أمنمحات الرابع (١٨٠١–١٧٨٨ق.م)

(١) حالة البلاد عند توليته الملك

بعد وفاة «أمنمحات الثالث» العظيم يظهر أن «أمنمحات الرابع» ابنه قد انفرد بالملك، وقد كان لقب تتويجه «ني ماع خرورع».

وتدل الكشوف الحديثة على أنه كان مشتركًا حقيقة مع والده في الملك، غير أن مدة هذا الاشتراك لم تحدَّد بعد؛ ويقول البعض إنه لم ينفرد بالملك وحده.

ولا نزاع في أن «أمنمحات الثالث» قد ترك لابنه مملكة عظيمة المنزلة، ثابتة النظام، بفضل جمع السلطة كلها في قبضة الفرعون، وتلاشي أمراء المقاطعات الوراثيين جملة من البلاد، واستبداله بهم موظفين تابعين للحكومة الرئيسية، غير أن هذا النوع من الحكم المطلق له عيبه؛ فإن السلطة المطلقة إذا جُمعت في يد فرد واحد قوي، ثم جاء خَلَفه ضعيف الشكيمة خائر القوة كان ذلك نذيرًا بانتقاض ذلك البناء الضخم الذي شيده من سبقه من الأقوياء، وتلك حال أثبتها التاريخ في كل عصوره، وبخاصة بعد أن تصعد البلاد المحكومة حكمًا فرديًّا إلى أبعد شأو لها في المدنية والتحضر والفتوح، ولقد أصبحت هذه حال البلاد المصرية بعد وفاة عاهلها العظيم «أمنمحات الثالث»؛ إذ تدل شواهد الأمور كلها على أن «أمنمحات الرابع» لم يكن بالشخصية البارزة المناضلة مثل والده وأجداده الذين كانوا يسيرون بالبلاد دائمًا إلى الأمام، نقول هذا رغم ما تركه لنا من مخلفات وآثار في طول البلاد وعرضها، تدل على نشاطه وجده اللذين كانا يتفقان مع ما أوتي من عزيمة وهمة محدودتين.

fig32
شكل ١: معبد مدينة «كوم ماضي» من عهد الدولة الوسطى.

والظاهر أن هذا الفرعون لم يشن أية حرب خارج الحدود المصرية؛ إذ لم تصلنا حتى الآن نقوش تدل على ذلك، وليس هذا بغريب، فقد ترك له والده البلاد هادئة مطمئنة في كل تخومها؛ ولذلك نرى أن «أمنمحات» قد نشط بعض الشيء بالنسبة لأسلافه في إرسال البعوث السلمية لاستحضار الأحجار والمعادن لإقامة المباني الدينية التي وصل إلينا بعض المعلومات عنها، وبخاصة المعبد الذي أقامه بالاشتراك مع والده، وهو الذي كُشف عنه حديثًا في مدينة «كوم ماضي» في عام ١٩٣٦، وقبل أن نتكلم عن بعوثه وآثاره الأخرى في البلاد، آثرنا أن نفصل القول بعض الشيء عن هذا المعبد، وتاريخ المكان الذي أقيم فيه، وأهمية البناء نفسه من الوجهة الدينية والفنية والتاريخية، وذلك لعدم صدور بيان شافٍ حتى الآن عن هذا المعبد والمكان الذي أقيم فيه.

(٢) مدينة «كوم ماضي» ومعبدها

في عام ١٩٣٦ كشفت بعثة جامعة «ميلانو» معبدًا صغيرًا يرجع تاريخه للأسرة الثانية عشرة أثناء أعمال الحفر التي قام بها الأستاذ «فوليانو» في مدينة «كوم ماضي» الواقعة جنوب غربي «الفيوم»، ويرجع تاريخ إقامة هذا المعبد إلى أيام الحكم المشترك للفرعونين «أمنمحات الثالث والرابع»، وتدل الآثار الباقية على أن دهليز هذا المعبد قد اختفى. ويتألف المعبد من صرحين على الجانبين، تتوسطهما قاعة عمد تتصل بباب عظيم وممر ضيق إلى ثلاث مقاصير أو هياكل صغيرة لا يزال سقفها محفوظًا حتى الآن، وكانت مخصصة لعبادة ثالوث هذه الجهة، ويتألف من الآلهة «رننوتت» وهي على صورة ثعبان، تقول عنه النقوش إنه كان «حيا»، ثم الإله «سبك» الذي كان يُعبد كثيرًا في تلك الجهة في صورة تمساح، والإله «حور» أو «شدت حور»؛ أي (حور الفيوم).

ولا يدل ما بقي من النقوش والرسوم البادية في جدران هذا المعبد على ما كان عليه المتفنن المصري من الدقة والمهارة في هذا العصر الذهبي، وتحتوي هذه النقوش في جملتها على مراسيم التطهر، ووضع الأساس، وتقديم القربان، غير أن عدم الدقة لا يقلل من أهمية هذا المعبد الذي يعد من المباني الدينية النادرة في هذا العصر.

وتقع مدينة «كوم ماضي» الآن في قلب الصحراء على بعد عدة كيلومترات من الأراضي الزراعية، رغم أنها كانت في الدولة الوسطى إحدى المدن التي نشأت على شاطئ البحيرة القديمة؛ وكانت تصلها المياه العذبة ليستقي بها أهلها، ويروون بها حقولها من ترعة أشارت إليها نصوص الدول الوسطى، وكانت تبتدئ عند «اللاهون» وتسير غربًا، ثم شمالًا فتروي جميع البلاد الواقعة جنوب وغرب مديرية «الفيوم».

وظلت هذه المدينة عامرة حتى أيام العرب، فلما زاد الأهالي في تطهير الترع بعد أيام الفاطميين، وإصلاح الجسور، لم تعد المياه تصل إلى البلاد النائية، فجفت حقولها وهجرها أهلها، وتحولت بعد وقت قليل إلى صحراء بعد أن غطتها الرمال.

وكانت هذه المنطقة عامرة في أيام الدول الوسطى والحديثة، ولكن تضاءل شأنها بعد ذلك إلى أن ازدهرت مرة أخرى في أيام البطالمة، واستمر هذا الازدهار حتى أوائل عصر الرومان.

وصف معبد الدولة الوسطى وأهميته

والمعبد القديم مبني فوق ربوة تشرف على البحيرة القديمة، وجدرانه كلها مغطاة بالنقوش، وقد أصلح في عهد الأسرة التاسعة عشرة، ولكن هذه الإصلاحات لم تمتد إلى إصلاح المعبد الأصلي.

والظاهر أنه في عهد البطالمة والرومان قد زِيد في البناء القديم بإنشاء عدة ردهات أمامه، كما أنشئوا طريقًا طويلًا وضعت على جانبيه تماثيل «بو الهول» كما بنوا أيضًا في العصر اليوناني الروماني معبدًا كبيرًا خلف معبد الدولة الوسطى.

وهذه المعابد تتوسط مدينة كبيرة لم ينلها كثير من التخريب والتدمير في العصور الحديثة، وبخاصة على يد المسمدين؛ لبعدها عن الزراعة؛ من أجل هذا عثرت فيها البعثة في الفترات المتقطعة التي قامت فيها بأعمال الحفر على آثار قيمة من أوراق البردي والاستراكا والتماثيل، ولكن لم يتناول عمل البعثة إلا جزءًا يسيرًا من المدينة القديمة التي تنتظر معول الحفار، ومعبد الدولة الوسطى هو بلا شك أهم آثار مدينة «كوم ماضي» إن لم يكن من أهم الآثار في مصر كلها؛ إذ إنه رغم صغره كما قلنا في حالة جيدة، ويضيف إلى معلوماتنا عن ديانة قدماء المصريين وهندسة بنيانهم في الأسرة الثانية عشرة شيئًا لا يستهان به.

ومن النقوش التي تلفت النظر في هذا المعبد كذلك النقوش التي تنبئ بأن «أمنمحات الثالث» احتفل بعيده الثاني من أعياد «سد» (أي عيد الثلاثين)، ولعل هذا البناء كان قد أقيم لأجل هذه المناسبة في حكمه المشترك فيه مع ابنه «أمنمحات الرابع».

(٣) هرم أمنمحات الرابع

وقد عزا المستر «ماكي»، إلى هذا الفرعون بناء هرم «مزغونة» الجنوبي وقال: إنه دفن فيه (Petrie, “Labyrinth” P. 49)، وكذلك عزا الهرم الأخير الموجود في هذه الجهة إلى أحد أخلاف «أمنمحات الثالث» المباشرين، وهذان الهرمان يقعان على بعد عدة كليومترات جنوبًا من جسر «دهشور»، غير أن الأستاذ «جيكيه» بعد فحص هذين المبنيين ألحقهما من حيث فن العمارة إلى مباني عصر الأسرة الثالثة عشرة، وبخاصة بعد أن وجد تشابهًا عظيمًا بينهما وبين هرم «خنزر» وما وُجد فيه من الآثار المشابهة لما وجد فيهما (Jequier, “Deux Pyramides du Moyen Empire”, P. 67).
وكذلك ظن «فلندرز بتري» أن الهرم المبني من الحجر في «دهشور» هو لهذا الملك، ارتكانًا منه على نقوش مشكوك فيها وجدت في المحاجر، وهذا الظن بطبيعة الحال يثير أمامنا مسألة المكان الذي دُفن فيه هذا الفرعون، ويجعل ذلك موضع بحث من جديد (Petrie, “Season” P. 17).

(٤) آثار «أمنمحات الرابع» في أنحاء القطر

هذا وقد عُثر لهذا الفرعون على آثار عدة في جهات متفرقة في أنحاء القطر وخارجه، منها هياكل أو تماثيل، ومنها نقوش على لوحات أقامها رجال البحوث الذين أرسلهم في حملات لقطع الأحجار، أو استحضار الأحجار نصف الكريمة، وسنتناول كلا من هذه المخلفات على حدة، فمن التماثيل التي وجدت له أو كُتب عليها اسمه ما يأتي:
  • (١)
    تمثال من الجرانيت الأسود للإلهة «حتحور» وقد عثر عليه في «طيبة» راجع (L. D. Vol. II, Pls. 120, f. g. 140, m.; Berlin. No. 1117).
  • (٢)
    ويوجد له بمتحف الإسكندرية الآن تمثال مزدوج من حجر «الكوارتسيت» المستخرج من «الجبل الأحمر»، وقد وجد رأس التمثال مهشمًا وعثر عليه في «أبي قير»، ويلاحظ أن اسم الفرعون الذي كان على صدر التمثال قد حُووِل محوه، ولكن لحسن الحظ كانت قد كُرِّرت كتابته بين مخلابي التمثال فعرف تمامًا (Daninos, “Rec. Trav.”, Vol. XII, P. 213; A. S. Vol. V. P. 116).
  • (٣)
    وكذلك عثر على الجزء الأمامي لتمثال له في صورة «بو الهول» من حجر الكوارتسيت لا يعلم مصدره الأصلي، وقد كُتب صدره بحروف غائرة «ملك الوجه القبلي والبحري» رب الأرضين «ماع خرورع» ومعطي الحياة، (Borchardt, “statuen Und Statuetten Von Konigen und Privatleuten im Museum Kairo”, No. 338, Cairo Register No. 25778).
  • (٤)
    وعثر على قاعدة من الجرانيت الأحمر باسم هذا الفرعون واسم والده «أمنمحات الثالث»، وقد استخرجت من رصيف الأحجار الواقع جنوب «البوابة» الثالثة للفرعون «أمنحوتب الثالث» بالكرنك، ويبلغ ارتفاعها نحو ثمانمائة وأربعة وثلاثين سنتيمترًا، أما سطحها الأعلى فيبلغ طوله ١٫٥٥ مترًا وعرضه ٠٫٨٩٧ من المتر، وتدل النقوش الغائرة في هذه القاعدة على أن «أمنمحات الثالث» قد شغل النصف الأيمن للناظر من هذه اللوحة، وشغل «أمنمحات الرابع» الجزء الأيسر منها بنقوش مماثلة تقريبًا، وهي عبارة عن تقديم هذا الأثر للإله «آمون» رب عروش الأرضين، ولا نزاع في أن هذا النقش هو برهان آخر على ما ذكرناه وذكره بعض المؤرخين من أن هذين الفرعونين كانا قد اشتركا مدة معًا في الحكم (Gauthier, “Livre des Rois”, Vol. I, P. 338, Note 2; Breasted, “A History of Egypt” “2nd ed” P. 208).

    والظاهر من النقوش التي وجدت على سطح هذه القاعدة أن هذا الأثر كان قد صُنع ليوضع عليه «ناووس» أو سفينة مقدسة للإله «آمون»، وهذه النقوش لم يظهر فيها أي محو من جانب، «أمنمحات الرابع»، بل على العكس نجد أن الجهة اليسرى من هذه اللوحة أكبر من الجهة اليمنى بنحو أربعة سنتيمترات، مما يدل على أنه لم يكن هناك اغتصاب من جانب «أمنمحات الرابع»، ونجد على الجزء الأمامي من النقوش أن كلًّا من الملكين يقدّم هذا الأثر للإله «آمون» كما ذكرنا.

    ونرى على الجزء العلوي من القاعدة نقشين مختلفين: أحدهما للفرعون «أمنمحات الثالث» والثاني «لأمنمحات الرابع»، فالنقش التالي للفرعون «أمنمحات الثالث» هو:
    حور الحي عظيم البأس، سيد التاجين، الذي يستولي على إرث القطرين، حور الذهبي، صاحب الحياة الدائمة، ملك الجنوب والشمال «نيماعت رع»، ابن الشمس الذي أنجبه من جوفه.١ لقد عمل هذا أثرًا مهدى لوالده «آمون رع» سيد عروش الأرضين، وسيد «الكرنك»، لقد عمل له قاعدة من الجرانيت الأحمر يمكن الإله أن يجلس عليها لينال ملك الجنوب والشمال «نيماعت رع» «حظ آمون» من الحياة، والثبات، والسعادة، والصحة، ولينال كذلك حظ التمتع مع روحه على عرش «حور» الأحياء مثل «رع» مخلدًا.
    أما النقش الخاص بالفرعون «أمنمحات الرابع» فهو:

    «حور» الحي، كائن الكائنات، سيد التاجين، الذي يجعل الأرض في عيد، حور الذهبي، رئيس الآلهة، ملك الوجه القبلي والوجه البحري، «ماع خرورع» ابن الشمس، من جوفه «أمنمحات»، لقد عمل هذا أثرًا لوالده «آمون رع» رب عروش الأرضين، وسيد «الكرنك». لقد عمل قاعدة كرسي من الجرانيت الأحمر يمكن الإله أن يجلس عليها، لينال ملك الوجهين القبلي والبحري «ماع خرورع» من آمون الحياة والثبات والصحة والسعادة، وكذلك لينال (حظ) التمتع مع روحه على عرش «حور» ملك الأحياء مثل «رع» مخلدًا.

    فهذا النقش فضلًا عن أنه يظهر لنا «أمنمحات الثالث والرابع» مشتركين معًا في الحكم، فإنه من جهة أخرى يضع أمامنا اللقب «نبتي» (الصل والعقاب) للملك «حور» الذهبي للفرعون «أمنمحات الرابع» لأول مرة في النقوش التي عثر عليها حتى الآن راجع (A. S. Vol. XXIV, PP. 65–68).
  • (٥)
    ويوجد بين آثار المتحف المصري قاعدة «لناووس» كان يحتوي على تمثال للملك أو تمثالين كما يقول المستر «برنتون»، لأجل أن يقدم له القربان (A. S. Vol. XXXIX, P. 178) في احتفال «فتح الفم»، كما تدل على ذلك النقوش الباقية على هذه القاعدة، وقد وجد منقوشًا عليها اسم الفرعون على تسع صور للملك، غير أنه وجد في الوقت نفسه أن هناك اسمًا آخر كان يُذكر بعد اسم الفرعون قد مُحي، وهذا المحو لا يمكن أن يعزى إلى «إخناتون» الذي كان يقصر همه على محو اسم الإله «آمون رع»، بل الواقع أنه كان يدل على خلاف أُسري في أواخر الأسرة الثانية عشرة، وهذا على ما يظهر بعيد الحصول؛ لأن «أمنمحات الرابع» والملكة «سبك نفرو» كما يقول «برنتون» كانا أخًا وأختًا، ومن الجائز إذن أن يكون «أمنمحات الرابع» قد محا اسم والده بعد انفراده هو بالحكم، ولكنا من جهة أخرى نجد اسميهما على كثير من الآثار دون أي محو، ولعل الكشوف التالية تظهر لنا ما يفسر ذلك.

    وهذه القطعة وجدت في «مصر القديمة»، ولا يمكن أن نفسر وجودها في هذه الجهة إلا أن عبادة الملوك الأقدمين كانت مرعية في أمهات المدن الدينية مثل «عين شمس»، وأن هذا الأثر كان قد أقيم له أولًا في هذه الجهة، أو أنه نُقل إلى هذه الجهة واستعمل ثانية في بناء أثر آخر لأحد الملوك الذين أتوا بعدهما.

    وقد ذكر اسم «أمنمحات الرابع» على لوحات بعض الأفراد في عصره، منها لوحة لشخص يدعى «خوي» ويحمل لقب الساقي، ويلاحظ أن هذا الموظف يتقرَّب في أدعيته الدينية للإله «بتاح سكر» وإلى «أوزير» رب «عنخ تاوى» وهي جزء من منف.

    (Aegyptischen Grabstein und Denkstein aus Suddeutschen Sammlungen, Vol. I, P. 8, Pl. VII).

    وكذلك توجد لوحة جنازية من الحجر الجيري لشخص يدعى «إيونف» وهو موظف يلقَّب مدير البيت عاش في الحكم المشترك لكل من «أمنمحات الثالث» وابنه «أمنمحات الرابع».

    هذا؛ وقد وجدت له نقوش قيمة في «قمنة»، وهي لوحة في الصخر كُتب عليها مقاييس مناسيب النيل في السنة الخامسة من حكمه، وتلك سُنة وضعها والده «أمنمحات الثالث» من قبله (L. D. Vol. II, Pl. 152. f.).

(٥) البعوث إلى سينا

تدل النقوش التي خلفها رجال البعوث الذين أوفدوا إلى «سينا» في عهد أمنمحات الرابع على أن نشاطه كان عظيمًا في استخراج المعادن من أنحاء شبه الجزيرة.

وقد عثر رجال بعوثه على نقوش عدة بعضها على لوحات قائمة بذاتها أو على الصخور نفسها، وقد وجدت تواريخ بعوث مؤرخة بحكم هذا الفرعون في السنة الرابعة والسادسة والثامنة والتاسعة، ويلاحظ أن معظم هذه اللوحات لم تذكر لنا بالتحديد الأغراض التي كانت ترسل من أجلها البعوث، بل كان معظمها تذكاريًّا أو تقرُّبًا لآلهة هذه الجهة. ومن أهم من ترك لنا نقوشًا في عهد هذا الفرعون موظف كبير على ما يظهر اسمه «ساسبدو»، وآخر اسمه «كماونخت»، ففي السنة الرابعة أقام الأول لوحة في «سرابة الخادم» جاء فيها «السنة الرابعة في عهد حكم جلالة ملك الوجه القبلي والبحري «ماع خرورع» «أمنمحات الرابع» عاش إلى الأبد، قربان ملكي للإلهة «حتحور» سيدة الدهنج أو الفيروز لروح الشريف «ساسبدو» المبرأ، وصاحب الشرف والذي يحبه سيده حقًّا وخليله، ثابت القدم، وئيد الخُطى، ومن يمدحه سيده، ومن يخترق البلاد الأجنبية بعد الأرضين، حامل الخاتم لخادم مجلس القصر المسمى «كماونخت» المبرأ، ورب الاحترام.» ثم يأتي بعد ذلك نداء للأحياء بأن يقدموا قربانًا إلى «كماونخت» هذا.

ثم يلي هذا رسم تسعة أشخاص يظهر أنهم أهم رجال هذه البعثة يتقدمهم رئيسهم، ويلي ذلك عدة نقوش لموظف يدعى «زاف». ففي السنة السادسة ترك لنا لوحة مستطيلة الشكل تعلوها حلية في صورة جريد النخل، ومزينة من أسفل بواجهة قصر، وقد أرِّخت في السنة السادسة من حكم هذا الفرعون، ويحمل صاحبها لقب وكيل حامل الختم الإلهي (الفرعون)، ومدير مستخدمي البيت الأبيض (الخزانة)، وتشمل النقوش التي حول اللوحة ألقاب «أمنمحات الرابع» الذي يقال عنه إنه محبوب أرض الإله «عنتي»، والمرسوم في اللوحة بصورة غريبة، وهذا الإله كان معروفًا بأنه إله بحري للعبور (راجع كتاب الأدب المصري ص١٤٩) (Gardiner and Peet, Sinai, Pl. XLII, No. 119).
ولدينا نقوش أخرى مؤرَّخة بالسنة السادسة من حكم هذا الفرعون في «وادي مغارة» نقشت في الصخور على صورة لوحات أهمها اثنتان؛ الأولى: يذكر لنا فيها صاحبها إلهَي الجهة وهما: «سبدو» رب الشرق، والإلهة «حتحور» ربة الدهنج أو الفيروز، ثم يذكر صفاته ويطلب إلى كل من أتى إلى هذه الجبال أن يقدم لحامل الختم قربانًا ملكيًّا إلى … (Ibid, Pl. XI).

أما اللوحة الثانية التي نقشت في هذا التاريخ نفسه: فهي لحارس مخزن القصر (خعاي)، وقد جاء فيها: «السنة السادسة من حكم جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري (ماع خرورع) عاش مخلدًا محبوب «سبدو» [رب الشرق] ومحبوب «حتحور» ربة الدهنج أو الفيروز، ثم يذكر لنا أنه تتبع خطوات سيده، وأن جنوده كانت في طاعته لتنفيذ أغراضه (؟).

(Ibid, Pl. XII, No. 33; Breasted, A. R. Vol. I, Par. 750).

ويوجد نقش ثالث بهذا التاريخ نفسه مهشم، ذكر اسم الفرعون واسم صاحبه «سنبو»، وأمه، والصيغة الدينية المعروفة لطلب القربان.

(Gardiner and Peet, Pl. XII, No. 33).
نقوش الموظف «زاف» الأخرى: وفي «سرابة الخادم» أقام «زاف» السالف الذكر لوحة عظيمة (Ibid, Pl. XLII) مؤرَّخة بالسنة السادسة أيضًا، وهذه اللوحة على ما يظهر كانت آية في دقة الصنع؛ غير أنها وُجدت مهشمة ولم يبقَ منها إلا القليل، فنجد في أعلاها السنة السادسة، ولم يذكر لنا اسم الملك، غير أننا عرفناه من صاحب اللوحة، وقد ذكر عليها اسم الإلهة «حتحور» سيدة الدهنج أو الفيروز، ثم الإله «بتاح» ولقب «زاف». وفي أسفل اللوحة نجد منظرًا لشخص جالس وأمامه مائدة قربان محمَّلة بالمأكولات والشراب، ثم نجد لقب كاهن الإلهة «حتحور» حارس حجرة البيت الأبيض (الخزانة) غير أننا لا نعرف اسمه.
(Ibid, Pl. XLIII, No. 120).
ونجد لهذا الموظف بعينه لوحة أخرى، غير أنها مؤرخة بالسنة الثامنة من حكم هذا الفرعون، ومعه آخرون، واللوحة جنازية محضة في نقوشها، وقد جاء فيها ذكر الإلهة «حتحور» وكذلك الإلهة «نيت» (Ibid, Pl. XLIII, No. 121) والإله «سبدو» رب الأراضي الأجنبية (الصحراء)، ولهذا الموظف كذلك لوحة أرِّخت بالسنة التاسعة من حكم هذا الفرعون، (Ibid, Pl. XLV, No. 122).

ومع اللوحة مائدة قربان جاء فيها: «السنة التاسعة، الشهر الثالث من فصل الزرع، اليوم السادس والعشرون (أي إن الرحلة كانت في فصل الصيف).» ويرى في هذه اللوحة منظر يقدِّم الملك فيه آنية للإله «خنتي خاتي» (في صورة صقر)، ثم للإله «سبدو» رب (الصحراء) (؟)، وفي الجزء الأسفل من اللوحة وهو الذي لم يصبه التهشم نجد الصيغة الدينية وقد ذُكر فيها الإله «جب» إله الأرض، ثم الإله «بتاح سكر» إله الموتى في «منف» ثم الإله «أوزير» رب «عنخ تاوى» (جزء من منف)، ثم الإله «خنتي خاتي» رب الإقليم (؟) وهو الإله المحلي «لأتريب» (بنها الحالية)، ثم «حتحور» سيدة «الدهنج» أو «الفيروز» لأجل أن يعطوا «زاف» صاحب اللوحة قربانًا. ومما يؤسف له أن هذه اللوحة مهشمة لدرجة كبيرة، فلم يمكن استخلاص شيء منها كثير، وتنحصر أهميتها في أنها عملت في السنة التاسعة من حكم هذا الفرعون، وكذلك في ذكر الآلهة الذين كان يتعبد لهم في هذه الجهات.

ويوجد فضلًا عما ذكرنا ستة نقوش في «سرابة الخادم» عليها اسم هذا الفرعون، غير أنها مهشمة وغير مؤرخة، وأطولها نقش على جدار في معبد «سرابة الخادم» كتبه «زاف» المعروف لنا، وفيه يشير إلى الأحجار الصلبة والقربان التي كانت تقدَّم للإلهة المحلية في هذه الجهة (Ibid. Pl. XIVl, No. 123)، ثم لوحة كبيرة لمدير المستخدمين «سنبي»، ونجد عليها الملك يعبد كلًّا من الإله «بتاح»؛ والإلهة «حتحور» سيدة «الدهنج» أو «الفيروز»، والظاهر مما بقي على اللوحة أن هذا الموظف كان يتحدث عن مكانته عند الفرعون، وما كان يقوم له به، كما نجده في اللوحات السالفة، وفي أسفل اللوحة يرى أخو «سنبي» يقدم له الطعام على مائدة (Ibid, Pl. XLI, No. 126)، أما النقوش الباقية فليس فيها شيء يستحق الذكر (راجع (Ibid, Pl. XLVIII, No. 127; XLIV, Nos. 128, 129; XL; No. 130)).

(٦) بعوث «أمنمحات الرابع» إلى «وادي الهودي»

أما في الصحراء الشرقية الواقعة على بعد أربعين كيلومترًا جنوب شرقي «أسوان» فقد عثر له على لوحة في «وادي الهودي» السالف الذكر، وذلك نتيجة لبعثة أرسلها بطبيعة الحال لإحضار «حجر الجمشت» (أمتست)، وهو الذي يدعى بالمصرية «حسمن»، وكان يترجم بكلمة نحاس إلى عهد قريب كما سلف ذكر ذلك.

وهذه اللوحة هي إحدى اللوحات الثلاث التي أهداها البمباشي «زكي عبد الحميد»، وتوجد ضمن مجموعة اللوحات التي عثر عليها الأستاذ «أحمد فخري» المختص ببحوث الصحراء الأثرية والأمين بالمتحف المصري.

وقد جاء فيها:

السنة الثانية من حكم جلالة ملك الوجهين القبلي والبحري «ماع خرورع» عاش أبد الآبدين قريب الملك الحقيقي الذي يحبه وخليله، والذي يفعل كل ما يمدحه كل يوم وكل نهار، الثابت القدم، والوئيد الخطى، والذي يعبد طريق من يعظمه، رئيس الخزانة، ووكيل مدير حامل الختم، وهو الذي يخرج إلى الطريق الجبلي الخاص بالجمشت عندما يأمره جلالته، وهو الذي يخرج إلى صحراء «رشوت» (في الصحراء شبه العربية) [ولا بد أنه يقصد هنا جزيرة «سينا»] … ثابت القدم … [تُركت باقي اللوحة دون كتابة، وذلك يدل على أن صاحبها لم يتم كتابتها لسبب ما].

(٧) آثاره الأخرى المتفرِّقة

وخلافًا لما ذكرنا يوجد لهذا الفرعون بعض تحف صغيرة منها لوحة صغيرة، من الأردواز عليها طلاء أخضر، ومنقوش عليها اسم هذا الفرعون، وهي الآن في المتحف البريطاني (Rec. Trav. Vol. XII, P. 213) وكذلك يوجد صندوق صغير من الأبنوس والعاج مكتوب عليه اسم الفرعون واسم صاحبه «كمن» الذي كان يشغل وظيفة حارس إدارة المطبخ.
(Carnavon and Carter, Explorations, XLIX).
وفي «اللاهون» عثر على أوراق بردية ترجع إلى عهد هذا الفرعون، بل تدل الأحوال على أنها كُتبت في عهده، ولدينا ورقة منها مؤرخة بالسنة السادسة من حكمه على وجه التأكيد، وهناك أوراق أخرى يجوز أنها ترجع إلى السنة العاشرة من حكمه أو من حكم غيره من الملوك الذين خلفوه، وقد بقي لنا من هذه الأوراق التي وجد عليها اسمه خطابات؛ أحدها من خادم الوقف إلى سيده يطلب إليه أن يرسل له عشرة أوزات (Kahun Papyri, Vol. I, P. 67)، والثاني من خادم الوقف المسمى «خمم» إلى سيده مدير المستخدمين يسأله فيه عن صحته وأحواله، ويخبره عن موضوع صيد سمك وما يريد أن يرسله منه لسيده … إلخ، وقد أرِّخ هذا الخطاب في السنة السادسة، الشهر الأول من فصل الشتاء (طوبة) اليوم الثاني من حكم «ماع خرو رع» «أمنمحات الرابع» (Kahun Papyri”, Vol. I, P. 77). هذا وقد وجدت «لأمنمحات الرابع» عدة جعارين وأسطوانات في مجاميع مختلفة منها؛ إسطوانة في مجموعة جعارين «نيو بري» (Newberry, “Scarabs”, Pl. VI. 18) وفي مجموعة «ماك جريجور» (Mac Gregor Sale Catalogue, Lots 517, 520) ثم جعارين أخرى (راجع: Newberry, “scarabs”, Pl. IX. 38; Petrie, “Hist، Scarabs”, 273-274; Petrie, Scarabs, Pl. XIV; Dubois, “Chois de Pierres Gravées”, Pl. IV, 9).

هذا معظم ما نعرفه عن هذا الفرعون وعصره على وجه التقريب، وقد ذكرت لنا ورقة «تورين» أنه حكم تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وهذا التاريخ يتفق مع ما عثرنا عليه منقوشًا على الآثار كما سلف ذكره.

أما آثاره التي عثر عليها في خارج القطر فسيأتي ذكرها في الكلام على المدنية في حينه.

١  هذا تعبير مصري أصيل ويراد به الذي أنجبه من ظهره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤