذه الكواكب متكونة من نفس المواد المتكون منها سيارنا، فالصوديوم والمغنيسيوم والهيدروجين والأكسجين والكربون والكلسيوم والحديد والتلوريوم والبزموث والأنتيمون والزئبق … إلخ موجودة هناك كما هي موجودة هنا. وقد علم كذلك من فحص الحجار الجوية أن هذه الأجسام تتحد هناك كما تتحد في أرضنا، فلا بد إذن من أن تكون الأحياء الأول قد تكوَّنت فيها من مواد جامدة شبيهة بموادنا.

فوالحالة هذه ما الفائدة من الزعم بأن أرضنا إنما أتتها الحياة من كوكب اصطدام بها في مروره في الفضاء؟ إذ لا بد من الإقرار في كل الأحوال بأن التعضي قد وقع في المادة في أحد نجوم نظامنا الشمسي، فمن العبث إذن الإصرار على إنكار نشوء الحياة في الأرض. ا.ﻫ.

والذي ارتأى أولًا أن جراثيم الأجسام الحية وقعت مع الرجم هو السير «وليم طمسن» الإنكليزي، ومنذ مدة خطب بعضهم خطبة طويلة في تكوُّن البرد، وقال: إنه يتكون من بخار موجود في الخلاء الذي بين الأجرام السماوية، فما أتم الخطبة حتى وقف السير «وليم طمسن» وقال: أظن الخطيب يمزح فيما يقول؛ لأنه لو فرضنا تكوُّن البرد في تلك الأعالي لذاب قبل أن بلغ الأرض بملايين من الأميال. ولما جلس قام اللورد «ريلي» وقال: أنا أعرف رجلًا ارتأى رأيًا أغرب من هذا، وهو أن بذور الأحياء هبطت على الأرض من السماء، فقال السير «وليم طمسن»: أنا لم أحتم بصحة ذلك، بل قلت بإمكانه، وبأنه لا يمكن أن يقام دليل على فساده.

وإذا تقرر ذلك وعلمنا به ما بين الأحياء من الارتباط لا يبقى علينا إلا النظر إلى الأصل الأول الذي تفرع منه عالم الأحياء، أتكوَّن بفعل خلق خاص أم نشأ ذاتيًّا — ويراد بالنشوء الذاتي نشوء الحياة من المادة بقوة فيها — ونفي الخلق الخاص لا يلزم منه نفي الخلق الكلي، ثم ماذا كان هذا الأصل؟ وفي كلام النشوء والخلق لا بدَّ أن يكون هذا الأصل إما حيًّا كاملًا مؤلفًا من أعضاء مختلفة، أو مادة حية يتألف منها الحي، ففي مذهب النشوء لا يصح أن يكون حيًّا كاملًا؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون هذا الحي قد تكون من المادة وقواها رأسًا بتفاعلات شبيهة بالتفاعلات الكيماوية بدون استعداد سابق فيها، ومثل هذا الحي يعتبر جسمًا مركبًا مختلطًا بعيدًا جدًّا عما تستطيع التفاعلات المذكورة أن تعمله.

ولا يصح في مذهب الخلق كذلك؛ أولًا لأن التعويض عن الأنواع المنقرضة يستلزم خلقًا متعاقبًا، وإلا تلاشت الأنواع مع الزمان، وذلك كما تقدم لا يُعلم، وثانيًا لأنك ترى أن الخالق سلك في الخلق على نظام معلوم، فهو لم يخلق العوالم كما هي الآن، بل قسم الخلق إلى أطوار؛ فإما أن يكون قادرًا ولم يفعل، وإما أن يكون مثل هذا الخلق ممتنعًا، فخلق كل طور إعداديًّا لما بعده لتوقف صور المادة على وجود المادة أولًا، ولتوقف الحياة على الصور الصالحة لها كذلك.

وفي كلا الأمرين لا بد من مراعاة نظام معلوم ربما جازت تسميته اقتصاديًّا في الأول، ويسمى ضروريًّا في الثاني. وقد تقرر أن النظام مطرد في سائر العلوم الطبيعية، فالسماء وكواكبها والأرض وطبقاتها إنما تكونت بالنشوء بعضها من بعض بقوى موجودة فيها، فلماذا لا يكون كذلك في العلوم البيولوجية؛ أي لماذا لا يكون سلوك الخالق في خلق الحياة كسلوكه في سائر الخلق؟ وأي دليل على أنه خالف هذا النظام؟ وهل تنقص الحكمة بذلك؟ فلا بد إذن في الخلق كما في النشوء من تكوُّن المادة الحية من الجماد أولًا قبل الحي. وهنا نقطة ملتقى الماديين بالإلهيين، وإذا أردنا الكلام على نشوء الحياة وجب علينا والحالة هذه أن نبحث عنه لا في الحي نفسه — مهما كان بسيطًا — بل في هذه المادة الحية التي يتألف منها الحي؛ لنعلم إذا كان مثل هذه المادة ممكنًا لها أن تتكون من الجماد رأسًا، وأن تكون ذات حياة أيضًا.

١  الدينورنيس والأبيورنيس والدرنت كانت كالأبتريكوس، الذي لا يزال حيًّا، من أنواع الطير الذي لا يطير، وكان قدُّ الأولين أكبر شيئًا من قدُّ النعامة، والستريكبس كان نوعًا من الببغاء يقطن أوجار الأرض، ويشبه طيور الليل الجوارح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤