الفصل الأول

(مدينة ماسيليا، ساحة عمومية. إلى الخلف بوابة كبيرة، إلى يمين المسرح باب منزل مَيْرون وأبواب منازل أخرى مجاورة. أمام باب منزل ميرون عَجلة غَزْلٍ وسلَّة فيها خيوط. منزل بوليدور أمام منزل مَيْرون.)

(تدخل أكتيا إلى المرسح خارجة من باب منزل مَيْرون.)

أكتيا : ها قد أوشكت الشمس على الغروب، وسنغلق الآن أبواب المدينة، ومع ذلك فلم يأتِ ميرون. أما ابنتي، بارتينيا الشقية، فإنها لا تكاد تنتهي من عملها حتى تطير، كأنها عصفور فُتح له باب القفص. (تنادي) بارتينيا! بارتينيا (تدخل بارتينيا من اليمين).
بارتينيا : ماذا تريدين يا أمي العزيزة؟
أكتيا (تشير إلى الغَزْل) : انظري هنا يا شقية، ما الذي اشتغلتيه اليوم؟ لقد انتهى النهار، وها نحن في الغروب، والغزْل باقٍ على حاله!
بارتينيا : لقد غزلت اليوم ما يكفي، ثم وجدت الجيران يجمعون زيتونًا، فساعدتهم.
أكتيا : لماذا ساعدتيهم؟ كان يجب أن تبقي إلى جانبي. أصغى إليَّ يا شقية، لقد ضيعت حياتك في اللهو واللعب كأنك طفلة صغيرة، وقد آن لكِ الآن أن تضعي حدًّا لذلك، فاسمعي ما أقول.
بارتينيا : ها أنا سامعة يا أمي، ماذا تريدين؟
أكتيا : إن جارنا بوليدور، رجل غني كثير المال، ومع ذلك فلست أنكر أنه متقدم في السن، ولكنه محترم رفيع المقام، وقد خطبك منا، ألا تُصغين؟
بارتينيا (مضطربة) : ها أنا مصغية!
أكتيا : هذا ما تقولينه دائمًا، فأكلمك ساعة أو ساعتين، وأنت متشاغلة لاهية، وأفكارك تجوب المزارع والغابات، ولكن قد آن أن تنظري في المستقبل، وحان وقت التفكير في الزواج، وقد سبق أن رَفَضْتِ مِيرُونْ.
بارتينيا : لأنه عجوز، أبيض الشعر، خشن المعاملة.
أكتيا : وإيفاندور؟
بارتينيا : إيفاندور؟ هاها! لأنه سيئ المنظر، خبيث المخبر.
أكتيا : آه يا جاهلة! ألا تعلمين أنك ترفضين النعمة بهذا الجهل؟ ولكن ستأسفين في المستقبل حين لا يجدي الأسف؛ لأنك مغرورة في نفسك مخدوعة.
بارتينيا : إني لا أزال فتاةً صغيرة يا أمي، فَرِحَةً مسرورة، وأنت وأبي تحباني، فماذا أريد أكثر من ذلك (تضمها أمها إلى صدرها)!
أكتيا : إننا نحبك يا ابنتي حبًّا جمًّا، ولكنك لا تحبيننا.
بارتينيا : أنا يا أمي؟!
أكتيا : نعم، وإلَّا فاتركي لي ولأبيك الحرية في اختيار زوج لك.
بارتينيا : لا، لا يا أمي، لا تختارا بوليدور.
أكتيا : ماذا تريدين؟ أتنتظرين زوجًا من آلهة السماء؟! تكلمي، ماذا تنتظرين؟
بارتينيا (بعد فترة سكوت) : ماذا أنتظر؟ اسمعي يا أمي، لقد كنت تُغَنِّين لي وأنا طفلة صغيرة أغاني الحب وأناشيد المحبين، فكنت أسألك ما هو الحب يا أمي؟ فتقولين لي: إنه عاطفة تتملَّك القلب الخالي، تبتدئ ضعيفة ثم تقوى شيئًا فشيئًا، إلى أن تتغلب على النفس والروح، فتملأهما آمالًا وسرورًا، ويهتف إله الحب بهذه الروح الفَرِحة: إنك مقيمة أيتها المحبوبة في قلب ذلك المحب، فَعيِشي معه، ومُوتي معه! فعندما تقدَّم لخطوبتي مِيرونْ وإيفاندورْ، سألت قلبي هل يحب أحدهما، فلم يجيبني بحرف. ولذلك فإني يا أمي منتظرة صوت قلبي.
أكتيا (على حِده) : يا للآلهة! نُطلِق لألسنتنا العِنان، ولا ندري أن آذان أبنائنا تلتقط ما نقول. (لابنتها) تالله إنك لجاهلة حقًّا! أهذا هو ما تنتظرين؟ إذن فاعلمي أن كلَّ ما كنت أقوله لك لم يكن إلَّا أحاديث خرافة، وقصصًا كاذبة، ولا تَنْسَيْ أن التوفيق لا يسعدك بعد اليوم بخطيبٍ مثل بوليدور الغني الشريف!
بارتينيا : الشريف؟! لو كان شريفًا لما انتهز فرصة احتياج أبي وشدة عَوَزه، فيأخذ منه الأسلحة والدروع بأبخس الأثمان!
أكتيا : هذه أمور لا تفهمينها أنت؛ لأن بوليدور تاجر دقيق حريص، ففكري في الأمر ووافقي عليه، ولو إكرامًا لخاطري يا ابنتي.
بارتينيا : كفى يا أمي، فإني قد عَوَّلت على عدم الخروج إلى الأحراش والغابات مثل سائر البنات أمثالي، وسأتفرغ للغزْل والكدِّ في العمل، مطيعةً أوامرك في كل شيء، إلا مسألة بوليدور؛ لأني لا أريد بالمرة، أبدًا.
أكتيا : أبدًا؟!
بارتينيا : ولماذا تغضبين؟
أكتيا : أَوَليس لي حق في هذا الغضب وأنت ترين أبويك الآن قد كَبِرَا، وأصبحا في حاجة إلى الراحة؟ فأبوك يقضي طول يومه في المزرعة، تكويه الشمس المحرقة، ويرهقه النَّصَب والتعب، ويقضي طول ليله في المصنع، بين السندان والمطرقة، يصنع من الحديد سيوفًا ودروعًا، ليحملها في غده إلى الأسواق المجاورة، وهي حمل ثقيل ينوء تحته؛ على أمل أن يربح فيها قليلًا، نقتات به؟
بارتينيا : مسكين يا أبتاه!
أكتيا : مسكين؟! إنه مسكين جدًّا، يحمل بضائعه على ظهره في الجبال والوهاد، تارة صاعدًا ومرة نازلًا، تَهُبُّ في وجهه الرياح والعواصف، وربما يقع في أيدي القبائل المتوحشة، فيسلبوا متاعه أو يؤذوه أو يقتلوه.
بارتينيا : أماه! أماه!
أكتيا : فأفكر في كل ذلك وأبكي؛ لأنه يحبك بل ويموت في سبيل هنائك، مضحيًا نفسه لأجلك، وفي إمكانك إنقاذه مما هو فيه من الشقاء والتعب، وأن تكفكفي دموعي، وتسعدينا في شيخوختنا، ولكنك لا تريدين! فاذهبي عني أيتها العاقة، اذهبي يا ناكرة الجميل! اذهبي يا من لا تحبين إلا نفسك (تتركها وتذهب إلى المنزل).
بارتينيا (وحدها) : ناكرة الجميل! كلَّا! عاقة لأبي، وهو لأجلي يَجِدُّ نهارَه وليله، ولأجلي يحمل حِمله الثقيل، في الجبال الوعرة، والمضايق الصعبة، يفري جسمه البرد والعواصف! كلَّا كلَّا! لست جاحدة فضلك يا أبتاه، وسأُظهر لأمي خطأ ظنها فيَّ. ولكن ماذا أفعل؟ هل أرتبط بالزواج مع ذلك الشيخ البخيل؟ آه، لا بد من ذلك! فالوداع أيتها الأحلام الجميلة، ووداعًا أيها المستقبل الباسم (تفكر قليلًا) ما الحب إلا خيالًا موهومًا، بلى هو حلم. وما الحياة إلا طيفًا نجهل منها الغد، ولا نعرف منها إلَّا اليوم والأمس! وها أنا الآن أفيق من سكرة الآمال لأقوم بالواجب عليَّ! فالوداع يا أحلام الصبا والشباب، ما دام أبي سيستريح، نعم سيرتاح من كَدِّه وتعبه. ولكن (تنظر إلى الخارج) مَن هذا القادم؟ إنه بوليدور، إذن فلأهرب! كلَّا، بل أبقى لأساوم على سعادتي ما دام لا مفر من بيعها. أراه صورةً مجسمةً من الكبرياء وسوء الخلق والحرص، ولكني مرغمة على زواجه. آهِ يا ربي (تتقدم نحو عجلة الغزْل وتجلس إلى العمل).

(يدخل بوليدور من اليسار.)

بوليدور (لنفسه) : حقًّا لا بد لي من الزواج؛ إذ لا أستطيع الحياة بلا زوجة.
بارتينيا (على حدة) : ما أثقلَ ظلَّه! كأنه يحمل الدنيا على رأسه.
بوليدور (على حدة) : لا أجد امرأة مثل زوجتي المتوفاة؛ لأنها كانت نَشِطة في عملها حريصةً على مالي، فهل يا ترى تستطيع ابنة صانع الأسلحة أن تقوم مقامها؟ (يلتفت فيراها) آَهْ! ها هي وحدها، حقًّا إنها جميلة (يتقدم إليها) أسعد الله صباحك أيتها الفتاة الجميلة. صباح الخير!
بارتينيا : بل قل مساء الخير؛ لأن الشمس قد غربت.
بوليدور : وهل نكون في المساء، وعيناك الجميلتان تضيئان المكان؟
بارتينيا : حسبك يا سيدي هذا الثناء، وخير لنا أن نتكلم بصراحة؛ لأني علمت أنكَ تريد أن تتزوجني.
بوليدور : نعم نعم، هذه هي الصراحة (لنفسه) يظهر أنها مغرمة بي، ولقد صدق ظني.
بارتينيا : أمي هي التي أخبرتني بذلك، ولكني أعجب من وقوع اختيارك عليَّ، ويظهر أنك نسيت خطيبتك الأخرى.
بوليدور : نسيتها؟! كلَّا، فإني لست ممن ينسون، ولكن أسبابًا أخرى حملتني على اختيار غيرها؛ لأن أولادي …
بارتينيا : يا لهم من أيتام مساكين!
بوليدور : إنهم ليسوا مساكين، بل متعبين جدًّا، ولكن ليس من الاقتصاد في شيء أن أُحضر لهم مربية، وأفضِّل زوجةً وديعة تسوسهم باللين واللطف.
بارتينيا : نعم، وتكون في وداعة الحمَل المسوق إلى المذبح!
بوليدور : فضلًا عن أني كثيرًا ما أتغيَّب عن منزلي في أسفاري إلى الأسواق، ولا يحسن أن أترك عيالي وخزائني وأموالي في حراسة خادم، لكن إذا كانت لي زوجة وفيَّة، فإنها تقوم بهذه الشئون، لا سيما وقد تقدَّمت في السن، وكثيرًا ما ألزم الفراش مريضًا ولا أجد مَن يمرِّضني ويسقيني الدواء ويناولني الطعام.
بارتينيا (على حدة) : رويدك يا قلبي.
بوليدور : وستكونين أنت زوجتي، تحبينني وتعيدين لي قوتي وشبابي.
بارتينيا : مهلًا يا سيدي، وأَصْغِ إليَّ، أنت تعلم أن أبي يقضي نهاره في المزرعة، ويقضي ليله في المصنع، ثم يحمل بضاعته على ظهره، ويغشى بها الأسواق، ولكنه الآن أصبح كبير السن، وفي حاجة للراحة، فإذا تزوجتك، هل تفكر في أبي المسكين؟
بوليدور : بالتأكيد، وكيف لا؟ طبعًا أفكر فيه.
بارتينيا : وهل تستطيع أن تعمل له شيئًا؟ قل لي ما الذي تستطيعه؟
بوليدور : بالطبع ستتحسن حاله كثيرًا؛ لأنه سيكون حَمِيَّ، حَمَا بوليدور! بوليدور الغني العظيم الذي ينتهي نسبه إلى الآلهة، فانظري إلى هذا الشرف وفكري فيه.
بارتينيا : ولكن الشرف وحده لا يُشبع ولا يغني من جوع، فما الذي تعمله لأبي؟
بوليدور : قبل كل شيء … أشتري منه سِلَعَه بثمن مناسب.
بارتينيا : بثمن مناسب! هذا فيه صالحك، وماذا أيضًا؟
بوليدور : ماذا أيضًا؟! ثم … ولكن انظري هنا أيتها الفتاة، فإني سآخذك من غير مَهْر، سآخذك كما أنت، من غير مَهْر!
بارتينيا : ولكن ما الذي تعمله من أجل أبي؟
بوليدور : ألا يكفيكِ ذلك؟ إني أراه كثيرًا، بل كثيرًا جدًّا!
بارتينيا : ولا تَزيد عليه شيئًا؟
بوليدور : أَزيد شيئًا، هذا كثير جدًّا!
بارتينيا : أقسم بجميع الآلهة، إن هذا فضل منك عظيم، فأسعد الله مساءك يا سيدي (تتظاهر بالخروج).
بوليدور : ماذا؟ أتذهبين؟ يجب أن تجيبي.
بارتينيا (تقف) : إذا كان لا بد من الجواب، فاسمع: خيرًا لك أن تستحضر مربيةً لأولادك، بأي أجرٍ تريد، ومتى تريد، وأن تشتري لكَ عبدًا يحرس منزلك، وأقفالًا لأبوابك، وإذا مرضت، فاشترِ دواءك بنفسك، واشْرَبْه بنفسك. واعلم أني لا أكره شيئًا في الدنيا مثلما أكرهُك، وهذا هو جوابي لك أيها البخيل الحريص، الذي لا قلب له، فسلامًا عليك يا نسل الآلة! (تدخل منزلها).
بوليدور (وهو ينظر إليها مبهوتًا وهي خارجة) : ما هذا؟ هل سمعت حقًّا؟ أترفضني وأنا بوليدور، صاحب الأموال الطائلة؟ ابنة الرجل الحقير، صانع الأسلحة، تحتقرني أنا الغني العظيم، نسل الآلهة؟ تحتقرني كأني أحد زملاء أبيها؟ تحتقرني وتهزأ بي، وتقول لي إنها لا تكره شيئًا في الدنيا مثلما تكرهني! إذن لا بد من الانتقام! ولكن بأي الوسائل؟ لا أرى خيرًا من أن أرفض مشترى أسلحته، إنما أشتري ديونَه كلها، وأطالبه بها وهو لا يملك شيئًا، فأرفع أمره إلى القضاء، فيصبح أسيري، هو وابنته الفاجرة، فأخرجهما من الدار، بل ومن المدينة كلها! نعم لا بد من ذلك، ولن يهدأ لي بال حتى أنتقم منه، وأشفي الغليل.

(يدخل لَيْكُون من اليسار.)

لَيْكون : نعم أظن أن هذا هو المنزل؛ لأنه قال لي: سر في الشارع العمومي إلى أن تصل إلى البوابة، فتجد منزلي على مقربة منها إلى اليمين. (يذهب على باب البيت المجاور لباب منزل مَيْرُون ويقرعه) افتحوا! افتحوا فإني أحمل لكم أسوأ الأخبار، ومهما ثقلت آذانكم، فلا بدَّ من سماع أخباري المحزنة.
بوليدور (على حدة) : آه! ماذا يريد هذا الرجل؟

(تخرج تيانو من منزلها الذي يدق عليه ليكون.)

تِيَانُو : ماذا تريد يا رجل؟ تكلم!
لَيْكون : هل أنتِ زوجة مَيْرون؟
تِيَانُو : صانع الأسلحة؟ كلَّا، وزوجي تُوفِّي من زمن بعيد.
لَيْكون : إذن فاشكري الآلهة؛ لأن الموت خير من الوقوع في الأسر.
تِيَانُو : آه! من هو؟ ماذا؟ أتتكلم عن ميرون؟
لَيْكون : نعم، فقد وقع في أسر القبائل المتوحشة.
بوليدور (على حدة) : أسره المتوحشون! هذه أخبار سارَّة.
تِيَانُو : ميرون أسير؟
لَيْكون : نعم، وقد رأيته بِعَيْنَي رأسي.
تِيَانُو : يا للآلهة! ميرون!

(يدخل نيوكليس وإلْفينُورْ وأمِينْتَاسْ وغيرهم من أهالي ماسِّيليَا وذلك من البوابة.)

تِيَانُو (متممةً) : ها قد أقبل أصحابه.
نيوكليس : ما هذه الضوضاء؟
تِيَانُو : إلفينور، نيوكليس، إن هذا الرجل يقول إن ميرون وقع أسيرًا في أيدي القبائل المتوحشة.
نيوكليس : كيف! أتقولين حقًّا؟
إلفينور : وكيف حدث ذلك؟ قل لنا يا رجل.
لَيْكون : بينما كنت على الشاطئ من جهة الغابة، أبحث عن مكان صالح، أربط فيه قارب صيدي، إذ رأيت في الغابة رجلًا يحمل حِمْلًا ثقيلًا على ظهره، ثم وضع حِمْلَه على الأرض وجلس ليستريح بجانبه، وما أشعر إلا بأصوات خارجة من الغابة، كأنها أصوات الذئاب الضارية.

(تخرج أكتيا من منزلها بدون أن تلتفت إلى الموجودين.)

أكْتِيَا : ها هي قد تركت عجلة الغزْل بدون أن تعمل شيئًا (تلتفت فترى جيرانها) آه ما هذا؟
لَيْكون (متممًا حديثه) : فإذا هم جماعة من المتوحشين، فهجموا عليه وهم يصخبون ويلعنون فسلبوا ما كان معه ثم سألوه عن اسمه، ولما قال لهم إنه صانع أسلحة في ماسِّيليا، صاحوا صيحة الفرح والنصر وأخذوه معهم، بعد أن أوثقوه بالحبال.
أكْتِيَا : صانع أسلحة! أوثقوه وأخذوه معهم! قل لي يا رجل من هو ذلك النفْس؟ تكلم!
لَيْكون (مشيرًا بيده إلى الجماعة) : أهذه زوجة ميرون؟
أكْتِيَا : نعم زوجته! إذن فهو زوجي ميرون؟ تكلم، لا لا! إنه ليس ميرون فقل لي الحقيقة بسرعة.
لَيْكون (بعد السكوت برهة) : زوجك ميرون أسره المتوحشون.
أكْتِيَا (صارخة جازعة) : وا ويلاه (ثم تسقط على الأرض فاقدة الصواب).
نيوكليس : لقد خارت قواها وأغشي عليها.
إلفينور : سقطت على الأرض.
تِيَانُو (آخذة بيدها) : ساعدوني! ساعدوني! احملوها إلى منزلها (يحملونها إلى داخل المنزل).
أمينتاس : وهل أولئك المتوحشون من الجبال؟
لَيْكون : نعم، وهم الذين خرجوا من جبالهم منذ ثلاثة أسابيع رغمًا عمَّا بيننا وبينهم من المعاهدات، فخربوا المزارع والحقول وسرقوا الماشية واغتصبوا الأغنام، وقطعوا الطرق على المسافرين، وها هم الآن يأسرون ميرون المسكين.
بارتينيا (خارجة من المنزل بسرعة) : أين الرجل الذي يحمل هذه الأخبار المزعجة؟ تكلم! هل هو أبي؟ أهذا صحيح؟ وهل رأيته بنفسك؟
لَيْكون : لم يكن بيني وبينه أكثر من عشر خطوات.
بارتينيا : وهربتَ بينما أسره المتوحشون؟
لَيْكون : لقد اختفيت خلف الأشجار الضخمة ولم أجسر على الإتيان بأية حركة إلى أن انتهت المسألة فنجوت بنفسي. ولكن الرجل لمحني فقال لي: «أنا ميرون من ماسِّيليا، أنا صانع الأسلحة، فبحق الآلهة إلا ما ذهبت إلى امرأتي وابنتي، ورجوتهما في استحضار فديتي.» وعند ذلك قال لي أحد المتوحشين، وهم يسحبون أباكِ المسكين: «إن فديته ثلاثون أوقية من الفضة.» ثم اختفوا به في الجبال.
بارتينيا : إذن فهو الآن أسير. قفي أيتها الدموع، وتحمَّل ألم المصاب يا قلبي (إلى لَيْكون) أتقول إنهم أخذوه إلى الجبال وإنهم يطلبون فديته! بيتنا ومزارعنا وكل ما نمتلك مرهون فنحن لا نمتلك شيئًا ولكن هنا أصدقاؤه وأصحابه (موجهة الحديث إلى كل منهم) نيوكليس! ألا تساعده! وأنت يا أمينتاس، أنت يا رفيق صباه، أنت يا مَن شاركته في لهو الطفولة والشباب، وشقاء الهَرَم والكبر، إنك لتفتديه، وإنك على ذلك لقدير. تكلموا، تكلموا أيها الأصدقاء قولوا نعم، أقرضونا الفدية!
أمينتاس : أنا؟ ثلاثين أوقيةً من الفضة؟ ليتني أمتلك هذا القدر لعيالي.
نيوكليس : إن ثروتي كلَّها على متن البحار، ومن ذا الذي يأمن العواصف والأمواج؟
بوليدور : آهاه!
بارتينيا (إلى نيوكليس) : ارْحَمْهُ ترحمْك الآلهة وَتَعُدْ إليك مراكبك سالمة! ارحموه تُرْحَمُوا وتُرْحَمْ أبناؤكم! أنقذوه أيها الناس! ألا فلتغسل دموعي أحزان أمي.
نيوكليس : لا أستطيع مساعدته.
بارتينيا : وأنت يا أمينتاس؟
أمينتاس : لا أستطيع.
بارتينيا : يا للصداقة! إنها ليست إلَّا حديث خرافة، فيا لأبي المسكين!

(يسمع صوت حاجب حاكم المدينة في الخارج.)

الحاجب (في الخارج) : أفسحوا الطريق لسمو الحاكم! أفسحوا الطريق!
بارتينيا : آه، الحاكم لقد نجوتَ يا أبي؛ فإن ماسِّيليا تحمي أبناءها.

(يدخل حاجب الحاكم من اليسار، يتقدَّم الحاكم وحاشيته.)

الحاجب : أفسحوا الطريق لسمو الحاكم.
بارتينيا (راكعة على قَدَمَيِ الحاكم) : النجدة يا مولاي النجدة!
الحاكم : تكلَّمي يا فتاة، لماذا تطلبين منا النجدة؟
بارتينيا : أنقذه يا مولاي! ميرون صانع الأسلحة، أبي يا مولاي، أخذه المتوحشون إلى الجبال. أنقذه من الأسر يا مولاي، أنقذه من العبودية!
الحاكم : أحد رعايانا في الخطر، وماذا تريدين منا؟
بارتينيا : دُقَّ الطبول يا مولاي، لتهبَّ المدينة إلى السلاح فتسترد ماسِّيليا ببطشها أحد أبنائها الأبرار وتنقذه من أسر السفاحين، وتعيده إلى بيته حُرًّا مرة أخرى.
الحاكم : هذا لا يمكن يا فتاة؛ لأن القانون الأساسي المعمول به منذ نشأة ماسِّيليا وعقب حروبها مع سكان الشواطئ، يقضي على الأفراد بحماية أنفسهم ما داموا قد تجاوزوا الحدود، وليس علينا حمايتهم إلَّا إلى مرمى ظلال الأسوار. وأبوك قد تجاوز مرمى تلك الظلال؛ وبذلك خالف القانون، فلا سبيل لنا إلى إنقاذه أو إلى محاباته.
بارتينيا : لا أطلب المحاباة يا مولاي بل أريد العدالة والحق! أليست ماسيليا الآن قوية عظيمة، يمتد سلطانها إلى أبعد من مرمى ظلال أسوارها؟ وها أحد أبنائها الآن في الخطر فيجب عليها أن تنقذه، فانقذه يا مولاي الحاكم!
الحاكم : لا نستطيع، واعلمي أنه لو اهتز حجر واحد في بنيان العدل، سقط البنيان كله على الأثر؛ ولذلك فليس في الإمكان مساعدته (يهم بالذهاب).
بارتينيا (تركع على ركبتيها أمامه) : ارْحَمْهُ يا مولاي!
الحاكم : إنما الرحمة قاصرة على الآلهة في السماء، أما هنا في الأرض فلا نملك إلا العدل، وليس من العدل أن نضحي مصلحة الجميع لأجل مصلحة الفرد، فأفسحي الطريق!
الحاجب : أفسحوا الطريق لسمو الحاكم.

(يخرج الحاجب والحاكم والحاشية من اليمين.)

بارتينيا (خلفهم) : الرحمة الرحمة! وا أسفاه! ليس من يشفق عليَّ أو يصغي إليَّ، بل كلهم يولُّون عني ويتركوني في حزني! فأين منكِ الرحمة أيتها الآلهة (تركع على ركبتيها وتخفي وجهها في يديها)!
بوليدور (على حِده وهو يفرك يديه) : لا أستطيع المساعدة! إني أحبكم من صميم قلبي يا عُبَّاد الذهب؛ لأنكم قلتم حقًّا. لا أستطيع المساعدة، هذا صحيح. لقد ذهبوا كلهم وتخلَّوا عنها، وأتى الآن دَوري.
بارتينيا (ترفع رأسها وتتلفَّت حولها) : لا بد أن أحصل على المساعدة بأية وسيلة كانت، وها هو بوليدور، إذن فلأضحي نفسي لأنقذ أبي.
بوليدور : إن بوليدور ليس بعيدًا عنك، فماذا تريدين؟
بارتينيا : ها أنا ذا يا سيدي راكعة على قدميك، باكية وضارعة إليك.
بوليدور : آه، انظري الآن! هل تتواضعين إلى هذا الحد؟
بارتينيا : تناسَ يا سيدي كلَّ شيء، سامحني، رُدَّ عليَّ أبي، فأكون زوجتك بل خادمتك وأَمَتَك.
بوليدور : أصحيح ما تقولين؟
بارتينيا : أحرصُ على خدمة بيتك ومتاعك، وأسلِّيك في شيخوختك وأربِّي لك أبناءك.
بوليدور : أتفعلين كلَّ ذلك؟
بارتينيا : نعم يا سيدي وأكثر منه، فادفع الفدية وردَّ عليَّ أبي.
بوليدور : إذن فأنت تطلبين ثلاثين أوقية من الفضة؟ لا لا، هذا كثير، لا سيما وأني رجل أتبع نُصْحَ الناصحين، ولقد أشرتِ عليَّ منذ برهة بأن أستأجر مربيةً لأبنائي، وأن أكتفي في حراسة منزلي بأقفال لأبوابي، وإذا مرضت فأشتري الدواء بنفسي. أليس هذا ما كنتِ تقولين؟ إنها لنصيحة طيبة حقًّا، والآن فإني أنصحك نصيحة مثلها، فأنقذي أباك بنفسك وابحثي عنه في تلك الجبال، واستعملي فصاحتك مع أولئك المتوحِّشين، لعلهم يقدِّرونها بثلاثين أوقية من الفضة تفتدين بها أباك، هاهاها! لقد احتقرتِ بوليدور، والآن أنتقم منك لهذا الاحتقار، فإلى الملتقى، هاهاها (يخرج من الشمال).
بارتينيا (بعد فترة من السكوت والتفكير) : ما هذه الفكرة التي تغلَّبت على قلبي اليائس! حقًّا إنها لوحي الآلهة! فهيا هيا؛ لأن الليل بدأ يخيِّم على الكون، وقد آن لي وقت العمل، ولكن ماذا يَحُلُّ بأمي المسكينة. (تنادي) تيانو، تيانو (تخرج تيانو من منزلها) ماذا حَلَّ بأمِّي؟
تيانو : غلب عليها الحزن فنامت.
بارتينيا : تيانو، إني أترك أمي في رعايتك؛ لأني ذاهبة إلى الجبال.
تيانو : الآن؟ وفي هذا الليل؟
بارتينيا : نعم، فالوداع يا تيانو!
تيانو : ماذا تقولين؟ أتذهبين وحدك؟
بارتينيا : إن الله معي (تجري بسرعة).
تيانو : بارتينيا اسمعي!
بارتينيا : كلَّا كلَّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤